logo
هكذا تفعل الحداثة.. بدو سيناء خارج الخيمة

هكذا تفعل الحداثة.. بدو سيناء خارج الخيمة

الجزيرةمنذ 3 أيام
جنوب سيناء- حين كان إسماعيل في الخامسة من عمره، لم تكن أنشطته اليومية تتعدى مساعدة أبيه في سقي الإبل ومعاونة أمه في نقل الحطب والبحث مع رفاقه عن ألعاب بدائية للتسلية، أما الآن وهو على مشارف الأربعين فقد بات مندهشا من التغيرات التي حلت على الحياة البدوية وبخاصة بين الأجيال الجديدة.
يحاول إسماعيل، الذي ينتمي لقبيلة الجبالية ويعيش بمنطقة سانت كاترين في جنوب سيناء، أن يقنع ابنتيه -اللتين لم تتجاوزا العشر سنوات- بخطورة استخدام الألعاب الإلكترونية لساعات طويلة، "لا تفعلان شيئا طيلة اليوم سوى التحديق في الهاتف المحمول"، هكذا يقول بينما يتذكر طفولته التي وصفها بالمتواضعة.
يتراجع الرجل البدوي عن وصف طفولته بالمتواضعة ليقول إنها كانت مناسبة للبيئة المحيطة به، فمن الطبيعي -وفق رأيه- أن ترتبط أنشطة الأطفال الذين يسكنون الصحراء بتراثهم. أما غير الطبيعي هو أن يكونوا منساقين وراء ثقافات أخرى، وبسبب ما يتابعه من تغيرات على محيطه لا يخفي إسماعيل مخاوفه من اندثار التراث البدوي بعد عقود قليلة على يد الأجيال الجديدة.
مخاوف الرجل البدوي تبدو متفهمة، ثمة مظاهر تطور أثرت على معيشة أبناء قبائل سيناء، جعلت الخيمة البدوية، التي دُقت أوتادها على مدى مئات السنين، في مهب رياح مجاراة العصر، لتمسي الخيمة بما تطويه من تراث مجرد فلكلور لقضاء وقت ممتع بالصحراء واسترجاع أجواء الماضي لا مسكن يشهد حياة.
المرعى ولى
مظاهر التطور التي حلت على الحياة البدوية بسيناء عديدة، وربما أكثرها وضوحا هي نزوح أبناء القبائل للعيش بالتجمعات السكنية -سواء كانت مدنا أو قرى- بعيدا عن الترحال بالخيام في نواحي متفرقة بحثا عن المراعي كحال الأسلاف.
في جنوب سيناء، صار البدوي، الذي يسكن خيمة ويمتهن الرعي، رجلا متمسكا بالندرة، ذلك يبدو مبررا بالنظر إلى الطبيعة السياحية للمنطقة، فالمدن السياحية، مثل شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا، التي تجذب السائحين للزيارة جذبت أيضا أعدادا كبيرة من البدو على مدى العقود الثلاثة الماضية للانخراط بالعمل في قطاع السياحة.
يقول صالح، وهو من قبيلة المزينة ويعيش بمدينة دهب، إن أعدادا قليلة من أبناء قبيلته ما زالوا متمسكين بالصورة القديمة لحياة البادية وتتركز مناطق رعيهم في وسط سيناء لا الجنوب، أما شمال سيناء فيتجه إلى الطبيعة المتمدنة بسبب الأجيال الشابة التي تخرجت من الجامعات.
وهناك سبب آخر يجعل بدو الشمال يميلون إلى الاستقرار بعيدا عن الترحال وهو امتهان أعداد منهم للزراعة خاصة زراعة الزيتون والخوخ والنباتات العطرية والطبية.
فمنذ أكثر من 10 سنوات، يعمل صالح في قطاع السياحة حيث يتولى قيادة سيارة دفع رباعي لنقل الزوار إلى قلب الصحراء، حيث الوديان والجبال التي تعد مقصدا سياحيا، وهو لا يسكن الخيام كأجداده بل شقة بإحدى البنايات التي طرحتها الحكومة في إطار مشروعات للإسكان الاجتماعي بتسهيلات في السداد.
ثوب في طور الاندثار
قديما كان رداء المرأة البدوية يتميز بخصوصية ثقافية، أما الآن فنساء القبائل يرتدين ملابس عادية تشبه نساء محافظات وادي النيل (الدلتا والصعيد)، فقط تتمسك الجدات بالزي التقليدي الذي يتسم بالألوان الزاهية والتطريزات اليدوية.
وتقول سعيدة، وهي سيدة خمسينية تعيش في وادي غزالة القريب من مدينة نويبع، إن كثيرا من نساء سيناء أصبحن يرتدين الملابس العادية بينما الزي التقليدي بات مقتصرا على كبار السن وأيضا يظهر في المناسبات الاجتماعية.
وتحتاج الحياكة اليدوية للثوب البدوي الواحد مدة طويلة تصل لنحو شهرين، كما تؤكد سعيدة، إذ تستغرق التطريزات المتنوعة وقتا، كما أن هناك ملحقات أو لوازم عديدة للثوب مثل "القنعة" وهي غطاء للرأس، و"البرقع" وهو قناع للوجه مصنوع من القطع المعدنية، و"المقوط" وهو حزام حول الخصر، و"المريرة" وهو شريط يوضع فوق الحزام يصنع من شعر الماعز، مما يجعل الرداء بمشتملاته مرتفع الثمن ويقلل أيضا من الإقبال عليه مقابل المصنوع آليا.
