
الغزاة الاسبان واجهوا سكان أميركا الشمالية بوحشية
يشكل الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة (دار المتوسط، إرتياد الآفاق ) واحداً من أهم المصادر الأصلية التي بلغتنا عن طبيعة العلاقات التي وضعت الغزاة الإسبان وجهاً لوجه، مع سكان أميركا الشمالية الأصليين في القرن الـ16، إبان الاكتشافات الكبرى - أي بعد حملة فاسكو دي غاما إلى الهند، وكريستوف كولومبوس (1451-1506) واكتشافه العالم الجديد في أميركا الجنوبية وأميركا الوسطى. ومن المعلوم أن تعامل الغزاة والمستعمرين الإسبان كان قد اتسم بالوحشية الشديدة في كل من الهند والقارة الجديدة، ولا سيما بعد اكتشاف الغزاة أن أقوام البلدان الأصلية لا يماثلونهم ديناً، إذ كانوا بمعظمهم، إما بوذيين أو مسلمين أو وثنيين أو أرواحيين، وغيرهم.
تقرير رأس البقرة
إذاً يندرج كتاب اليوميات، المشار إليه أعلاه، في سياق سجل من التقارير الرحلية الرسمية التي كانت تعد لتخدم غايات سياسية في بلاد القائمين بالرحلات أو الحملات العسكرية البحرية، والتي يرصد فيها القائمون بها مكامن الثروات وطبيعة التكوينات السكانية والحضرية والإطار الجغرافي واستعداد السكان الأصليين للقتال دفاعاً عن محمياتهم، أو نسيجهم الاجتماعي الخاص وعاداتهم وتقاليدهم وأنماط عيشهم المرتبطة بمستوياتهم المادية، وغيرها من الأمور.
الكتاب بالترجمة العربية (دار المتوسط)
وقد تميزت الوقائع التي وردت في تقرير "رأس البقرة"، على توالي حدوثها في الزمن، من اليوم الـ17 من يونيو (حزيران) عام 1527، إلى التاسع من شهر أغسطس (آب) من عام 1537، بقدر موجز من الوقائع يكاد يكون كافياً لتكوين رأي في الحال التي بلغها الطرفان المعنيان بالتقرير، أي رجال الحملة والسكان الأصليون، على حد سواء. طبعاً لم تكن تلك التقارير عبارة عن دراسات أنثروبولوجية سيقوم بها رهط من العلماء الرافضين للاستعمار، أوائل القرن الـ20، أمثال مالينوفسكي، وكلود-ليفي ستراوس، وغيرهما، وإنما كانت كناية عن وقائع لرحلة نظمها الحاكم الإسباني بانفيلو دي نافاريز، بتفويض من الملك شارل الخامس، من إسبانيا إلى فلوريدا، "لغزو وحكم الأرض الممتدة من نهر ريو دي لاس بالماس إلى رأس فلوريدا"(ص:19)، وما رافقها من عوامل طبيعية خارقة، بحسبان مدونيها، أودت بكثير من أفراد الحملة الـ600 رجل و10 نساء، وهم خليط من الجنود والخيالة والمشاة وربابنة السفن الخمس والبحارة وبعض النبلاء المفلسين الباحثين عن الثروة حيثما تراءت لهم والمجرمين، وراهب فرانسيسكاني واحد يدعى خوان سواريز. ولسوف تتكشف مغامرة هؤلاء عن جهل مطبق بأحوال البلاد المستكشفة، وعن قلة درايتهم بطبيعة الغذاء المتاح في مناطق "الأعداء"، مما سيتسبب بهلاك كثر جوعاً وعطشاً، وآخرين قتلاً على أيدي رجال القبائل، سكان أميركا الأصليين.
هيكلية التقرير
ينقسم التقرير إلى ستة أقسام، تحاكي المراحل الأساسية التي مرت بها هذه الرحلة من إسبانيا إلى فلوريدا، وعلى أرض فلوريدا، وفي عرض البحر، وفي مجاهل بلاد الهنود (سكان أميركا الشمالية الأصليين)، وما سُجل من عادات الهنود ولغاتهم وطقوسهم وغيرها. ومن الطبيعي أن يتشكل كل من الأقسام الستة من فصول، تراوح ما بين الفصلين إلى الستة أو السبعة، تبعاً للوقائع المزدحمة أو الضحلة التي تكون قد جرت مع أفراد الحملة والتي غالباً ما كانت لغير صالح البعثة، المرسلة لمواصلة حملات الاستكشاف المنطلقة من إسبانيا منتصف القرن الـ15، ولتوسيع الإمبراطورية الإسبانية نطاق سيطرتها على أراض جديدة ومصالح جديدة.
