
لا أحد ينام في الإسكندرية.. معرض يرتحل من الرواية إلى اللوحة
إبراهيم عبد المجيد
في روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" (1996)، خلقتْ حواراً بصرياً مع ما يقرب من ثلاثين فناناً، بينهم سبعة عشر من الفنانين المحترفين، وثلاثة عشر من طلبة الفنون، قدّموا أعمالهم في المعرض الذي يحمل عنوان
الرواية
نفسه، والمقام في غاليري "آرت كورنر" بالقاهرة حتى منتصف الشهر الجاري.
يرسم الفنان محمد عبلة لوحة تطلّ منها شخصيات وعناصر متعدّدة، تضمّ أيضاً جندياً وحصاناً وقارباً داخل مشهد بصري يغمره اللون والحركة. بألوانه الصارخة وتكوينه المتناثر، يعيد عبلة هنا سرد مدينة الإسكندرية بصيغة حالمة ورمزية، تعكس رؤيته للمدينة كما وردت في الرواية: ساحة للعبور والتعدّد والصراع.
لوحة عبلة لا تقدم
توثيقاً بصرياً
لمشاهد الرواية، بل هي أشبه باستبطان بصري لذاكرة المكان وتاريخه المركب. في لوحة أخرى للفنان الشاب محمد محمود، وهو طالب في كلية الفنون الجميلة، تطلّ قلعة قايتباي تحت سماء باهتة، بينما يسيطر إحساس كثيف بالزمن، وبالحرب، وبالانتظار.
لم يترجم الفنانون الرواية، بل تحاوروا مع أجوائها وذاكرتها
يحتفي المعرض، الذي يشرف عليه الفنان سمير عبد الغني، بهذا النص الأدبي، حيث تتجاور العديد من الأعمال، وتلتقي جميعها عند نقطة واحدة: الإسكندرية كما رآها إبراهيم عبد المجيد. لا يسعى المشاركون هنا إلى ترجمة الرواية بشكل مباشر، بقدر ما ينخرطون في حوار حر مع أجوائها. هناك من يلتقط مشهداً مألوفاً، ككوبري ستانلي، وهناك من يغوص في ثيمات الرواية الرمزية، كما فعل عبلة وعبد الغني، مستخدمين التجريد والإيماءة اللونية لالتقاط الجوهر لا الحدث. تلك المقاربة تُخرج الرواية من إطارها الورقي، وتعيد إنتاجها كذاكرة مرئية.
ولا يُقرأ المعرض بوصفه امتداداً للرواية، بل كإعادة خلق لها، كأنّ كل عمل فني بمثابة فصل غير مكتوب. ولا شك في أن انخراط الطلبة في هذا الحوار مع الكبار يُنتج حواراً آخر، بين الأجيال، أو بين المواهب الناشئة والخبرة المكرّسة. وهو ما أشار إليه الروائي إبراهيم عبد المجيد نفسه، الذي وصف المعرض بأنه "ليلة كالسحر، مفعمة بالتفاعل، ومحاطة بأرواح المدينة التي لم تنم، والتي تواصل العيش في النصوص واللوحات".
الفنانة منى عبد النبي أمام لوحتها (من المعرض)
نُشرت الرواية للمرة الأولى عام 1996، وتدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة الإسكندرية، هذه المدينة الهامشية والمركزية في آنٍ معًا، والتي تستقبل الوافدين من الريف المصري، الهاربين من ضيق الحال أو لهيب الحرب. في قلب الحكاية، صداقة تنشأ بين مجد الدين، الشاب المسلم القادم من دلتا مصر، ودميان، المسيحي القادم من الجنوب. ورغم اختلاف خلفياتهما، تتشكّل بينهما علاقة إنسانية رفيعة، تتجاوز التوترات الدينية والاجتماعية المحيطة، وتتماسك في مواجهة الخراب. تأخذنا الرواية في رحلة بين شوارع الإسكندرية، ومحطات القطارات، ومقاهي الميناء، وبيوت الخواجات، فيما الحرب تقترب شيئاً فشيئاً من المدينة، وتغرقها في ظلال الغارات والفقد والتحوّل.
