logo
كيف يقرأ الفقراء؟

كيف يقرأ الفقراء؟

عكاظ٢٠-٠٢-٢٠٢٥

يدرك القارئ المنتابة عاطفته بالشغف القرائي أن كلفة إشباعها تتطلب موازنةً دقيقةً قد تحيد بعضاً من احتياجاته المهمة، وأن مأزق المفاضلة بينهما سيتكرر كلما اندلعت في قلبه تلك الرغبة الملحة التي تراكم انتصاراتها وتتمدد في روعه.
بيد أنه في إزاء التكلفة المتزايدة لاقتناء الكتب قد يبحث عن خطط بديلة تُغفل رفاهية امتلاك مكتبة شخصية يلوذ إليها ناهيك عن الشعور الذي يتدفق من خلال تلمسه الورق وانبعاث رائحته وحميمة تأبط كتاب إلى رتابة تقليب الصفحات الزجاجية عبر شاشة حاسوب أو جهاز قارئ إلكتروني أو لوحي... واضطراره لارتياد المكتبات الإلكترونية لقراءة الكتب بصيغها الرقمية ما يحد من الصلة الحسية والعاطفية بينه وبينها، وبالتالي تضاؤل التفاعلات الحيوية التي اعتادها، ورغم ما يعتري هذا «الكائن البديل» من قصور على صُعد عدة إلا أنه أحد الحلول التي لم تكن لتتأتى في عهد مضى.
كان الكاتب والروائي البريطاني الشهير جورج أورويل صاحب الروايتين الشهيرتين مزرعة الحيوان و1984 يعتقد أن القراءة هي إحدى أقل وسائل الترفيه تكلفةً ويضعها في المرتبة الثانية بعد الاستماع إلى الراديو، لكنه يثبت من خلال مقالته البديعة «الكتب مقابل السجائر» التي نشرتها صحيفة التريبيون في فبراير من عام 1946م، وهو ذات العنوان الذي حمله أحد أجمل كتبه لاحقاً، أن تكلفة اقتناء الكتب باهظة نسبياً عطفاً على اعتباره القراءة فعلاً ترفيهياً، كما أنها مرتفعة أيضاً قياساً إلى دخل الفرد آنذاك، ويصل عبر جدول حسابي تقديري إلى أن ما ينفقه الفرد لاقتناء ثلاثة كتب ذات قيمة أدبية ومعرفية رفيعة بالإضافة إلى قراءة بعض الصحف والمجلات في عام واحد يوازي ما ينفقه الفلاح الهندي طوال حياته، كما يورد اقتراحاً لخفض التكلفة الباهظة يتضمن بيع الكتب بعد قراءتها بنصف السعر أو ربعه تأسيساً لسوق منطقية تمكن القارئ من إشباع نهمه دون أن يشكل ابتياع الكتب عبئاً مادياً يثقل كاهله، كما هو التوسع في استعارة الكتب لخفض الإقبال على متاجر بيعها وتراجع الطلب مقابل نمو العرض.
وفي مقالة أخرى حملت عنوان «كيف يموت الفقراء؟»، يصف الإنجليزي الحانق مشاهداته في مشفى «كوشين» بإحدى ضواحي فرنسا، حيث تتضوع ردهاته برائحة الموت وتشي الأضواء الخافتة بأجل قريب يبدو في نظر الكثير من قاطنيه خلاصاً منتظراً ويعزو ذلك إلى اتجاه التفكير والذاكرة الطويلة من الماضي.