فلوريدا وبحرها ومجاهل الهنود
ومن هذا القبيل، يعتبر الأقسام الثاني والثالث والرابع من أكثر الأقسام حشداً للوقائع، إذ تنطوي على 22 فصلاً، هي أحداث حية ينقلها الراوي، والمشارك في الحملة كابيزا دي فاكا أو رأس البقرة، بمتن سردي موجز ودقيق، ودال على الحال العامة التي سادت أفراد الحملة ومنظميها، ففي القسم الثاني يبسط الراوي مجمل الوقائع التي تلت انطلاق الحملة من إسبانيا، وبلوغها منطقة فلوريدا، بعد تزود السفن الخمس بالمؤن والخيول والسلاح والرجال من كوبا، وتعرضها لعواصف شديدة على شواطئ تلك البلاد، بلغت الحملة بر فلوريدا الثلاثاء الـ12 من أبريل (نيسان) من عام 1528. ولدى وصولها إلى فلوريدا وتوغلها داخل البلاد أخذت تتكشف لأفرادها والقيمين على الحملة من الإسبان الغزاة ملامح السكان الأصليين، إذ اعتقل أربعة هنود، كانوا أدلة على قرية منهم، إذ قدموا لهم بعضاً من الذرة غير الجاهزة. ومن ثم توالت اللقاءات والمصادمات مع أعداد أكبر من الهنود في تجمعات وقرى من قبيلتي الأبالاشي والدولشانشيلين المتخاصمتين، وكيف أن واحداً من رجال الحملة هلك غرقاً مع حصانه في النهر، وأن وعوداً أغدقت على رجال الحملة بتوفير القوت، بعد الخوف من نفاده، والذهب الذي ظنوه متوافراً بكثرة في البلاد.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولدى حلول رجال الحملة في قرية أبالاشي تكشفت أمام الغزاة بلاد مترامية، تتوافر فيها "غابات أشجار الجوز والغار والصمغ والرز والعرعر والبلوط والسنديان وغيرها" (ص:38)، غير أن قدومهم إلى تلك البلاد لم يكن من طريق اللين، إذ عمد هؤلاء إلى احتجاز كثير من النساء الهنديات وأبنائهم رهائن، وراحوا يفاوضون الهنود طالبين منهم توفير الغذاء (مزيد من الذرة) والأمان لهم، وبتحقيقهما أفرجوا عن المحتجزين ومضوا إلى قرية آوتي الغنية بالذرة والفاصوليا واليقطين، إضافة إلى صيد السمك، ولكن الأمور لم تجر بهذا اليسر والتفوق لرجال الحملة، فقد كمن الهنود، الذين استفزهم وجود الغزاة وقساوتهم في التعامل مع قبائل سابقة، وأعدوا العدة لإصابة مزيد من رجال الحملة، وهذا ما جرى لهؤلاء، إذ قتل كثير منهم بسهام الهنود المهرة، و"تواروا في شعاب الغابة"، وأعاقوا بالفعل مسيرتهم، وألزموهم الحدود التي ينبغي لهم عدم تجاوزها.
الآخر المختلف/ العدو
لا يحتاج المرء إلى جهد كبير حتى يستخرج خطاب الغزاة من هذا التقرير، والذي ينطوي على قدر من الاستصغار والتعالي على شعوب أميركا من سكانها الأصليين، باعتبار أن حق الاستيلاء على أرض جديدة، وإن تكن بوسع قارة، معطى من قبل عاهل إسبانيا شارل الخامس، وأن الحرب التي تخوضها جيوش الملك ورجال حملاته إنما هي حرب مقدسة وشرعية ما دامت حاصلة على عناوين الدين المسيحي، في مقابل الشعوب الوثنية غير المدركة سبيل الخلاص، على حد زعم مطلقيها، وأن التفويض المعطى من الملك يجيز احتلال الأراضي الجديدة من دون اعتبار لأي ملكية سابقة، ولا لأي تكوين سياسي سابق، ولا لأي تكتل اجتماعي أو قبلي أو حضاري أو عرقي كان لا يزال قائماً في البلاد، منذ مئات، بل آلاف الأعوام قبل قيام الحضارة الغربية ونهضتها من ظلامية القرون الوسطى.
وفي أي حال يعتبر التقرير سجلاً صادقاً عن وجود القبائل الهندية الأميركية في نطاق فلوريدا، موضوع الاكتشاف والغزو، ومصدراً قيماً للدلالة على العادات والتقاليد وأنماط العيش التي كانت سائدة، أواسط القرن الـ16 لدى السكان الهنود الأصليين، قبل أن تدهمهم حملات المستوطنين الإنجليز والفرنسيين وغيرهم، وتعمل على اجتثاث حضورهم في الولايات الأميركية كافة، واقتصارها على المحميات المتنازع على شرعيتها.