في المقابل، يبدو الرجل البدوي أكثر محافظة على زيه التقليدي من امرأته، إذ يرتدي الجلباب والسروال الفضفاض وينتعل حذاء خفيفا ولا يتحرر من هذا الزي إلا في أوقات العمل إذا كان يشتغل لدى جهة حكومية أو أثناء الدراسة.
وتقول سعيدة إن الملابس الرجالية بسيطة في تفاصيلها ومريحة في الحركة وليست مرتفعة الثمن بالتالي لا يسعى الرجل لاستبدالها بأخرى مثلما حدث مع المرأة.
ولم يتغير الملبس فقط في حياة المرأة البدوية، بل تغيرت نظرتها لعدد الأسرة، فمثلا سعيدة هي أم لـ9 أبناء وجدة للعدد نفسه، أما أولادها المتزوجون فأكثرهم عددا من أنجب 4 أطفال، وتلخص السيدة الخمسينية ما جرى "الدنيا تغيرت.. كنا ننجب كثيرا لأن الموت كان يأخذ كثيرا، والأب كان محتاجا لمن يساعده في العمل".
ما فعله الإنترنت بالبادية
يقول إسماعيل إنه اشترى لطفلته جنة هاتفا محمولا حين بلغت الثلاث سنوات وكذلك فعل مع ابنته الثانية، وغيره الكثير من أبناء القبائل يفعل ذلك مع أبنائه، صحيح هو نادم على ذلك لأن الهاتف صار بديلا للحياة الحقيقية بالنسبة لابنتيه لكنه لم يعد في إمكانه التراجع عن ذلك.
هو نفسه لا يمكنه الاستغناء عن الهاتف أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الأخيرة تحديدا تفيده في الترويج لعمله كدليل لزوار الصحراء خلال رحلات السفاري.
لكنه يحاول أن يكون متوازنا في استخدام التكنولوجيا بعكس بعض أصدقائه، ويقول "نلتقي كل فترة ونخرج للصحراء فيما يفترض أنه خلوة ولكن يكون المشهد غريبا جدا، نرتدي جميعنا الزي البدوي ونجلس داخل خيمة ولكن الكل منشغل بالتحديق في هاتفه المحمول طيلة الجلسة"، ويضيف ساخرا "يشترط الأصدقاء أن يكون التخييم في مكان قريب داخل نطاق تغطية شركات الاتصالات حتى لا ينقطع عن هواتفهم الإنترنت".
ورغم ذلك فأكثر ما يمثل خطورة بالنسبة لإسماعيل هو تأثير الإنترنت على طبائع الشخصية البدوية، ويوضح "قديما إذا حدثت مشكلة بين طرفين يكون هناك احترام للعادات واحتكام تام للمجلس العرفي. أما الآن فصحيح ما زال المجلس العرفي هو الحاكم لكن أيضا يلجأ الطرفان للفيسبوك كساحة لإفشاء الأسرار بل والمعايرة".
تحديث المجتمعات البدوية
بدأ اهتمام جامعة عين شمس بدراسة المتغيرات على المجتمع البدوي عبر إعداد دراستين، أولهما حملت عنوان "تحديث المجتمعات البدوية وعلاقته بالثوابت والمتغيرات في الموروث الثقافي الشعبي لبدو سيناء".
وأظهرت الدراسة، التي أشرف عليها معهد بحوث الصحراء، وجود علاقة ما بين التغير في النشاط الاقتصادي والتطور التكنولوجي، وبين حدوث تغيرات اجتماعية وثقافية سواء مادية وغير مادية.
بناء على ذلك فإن محافظة شمال سيناء ذات مستويات التعليم المرتفعة والانفتاح على العالم الخارجي هي أكثر تحديثا من محافظة جنوب سيناء، وفق النتائج البحثية.
وأوضحت الدراسة التي أعدها 3 باحثين أن التحديث قد يعمل على إحداث تغير في النظام الاجتماعي القائم عبر إضعاف القيم المتوارثة واستبدالها بطائفة من مظاهر السلوك الجديدة.
وحذرت من كون مظاهر السلوك الجديدة بتعارضها مع القيم المتوارثة قد تؤدي إلى فقدان وضوح الرؤية أمام مسيرة المجتمع وخلق حالة من التخبط المجتمعي.
أما الدراسة الثانية التي أعهدها معهد الدراسات والبحوث البيئية، فقد ركزت على أثر التكنولوجيا الحديثة في تحديث المجتمعات البدوية، كاشفة أن نحو 80% من البدو لديهم هواتف محمولة وحسابات على صفحات التواصل الاجتماعي.
وبيّنت أن البدو يقضون وقتا طويلا في استخدام الإنترنت مما أدى إلى تغيرات -وصفتها الدراسة بالجذرية- في طباع وعادات تلك المجتمعات، ومنها ضعف العلاقات الاجتماعية التي كان المجتمع البدوي يمتاز بمتانتها.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بعد سنوات من الغياب.. عادل إمام يتصدر المشهد من جديد بصورة عائلية
بعد سنوات من الغياب.. عادل إمام يتصدر المشهد من جديد بصورة عائلية