وبنزر يسير من المبالغة يقل كثيراً عن المبالغة في تكلفة اقتناء كتب تحمل قيمة معرفية وثقافية رفيعة يمكن لقارئ نابه أن يدرك معنى أن يجول بعينيه أرففاً تمتد لعشرات الأمتار وتحمل آلاف الكتب دون أن يعثر على كتاب تتعادل قيمتاه الفكرية والمعرفية بقيمته النقدية، أن يعتبر متجر الكتب كمشفى كوشين وأن يرى أفنيته القاتمة في الممرات الخلابة التي تزينها عبارات الكتب الأكثر مبيعاً والصادرة حديثاً فيما تملأها الكتب الرديئة التي تصف اتجاه التفكير والذائقة القرائية لدور النشر كما تمثل قوائمهم المالية ذاكرتها الطويلة، وأن يعتبر القراء كقاطني كوشين أو ما دعاهم أوريل «مشاريع موت» على اعتبار أن الكتب هي أدوات التشافي الفكري والنفسي وما تمثله رداءتها تجاه عقل القارئ وتكوينه المعرفي.
أخبار ذات صلة
قد تكون فكرة متحيزة ولكنها موائمة لتوصيف الكتب الرديئة التي يمتد نفوذها ليس ليحتل موضع الكتب القيمة فحسب بل لينحدر بالذائقة القرائية نحو مستوى متواضع، كما أنها ملائمة لوصف التكلفة المبالغ فيها للكتاب القيم التي نلحظها اليوم في متاجر الكتب ومنافذ بيعها.
كما يصف حبر الرواية الروسي فيودور دوستويفسكي في روايته الشهيرة «الفقراء» جانباً ذا صلة، إذ يصور من خلال إحدى رسائل «فارفارا دوبروسيلوفا» إلى «ماكار الكسيفيتيش» المعضلة التي واجهتها حين أرادت شراء مجموعة من المجلدات كان يرغب صديقها «بيكروفسكي» في اقتنائها لتهديها إليه وقد بلغت كلفتها 32 روبلا ونصف الروبل، جمعت منها بعد عناء طويل 30 روبلا، مما اضطرها إلى الاستعانة بوالده الذي كان يخطط لذات الأمر، ولكن وفاة بيكروفسكي سبقت ذلك، فاقترحت فارفارا أن تهتم بمراسم دفنه مقابل الكتب التي كان يملكها، ما أثار شجاراً بينها وبين والده الذي كان يرى في كتب بيكروفسكي صلة شعورية ستبقيه معه.
وبالرغم من أن دوستويفسكي أراد أن يصف الفقر كقامع للسعادة التي تتمثل أحد أوجهها في اقتناء الكتب إلا أنه لم يسلّم بحتمية ذلك حتى حين سبر أغواره وغاص عميقاً في أعماقه، كما هي عادته رأى أن القراءة أداة لمناهضته.
ومع أن الافتقار إلى مورد مستدام يبدو أمراً طبيعياً في مسيرة التاريخ البشري من منظور أورويل ودوستويفسكي أيضاً وهو أمر بدهي ومع أنهما اتفقا على أهمية القراءة كما سلما ضمناً بأن كلفة اقتناء الكتب باهظة لا سيما قياساً إلى حال متواضع لكنهما لم يصفا كيف يقرأ الفقراء، بيد أن اللافت أنهما لم يأتيا أيضاً على ذكر الكتب الرديئة ولم يريا منطقية قراءة كتاب متواضع المحتوى حتى في أكثر الأحوال عوزاً، ربما لأن معايير وضوابط إصدار الكتب التي كانت تشترطها دور النشر آنذاك لم تشجع على اقتراف الرداءة كما هي الآن.
محمد محسن الحارثي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ماذا بين المحققين في رواية "اللجنة" و"الأخ الأكبر" في "1984"؟
ماذا بين المحققين في رواية "اللجنة" و"الأخ الأكبر" في "1984"؟

