logo
زياد الرحباني الفنان 'العبقري' غير التقليدي في الموسيقى والمسرح والحياة

زياد الرحباني الفنان 'العبقري' غير التقليدي في الموسيقى والمسرح والحياة

القدس العربي منذ 6 أيام
بيروت: زياد الرحباني الذي توفي السبت عن 69 عاما فنان ومسرحي يصفه محبّوه بأنه 'عبقري'، أثرى الموسيقى العربية والعالمية بأعمال مزجت بين أصالة الموسيقى العربية الكلاسيكية والجاز، وتحوّل إلى صوت متمرّد لجيل بأكمله.
اشتهر زياد الرحباني، هو الابن الأكبر للفنانة فيروز والملحّن عاصي الرحباني، خصوصا بمسرحياته التي أنتجها خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وسخر فيها من واقع سياسي اجتماعي شديد التعقيد، ما حوّله من فنان عادي إلى صاحب موقف سياسي.
شكّلت الألحان التي وضعها في مسيرة طويلة امتدّت لأكثر من خمسين عاما، علامة فارقة في عالم الموسيقى العربية، بدأها بأغنية 'سألوني الناس' التي لحنها حين كان في السابعة عشرة من عمره وغنّتها والدته أثناء اعتلائها المسرح بينما زوجها الفنان الراحل عاصي الرحباني في المستشفى.
وتلتها عشرات الأغنيات التي رأى كثر أنها أحدثت انعطافة جديدة في مسيرة فيروز، على غرار ألبوم 'في أمل' و'كيفك أنت'.
وفي رصيده أغان وألبومات خرجت بصوته وبأصوات فنانين لبنانيين وعرب. فقد غنّت له أيضا الفنانة التونسية لطيفة في ألبوم 'معلومات أكيدة'. وكان له مع الفنان اللبناني الراحل جوزيف صقر ألبوم 'بما إنو'.
سخر زياد في أغنياته كذلك من الواقع الاجتماعي في لبنان كما في أغنية 'أنا مش كافر'، وشكّل ألبومه 'هدوء نسبي' بصمة مميزة في عالم الجاز.
اعتبرت أعماله المسرحية مرآة عن بلده الذي مزّقته الطائفية والحرب. وبدأ زياد الرحباني مسيرته المسرحية في 'سهرية' (1973) ثمّ 'نزل السرور' (1974) و'بالنسبة لبكرا شو؟' (1978).
ولعلّ أشهر مسرحياته 'فلم أميركي طويل' (1980) التي تعدّ تصويرا ساخرا لواقع لبنان خلال الحرب الأهلية. وتدور أحداث المسرحية في مستشفى للأمراض العقلية، شخصياته هم مرضى عاصروا تلك الحرب ويشكّلون نماذج مختلفة من المجتمع اللبناني.
بعدها كانت هناك أيضا مسرحيات 'شي فاشل'(1983) و'بخصوص الكرامة والشعب العنيد' (1993)، و'لولا فسحة الأمل'(1994).
'رحل العبقري'
بالنسبة للكثير من محبّيه، عبّر زياد الرحباني بسخرية لكن بواقعية صادمة عن هموم يجيل كامل عاصر حربا دامية لم تنته مفاعليها بعد. ورأى كثر في مسرحياته ومواقفه استشرافا للواقع اللبناني السياسي والاقتصادي وعمقا في التحليل، وليس فقط استهزاء به.
وكتبت الممثلة اللبنانية كارمن لبّس التي كانت شريكة حياة الرحباني لوقت طويل وشاركته كذلك في العديد من أعماله الفنية 'أشعر وكأن كل شيء انتهى، أشعر وكأن لبنان أصبح فارغا'.
وعلّق الصحافي اللبناني بيار أبي صعب الذي كان كذلك مقربا من الرحباني 'إنه زمن ينتهي… زمننا، زمن زياد الرحباني الذي لن يتكرر'.
وقالت الصحافية اللبنانية ضحى شمس التي تعرف الرحباني منذ 30 عاما في اتصال مع وكالة فرانس برس 'كان زياد ضميرنا، ضمير المجتمع اللبناني، وأكثر شخص فهم المجتمع اللبناني وكان يعرف إلى أين يتجه هذا المجتمع'، مضيفة بتأثّر 'فقدنا قلبنا'.
نعاه كذلك مسؤولون لبنانيون، فكتب رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام 'بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة'.
وقال رئيس الجمهورية جوزيف عون 'زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة'.
كما في مسرحياته، لم يتوان زياد الرحباني عن التعبير عن مواقفه السياسية في مقابلاته التلفزيونية، فقد كان يساريا وشيوعيا في بداياته، ومناصرا للفلسطينيين، ومناهضا للطائفية…
وبالإضافة إلى أعماله الفنية، أنتج زياد عددا من البرامج الإذاعية مثل 'العقل زينة'، وكتب الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام.
كان له لفترة طويلة عمود صحافي في جريدة 'الأخبار' اللبنانية التي نعته بعنوان 'زياد الرحباني…رحل العبقري'.
وفي نعيها، كتبت الجريدة 'لم يكن قدَر زياد أن يكون مجرّد امتداد لعائلة الرحابنة. لقد اختار باكرا أن يكون انشقاقا ناعما، وصوتا متفرّدا…لكن ابن فيروز وعاصي، لم ينسَ أن يحمل الإرث الموسيقي الهائل من عائلته، ليعيد تركيبه على نحو خاص، فخرجت منه بصمة موسيقيّة تكتظّ بالإبداع والسخرية واليأس والموقف في آنٍ معا'.
(أ ف ب)
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الإعلان عن إصدار سادس أجزاء لعبة باتلفيلد في أكتوبر المقبل
الإعلان عن إصدار سادس أجزاء لعبة باتلفيلد في أكتوبر المقبل