الجزيرة

timeمنذ 21 ساعات

  • الجزيرة

بعد سنوات من الغياب.. عادل إمام يتصدر المشهد من جديد بصورة عائلية

حظي ظهور الفنان عادل إمام بتفاعل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، عقب نشر نجله محمد عادل إمام صورة عائلية حديثة له عبر حسابه الرسمي على فيسبوك، التُقطت خلال احتفال العائلة بزفاف الحفيد عادل رامي إمام. وظهر الفنان المصري، الذي أتم عامه الـ85 في مايو/أيار الماضي، جالسا وسط العروسين وعدد من أفراد العائلة، في لحظة وصفها كثيرون بأنها دافئة وإنسانية، أعادته إلى الجمهور بعد غياب طويل عن الأضواء وتكهنات متكررة حول حالته الصحية. وتداول المستخدمون الصورة على نطاق واسع، مرفقة برسائل محبة ودعوات لعادل إمام بالصحة وطول العمر، في حين أعرب كثيرون عن سعادتهم بعودته للظهور ولو بصورة واحدة، مؤكدين أن غيابه لم يلغ حضوره في قلوب محبيه. في المقابل، أثار البعض تشككا حول مدى مصداقية الصورة، وذهبوا إلى احتمال أن تكون معدلة باستخدام الذكاء الاصطناعي. لكن المنتج عصام إمام، شقيق الفنان عادل إمام، نفى هذا الكلام بشكل قاطع، وأكد أن الصورة حقيقية تماما. وقال عصام في تصريحات لوسائل إعلام محلية إن ظهور شقيقه في هذا التوقيت كان مقصودا، بهدف الرد على الشائعات المتكررة حول حالته الصحية، مشيرا إلى أن عادل إمام أصر على الحضور والمشاركة في المناسبة العائلية، وحرص على التقاط الصور مع أفراد عائلته في لحظة مميزة. وجاء ظهور الفنان الملقب بالزعيم بعد حفل الزفاف الذي أقيم مساء أول أمس الجمعة وسط حضور فني وإعلامي كبير. وفاجأ المخرج رامي إمام الحضور بتقليده لوالده الفنان عادل إمام، مسترجعا الموقف ذاته الذي قام به خلال زفافه قبل سنوات، حين غنى احتفالا بزواجه. أما هذه المرة، فجاء التقليد في أجواء احتفالية بزفاف حفيده، عادل رامي إمام، وسط تفاعل كبير وحفاوة من الحاضرين. واعتبر الناقد طارق الشناوي أن الصورة التي نشرها نجلا الفنان عادل إمام، رامي ومحمد، شكّلت مصدر طمأنينة للملايين بشأن صحة "زعيم الفن العربي"، حسب وصفه. وأضاف أن ظهور عادل إمام بهذه الصورة يؤكد أنه لا يزال حاضرا في قلوب جمهوره، واصفا إياه بأنه "حالة استثنائية بكل المقاييس وغير قابلة للتكرار". ويأتي الاحتفاء بظهور الفنان صاحب المسيرة الأكبر في تاريخ السينما المصرية والممتدة لأكثر من 60 عاما بعد ساعات من ظهور الفنانة شيريهان أثناء حضورها العرض المسرحي "يمين في أول شمال" بمسرح السلام، لتخطف هي الأخرى الأنظار بظهورها النادر، وتعيد إلى الجمهور لحظة ارتباطه بأيقونات الفن الذين طال غيابهم عن الأضواء. كما تصدرت الفنانة عبلة كامل مؤخرا محركات البحث بعد تداول صورة لها نشرت عبر حساب أحد أقاربها على إنستغرام، ظهرت فيها بعد غياب سنوات عن الأضواء. الصورة التي التقطت في لقاء عائلي أظهرت الفنانة بملامح مختلفة قليلا، وهي ترتدي عباءة سوداء. وقد تفاعل عدد كبير من المتابعين مع الصورة، خاصة بعد أن أكد الشخص الذي نشرها أنها حقيقية تماما وغير معدلة، نافيا ما تردد عن استخدام أي تقنيات تعديل. وعلقت الفنانة وفاء عامر على تفاعل الجمهور مع صور عادل إمام وعبلة كامل، مشيرة إلى أن بعض النجوم ينفقون مبالغ طائلة على منصات التواصل الاجتماعي ويدخلون في خلافات من أجل تحقيق نسب مشاهدة، بينما صورة واحدة لفنان حقيقي تكشف أن المحبة الصادقة لا تشترى ولا تزول.