وقد انعكست هذه الروح الغنية للنص على تنوّع التجارب المشاركة في المعرض، حيث جمع بين أسماء معروفة في المشهد التشكيلي المصري وأخرى ناشئة. من بين الفنانين المشاركين: فتحي علي، ورضا خليل، ومحمد إسحاق، وجلال جمعة، وسعيد بدوي، وعزة فخري، ومنى عبد النبي، إلى جانب عمل خاص للراحل عصمت داوستاشي، الذي طالما أرّخ للإسكندرية في أعماله البصرية. هذا التنوّع، بين الأساليب والرؤى، خلق فسيفساء فنية حيّة، يتجاور فيها التعبير الواقعي بالتجريدي، والرمزي بالانطباعي، في محاولة جماعية لإعادة تشكيل المدينة كما سُردت، لا كما هي في الواقع.
ولا تقدم رواية إبراهيم عبد المجيد سرداً عن الحرب فقط، بل عن المجتمع السكندري في لحظة فارقة من تاريخه؛ عن المدينة حين كانت تحتفظ بعدُ بكسوتها الكوزموبوليتانية. عبد المجيد نفسه قال إنه قضى ست سنوات في كتابة الرواية، بين القراءة والمشي وزيارة أماكن الحرب. وربما لهذا جاءت الرواية محمّلة بتفاصيل حسية، بملمس الرمل، ورائحة الميناء، وصوت الأذان المتشابك مع ترانيم الكنائس. تلك الحسية الكثيفة هي ما ألهم الفنانين المشاركين في هذا المعرض، وهي أيضاً ما يجعل المعرض يتجاوز فكرة التكريم، إلى استعادة لفعل القراءة بوصفه رؤية، وللنص بوصفه لحظة تجريب.
فنون
التحديثات الحية
فن الشارع في المغرب.. بين المقام والصدام

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 16 ساعات
- العربي الجديد
"أمروم" لفاتح آكين: صرخة سياسية تحذيرية بجماليات سينمائية
في "أمروم"، جديد الألماني التركي فاتح أكين ، المعروض في قسم "عروض أولى" في الدورة 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، نقترب من الالتقاط الدقيق والصادق نفسه للروح الألمانية، في الملحمة التلفزيونية "الوطن" (1984 ـ 1992) لإدغار ريتز. رغم أنّ أجواء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) فيه تستدعي مثيلاتها لأوليفر هيرشبيغل وولفغانغ بيترسن، تُذكّر تصرّفات صبي "أمروم" وسلوكياته بأوسكار صبي "الطبل الصفيح" (1979) لفولكر شلوندورف. بعد "القَطع" (2014)، عن مذابح الأرمن، يعود أكين إلى التاريخ، لكن هذه المرة إلى التاريخ الألماني المعاصر، وهذا يؤكّد قدرته ومهارته في التنقل السلس بين الأنواع السينمائية، وتناوله مواضيع شتى ببراعة وعمق لافتين للانتباه. في جديده هذا (تدور أحداثه في جزيرة "أمروم" النائية، في بحر الشمال، قبيل انتهاء تلك الحرب)، يُقدّم لأول مرة فيلماً عن طفل، لكنّه لم يَحِد إجمالاً عن مواضيعه الأثيرة: الهوية والغربة والاغتراب والولاء والحدود الثقافية، حتى داخل الوطن؛ وإصراره على استكشاف مدى تنوّع الهويات والأعراق واللغات، في المجتمع الألماني الواحد. "أمروم" (شارك أكين في كتابته المخرجَ المخضرم وكاتب السيناريو هارك بوهم) مستوحى من التجارب الشخصية لبوهم في تلك الجزيرة: عام 1945، يشهد ناننينغ بومز (غاسبر بيليربك)، البالغ 12 عاماً، ووالدته وشقيقه وعمته، زلزال هزيمة ألمانيا، وسقوط الفاشية، وانتحار أدولف هتلر. تُطلق والدته هيلة (لورا تونكة)، الهتلرية حتى النخاع، كزوجها الغائب في الحرب، وناننينغ المرتدي دائماً الزيّ النازي للشبيبة بدافع الالتزام والانضباط، صرخة مدوية. ثم تسقط على الأرض، وتلد طفلاً قبل