العربي الجديد

timeمنذ 3 ساعات

  • العربي الجديد

الإعلان عن إصدار سادس أجزاء لعبة باتلفيلد في أكتوبر المقبل

تعود لعبة الفيديو الحربية الشهيرة باتلفيلد في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل بجزء سادس يبدو أشبه بفيلم هوليوودي ضخم، يتضمن ساحات معارك وأحداثاً مثيرة، وتأمل من خلاله شركة إلكترونيك آرتس التفوّق على اللعبة المنافسة كول أوف ديوتي . وأعدّت الشركة الأميركية الناشرة للعبة مجموعة أنشطة في باريس ولندن ولوس أنجليس تُرافق الإعلان عن موعد طرح اللعبة في 10 أكتوبر وعرض أهم ميزاتها الجديدة. وقال رئيس قسم تصميم الألعاب في الاستوديو السويدي "دايس" الذي ابتكر هذه السلسلة، داميان كيكين، لوكالة فرانس برس: "إنها نقطة انطلاق جديدة" للعبة التي وُلِدَت عام 2002. وتقوم "باتلفيلد" على محاكاة للمعارك العسكرية، واستقطبت أكثر من 100 مليون لاعب منذ إطلاقها، لكنها تراجعت على مر السنين أمام لعبة كول أوف ديوتي التي تصغرها بعام. وتفاقم هذا التراجع بفعل عدم تحقيق "باتلفيلد 2042" التي صدرت عام 2021 النجاح المتوقع وفقاً لشركة إلكترونيك آرتس التي لم تُفصح عن أرقام المبيعات. بالتالي ثمة ضغط كبير يلقي بثقله على كاهل هذه اللعبة التي عمل عليها طوال أربع سنوات مئات المصممين التابعين لأربعة من استوديوهات الشركة الأميركية الناشرة من مختلف أنحاء العالم، وهي سابقة في سلسلة "باتلفيلد". وأوضح مدير التصميم في استوديو موتيف في مونتريال، رومان كامبوس-أوريولا، الذي كان مسؤولاً بشكل خاص عن الجزء الذي يمكن لعبه فردياً "كنا بحاجة إلى هذه القوة الضاربة لإعادة إحياء الشعور بالحرب الشاملة". وتروي اللعبة قصة حرب حديثة تدور سنة 2027، تتواجه فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها مع مليشيا خاصة مدججة بالسلاح، تُدعى "باكس أرماتا"، مدعومة من دول أوروبية انسحبت من حلف شمال الأطلسي (ناتو). وقال داميان كيكن "لقد ابتكرنا كل هذا قبل بضع سنوات، لذا إن كانت هناك أشياء قريبة جداً (من الواقع) اليوم، فهي مجرد مصادفة". أضاف: "كنا نريد بيئة واقعية لانغماس أكبر في اللعبة". لكن أسلوب اللعب عبر الإنترنت ضد الخصوم هو ما حقق النجاح الكبير للسلسلة. في باريس، أتيحت لأكثر من 30 وسيلة إعلامية فرصة تجربة لعبة باتلفيلد 6 في غرفة واسعة مليئة بأجهزة كمبيوتر أمامها مجسمات لجنود يرتدون بزات عسكرية، كما لو كانوا يتولون حراستها. وتتميز اللعبة المصممة لأجهزة الكمبيوتر وأجهزة إكس بوكس وبلاي ستيشن 5 برسوم غرافيكية فائقة الواقعية وديكورات قابلة للتدمير بالكامل، مما يتيح للاعبين هدم مبانٍ باستخدام قاذفات صاروخية. تكنولوجيا التحديثات الحية "إبيك غيمز" تُقاضي "سامسونغ" و"غوغل" بتهمة منعها من تنزيل تطبيقها ويستطيع عشرات اللاعبين أن يخوضوا معاً جولة لعب عبر الإنترنت، ويمكنهم قيادة الدبابات والطائرات المقاتلة للقضاء على أكبر عدد ممكن من الخصوم أو السيطرة على قاعدة العدو. وعند إطلاقها، ستضم هذه النسخة تسع بيئات قابلة للعب تُحاكي شوارع القاهرة وجبل طارق وبروكلين وجبال طاجيكستان. ووعد مصممو اللعبة بإضافة مواقع وأنماط لعب أخرى لاحقاً. على عكس سلسلة "كول أوف ديوتي" التي تُركز بشكل أكبر على مواجهات متوسطة الحجم، تغمر "باتلفيلد" اللاعبين في بيئات شاسعة يتصادم فيها معسكران. شرح رومان كامبوس-أوريولا أن "هذا المزيج من المعارك الواسعة النطاق، والمركبات، وأسلوب اللعب القائم على الفِرَق" هو ما يميز السلسلة. وفيما ركزت "باتلفيلد" في أجزائها الأولى على إعادة تمثيل المعارك التاريخية من الحربين العالميتين وحرب فيتنام، تطورت لاحقاً إلى مناطق حرب من صنع الخيال. وبالعودة إلى مجالات الحرب الحديثة التي ساهمت في نجاح الجزأين الثالث والرابع في مطلع العقد الثاني من القرن 21، تأمل الشركة الأميركية الناشرة في إعادة السلسلة التي تشهد تراجعاً في المبيعات، إلى مسارها الصحيح. لكن المعركة لم تنتهِ بعد، إذ ستواجه هذا الخريف لعبة "كول أوف ديوتي" بلاك أوبس 7" (Call of Duty: Black Ops 7)، منافستها المباشرة في عالم ألعاب الحرب من شركة أكتيفيجن بليزارد الأميركية، والمتوقع صدورها بحلول نهاية السنة الحالية. (فرانس برس)