نبيلة عبيد تطالب بتحويل شقتها إلى مزار فني وتستغيث من قانون الإيجار القديم
نبيلة عبيد تطالب بتحويل شقتها إلى مزار فني وتستغيث من قانون الإيجار القديم

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

نبيلة عبيد تطالب بتحويل شقتها إلى مزار فني وتستغيث من قانون الإيجار القديم

طالبت الفنانة المصرية نبيلة عبيد الجهات المعنية بالتدخل لحماية شقتها التي تسكنها بنظام الإيجار القديم، معربة عن رغبتها في تحويلها إلى متحف فني يوثق مسيرتها الطويلة في السينما. وأبدت نبيلة عبيد انزعاجها من التعديلات الأخيرة على قانون الإيجار القديم، مؤكدة أن تلك التغييرات قد تفقدها الشقة التي ظلت تمثل لها ملاذا حافلا بالذكريات، وتقع في شارع جامعة الدول العربية. وأكدت أن المكان لا يقتصر على كونه مسكنا، بل يحتفظ بأرشيف كامل لمسيرتها، من الجوائز التي نالتها إلى مقتنيات الشخصيات التي جسدتها على الشاشة، مما يجعله شاهدا على تاريخ فني امتد لعقود. وخلال مداخلة هاتفية في برنامج "الستات" على قناة النهار، عبرت الفنانة نبيلة عبيد عن رغبتها في ترك أثر بعد رحيلها، تماما كما تركت بصمتها في مشوارها السينمائي، منذ بداياتها في أفلام مثل "رابعة العدوية" وصولا إلى "الراقصة والسياسي". وأوضحت أن الشقة كانت شاهدا على محطات كثيرة من حياتها الفنية، حسب وصفها. وأكدت أن المكان يضم أرشيفا نادرا من ملابس شخصياتها في الأعمال التي شاركت فيها، إلى جانب عدد كبير من المجلات التي نشرت فيها حواراتها، وصور تجمعها بكبار النجوم الذين عاصرتهم طوال مشوارها. وأضافت الممثلة المخضرمة أن حياتها الشخصية خلت من الإنجاب، وكانت والدتها الشريك الوحيد في حياتها. وتساءلت عن مصير تلك الذكريات بعد وفاتها: "من سيحتفظ بالصور والمجلات؟ هل ستباع في سور الأزبكية؟ (سوق ثقافي شعبي لبيع الكتب المستعملة)" على حد تعبيرها. وأعربت عن صدمتها بعد صدور تعديلات قانون الإيجار القديم منذ أيام، مؤكدة أنها لا تمانع في زيادة الإيجار، لكنها تشعر بالخوف من أن تفقد شقتها التي تمثل جزءا كبيرا من حياتها وذكرياتها. وأوضحت أنها لم تتملك الشقة، مشيرة إلى أن أصحاب العقار لم يعرضوا عليها فكرة الشراء من الأساس، خاصة أن المبنى مقسم بين عدد من الورثة، ولم يبادر أي منهم بمناقشتها في مسألة البيع. كما تحدثت عن القلق الذي راودها بعد انتشار أخبار تعديل قانون الإيجار القديم في تصريحات لإحدى الصحف المحلية، مؤكدة أن ما يتم تداوله يضع تاريخها الفني بالكامل أمام مصير مجهول، خاصة أن الشقة التي تقيم فيها تحتفظ بكل ما يخص رحلتها في السينما. وأوضحت أن المسكن الذي ورثته عن والدتها لا يضم فقط مقتنياتها الشخصية، بل يحتوي على أرشيف متكامل من الصور والوثائق والذكريات التي توثق مشوارها الطويل في عالم الفن. واعتبرت أن فقدان هذا المكان يعني ضياع جزء كبير من الذاكرة الفنية، مشيرة إلى أنها لا ترى بديلا يمكنه احتواء كل تلك التفاصيل، أو الحفاظ على القيمة المعنوية التي تمثلها الشقة بالنسبة لها. وقد بدأت الحكومة المصرية في طرح مشروع قانون جديد لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وذلك بعد مرور أكثر من 75 عاما على تطبيق القانون القديم. ويستند المشروع الجديد إلى حكم صادر عن المحكمة الدستورية العليا، الذي يقضي بعدم دستورية تثبيت القيمة الإيجارية، وهو ما يمهد لإنهاء عقود الإيجار القديم. ويتضمن القانون المقترح تحديد الحد الأدنى للإيجار بقيمة 1000 جنيه في المدن و500 جنيه في القرى، مع زيادة سنوية بنسبة 15% لمدة 5 سنوات. وسط تحذيرات من الخبرات أن هذه التعديلات قد تضع قرابة 6 ملايين مواطن في مواجهة خطر الإخلاء، مما قد يؤدي إلى تفاقم أزمات اجتماعية واقتصادية، في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة. وقد بدأت بعض بوادر التوتر في الظهور من خلال دعوات للاحتجاج وتبادل الاتهامات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتعد نبيلة عبيد إحدى الفنانات المصريات اللاتي استطعن تصدر البطولة في السينما في فترة السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، وقد بدأت مسيرتها مع بداية الستينيات، وحصلت على بطولة فيلم "رابعة العدوية" 1963 الذي جسدت خلاله شخصية الزاهدة الصوفية رابعة العدوية، وقدمت أم كلثوم الأغنيات الخاصة بالفيلم، الذي يعد نقطة تحول في مسيرة نبيلة التي قدمت لاحقا أفلام مثل "اغتيال مدرسة"، "الراقصة والسياسي"، "كشف المستور"، "قضية سميحة بدران" و"المرأة والساطور". ومع بداية الألفية الجديدة ركزت حضورها في الدراما التلفزيونية فقدمت مسلسلات "العمة نور"، "كيد النساء 2" وكان آخر مشاركاتها من خلال مسلسل "سكر زيادة" عام 2020 الذي جمعها بالفنانة نادية الجندي.