Independent عربية

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • Independent عربية

ماذا بين المحققين في رواية "اللجنة" و"الأخ الأكبر" في "1984"؟

تؤسس رواية "الديستوبيا"، على نحو ما، أحد اتجاهات أدب اللامعقول، إذ تمثل إيماناً بلا معقولية الشكل ولا معقولية الوجود معاً، عبر اقتراح علاقات بديلة للعلاقات المألوفة في العالم، وعبر وجود معاكس للمأمول الذي تحركه القيم المطلقة: الحق والخير والجمال، فيبلغ التمرد في رواية "الديستوبيا" حد قلب نظام العلاقات إلى ما أساسه الجور، والشر، والقبح، وليس ذلك بهدف فهم اللامعنى، بل لمضاهاة لا معناه، ولتحديه بتأكيده. تعود جذور هذا الاتجاه إلى القرن الـ19، حيث هاجمت كثير من الأعمال المعقول، عبر قصص الرعب والفزع، المزدحمة بعالم الأشباح والأساطير، كقصص إدغار آلان بو. الفنان الفرنسي توماس أزويلوس يحوّل سرد صنع الله إبراهيم في رواية "اللجنة" إلى رواية مصوّرة تكشف ملامح المجتمع المصري عبر العقود (مواقع التواصل) لكن أبطال هذا النوع من القصص لم ينتموا إلى عالم البشر أو أنهم بشر لم يتمتعوا بقوى الإنسان العاقل كلها، فهم على حافة الجنون أو اللاشعور، في حين نجد معظم أبطال الديستوبيا عاديين، لكنهم يعيشون في عالم غير عادي بالنسبة إلينا، بوصفنا متلقين، ويأتي عدم عاديته من شذوذ قيمه، واختلال خريطة العلاقات بين عناصره، مما يؤدي إلى اختلاف منطق الحدث الروائي ومغايرة سيرورته للمألوف. في حين غالباً ما نجد المكان باسمه المألوف وبتفاصيله ذاتها، مقدماً بعين القبح، وليس المكان هنا قلاعاً موحشة، وقصوراً عتيقة بأثاث مهمل رطب، كما في قصص الرعب التي تحدثنا عنها، كما يتجاور في هذا الفضاء الناس العاديون والمشوهين، والأشباح، والضواري، متقبلين جميعاً تجاورهم هذا، مما يجعلنا نتقبله أيضاً. التحليق بالخيال الأسود هرباً من الأنظمة الشمولية لقد كان لانتشار نصوص التشيكي فرانز كافكا، والبريطاني جورج أورويل في الثقافة العربية أثر كبير في التوجه لكتابة رواية "الديستوبيا"، لا سيما في النصف الثاني من القرن الـ20، في حين بقي انتشار رواية "نحن" للروسي يفغيني زامياتين محدوداً، التي كتبها في عام 1923، نتيجة منعها، وعدم ظهورها كاملة بالروسية إلى عام 1988، وتأخر وصول ترجمتها إلى اللغات الأخرى، حتى إن جورج أورويل نفسه قرأها بالفرنسية وكتب نقداً عنها في عام 1946، لقد صار اسم كافكا دالاً على فظائع المدينة في القرن الـ20، لكنه لم ينتشر في أوروبا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تراخت قبضة النازية من جهة، وابتدأ المتحدثون بالألمانية من الجيل الجديد يسمعون عنه، ويتعرفون إليه من تقارير الأجانب من جهة ثانية. رواية جورج أورويل بالترجمة العربية (نيل وفرات) كان طه حسين قد عرف الثقافة العربية إلى كافكا، إذ كتب في عام 1946 مقالة عنه بعنوان "الأدب المظلم"، ونشر الدسوقي فهمي في صحيفة "المساء" عام 1968 ترجمته عن الإنجليزية لنصي "التحول" و"الدودة الهائلة". أما رواية أورويل "1984" التي نشرها في عام 1949 فقد ترجمها إلى العربية أول مرة أحمد عجيل عام 1984 في بغداد، ونشرتها الدار العالمية للنشر، والتي يشير صاحبها إلى أنه قرأها أول مرة بالعربية في عام 1957، إذ ظهرت في مكتبات مصر لفترة قصيرة ثم سحبت. ولم تنتشر في العالم العربي على الوجه المستحق، كما يبدو لي، نتيجة القبضة الأمنية المستحكمة على الفكر والمنشورات، نظراً إلى أن جمهورية