نَغَم غير شرقي: هل تجاوزنا شعبوية زياد الرحباني المضادة؟
نَغَم غير شرقي: هل تجاوزنا شعبوية زياد الرحباني المضادة؟

القدس العربي

timeمنذ 21 ساعات

  • القدس العربي

نَغَم غير شرقي: هل تجاوزنا شعبوية زياد الرحباني المضادة؟

جدّدت وفاة الموسيقي اللبناني زياد الرحباني جدالات كثيرة، لم تنقطع يوماً، شديدة التسيُّس، حتى لو لم تلامس القضايا السياسية مباشرةً، واقتصرت على مسائل فنيّة وموسيقية. وهذا أمر متوقّع، إذ لم ينقطع الفنانون الناطقون بالعربية يوماً عن معالجة مسائل مثل الهوية والحداثة والوطنيّة، وكلها سياسية بالعمق، فما بالك بالرحباني الابن، ذي التصريحات السياسية النارية، الذي ارتبط اسمه باثنتين من أكثر القضايا إشكالية في الجدل السياسي العربي المعاصر: الحرب السورية والمقاومة اللبنانية. وقبلها ارتبط بأحداث وتواريخ لا تقلّ إشكالية، مثل الحرب الأهلية اللبنانية؛ الحركات الشيوعية؛ والتمرّد على ما سميّ «الصيغة اللبنانية»، سياسياً وثقافياً. ترتفع دعوات كثيرة لعدم تسييس ذكرى الرحباني بعد وفاته، باعتبار أنه موسيقي أولاً وأخيراً، يُقيّم ويُستعاد على هذا الأساس، وما الإصرار على الجدل السياسي حوله إلا علامة غير صحيّة، على تسيُّس مفرط في الحيز العام العربي، يترافق عادةً مع صعود كل أنوع التطرّفات والشعبوية. إلا أن مثل هذه الدعوات لا تحترم رغبة الراحل نفسه، وطريقته في فهم وتقديم نفسه وأعماله، فهو دوماً رأى نفسه فناناً مُسيَّساً، يُضمِّن أعماله كثيراً من المحتوى السياسي، المباشر أو غير المباشر، حتى في أكثر الأغاني عاطفيةً، بل حتى في تعامله مع اللغة والطابع النَّغَمي. وهذا لا ينتقص بالتأكيد من قيمة أعماله، فالسياسة أحد المنظومات التي يتعامل معها الفن، تماماً مثل الدين والأخلاق وغيرها من أنظمة المجتمع، والمقياس هنا هو «اللغة الفنيّة» في التعامل مع تلك المنظومات، أي القدرة على تحويلها إلى شأن فني، وإعادة صياغتها ضمن ترميزات نظام الفن، المتعلّقة بالجماليات، لا أن يُعامل الفن وفق ترميزات أنظمة خارجة عنه. وكان الرحباني صاحب لغة فنيّة فريدة بكل المعايير، إلا أن بتر السياسة من أعماله، سيؤدي إلى قراءة وتلقٍّ فقير لها، يضيّع كثيراً من دلالاتها، وأيضاً جمالياتها. المشكلة ليست في «التسييس» إذن، بل في «الفنيّة» المفرطة، والزائفة غالباً، في بعض محاولات التلقي، وهي بدورها ذات مغزى مُسيّس في العمق، إذ تحاول معارضة ونقد بيئة سياسية معيّنة، والتهرّب منها، نحو اختلاق أخرى، تعتبرها أكثر «صحيّة». وبالتأكيد، ليست جدالات الحيز العام العربي مَنْ سيّس فن الرحباني قسراً، بل ربما كان العكس صحيحاً، كان هو ممن ساهموا بشدة في تسييس جيل أو جيلين عبر الفن، وإدخالهما إلى جدالات الحيز العام وصراعاته، والتعامي عن ذلك خاطئ حتى من زاوية النقد الثقافي، الذي يجب أن يحقق، مبدئياً، نوعاً من الفهم الداخلي للظاهرة التي يعالجها. يمكن تمييز عناصر متعددة في سياسيّة الرحباني، يجوز ردّ أغلبها