فيلم "شرق 12".. سردية رمزية لما بعد ثورات الربيع العربي
فيلم "شرق 12".. سردية رمزية لما بعد ثورات الربيع العربي

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

فيلم "شرق 12".. سردية رمزية لما بعد ثورات الربيع العربي

العام الماضي، شهد الموسم السينمائي المصري طفرة نادرة الحدوث، حيث عُرض خلاله ما يزيد على 10 أفلام لمخرجات مصريات، في سابقة ربما تعد الأولى من نوعها من حيث الكم. مثّلت أغلب هذه الأفلام تجارب روائية طويلة أولى لصاحباتها، ونجح عدد منها في جذب الانتباه محليا ودوليا، سواء عبر الجوائز أو بالمشاركة في المهرجانات. من بين هذه الأعمال برز فيلمان انطلقا إلى العالمية من خلال بوابة مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ77: الأول هو الفيلم التسجيلي "رفعت عيني للسما"، الذي حصد جائزة "العين الذهبية" ضمن برنامج أسبوع النقاد، أما الثاني فهو فيلم "شرق 12" للمخرجة هالة القوصي، وشارك في قسم نصف شهر المخرجين، محققا بذلك عودة للسينما المصرية إلى هذا القسم الحيوي بعد غياب. في إنجاز يحسب للسينما المصرية، اختير فيلم "شرق 12" ليكون أول فيلم مصري يفتتح برنامج "أسبوع النقاد" في مهرجان برلين السينمائي الدولي بدورته الـ75. تواصلت رحلة الفيلم الدولية مع عرضه العربي الأول ضمن قسم "رؤى جديدة" في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، قبل أن ينال تنويهًا من لجنة التحكيم في مهرجان كيرالا السينمائي بالهند، تقديرا لتفوقه التقني والتناغم بين عناصر الديكور والتصوير والصوت. الفيلم، الذي ينتمي إلى السينما المستقلة ويخلو من نجوم الشباك التقليديين، خاض تجربة جريئة استحقت التوقف عندها، إذ شهد عرضه المحلي الأول في سينما زاوية بالقاهرة إقبالا واسعا رفع معه شعار "كامل العدد"، بعد جولات خارجية رافقها كثير من الترقب والجدل. وفي ظل شائعات عن رفض رقابي للفيلم، نفت المخرجة هالة القوصي ذلك، مؤكدة أن تأجيل عرضه المحلي كان بسبب التزام فريق العمل بجولة عروض دولية، على أن تكون المحطة المقبلة عرضا تجاريا في هولندا مطلع أكتوبر/تشرين الأول المقبل. ولدت هالة القوصي في محافظة القاهرة، ورغم دراستها الاقتصاد وإدارة الأعمال بالجامعة الأميركية، فقد استحوذ التصوير الفوتوغرافي على اهتمامها في وقت مبكر من سنوات الدراسة، ليس بغرض الاحتراف، بل بدافع الفضول أو شغف شخصي أخذ في التبلور تدريجيًا، مما دفعها لاحقًا إلى تحويل تلك الهواية المكلفة إلى مصدر دخل. من هنا اتجهت إلى العالم التجاري للفوتوغرافيا متنقلة من تصوير المنتجات إلى الأزياء والموضة كذلك الفعاليات، وصولا إلى مرحلة مغايرة من الفوتوغرافيا التسجيلية التي لم تكتف فيها بتوثيق الواقع، بل شرعت في صنعه، وذلك عبر الاستعانة بممثلين وشركاء لأداء حالات درامية وبصرية وفق سياقات محددة. من هذه المنطقة التي تمزج بين الواقع والمتخيل، بدأت خطواتها الأولى نحو السينما وعالم الصور المتحركة، حيث لم تعد اللقطة الثابتة تكفي وحدها لرواية حدث أو للتعبير عن مفاهيم بصرية تؤرقها. في "شرق 12″، تستعيد القوصي لذة الحكاية الشعبية مصدرة فيلمها: "كان يا ما كان.. ناس خايفة، من كتر الخوف خيالهم هرب".. بهذه العبارة التي تتقاطع فيها النبرة الحكائية مع وجع الذاكرة، تفتتح المخرجة المشهد الأول في سرديتها الجديدة، مستعيدة الجملة ذاتها التي استهلت بها فيلمها القصير "لا أنسى البحر" (2019) بصوت الراوية نفسها، منحة البطراوي التي رافقتها في أكثر من