الخوف التي تعريها الرواية تتطابق مع البلدان العربية ذات الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، التي استمدت بنيتها الحديثة من النهج الستاليني الذي فككه أورويل برؤية تهكمية. فظائع الانفتاح الرأسمالي في القرن الـ20 لا نستطيع استثناء المقاربة بين أعضاء "لجنة" صنع الله إبراهيم، و"الأخ الأكبر الذي يراقبك" في "1984"، أو بين شخصية السارد/ البطل في اللجنة، ووينستون سميث السارد/ البطل في رواية أورويل، ولا بين اللغة الجديدة التي تكلم عليها بطل "اللجنة"، و"نيوسبيك"، وهي اللغة الجديدة التي ابتكرتها حكومة "أوقيانيا". ظهرت رواية "اللجنة" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم في عام 1981، عن دار الكلمة في بيروت. ويمكن أن أعدها أول نص ديستوبي عربي متكامل، ويمثل تجربة فريدة في تلك المرحلة، فهي تقدم بلا احتجاج من السارد/ البطل خريطة العلاقات المضادة للمألوف في المجتمع على أنها المألوفة، والتي يحركها ثالوث بديل للقيم المطلقة المعروفة منذ أفلاطون (الحق، الخير، الجمال)، حيث سيصير النموذج الجمالي السائد هو القبيح، والأخلاقي هو السيئ، والسياسي هو الجبان، والاقتصادي هو الفاسد. رواية "المحاكمة" بالترجمة العربية (دار تكوين) ولا بد من الحديث عن السياق التاريخي للنص، إذ تولد عن سياسة الانفتاح الاقتصادي السياسي المصرية، التي أنتجت كلاً من الخصخصة، وتغول الرأسمالية، وضرب الإنتاج الوطني، فعاثت القطط السمان في السوق واستشرى الفساد، وقد حدث ذلك كله بعد "كامب ديفيد" 1978، إذ انكسر الحلم بالدولة الوطنية المستقلة ذات اقتصاد الاكتفاء الذاتي، وتحكم كومبرادورات الاقتصاد، أصحاب التوكيلات العالمية، في خريطة السوق وحركة النقد، الذين يمثلون دور العملاء لطبقة أخطر، وهي طبقة الشركات متعددة الجنسيات، المرتبطة بأفراد ذوي سطوة ينتمون إلى محفل ما، كالماسونية أو الصهيونية، ويتحكمون باقتصاد العالم، وقد تمثل "اللجنة" ظلهم في مصر، ويشير محمود أمين العالم قائلاً، "ومن المقارنة بين مرحلتي الستينيات والسبعينيات أن هذا الذي يجري هو الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ مع منتصف السبعينيات، وما يتعلق بهذا الانفتاح من سلوك وقيم ومواقف". تقدم الرواية تصويراً أليغورياً للمجتمع، مؤسساً، حسب العالم، على "مسح نقدي ساخر للتضاريس الاجتماعية، والأيديولوجية لمصر السبعينيات... بل تمتد بإشارات عامة إلى بقية البلاد العربية". ويشير مصلح النجار إلى أن "الرواية تلج عالم المثقف المنتهك في العالم الثالث، تقدمه وهو مسحوق بأحلامه في أن يكون شيئاً. وهو عندما يسلك السبل المتاحة أمامه لا يجد سوى اللجنة التي من شروطها أن يكون متفوقاً في الرقص، وعلى رغم ذلك لم تكتف بأن يكون راقصاً، وإنما أصرت على أن يعطيها كل نفسه من الداخل، وكل جسده وفكره، وعندما لاحت فيه إشارة تمرد واحدة كان قرارها أن يأكل نفسه، وبدأ الأكل من ذراعه المعطوبة التي لم يجد من يعالجها له جيداً"، وذلك نتيجة استشراء الفساد في مفاصل المجتمع. يدين نص "اللجنة" الفئات الاجتماعية كافة: الكتاب، والقضاة، والصحافيين، وزعماء العمال، ونواب الشعب، والأطباء، والمهندسين، والمغنين، والمدرسين، وأساتذة الجامعات... فهم جميعاً مشغولون بجمع الثروات، وبحسب محمود أمين العالم مرة أخرى: "إنه يدينهم جميعاً لأنهم يقفون موقفاً سلبياً أو متواطئاً لما يجري، أي إنهم يستسلمون كما استسلم هو... إدانة للواقع