إلى الشعبوية، وهي ليست تهمة أو شتيمة، بل هي تكتيك سياسي، لطالما كانت له تعبيراته الفنيّة عبر التاريخ، خاصة مع انتشار «الثقافة الجماهيرية»، بوصفها أحد أهم ظواهر التحديث، أياً كان الموقف الفلسفي منها. للراحل أعمال كثيرة، مثل ألبوم «أنا مش كافر»، يمكن تصنيفها ضمن البروباغندا، التي ليست بدورها شتيمة، وإنما شكل فنّي ساهم بشدة في تطوير الفنون المعاصرة، وصار جزءاً من الثقافة الجماهيرية في كل أنحاء العالم؛ فضلاً عن تخصص الرحباني بالسخرية السياسية والاجتماعية؛ أما الأعمال غير المباشرة سياسياً، فكانت تحوي مواقف واضحة، من مسائل مثل الهوية والتمدّن والطبقة ولغة التواصل. وفي أحيان كثيرة كان يقدّم توضيحات مبسّطة لغاياته الفنية/السياسية، كما في فيلم «هدوء نسبي»، الذي أنتجه بالتوازي مع ألبوم يحمل الاسم نفسه، يحوي «موسيقى صامتة»، وبعض الأغاني العاطفية، ليشرح أشياء كثيرة عن الهوية الموسيقية، وما سمّاه آنذاك «الجاز الشرقي» (تراجع عن التسمية في ما بعد)، وهوية لبنان (قرص فلافل على هيئة هامبرغر، حسب تعبيره)، والوضع السياسي والاجتماعي العام، وكأنه يريد القول: لا تظنوا أني تخلّيت عن القضية، حتى عندما لا أقدّم لكم كلاماً واضحاً، إلا أن تلك الشعبوية لم تكن تقليدية، أو حتى كلاسيكية (ربما ستصبح كذلك الآن)، بل يمكن وصفها بالمضادة، أي بالضد من الهوية السياسية والوطنية لبلده، ومفهومها عن «الشعب»، والتي ساهمت عائلته في صياغتها. وصلت شعبوية الرحباني الابن المضادة إلى درجة التهكّم القاسي من «الشعب»، بل حتى تجريمه وإدانته والدعوة إلى محاسبته في بعض الأحيان، وخصص ثلاثة أعمال مسرحية بشكل كامل لهذا، وهي «فيلم أمريكي طويل»، «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و»لولا فسحة الأمل». أراد زياد الرحباني أن يبني شعباً مضاداً لـ»الشعب»، وكلما أحسّ بعبثيّة ذلك ازداد سوداويةً وتهكماً، إلا أن شعبويته المضادة لم تذهب سدىً، فقد بات هناك كثير من «الزياديين»، شعب من الساخرين السوداويين، الذين يجمعون بين النقد الاجتماعي القاسي والالتزام الشديد بقضية ما، غالباً وطنية. ما يدلُّ بوضوح على أن نقد الرحباني للوطن والأخلاق والشعب، كان ينبع من موقف وطني وأخلاقي وشعبي مفرط. يمكن اعتبار محاولات وتجارب زياد الرحباني هذه من أفضل ما أنتجته المنطقة ثقافياً، في التعاطي مع أسئلة التحديث والهوية، إلا أنها تبدو، مثل سيرة حياة صانعها، عالقة في دائرة مفرغة، كلما تهكّمت ازدادت التزاماً؛ وكلما شتمت «الشعب العنيد» التصقت به أكثر؛ وكلما تمرّدت أخلاقياً وفكرياً عادت إلى أحضان «المقاومة الإسلامية» وطقوس الدفن الكنسي. فهل يمكن بالفعل تجاوز الزيادية؟ أم أن كل محاولة لنقد الشعب والوطن، بكل مآسيهما، ستنتهي إلى «شي فاشل»، مهما بلغت نجوميته وعبقريته؟ غير شرقي توجد في التراثات الدينية والأسطورية الشعبية، خاصة المسيحية منها، وضعية «غير الميّت»، أي الضائع بين عالمي الفناء والخلود، دون أن ينال الخلاص. وقد ألهم هذا أدب الرعب المعاصر بشدة، وصار ثيمة متكررة، في قصص الأشباح ومصاصي الدماء والموتى الأحياء، بكل دلالاتها الاجتماعية والتاريخية والنفسيّة. هؤلاء لا يموتون، ولكنهم لا ينالون النعمة الإلهية، التي تشكّل جوهر الحياة. قد يشعر «غير الميت» بنشوة في البداية، نظراً لكونه لا يفنى مثل بقية البشر، ولكن سرعان ما يدرك أنه فاقد للحياة والخلاص. وربما يكون هذا الترميز الأسطوري مناسباً لإدراك مأساة وملهاة زياد الرحباني، بوصفه «غير شرقي». نَظَّر زياد الرحباني، بأسلوب شعبوي، لفكرة النَفَس غير الشرقي في الموسيقى، والهوية عامةً، حتى عندما يتعامل مع مقامات ونغمات شديدة الشرقية. «المضمون» هنا قد يكون شرقياً خالصاً، أو مزيجاً من ثقافات متنوّعة؛ ولكن عبقرية الشكل تكمن في «العالمية»، أي في التوزيع والأداء والمزج المناسب للأذن المعاصرة، الأقرب لـ»الغربية»، ما يكشف، في نهاية المطاف، أن لا فارق جذرياً بين شرق وغرب، وكله ممتزج على أرضنا، ومتقارب بشكل حميم. بإمكان زياد أن يكون شرقياً جداً، ولكن شرقيته هذه أقرب لمحاكاة ساخرة، كما تبدّت في ألبوم «في الأفراح»، وكثير من الأعمال اللاحقة. وهذه المحاكاة الشرقية ترسّخ صورة مُنتج المحاكاة بوصفه غير شرقي تماماً، دون أن يكون غربياً. اعتُبرت «غير الشرقية» هذه، من قبل زياد وكثيرين غيره، جوهر مشروع الرحابنة، بكل أطواره، وكذلك جوهر التمرّد عليه، باتجاه تعميقه وتجذيره؛ بل ربما جوهر الهوية اللبنانية. وكانت فكرة شديدة الجاذبية لكثير من المثقفين، إلا أنها تكشّفت في ما بعد عن ثغرات كبيرة، فالمزج الموسيقي قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى الاستسهال والنمطيّة، نظراً لعمله على الإلصاق المفتعل لعناصر مألوفة ومترسّخة، لإظهار «المزج»، وهو ما بدا واضحاً لدى معظم تلاميذ زياد الرحباني والمتأثرين به؛ أما «العالمية» فليست أكثر من مفهوم غامض، انقلب، في حالات كثيرة، إلى تقديم رخيص للذات والثقافة، في مؤسسات غربية تُعنى بـ»التبادل الثقافي»، وتسجن مثقفي المنطقة وفنانيها وناشطيها بأدوار محدودة، تتسم بالدونيّة، ولا ترقى إلى مصاف «الثقافة الرفيعة»؛ والأهم أنه لا يوجد ما هو «غير شرقي»، فلبنان، بكل «عالميته» و»مزائجه»، كان مثل غيره، موطناً لكل أشكال التطرفات، والمظاهر العالمثالثية الرثّة، وأحياناً في طليعتها، بما فيها الميليشيات الدينية، والإمارات الإسلامية، والاعتداءات الشاملة على الحريات. زياد الرحباني فهم هذا أسرع من غيره، ما قاده إلى مزيد من التهكّم والسوداوية، من الذات قبل الآخرين. لقد صار عالقاً في وضعية «غير الشرقي»، الذي شهد انحطاط كل المشاريع التي آمن بها، على كل المستويات؛ والذي لا يستطيع أن يلبس عمامة المقاوم، ولا أن يتمرّد على قضيته، ما يوقعه في تناقضات بالجملة، دون أمل بالخلاص. هذه المأساة/الملهاة أكثر عمقاً من موقفه من «الثورة السورية»، الذي لم يعد يدينه اليوم، بعد توضّح المآسي التي أنتجتها، إلا أنه