الأوان. يُبدع أكين في رصد تداعيات الخبر المدمّر، وتأثيره على الأسرة، خاصة صدمة ناننينغ جرّاء سقوط الفاشية، التي اعتنقها بإخلاصٍ، وببراءة الجاهل بها وبتبعاتها. عبر هذه الأسرة، وناننينغ تحديداً، يُجسّد أكين جانباً نادراً من الحرب العالمية الثانية بفنّية مرهفة، ومشاعر صادقة ومؤثّرة، جاعلاً الصبي تجسيداً حقيقياً لمأساة جيل كامل. إلى ذلك، ناننينغ، على نقيض أوسكار (الطبل الصفيح) الرافض أنّ يكبر في السنّ والمتوقف عن النمو، بَلَغَ ونَضج، وربما هَرِمَ قبل الأوان. حتى البالغين حوله، كالصياد العجوز صديقه، والفلاّحين المسنّين، والخبّاز مقطوع الذراع، لا يأخذون في الاعتبار حداثة سنّه. أما الأولاد، ذوو العمر نفسه أو أكبر قليلاً، فمشاكسون وأشرار مؤذيّون و متنمّرون ، وفي أحسن الأحوال، ساخرون من كونه ليس أمرومياً خالصاً. سينما ودراما التحديثات الحية "هستيريا" مجتمع وأفراد: انشغال سينمائي بأتراك ألمانيا في ظلّ هذا التمزّق والانهيار والتخبّط وفقدان الهوية، تؤكّد له والدته أنّ المهم ليس مكان الولادة، بل السلالة، وليس مهمّاً أنّه لا يتحدث اللغة الأمرومية. تتعقّد الأحداث، وحياة ناننينغ، بعد إصابة والدته، الوطنية المُتعصّبة، باكتئاب ما بعد الولادة، إضافة إلى صدمة وفاة هتلر، فترفض تناول الطعام نهائياً. يحاول الابن إشباع رغبتها في الخبز الأبيض والزبد والعسل، وإنْ خاطَر بحياته. ونظراً إلى عدم وجود دقيق أو سكّر أو بيض أو زبدة في المتاجر، وصعوبة الحياة بسبب الحرب والحصار وطبيعة الجزيرة، تُصبح تلبية أمنيتها مستحيلة. لكنّ ناننينغ، رغم خلافه المتفجّر مع والدته وعمته المناوئة ل هتلر ، والأولاد حوله، ووصمة الفاشية الملتصقة به، يُصمّم على تحقيق رغبتها بعزمٍ لا يلين، فيقوم برحلة طويلة، شاقّة ومُهلكة، بحثاً عن مُكوّنات صنع الخبز، وتوفير الزبد والعسل. في الرحلة، الشيّقة والمثيرة، يُسلّط "أمروم"، بعيني ناننينغ، ضوءاً على ثقافة منطقة بحرية استثنائية، يندر ظهورها في السينما الألمانية ، متناولاً معيشة أهل الجزيرة، وغيرهم من المنفيين والغرباء المُرَحَّلين من روسيا، وغالبيتهم مُضطرّة للعيش في ظلّ إيديولوجية ورثوها من دون ذنب. هنا، يُظهر الفيلم أوجه تشابه كثيرة مع عصرنا، ويدفع إلى التفكير في قضايا شتى، كالعنصرية والفاشية والتعصّب الأعمى، حتى بين من يُفترض بهم أنْ تكون لديهم براءة الطفولة. الغريب أكثر أنّ هؤلاء جميعاً يعيشون بعيداً جداً عن الأحداث، ومجريات الحرب، والفظائع المرتكبة فيها، ولا يربطهم بالعالم سوى صوت المذياع، المُدجِّن لأفكارهم. عبر سردٍ بسيط وصادق، وأداء بارع لغاسبر بيليربك في دور الصبي، وأماكن استُغلّت بشكلٍ خلاّب، صنع فاتح أكين سينما كبيرة، فكرياً وبصرياً، وأنجز نقلة لافتة للنظر في مسيرته. ورغم الاعتقاد الخاطئ، لوهلة، أنّ "أمروم"، كلاسيكي الطابع، يميل إلى موالاة الفاشية، وتقديم صورة متعاطفة مع النازيين ، لا يتبنّى أكين، في النهاية، منظور الطفل عن فهمه وتصوّره للأمّة ـ الأمّ في أيامها الأخيرة، مُعتبراً أنّ الصدمة أجبرت الصبي على مراجعة نفسه وأفكاره. بهذا، يكون "أمروم" صرخة مخرج ضد خطر صعود الأحزاب الفاشية، وانتشار الأفكار الديماغوجية في ألمانيا المعاصرة، ودعوة مخلصة إلى مراجعة النفس والأفكار، قبل دفع البلد مُجدّداً إلى تكرار ماضيها المأسوي.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