السائد". يبحث السارد/ البطل عن "ألمع شخصية عربية معاصرة"، وسيكون معيار اللمعان هو الفاعلية في صياغة الحاضر والمستقبل، وهذا الحاضر هو حاضر الانفتاح، حاضر السماسرة، والكومسيونجية، والمقاولين وعملاء الشركات الأجنبية والأميركية بخاصة، والفئات الطفيلية من الرأسماليين. يتواكب بل يتناسج كشف مظاهر لمعان الشخصية- القيمة السائدة، مع كشف مظاهر التبعية الاقتصادية، فضلاً عن صور الفساد والخراب والانحدار المستشرية في المجتمع مادياً ومعنوياً، مثل صعوبة المواصلات، وانقطاع الكهرباء والمياه وتعطل التلفونات واستيراد السلع المصنعة والسجائر الأجنبية على حساب إنتاج الصناعات المصرية، وتحايل المالكين على القوانين، وخلع الأشجار العامة لمصلحة تجار الأخشاب الذين يتلاعبون بالسوق السوداء، وتفاقم الفساد والاستغلال وسيادة روح المتاجرة بكل شيء، والاستسلام لإغراء البحث عن الثروة، وتحول مياه الحنفيات إلى اللون الأسود تمهيداً لظهور تجارة المياه المعدنية المستوردة، واختفاء المشروبات المصرية لمصلحة المشروبات المستوردة، وبخاصة الكوكا كولا، مما يرمز إلى التبعية الشاملة للشركات الاحتكارية العالمية، وانتشار أساليب التعذيب والتصفيات الجسدية في السجون وتعطش الزعماء العرب للدم، فضلاً عن خيانة المصالح الوطنية والقومية والتعاون والتواطؤ مع الأعداء من صهاينة وأميركان إلى جانب انتشار مرض الاكتئاب النفسي والعنة الجنسية، وفتور الهمة واللامبالاة والتعصب الديني، وظهور كلمات منحوتة ليس لها سابقة ولكنها تعبر عن الأوضاع الجديدة السائدة مثل: التهليب والتطنيش والتطبيع والتنويع، وتدني الصحف الرسمية التي أصبح المكان الملائم لقراءتها، كما يقول الأنا السارد في سخرية مرة، هو مكان قضاء الحاجة. حيونة الإنسان بتفريغه من الحلم تنتهي تلك الديستوبيا بأن يبدأ السارد بأكل يده المعطوبة نتيجة علاج طبيب فاسد، وذلك تنفيذاً لحكم اللجنة، وهي ديستوبيا مناسبة للمرحلة التي عاشها المجتمع العربي بعامة، إذ بدت التحولات في منتهى الفداحة آنذاك، وقد مثلت الرواية تجاوزاً معرفياً جمالياً شاسعاً لقيم مجتمعها باتجاه القبيح. لقد كان سقوط اليوتوبيا الاشتراكية العربية مدوياً في تلك المرحلة، إذ انكسرت أحلام اليسار العربي في الاستقلال منذ كامب ديفيد، وفي التحرر الاقتصادي، واكتفاء الفرد والدولة، وإقامة مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، وتحقيق الكرامة الإنسانية، وهي تلك الأحلام التي ظهرت بظهور الدولة القومية، أي قبل ما يقارب قرن من الزمان على ظهور رواية "اللجنة". قد نبطل اليوم عما حدث وصف الكارثة، فهي أقل بكثير مما شهدناه بعدها من الحروب والموت والدمار، وما ذلك إلا بسبب الاعتياد على الهزيمة، أو المضي في عملية "الحيونة"، أي عملية الانحطاط والتقزيم والتشويه التي تعرض لها الإنسان منذ فقد الجنة، والذي يشير إليها ممدوح عدوان بقوله، "تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا". تعقد جلسات اللجنة في المحكمة، والتي تشبه "قلعة" كافكا، وتشبه مقر وزارة الحقيقة حيث يعمل وينستون سميث بطل أورويل، حيث يراجع التاريخ، كما يفعل بطل اللجنة في بحثه التاريخي. يمكن القول إن رواية "اللجنة" هي ديستوبيا القتل النفسي، والتمثيل بالفرد، والكرامة الإنسانية، استعداداً للقتل الجسدي العبثي في الروايات التالية، التي ستظهر في بنى ديستوبية دامغة، وستبقى "اللجنة" لصنع الله إبراهيم عتبة ثابتة لتاريخ المجزرة.