يظهر تناقض «غير الشرقيين» بأغلبهم: لكل منهم تطرفاته الدينية المُحبَّذة، فيصبحون في قمة التنويرية والإنسانية، عندما يهاجمون متطرفي المعسكر الآخر؛ وينسون منطقهم، عندما يدعمون هذا الزعيم الميليشياوي أو ذاك؛ ويحملون ثقافة «عالمية»، لا تفعل إلا أن تمسخ نفسها أمام «العالم»، الذي ترغبه وتلعنه في الوقت نفسه. والنتيجة «مزيج» غريب المذاق، وغير قابل للهضم، مثل قرص الفلافل الذي يدّعي أنه ليس كذلك، والذي تحدّث عنه زياد في «هدوء نسبي». ضد الشعب «غير الشرقي» يدين «الشعب» بقسوة، ولكن ليس للانفصال أو القطيعة معه، وإنما لكي يصبح شعباً كما يجب أن يكون. في مسرحية «لولا فسحة الأمل»، ارتدى الرحباني زيّاً عسكرياً ذي سمة فاشيّة، وانهمك في تقويم وإعادة تربية «الشعب العنيد»؛ وفي مقابلاته تغزّل أكثر من مرة بالدول المركزية الصلبة، والأجهزة الأمنية القوية. ربما كانت مشكلته الفعلية مع ذلك «الشعب» أنه «غير شرقي» بدوره، فلا هو ملتزم مثل المقاومة الإسلامية، التي كثيراً ما رآها الشيء الوحيد الذي يعمل بشكل صحيح في البلد؛ ولا هو واعٍ ومنتج، «كما في مدينة تورينو»، وإنما «يكشّ الحمام»، حسب قوله في أحد برامجه الإذاعية. ربما كانت مشكلة زياد الرحباني مع ذاته، وقد يكون هذا ما دفعه إلى يأس مديد، دفعه إلى التوقف عن الإنتاج الفني في سنواته الأخيرة. كان من الصعب على الرحباني بالطبع تجاوز «الزيادية»، ولكن السؤال ما يزال مطروحاً على الزياديين الكُثر، الذين فُجعوا بوفاته: هل أنتم، مثل زياد، من «الشعب العنيد» في نهاية المطاف؟ الإجابة غالباً نعم، وربما كانت عبقرية زياد الرحباني هي التي جعلته يدرك ذلك مبكراً، ويغرق بعدها في محاكاة ساخرة ويائسة لذاته، وكأنه، في كل مقابلة وحفلة، يمثّل أنه زياد، الذي لم يعد يؤمن به. قد تكون هناك آفاق أخرى، لم يستطع زياد الرحباني تمييزها، نظراً لثقافته السياسية، وإرثه العائلي، ومكانته الرمزية، وانغماسه في كل الحوادث الكبرى التي شهدتها المنطقة. وتلك الآفاق توجد بالضرورة خارج المفاهيم، التي حاول التمرّد عليها من الداخل، وإعادة ترتيب عناصرها بشكل ساخر. وعلى الرغم من أنه ألّف وأعاد توزيع عدد من أجمل الألحان الكنسيّة (ما ينفي قطيعته مع الإرث المسيحي) فإنه لم ينتبه بما فيه الكفاية على ما يبدو إلى مفهوم «الخروج» Exodus، الأساسي في التراث اليهودي/المسيحي، أي الانسحاب، الهرب، من الدوران في دوائر استعباد مفرغة من المعنى؛ والعبور نحو معانٍ جديدة للوجود. وهذا قد يتطلب القطيعة الكاملة مع «الوطن» و»الشعب»، لا الشفقة عليهما، ومحاولة إعادة بنائهما كما يجب أن يكونا؛ وربما ابتكار بدائل، قد تكون «خيانة»، بالنسبة لمن لم ينجز الخروج. يبقى لنا من زياد عدد من أجمل الألحان في تاريخ الموسيقى العربية، وطاقة متفجّرة على التهكّم، قد تكون معيناً على «الخروج». ربما نكون مخلصين له أكثر، إذا كسرنا دوائر يأسه، واستطعنا إنجاز ما عجز عنه: تخليص زياد الرحباني من «زياديته». كاتب سوري