لا أحد ينام في الإسكندرية.. معرض يرتحل من الرواية إلى اللوحة
صورة المدينة المتوسطية، كما يصوّرها الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد في روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" (1996)، خلقتْ حواراً بصرياً مع ما يقرب من ثلاثين فناناً، بينهم سبعة عشر من الفنانين المحترفين، وثلاثة عشر من طلبة الفنون، قدّموا أعمالهم في المعرض الذي يحمل عنوان الرواية نفسه، والمقام في غاليري "آرت كورنر" بالقاهرة حتى منتصف الشهر الجاري. يرسم الفنان محمد عبلة لوحة تطلّ منها شخصيات وعناصر متعدّدة، تضمّ أيضاً جندياً وحصاناً وقارباً داخل مشهد بصري يغمره اللون والحركة. بألوانه الصارخة وتكوينه المتناثر، يعيد عبلة هنا سرد مدينة الإسكندرية بصيغة حالمة ورمزية، تعكس رؤيته للمدينة كما وردت في الرواية: ساحة للعبور والتعدّد والصراع. لوحة عبلة لا تقدم توثيقاً بصرياً لمشاهد الرواية، بل هي أشبه باستبطان بصري لذاكرة المكان وتاريخه المركب. في لوحة أخرى للفنان الشاب محمد محمود، وهو طالب في كلية الفنون الجميلة، تطلّ قلعة قايتباي تحت سماء باهتة، بينما يسيطر إحساس كثيف بالزمن، وبالحرب، وبالانتظار. لم يترجم الفنانون الرواية، بل تحاوروا مع أجوائها وذاكرتها يحتفي المعرض، الذي يشرف عليه الفنان سمير عبد الغني، بهذا النص الأدبي، حيث تتجاور العديد من الأعمال، وتلتقي جميعها عند نقطة واحدة: الإسكندرية كما رآها إبراهيم عبد المجيد. لا يسعى المشاركون هنا إلى ترجمة الرواية بشكل مباشر، بقدر ما ينخرطون في حوار حر مع أجوائها. هناك من يلتقط مشهداً مألوفاً، ككوبري ستانلي، وهناك من يغوص في ثيمات الرواية الرمزية، كما فعل عبلة وعبد الغني، مستخدمين التجريد والإيماءة اللونية لالتقاط الجوهر لا الحدث. تلك المقاربة تُخرج الرواية من إطارها الورقي، وتعيد إنتاجها كذاكرة مرئية. ولا يُقرأ المعرض بوصفه امتداداً للرواية، بل كإعادة خلق لها، كأنّ كل عمل فني بمثابة فصل غير مكتوب. ولا شك في أن انخراط الطلبة في هذا الحوار مع الكبار يُنتج حواراً آخر، بين الأجيال، أو بين المواهب الناشئة والخبرة المكرّسة. وهو ما أشار إليه الروائي إبراهيم عبد المجيد نفسه، الذي وصف المعرض بأنه "ليلة كالسحر، مفعمة بالتفاعل، ومحاطة بأرواح المدينة التي لم تنم، والتي تواصل العيش في النصوص واللوحات". الفنانة منى عبد النبي أمام لوحتها (من المعرض) نُشرت الرواية للمرة الأولى عام 1996، وتدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة الإسكندرية، هذه المدينة الهامشية والمركزية في آنٍ معًا، والتي تستقبل الوافدين من الريف المصري، الهاربين من ضيق الحال أو لهيب الحرب. في قلب الحكاية، صداقة تنشأ بين مجد الدين، الشاب المسلم القادم من دلتا مصر، ودميان، المسيحي القادم من الجنوب. ورغم اختلاف خلفياتهما، تتشكّل بينهما علاقة إنسانية رفيعة، تتجاوز التوترات الدينية والاجتماعية المحيطة، وتتماسك في مواجهة الخراب. تأخذنا الرواية في رحلة بين شوارع الإسكندرية، ومحطات القطارات، ومقاهي الميناء، وبيوت الخواجات، فيما الحرب تقترب شيئاً فشيئاً من المدينة، وتغرقها