عمل، كأنها امتداد لصوت خفي أو صدى داخلي لا ينسب لأحد، لكنه يحمل قدرة فريدة على استدعاء حنين لزمن يفر أو تلاشى بالكامل، لتبقى الحكاية في النهاية شاهدة على الوعي المتغير للإنسان، المضطرب في كثير من الأحيان، حتى أنه لم يصل لبغيته بعد. كما تبقى ثنائية الخوف والبحر تتحكم في مصائر ودوافع الشخصيات. ويعتبر البحر من أكثر الثيمات العالمية ارتباطا بالخوف، ولطالما احتلت هذه الثيمة موقعا مركزيا في الذاكرة السردية العربية والشرقية على حد سواء، من رحلات السندباد في ألف ليلة وليلة، حيث الغرق مجاز للتيه والعبور، إلى الحكايات التي يتحوّل فيها البحر إلى فضاء للامتحان والتبدّد. على هذا الامتداد الرمزي، تستدعي القوصي البحر ككائن شعري يختزن آمال الفرد وتطلعاته. بالتالي يمكن استدعاء صوته من كوب ماء أو بعض القطرات المتساقطة من صنبور تالف، كمن يستدعي طقسا للتحرر والتطهر. مثلما اختارت المخرجة المادة الخام لتصوير الفيلم، التي قد تحيلنا في مدلولها إلى فكرة أصالة السينما، أو طهرها قبل أن تتلوث بالتقنيات الرقمية. عالم مغلق على اتساعه يصعب الإمساك بخيوط سردية تقليدية في القصة التي كتبتها هالة القوصي لفيلمها، إذ لا تسير الحكاية على خط زمني واضح، ولا تتبع نسقا دراميا معتادا، بل تتكوَّن من مشاهد ومواقف تتناثر كما لو كانت تتصاعد من لاوعي الراوي -بعكس تيار الوعي في الأدب- لتورط المتفرج في عوالم شخوصها وحالاتهم الداخلية، دون أن تمنحه مسافة تأمل أو مسارا سهلا للفهم أو حتى التماهي. رغم هذا البناء الحُلمي، فإن ثمة صراعًا يتبدى في طبقات متوازية داخل النسيج الدرامي: أوله الصراع المحوري بين سكان المستعمرة والحاكم المستبد "شوقي البهلوان" أحمد كمال، الذي يفرض سلطته وسطوة حضوره على المكان. وإلى جانبه، تنشأ صراعات فرعية مع أذرع المنظومة القمعية، أحيانا بين الترهيب المُجسد في شخصية قائد الأمن "أسامة أبو طالب"، أو الترغيب الذي تمارسه الجدة "جلالة" منحة البطراوي بوصفها واجهة ناعمة للسلطة. هذا بالإضافة إلى نزاعات أهل المستعمرة مع بعضهم بعضا، ليكتمل بذلك مشهد التمزق الجماعي داخل فضاء مغلق يلتذ بإعادة إنتاج العنف. على الجانب الآخر، تخوض "مصاصة" (فايزة شامة)، إحدى الشابات من سكان المستعمرة صراعا مختلفا يحفظ لها البقاء رغم طبيعة المهنة التي تمارسها، وسط مجتمع يقتات على التهام بعضه بعضا. وأخيرا، يأتي الصراع الأبرز الذي يخوضه البطل الشاب "عبده" (عمر رزيق) سعيًا للانعتاق من سطوة المجتمع وهيمنة المنظومة الحاكمة، على عكس بطل فيلم يوسف شاهين "عودة الابن الضال" الذي انفلت عن مجتمعه ثم عاد منهزما. أما هنا، فالبطل يريد الخروج من هذا المجتمع القاتل لفنه، بما يستدعي إلى الأذهان شخصية "يحيى" في فيلم "إسكندرية ليه" لشاهين أيضا، حين تحايل على واقعه المأزوم لتحقيق حلمه بالسفر ودراسة السينما في أميركا. نجح الفيلم في تجسيد هذه الحالة بصريا من خلال الديكور الفقير لحجرة "عبده"، الأمر الذي تم تعزيزه بمفردات بدائية استعان بها في خلق موسيقاه، تمثلت في أجهزة تسجيل قديمة، وقدور و"جراكن" بلاستيكية، وأغطية معدنية صدئة، كلها أدوات تُستعار من سوق "الروبابيكيا"، وفي خلفية الغرفة، تتدلى صينية معدنية ضخمة مفرّغة من المنتصف، تُشبه الأسطوانة الموسيقية، وتشهد في الوقت نفسه على المفارقة بين حجم الحلم والإمكانات الهزيلة التي تخلفها الأنظمة المستبدة. كذلك يحمل عنوان الفيلم "شرق 12" دلالة رمزية مزدوجة: فهو من جهة يُحيل إلى الشرق بوصفه تمثيلا