زياد الرحباني والسينما: ابتعادٌ عن التمثيل ومشاركة في الموسيقى
زياد الرحباني والسينما: ابتعادٌ عن التمثيل ومشاركة في الموسيقى

العربي الجديد

timeمنذ 3 أيام

  • العربي الجديد

زياد الرحباني والسينما: ابتعادٌ عن التمثيل ومشاركة في الموسيقى

لم يكن زياد الرحباني (1956 ـ 2025) ممثلاً تنجذب الكاميرا، السينمائية والتلفزيونية، إليه، بينما تأديته الأدوار الأولى في مسرحياته السبع (1973 ـ 1994) منبثقٌة من أنّ الشخصيات تلك تُشبهه تماماً صوتاً ونبرة وحركة، وسخرية أيضاً، كما يفعل في حياته اليومية. قول هذا لا ينتقص من أي قيمة فنية له في الموسيقى والأغنية وكتابة نصوصها، وفي مسرحياته، خاصة تلك المُنجزة في أعوام الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) . فالقول واقعٌ معروفٌ، وسبب قلّة تمثيله السينمائي غير واضح نقدياً تماماً، فلعلّ عزوفه عنه منبثقٌ من عدم انجذابه هو إلى الشاشة الكبيرة. أمّا "الاستماع" إلى تلك المسرحيات، عبر أشرطة "كاسيت" تُباع في أمكنةٍ، أو يتمّ الحصول عليها للتمتّع بها في المناطق الشرقية في تلك الفترة، فيؤكّد أنّ هناك إمكانية كبيرة للتفاعل معه باعتباره فناناً له موقف واضح في السياسة والاجتماع والثقافة والمسرح والفن، وشخصاً يُجيد نقل لغة الشارع، أي لغة الناس العاديين، إلى نصوص بالعاميّة تُصبح لازماتٍ أساسية في كلّ حوار بين لبنانيين ولبنانيات، وربما غيرهم أيضاً. والتفاعل المذكور غير مُحتاج إلى براعة تمثيل غير مُشاهَد غالباً، لذا، يغيب أيّ اكتراثٍ بالتمثيل كفنّ، فزياد الرحباني وحده كافٍ لإثارة متعةٍ وضحكٍ غير حاجِبَين تنبّهاً إلى شقاء اليومي، وبؤس العيش في بلدٍ ممزّق، زمن الحرب أولاً، وفترة السلم الأهلي الهشّ والناقص. رغم ذلك، يتوق كثيرون وكثيرات إليه، في أي شكلٍ من أشكال الفنون التي يُتقنها بحِرفية وبراعة وجمال وسحرٍ يصنع (السحر) شغفاً به وبها. يُدرك هؤلاء أنّ الأهم في الرحباني كامنٌ في شخصه ونبرة صوته والكلام الذي يلتقطه من الناس أنفسهم، مُطوّراً لغة الشارع إلى نصٍّ حقيقي وصادق وشفّاف، وأقدر على قراءة راهنٍ، وانتقاد حالة، وتنبيهٍ إلى مسألة. لذا، يغيب التمثيل بصفته فنّاً، لأنّ الرحباني نفسه غير مكترثٍ بفنّ التمثيل، فشخصياته ـ التي يكتبها ثم يؤدّيها بعفوية تمنحها مصداقية أكبر، وواقعيّة أعمق، ونظرة أقدر على رؤية بعض المقبل قبل حدوثه ـ غير مُحتاجة إلى ذاك الفنّ كي تؤرّخ لحظة، وتوثّق انفعالاً، وتكتب، أو ربما تشارك في كتابة فصلٍ أساسي من تاريخ بلد ومجتمع وثقافة وحياة. نجوم وفن التحديثات الحية لبنان يودّع زياد الرحباني.. إلى المحطّة الأخيرة لعلّ ذلك يتأكّد أكثر في غيابه شبه التام عن السينما، التي تشهد، في زمني الحرب المعطّلة والسلم المرتبك، إنتاجاً وفيراً يصبّ في النوعين التجاري وغير التجاري. ابتعاد السينما عنه (أمْ أنّه هو المبتعد عنها؟) ربما يكون دليلاً على فقدان الجاذبية بين