في ظلال الغارات والفقد والتحوّل. وقد انعكست هذه الروح الغنية للنص على تنوّع التجارب المشاركة في المعرض، حيث جمع بين أسماء معروفة في المشهد التشكيلي المصري وأخرى ناشئة. من بين الفنانين المشاركين: فتحي علي، ورضا خليل، ومحمد إسحاق، وجلال جمعة، وسعيد بدوي، وعزة فخري، ومنى عبد النبي، إلى جانب عمل خاص للراحل عصمت داوستاشي، الذي طالما أرّخ للإسكندرية في أعماله البصرية. هذا التنوّع، بين الأساليب والرؤى، خلق فسيفساء فنية حيّة، يتجاور فيها التعبير الواقعي بالتجريدي، والرمزي بالانطباعي، في محاولة جماعية لإعادة تشكيل المدينة كما سُردت، لا كما هي في الواقع. ولا تقدم رواية إبراهيم عبد المجيد سرداً عن الحرب فقط، بل عن المجتمع السكندري في لحظة فارقة من تاريخه؛ عن المدينة حين كانت تحتفظ بعدُ بكسوتها الكوزموبوليتانية. عبد المجيد نفسه قال إنه قضى ست سنوات في كتابة الرواية، بين القراءة والمشي وزيارة أماكن الحرب. وربما لهذا جاءت الرواية محمّلة بتفاصيل حسية، بملمس الرمل، ورائحة الميناء، وصوت الأذان المتشابك مع ترانيم الكنائس. تلك الحسية الكثيفة هي ما ألهم الفنانين المشاركين في هذا المعرض، وهي أيضاً ما يجعل المعرض يتجاوز فكرة التكريم، إلى استعادة لفعل القراءة بوصفه رؤية، وللنص بوصفه لحظة تجريب. فنون التحديثات الحية فن الشارع في المغرب.. بين المقام والصدام


العربي الجديد
منذ 7 أيام
- العربي الجديد
حملة ضد الفنانة كانديس برايتس.. ماذا يعني أن تكون يهودياً في ألمانيا؟
تتوالى حملات الصحف الألمانية في مهاجمة الفنانة الجنوب أفريقية كانديس برايتس، المقيمة والناشطة في برلين، على خلفية ظهورها بلباس يهودي أرثوذكسي مخصص للرجال، خلال لقاء أجرته في المعرض الوطني ببرلين. ويأتي هذا الهجوم في سياق معروف عن برايتس، لمواقفها الحازمة في الدفاع عن الفلسطينيين ، ورفع الصوت بشأن ما تصفه بـ"حرب الإبادة في غزة". وقد سعت هذه الصحف إلى الربط بين ظهور الفنانة بهذا الزي ومواقفها المناهضة للسياسات الإسرائيلية. كتّاب هذه الصحف لا يعيرون اهتماماً لطبيعة العمل الفني الذي تقدّمه برايتس أو شكله، ولا لغيرها ممن أعلن تضامنه مع الفلسطينيين؛ إذ يُنظر إليهم من قِبل هؤلاء الكتّاب بوصفهم "معادين لإسرائيل"، فلا تُكتب عنهم تغطيات إلا في سياق التشهير بهم وبالمؤسسات التي لا تزال تحتفظ بهامش ضئيل من الحرية يسمح بعرض أعمالهم واستضافتهم. وقد لفتت صحيفة فرانكفورتر ألغيماينه إلى أن "برايتس، بعد 7 أكتوبر 2023، تخلّت عن ممارستها الفنية، واستبدلتها بكلمات لاذعة استخدمتها عبر الإنترنت وفي الفضاء العام لمهاجمة إسرائيل والدولة الألمانية التي تعتبرها 'دكتاتورية بالقدر نفسه'". وقد تجاهلت هذه الصحف عمداً أمرين أساسيين: أولاً، أنَّ الفنانة يهودية الأصل؛ وثانياً، أن ارتداءها لهذا الزي يأتي ضمن مشروع عمل مسرحي لا يزال قيد التحضير. والأهم من ذلك هو إنكارها لما أوضحته برايتس في مستهل اللقاء، حيث صرّحت بأنها لا ترتدي زي اليهود الأرثوذكس ارتداءً اعتيادياً، بل تلعب دور شخصية الفنان الألماني كريستوف شلينجينسيف في عمله "إغراق ألمانيا" (1999)، الذي يعاد عرضه حالياً في المعرض الوطني. وتهدف من خلال ذلك إلى لفت الانتباه إلى إشكالية استخدام بعض الفنانين