العشاء: عادة محببة أم عبء اجتماعي؟
العشاء: عادة محببة أم عبء اجتماعي؟

الوطن

time٠٥-٠٥-٢٠٢٥

  • الوطن

العشاء: عادة محببة أم عبء اجتماعي؟

في مجتمعنا، يبدو أن العشاء قد أصبح طقسًا ملازمًا لكل مناسبة، صغيرة كانت أو كبيرة. سواء كان الأمر احتفالًا بالنجاح، أو الخطبة، أو الزواج، أو التخرج، أو الترقية الوظيفية، أو حتى لحظات الحزن كوفاة أحد الأحبة، فإن تنظيم «وليمة عشاء» بات عنوانًا رئيسيا لتلك المناسبات. هذه العادة، التي تغلغلت في ثقافتنا الاجتماعية، أصبحت مع الوقت عبئًا ماديًا ومعنويًا، ما يثير تساؤلًا ضروريًا: هل آن الأوان لإعادة النظر في هذا التقليد؟ من الطبيعي أن يترسخ العشاء في وجدان المجتمع كرمز للفرح أو التضامن. ففي كل مرة يحقق فيها شخص إنجازًا، يتبادر إلى الذهن فورًا تنظيم احتفال يتصدره العشاء: نجاح في العمل؟ عشاء. زواج؟ عشاء. حتى في الأحداث المؤلمة، كخروج مريض من المستشفى، أو انتهاء محكومية سجين، غالبًا ما تُتوج المناسبة بوليمة تجمع الأحبة والأصدقاء. صحيح أن هذه العادة تعكس ثقافة اجتماعية تُعلي من شأن الروابط العائلية والاحتفاء بالمناسبات، لكنها في الوقت ذاته أصبحت عبئًا لا يُستهان به. فالأمر لا يقتصر على التكاليف المالية فحسب، بل يمتد إلى الضغوط الاجتماعية التي تفرض على الأفراد الالتزام بهذا «الفرض» بشكل شبه إلزامي. ما كان في الماضي وسيلة بسيطة لتقوية الروابط الاجتماعية، أصبح اليوم جزءًا من ثقافة استهلاكية تميل إلى المبالغة. فـ «ولائم العشاء» لم تعد مجرد تجمعات عائلية، بل تحولت إلى مناسبات تتطلب حجز قاعات، وإعداد قوائم طعام فاخرة، ودعوة أعداد كبيرة من الأشخاص، مما قد يُثقل كاهل الأسر ماليًا ونفسيًا. بل إن هذه التقاليد قد تتسبب أحيانًا في خلق توتر والخلاف بين الداعي والمدعوين، سواء بسبب غياب بعض الحضور، أو شعورهم بأن المشاركة مجرد تأدية واجب اجتماعي لا تعكس رغبة حقيقية بالمشاركة. وهذا التوتر قد يحوّل تلك اللحظات الدافئة إلى مواقف مشحونة بالخلافات والانتقادات. وهنا يبرز تساؤل مهم: ماذا لو غيّرنا وجهة العطاء؟ تخيّلوا لو أصبح من عاداتنا أن نحتفل بالمناسبات السعيدة عبر إسعاد قلوب الفقراء والمحتاجين، كيف سيتغير وقع الفرح؟ ماذا لو، بعد شفاء مريض، أطعم ذَووه عشرة أو عشرين مسكينًا أو أكثر؟ أو بعد أن يجد العاطل عن العمل وظيفة، يقتطع من أول راتبه صدقةً للفقراء بدل إعداد وليمة؟ أو عندما يترقى أحدهم، يوزع «خروف المناسبة» على المحتاجين؟ أو حتى لو أن خريج الجامعة، بدلًا من إقامة حفل كبير، وزّع الحلوى والكعك على الأسر المحتاجة في الحي؟ إن تحويل لحظات الفرح الخاصة إلى مناسبات عامة للخير، يضيف للمناسبة بُعدًا إنسانيًا نبيلًا، ويجعل الفرح أكثر عمقًا واتساعًا. فنحن لا نحتفل فقط بنجاحاتنا، بل نحوّلها إلى جسر يربطنا بالمجتمع من حولنا، ويزيد من بركة الإنجاز ذاته. وهذه الممارسات لا تلغي العادات الاجتماعية، لكنها تقدم بدائل أكثر رحمة ووعيًا وواقعية، خاصة في ظل ما يعيشه كثيرون من ظروف مادية صعبة. فالاحتفال لا يجب أن يكون عبئًا، بل فرصة لنشر الخير. وتبادل التهاني عبر الوسائل الرقمية الحديثة، والاكتفاء بتقديم التقدير والفرح بطرق غير مكلفة. فهي حلول قد تكون أنسب وأكثر صدقًا.

خوليو سانتانا على طريق إيخمان أوفر حظا وأهدأ بالا
خوليو سانتانا على طريق إيخمان أوفر حظا وأهدأ بالا