جغرافيا وثقافيا لما يعرف بدول "العالم الثالث" أو المناطق المهمشة والمنهوبة من العالم النامي، ومن جهة أخرى، يشير الرقم "12" إلى عام 2012، أي العام التالي مباشرة لثورات الربيع العربي، بما يحمله من مخاضات سياسية واجتماعية لم تكتمل، وواقع مأزوم سرعان ما انقلب على وعوده. من هنا، يُمكن قراءة الفيلم بوصفه نوعا من التأريخ الرمزي للحظة شرقية فارقة، حيث يتقاطع الزمن الفردي للشخصيات مع الزمن الجمعي لشعوب ما بعد الثورة، في محاولة لالتقاط شروخ الحلم ومآلاته المعلقة. نتابع ذلك من خلال أحداث تجري داخل مستعمرة معدمة تحمل الاسم ذاته، معزولة عن العالم بسورٍ عالٍ، لا يحجبها مكانيًا فقط بل يفصلها زمنيًا كذلك. فعلى الرغم من امتلاء فضاءَي الحكاية –"دكان الحواديت" و"منزل البهلوان"– بعشرات الساعات المتنوعة، فإن عقاربها جميعًا متوقفة، كأن الزمن هنا قد أصابه الشلل فنزع عن هذا العالم المحاصر إيقاعه، وتحول إلى أرشيف مُعطَّل ومغلق على اتساعه. ففي حين يكتسب اتساعا من حيث الديكور والتفاصيل والأحلام، يشحن بإحساس العزلة والاختناق، كأن شخصياته تتحرك داخل قوقعة هائلة، تتسع فقط لتحتجزهم. يراهن الفيلم على مُشاهد بوسعه ملاحقة إيقاع بصري لاهث، ينتقل عبر حكاية غير مترابطة بين السينما والفن التشكيلي والمسرح، مع احتفاء يتكرر من آن لآخر بفنون الحركة والرقص بل وفنون السيرك كذلك، وبينما ينصهر كل ما سبق في خلفية حية، تتضافر الموسيقى والإضاءة لصناعة خلفية موازية، صاخبة إلى حد الصراخ، في كثير من الأحيان، لكنها لم تخلُ من مساحات درامية من الصمت لم تنقطع على مدار الفيلم، سواء بين الشخصيات وبعضها أو من خلال السرد البصري. كذلك ساعد البناء المتشظي في المراوحة بين الحاضر والماضي، فيختلط الحلم والواقع، والحقيقي والمتخيل في بعض الأحيان. بينما تتحرك الكاميرا كعين مراقبة لا تغيب عن المشهد تنقل الحدث وتسجله من زوايا متلصصة، حيث توظف الكاميرا اضطرابها المقصود كأداة تعبير، خصوصا في المشاهد المغلقة واللقطات القريبة التي تحاكي قلقا وجوديا أكثر منه توتر درامي. "الكون في راحة اليد" في لقاء سابق مع المخرج الكبير محمد خان، سُئل عن رأيه في فيلمه الأول "ضربة شمس" 1980 وكيف ينظر إليه بعد مرور هذه السنوات الطويلة. تناول خان في إجابته عددا من الجوانب، سلبية وإيجابية على حد سواء، بيد أن الجزء الأبرز كان اعترافه بأن المخرج الذي كانه حينها تعمد التركيز علي إظهار قدراته الإخراجية، كمن "يفرد عضلاته" -حسب التعبير الشعبي- وربما بشكل زائد أحيانًا، وهي إشكالية شائعة كثيرا ما تسيطر على معظم المخرجين في مشاريعهم الأولى. هذا الميل يمكن تلمسه كذلك عند هالة القوصي في مساحات عدة من فيلمها "شرق 12" رغم أنه ليس أول أفلامها، فإنه يبدو بمثابة زاوية انطلاق في تطور مستقبلي لمشروعها السينمائي، ربما لهذا بدا حرصها واضحًا على حشد الكادر، كأنها تحاول احتواء العالم بأسره داخل إطار الفيلم، مما يذكرنا بعنوان رواية جيوكوندا بيلي الشهيرة، "الكون في راحة اليد". يتجلى هذا من خلال عدد من التراكيب اتبعتها المخرجة في فيلمها سواء على المستويين: التقني والفني، أو من خلال أسلوب التناول، ففي الوقت الذي تحتفي فيه بمفاهيم التجريب والانفتاح البصري، تلجأ أحيانًا إلى الرمزية. وهو ما يتضح في اختيار أسماء الشخصيات الرئيسية وما تحمله من دلالات: "عبده" يفتقر لأي تعريف ليمثل جموع العباد، في حين لا يخلو اسم "مصاصة" التي تمتهن الدعارة من إيحاء جنسي مبتذل. وحين