الفنان والكاميرا. أو ربما زياد نفسه غير راغبٍ في تمثيل أدوار وشخصيات يكتبها آخرون وأخريات، باستثناء فيلمي "نهلة" (1979) للجزائري فاروق بلوفة، و"طيّارة من ورق" (2003) للّبنانية رندة الشهّال ، إضافة إلى تأديته دور طبيبٍ نفسيّ يُعالِج صحافية "تُعتَقل" في مشفى للاضطرابات النفسية، في "مجنون يحكي" (2013) للّبنانية لينا خوري. لكنّ مشاركته في "نهلة" تقتصر على ظهور قصير، مؤدّياً دور مؤلّف موسيقيّ يُشبهه كثيراً، بينما يمثّل في الثاني دور ضابطٍ إسرائيلي مُكلّف بمراقبة منطقة عبور بين إسرئيل ولبنان، ينتبه إلى هيام جنديّ في فرقته بصبيّة درزية، يُفرض عليها الزواج من قريب لها في الجانب المحتلّ من القرية الدرزية اللبنانية. يصعب التوقّف طويلاً عند دوره في "نهلة"، إذْ يؤدّي شخصيته الحقيقية، أي فنان موسيقيّ، يُمرِّن نهلة (ياسمين خلاط) على أغنية جديدة. لكنّ فيلم بلوفة هذا مُثير للاهتمام بقراءته وقائع من الحرب الأهلية اللبنانية، بعينيّ صحافي جزائري (يوسف السايح) يأتي إلى بيروت ويُراقب أحوالها وأحوال ناسها بعد أعوام قليلة على اندلاع حربها. أهمية "نهلة" تُقابلها أهمية "طيّارة من ورق" في معاينة بصرية لأحوال أناسٍ يعانون احتلالاً وأهواله، ويلتزمون تقاليد متشدّدة في اجتماعهم وعلاقاتهم، من خلال المُراهِقة لميا (فلافيا بشارة). وزياد، بتأديته دور الضابط الإسرائيلي، غير فاقدٍ كلّياً سخريته المعتادة، لكنّ شخصيته تفرض حالات وتفكيراً ومشاعر أخرى. تمثيله هذا كأنّه تمرينٌ على ابتكار شخصية تختلف تماماً عن كلّ شخصياته المسرحية والإذاعية، ما يعني أنّ هناك فسحة له لتغيير مؤقّت. لكنّ هذا غير مانعٍ زياد الرحباني من العمل للسينما، عبر تأليفه الموسيقى التصويرية لـ"نهلة" و"طيّارة من ورق"، كما لـ"عائدٌ إلى حيفا" (1982) للعراقي قاسم حَول، و"وقائع العام المقبل" (1985) للسوري سمير ذكرى، و"بيروت، الفيلم المنزلي الأخير" (1987، مع الموسيقيّ الأميركي ليني مايرز) للأميركية جينيفر فوكس، و"متحضرات" (1989) للشهّال، و"ظلال الصمت" (2006) للسعودي عبد الله المحسن، الذي يبتعد مع حَول وذكرى عن الحرب الأهلية اللبنانية، الحاضرة في الأفلام الأخرى. كأنّ الرحباني الموسيقيّ يختبر سينمائياً كيفية منح كلّ فيلمٍ ما يرغب في إضافته إليه، أي أنْ تكون موسيقاه مرآة أخرى عن تلك الحرب، العاجزة عن دفعه إلى الهجرة، فالحاصل أنّها (الحرب) تجعله يُصرّ على البقاء في بيروت الغربية، مراقباً تدهور أحوالها وأحوال البلد لاحقاً. في موسيقاه التصويرية انعكاس طبيعي لرهافة اشتغاله، المتناقضة مع قسوة العنف البيروتي، والارتباك الفردي للتائه فيها، والخلل الانفعاليّ لذوات وتفكير. كأنّه، بقلّة الأفلام التي يؤلّف موسيقاها، يُشير إلى حيرة له أمام هذا الفن: ابتعادٌ عن التمثيل، ومشاركته في التأليف الموسيقي نوعٌ من تمرين إبداعي آخر.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store