Independent عربية

time١٤-٠٤-٢٠٢٥

  • Independent عربية

خوليو سانتانا على طريق إيخمان أوفر حظا وأهدأ بالا

هناك دائماً نوع من السحر يتدفق، وإن بصورة غامضة، من عناوين نوع خاص من أعمال إبداعية تجتذب المرء منذ عناوينها لتكتسبه قارئاً. مثل تلك العناوين تعرف دائماً كيف تغري، وتكاد تبدو دائماً غير مخيبة للآمال. وذلك في الأقل مروراً برواية جورج أورويل "1984"، وصولاً إلى رواية التشيلي روبرتو بولانيو "2066"، وبالنسبة إلى كاتب هذه السطور مروراً بالتأكيد بواحدة من أحدث الروايات العربية التي قرأها، وهي "2067" للكاتب المصري سعد القرش التي لا بد من العودة إليها، وإن بعد حين. وفي انتظار ذلك نمر على رواية أخرى تحمل رقماً يبدو أكثر غموضاً، ومن ثم جاذبية وهو "492"، ولعل غموض هذا الرقم وعدم بوحه بالإشارة إلى تاريخ سنة محددة، كما الحال في الروايات التي ذكرناها أول هذا الكلام، قد شكل لنا قوة جاذبة إضافية. وهي قيمة ستتفاقم، وإن بشكل مرير، عند قراءة الرواية حين يتبين لنا أن الرقم يشير إلى عدد الجرائم التي اقترفها، في البرازيل هذه المرة، قاتل بالأجرة يدعى خوليو سانتانا. كان ما "ميزه" أنه اقترف تلك الجرائم لمجرد أن اقترافها كان مهنته التي يعيش منها من دون أن يعرف شيئاً عن ضحاياه على الإطلاق. وذلك بين عام 1971 الذي ارتكب فيه جريمته الأولى وعام 2006 الذي أعلن فيه تقاعده النهائي ليمضي بقية سنوات حياته هادئاً، بكل دعة، كما يفعل أي مكتهل عجوز آخر من سنه. ولئن كان في إمكان القارئ هنا أن يتساءل كيف أفلت هذا المجرم من العقاب؟ سيأتي الجواب بسرعة أنه دائماً ما عمل تحت جناح السلطة التي كانت تستخدمه للالتفاف على قضاء بطيء، ولتخليصها من أعداء لها تعجز هي عن قتلهم بصورة مشروعية كـ"المناضلين الشيوعيين مثلاً!". غلاف الترجمة الفرنسية للكتاب المعنون "492" (أمازون) نظرات الضحية الأولى لقد قتل خوليو ضحيته الأولى وكان في الـ17 من عمره. وهو اقترف جريمته كبديل لعمه الذي كان يقوم بالمهام، بنفسه، لكنه، في ذلك الحين، كان مريضاً فكلف ابن أخيه بالمهمة الأولى، ولسوف يقول الفتى إنه حتى تقاعده ربما يكون قد نسي معظم ضحاياه لكنه لم ينس أبداً نظرات "ضحيته" الأولى حين أرداه برصاصة واحدة. لكن هذا لا يعني أنه دائماً ما يقتل، بدم بارد، فهو في نهاية الأمر كاثوليكي ورع "لكنني أقوم بعملي بحرفية مطلقة"، وربما يقصد الكنيسة بعد كل جريمة، وفي الأقل في المرحلة الأولى حين كان متخصصاً في اغتيال الشيوعيين لحساب السلطة. وهو تحول، بعد ذلك، إلى قتل النساء الخاطئات والأزواج الخونة، ودائماً من دون أن يحاسبه أحد. مرة واحدة، على أية حال حكمته السلطات حين قتل زوجة أخبره زوجها أنها خانته فتبين له بعد حين أن الزوج يكذب، وندم على ذلك، ومن هنا عد محاسبة السلطات له "عقاباً إلهياً" مستحقاً. أو هذا ما قاله عبر الهاتف هو الذي يعيش في ريف أمازوني بعيد مع زوجته، ويرفض مقابلة أحد، كما يرفض أن يصوره أحد، للكاتب مكلايستر كافالكانتي الذي دون حكايته في كتاب صدر العم 2006 في البرازيل، ليقفز من فوره إلى تصدر قائمة أكثر الكتب مبيعاً بعنوانه الأول "اسم الموت". ولافت كيف أن مؤلف الكتاب لم يتورع عن مقارنة هذا القاتل بإيخمان مطبقاً عليه ما قالته الفيلسوفة هانا آرندت عن المسؤول النازي الذي خطفته إسرائيل، وحاكمته وأعدمته، لقتله أعداداً كبيرة من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. ونعرف أن آرندت التي غطت محاكمة إيخمان في القدس لحساب مجلة "نيويوركر" تحدثت بصدده، عما سمته "عادية الشر" التي "تجعل الموظف يطبق تعليمات رؤسائه من دون وازع من ضمير بل حتى من دون أية مشاعر" فأقامت الدنيا ولم تقعدها. تحقيق عدالة ما كذلك يرى مؤلف الكتاب أن سانتانا يشعر دائماً أنه، إنما قام بواجبه، محققاً العدالة... ونال أجره على ما فعل، وها هو يتقاعد اليوم بعد