ننتقل إلى "شوقي البهلوان" نجد أن شطر اسمه الأول يعني صاحب الهوى أو الشوق، إشارة للتسلط والهيمنة التي يسعى إليهما، بينما يفضح الجزء الثاني من الاسم طبيعة هذا التسلط العبثي القائم على الحيلة والاستعراض. أما "جلالة"، فهي من أكثر الشخصيات ثراء دلاليا، بدءا من اسمها الذي يستدعي على الفور مهنة "صاحبة الجلالة" -الوصف الشائع للصحافة- بما يحمل من سلطة رمزية وامتياز نخبوي تمارسه على المحيطين، وصولا إلى تفكيك الاسم إلى "جلا جلا"، ذاك اللفظ الشعبي المرتبط بالسحرة والحواة والمشعوذين. يظهر هذا التداخل بوضوح بين السلطة والإيهام في مشهد المواجهة بينها وبين "البهلوان"، حين تصرح له بأن رصيدها في "دكان الحواديت" قد نفد، محذرة من تفاقم الوضع في صفوف رعاياه، خصوصا بعد أن استنفدت أدواتها في التخدير والتنويم، ولم يعد هناك بديل سوى اللجوء إلى السحر، لذلك تطلب منه بمرارة لا تخلو من توسل: "فكها شوية". ومع تهديدها الصريح لـ"البهلوان" بأنها ستروي الرواية التي يخشاها إن لم يبتعد عن طريق حفيدها "عبده"، يتكشف وجه آخر لـ"جلالة" يملك القدرة على تهديد السلطة ذاتها. هنا تغدو الشخصية رمزًا جامعًا لمجمل السلطات المتحالفة، بقصد مع نظام الحكم، فهي الجدة التي تمثل الموروث الاجتماعي والتقاليد، وهي أيضًا بوق الحاكم الإعلامي الذي يناشد الناس بالصبر والتضحية، بينما لا تخلو كلماتها من وقع ساحر على الجموع، يحاكي النفوذ الذي تمارسه المؤسسات الدينية على سبيل المثال. تتشعب الأجواء بين الواقع والخيال عبر مستويات متعددة، جعلت الحبكة تبدو في صورتها الخارجية غير متماسكة، حيث تختلط الأحلام مع الهواجس والرغبات أحيانا في منطقة رمادية محايدة، ومن هنا تعود الأهمية الفنية والنفسية للمغامرة التي أقدمت عليها المخرجة باختيارها المادة الخام في التصوير، على الرغم من الصعوبة الكبيرة في إحياء طقس كهذا، الأمر الذي يؤكد أن سحر الأبيض والأسود لم ينضب بعد، وأنه لا يزال قادرًا على منح الصورة كثافة شعورية يصعب بلوغها رقميًا. لكن من غير المنصف اختزال هذا السحر في جانبه البصري فحسب، فالأبيض والأسود هنا لا يُستخدم للإشارة إلى زمن ولى أو لإضفاء طابع من "النوستالجيا" فقط، بل يساهم أيضًا في تجسيد الحالة الداخلية للشخصيات، وفي التعبير عن تناقضاتها وتوتراتها النفسية، إذ تخضع معظم النوازع البشرية لقوانين ثنائية ومتضادة، بين الخير والشر، والرفض والقبول، والقمع والرغبة، والحضور والغياب… وغيرها من الثنائيات التي تشكل نسيج العالم والفيلم على حد سواء. أمام واقع كهذا يعيش فيه الجميع في حالة من الاغتراب، تشمل المكان والزمان والشخصيات المحيطة، بما في ذلك "البهلوان" نفسه الذي لا يعرف سببا لبقائه على قيد الحياة، يكتسب العالم نزعة حيوانية يجسدها الفيلم في تفصيلة دالة وهي "مكعبات السكر" التي يتم تداولها بأهمية تفوق العملة النقدية، ومن المعروف أن مربي الخيول ومدربيها يستخدمون تلك المكعبات كمكافأة في أثناء التدريب لإحكام ترويضها. فإذا كان مكعب السكر في فيلم "شرق 12" يُمثل وسيلة للتحكم والسيطرة على الرعية، فإن مشهد الحاكم نفسه وهو يتشمم المكعبات بنشوة شبقية يكشف عن تشوه أعمق للسلطة، حين تستسلم لإدمان أدواتها ولا يعدو الحاكم مجرد موزّع للامتيازات، بل عبدًا لها، وكأنما يتذوق لذة سيطرته من خلال استهلاك رموزها، وبالتالي يصير أسيرا لنظامه مثله مثل بقية الشخصيات، حتى وإن كان في قمة الهرم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store