الألمان للهوية اليهودية قناعاً في أعمالهم الفنية. في عام 1999، دعا متحف الفن الحديث الأميركي المخرج الألماني كريستوف شلينجينسيف (1960–2010) إلى نيويورك، حيث أخرج عرضاً بعنوان "إغراق ألمانيا" عند تمثال الحرية. وقد اختار عمداً تاريخ 9 نوفمبر/تشرين الثاني، لإحياء ذكرى أحداث مفصلية في التاريخ الألماني، مثل "ليلة البلور" (1938)، وسقوط جدار برلين عام 1989. تطرح تساؤلات حول عبء تفكيك الماضي الاستعماري لألمانيا وفي ذلك العرض، قام شلينجينسيف بأداء طقوسي ركع فيه أمام تمثال الحرية، مستعيداً بذلك مشهد ركوع المستشار الألماني الأسبق فيلي برانت في وارسو بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ألقى في نهر هدسون وعاءً يحتوي على "رماد ألمانيا الرمزي"، وحقيبة تضم 99 قطعة من الأدوات اليومية الألمانية، ليُعلن بذلك "نهاية ألمانيا" الرمزية قبل دخول الألفية الجديدة. برايتس، من جانبها، تصرّح بأنها ترحّب بفكرة "إسقاط ألمانيا القديمة في النهر"، وتثمِّن عمل شلينجينسيف في تقصّي التاريخ الاستعماري لألمانيا، خصوصاً أنه اختتم تلك السلسلة من الأعمال في ناميبيا، فوق أنقاض المستعمرات الألمانية هناك. لكنها في الوقت ذاته تتساءل: "من الغريب أن شلينجينسيف شعر بالحاجة إلى ارتداء الهوية اليهودية بوصفه زيّاً تنكّرياً لإنجاز هذه المهمة. فهل يتعيّن حقاً على الأكتاف اليهودية تحمّل عبء تفكيك الماضي الفاشي والاستعماري لألمانيا؟". تحاول برايتس الغوص في هذا السؤال من خلال عملها المقبل، "صورة ذاتية لكريستوف شلينجينسيف"، لكنها لم تجد بداً من الإسراع في طرح القضية بشكل مباشر و"استفزازي" على حد تعبيرها، ولا سيما مع إعادة عرض فيديو "إغراق ألمانيا" حالياً في المعرض الوطني. وهي بذلك تطرح سؤالاً إضافياً: إلى أي مدى يوجد وعي في ألمانيا 2025 بفداحة ارتداء ثقافات الآخرين بوصفها أزياءً تنكرية؟ وتؤكد برايتس أنها لا تدعو إلى منع عرض العمل الفني الذي تتفق مع أغلب ما جاء فيه، لكنها ترى ضرورة مرافقة هذه الأعمال بجلسات حوارية ونقدية تتناول السياق التاريخي والمعاصر لإشكالياتها. ولا تُخفي برايتس استغرابها من دعوتها إلى الحديث في ندوة بعنوان "هويات عابرة" حول كيفية تشكل الهويات في المجتمعات الحديثة، في الوقت الذي يُعرض فيه عمل شلينجينسيف من دون أي توضيح أو تعليق توضيحي بجانبه. وترى أن هذا التناقض يكشف عن العلاقة المضطربة بين ألمانيا واليهودية، وأن سؤال: ماذا يعني أن تكون يهودياً في ألمانيا؟" لا يزال مصدراً للتوتر والارتباك حتى اليوم. هذه الفكرة سبق أن تناولتها الكاتبة اليهودية ديبوراه فيلدمان، المقيمة في برلين منذ أكثر من عشر سنوات، في كتابها المثير للجدل "الولع باليهود" (2024)، حيث وصفت نظرة شريحة من الألمان إلى اليهودية بوصفها "مصدراً للولع"، تُجسّد فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي ما يعتبره الغرب التكفير الأمثل عن ماضيه النازي. لكن وجود يهود ليبراليين، مناهضين للصهيونية والاحتلال، يربك هذا الخطاب ويزعزعه. وهذا تحديداً ما أكّدته كانديس برايتس في منشور على صفحتها، تعليقاً على ردات الفعل الغاضبة من الصحافة الألمانية على مواقفها الأخيرة. آداب التحديثات الحية "نكتة" ألمانية تدعو إلى قتل الفلسطينيين