حياة امتلأت بذلك النوع من... الأعمال. ومن اللافت هنا أن هذا النوع من التفكير هو الذي يسيطر على الكتاب الذي يروي حياة خوليو، وتفاصيل الأعمال التي قام بها بقدر لا بأس به من التوقف، وبكل برود عند العمليات نفسها كما عند ردود فعل القاتل على عملياته... هو الذي من دون أن يكون له من الإلمام بالثقافة أو بالتاريخ ما يمكنه من أن يستند بنفسه إلى نموذج إيخمان أو إلى تحليلات آرندت، يمكنه أن يساعدنا بكل بساطة على ما احتاجت الفيلسوفة الألمانية إلى التعمق في حديث الفلسفة والتحليل النفسي، لكي تقنعنا أن الجريمة لا تكون دائماً لا سيما إن كانت جريمة متكررة، من فعل مرضى نفسيين أو وحوش ضارية أو حالات متطرفة، بل يمكنها أن تكون فعلاً عادياً يمارسه صاحبه من دون مبالاة أو ندم. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) من الكتاب إلى الفيلم والحقيقة أن الكتاب الذي تناول حياة سانتانا يغوص في هذا البعد، وتحديداً من خلال عودته إلى صبا "بطله" مصوراً إياه مباشرة بعد مرحلة طفولته صياداً ماهراً يرتاد الكنيسة، ويوزع غنائمه على فقراء منطقته بحيث لقب، أحياناً، بـ"روبن هود الأمازون"، ولكن قبل أن يبدأ سلوك دروب أكثر خطورة وجدية شرع يرتادها، منذ بداية سنوات الـ70، كما يقول الكتاب، ولكن أيضاً الفيلم الذي حقق المخرج البرازيلي هنريكي غولدمان انطلاقاً من الكتاب في عام 2011، ليحقق، بدوره نجاحات كبيرة في المهرجانات كما في الصالات بعنوان "اسم الدم" بعدما صدر الكتاب بعنوان "492" على عدد الجرائم التي لا يزال سانتانا يتذكر قيامه بها. ويروي هذا الأخير، بنفسه، في الكتاب، فينقل الفيلم عنه ما يقول، إن عمه الذي كان يمتهن الحرفة الدامية نفسه، كان هو من أقنعه بأنه إن تلا صلوات كنسية معينة 10 مرات بالنسبة، ولواحدة منها، و25 مرة بالنسبة إلى أخرى بعد كل جريمة فلن يضل طريقه الممهدة إلى الفردوس. كما يروي أنه كان يدون في دفتر مدرسي خاص أسماء زبائنه وعناوينهم... لكنه سئم ذلك وتوقف عن التدوين في سنوات ممارسته الأخيرة. مهما يكن فإن الكتاب والفيلم يصورانه لنا شخصاً حساساً، ورب عائلة حنوناً، بعدما كان ابناً مطيعاً ورعاً لعائلته، بل كانت تتحكم به زوجته التي يبدو أنه لم يترك تلك "المهنة" في نهاية الأمر إلا بضغط منها إذ هددته بعدما تجاوزت الـ65 من عمره، سن التقاعد، أنه إن واصل ذلك فلن يراها لا هي ولا الأولاد أبداً. فما كان منه إلا أن اشترى قطعة من الأرض في منطقة نائية معلناً تقاعده. وهو اختار لإقامته تلك المنطقة التي لا يعرفه أحد فيها علماً أن كل ما هو معروف من شكله مجرد صورة جانبية تعود نحو نصف قرن إلى الوراء... فمن المستحيل اليوم لخوليو سانتانا، الذي يحمل على أية حال اليوم اسماً آخر مختلفاً، يبدو أنه هو اسمه العائلي الحقيقي، مستحيل عليه أن يدع أحداً يتعرف عليه رغم أنه على علاقة أنه، في معظم الحالات على أية حال، لم يفعل إلا الصواب. وبقي أن نذكر هنا أخيراً أن نجاح الكتاب الذي يتقاسم معه نجاحه ذلك الفيلم الذي اقتبس عنه على أية حال، لا يبدو متأثراً بالسمة الأساسية التي تطبع حياة سانتانا والنظرة العامة إليه: الحيرة. ففي نهاية الأمر، وبعيداً من النقاشات الفلسفية التي تستعيد حال إيخمان ونظرة هانا إليها، والأبعاد الأيديولوجية ثمة شيء من الافتتان في التعامل العام مع تلك الشخصية ما يوقع قارئ الكتاب وكذلك متفرج الفيلم، في قدر لا بأس به من الالتباس حتى وإن كان المؤلف يتبعه الصحافيون والمعلقون على الكتاب، كما على الفيلم، قالوا إن المتلقي يخرج من الحالتين، الأدبية والسينمائية مستخلصاً أن الرجل ليس بريئاً تماماً، وليس مجرماً بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل صاحب روح ضائعة في عالم بادي الغرابة إلى درجة أن القتل يصبح فيه كسباً للرزق لا أكثر!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store