وللمفارقة، يظهر التقرير، في فصوله الأخيرة، أفراد الحملة وقد خسروا من الرجال، في قتال السكان الأصليين وفي المرض والغرق، ما جعلهم مستضعفين حيال الهنود، ومستعبدين لديهم، وعلى قاب قوسين من التضحية بأرواحهم في حفلات الهنود الطقوسية. ولولا إيمان البعض بقدرة إلهية خارقة على شفاء المرضى والمصابين من الهنود لما ظل واحد منهم على قيد الحياة، ولما تمكنوا من بلوغ مناطق المسيحيين، وما هي إلا فترة زمنية قصيرة حتى تناهت إلى أسماعهم أخبار الغزوات الكبرى التي يقوم بها "المسيحيون" (الإسبان، والبرتغاليون، وغيرهم) لتلك البلاد، والرعب الذي راح يتملك الهنود من اجتياح بلادهم ودخولهم عصر العبودية.
"قطعنا مسافات طويلة، كانت البلاد مقفرة خالية من سكانها الذين تركوا بيوتهم وحقولهم، ولاذوا إلى الجبال خوفاً من المسيحيين. أشفقنا لرؤية تلك الأراضي الخصبة الجميلة والغنية بالمياه والأنهار وقد صارت موحشة ومحروقة..." (ص:135).

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
١٢-٠٤-٢٠٢٥
- Independent عربية
الغزاة الاسبان واجهوا سكان أميركا الشمالية بوحشية
يشكل الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة (دار المتوسط، إرتياد الآفاق ) واحداً من أهم المصادر الأصلية التي بلغتنا عن طبيعة العلاقات التي وضعت الغزاة الإسبان وجهاً لوجه، مع سكان أميركا الشمالية الأصليين في القرن الـ16، إبان الاكتشافات الكبرى - أي بعد حملة فاسكو دي غاما إلى الهند، وكريستوف كولومبوس (1451-1506) واكتشافه العالم الجديد في أميركا الجنوبية وأميركا الوسطى. ومن المعلوم أن تعامل الغزاة والمستعمرين الإسبان كان قد اتسم بالوحشية الشديدة في كل من الهند والقارة الجديدة، ولا سيما بعد اكتشاف الغزاة أن أقوام البلدان الأصلية لا يماثلونهم ديناً، إذ كانوا بمعظمهم، إما بوذيين أو مسلمين أو وثنيين أو أرواحيين، وغيرهم. تقرير رأس البقرة إذاً يندرج كتاب اليوميات، المشار إليه أعلاه، في سياق سجل من التقارير الرحلية الرسمية التي كانت تعد لتخدم غايات سياسية في بلاد القائمين بالرحلات أو الحملات العسكرية البحرية، والتي يرصد فيها القائمون بها مكامن الثروات وطبيعة التكوينات السكانية والحضرية والإطار الجغرافي واستعداد السكان الأصليين للقتال دفاعاً عن محمياتهم، أو نسيجهم الاجتماعي الخاص وعاداتهم وتقاليدهم وأنماط عيشهم المرتبطة بمستوياتهم المادية، وغيرها من الأمور. الكتاب بالترجمة العربية (دار المتوسط) وقد تميزت الوقائع التي وردت في تقرير "رأس البقرة"، على توالي حدوثها في الزمن، من اليوم الـ17 من يونيو (حزيران) عام 1527، إلى التاسع من شهر أغسطس (آب) من عام 1537، بقدر موجز من الوقائع يكاد يكون كافياً لتكوين رأي في الحال التي بلغها الطرفان المعنيان بالتقرير، أي رجال الحملة والسكان الأصليون، على حد سواء. طبعاً لم تكن تلك التقارير عبارة عن دراسات أنثروبولوجية سيقوم بها رهط من العلماء الرافضين للاستعمار، أوائل القرن الـ20، أمثال مالينوفسكي، وكلود-ليفي ستراوس، وغيرهما، وإنما كانت كناية عن وقائع لرحلة نظمها الحاكم الإسباني بانفيلو دي نافاريز، بتفويض من الملك شارل الخامس، من إسبانيا إلى فلوريدا، "لغزو وحكم الأرض الممتدة من نهر ريو دي لاس بالماس إلى رأس فلوريدا"(ص:19)، وما رافقها من عوامل طبيعية خارقة، بحسبان مدونيها، أودت بكثير من أفراد الحملة الـ600 رجل و10 نساء، وهم خليط من الجنود والخيالة والمشاة وربابنة السفن الخمس والبحارة وبعض النبلاء المفلسين الباحثين عن الثروة حيثما تراءت لهم والمجرمين، وراهب فرانسيسكاني واحد يدعى خوان سواريز. ولسوف تتكشف مغامرة هؤلاء عن جهل مطبق بأحوال البلاد المستكشفة، وعن قلة درايتهم بطبيعة الغذاء المتاح في مناطق "الأعداء"، مما سيتسبب بهلاك كثر جوعاً وعطشاً، وآخرين قتلاً على أيدي رجال القبائل، سكان أميركا الأصليين. هيكلية التقرير ينقسم التقرير إلى ستة أقسام، تحاكي المراحل الأساسية التي مرت بها هذه الرحلة من إسبانيا إلى فلوريدا، وعلى أرض فلوريدا، وفي عرض البحر، وفي مجاهل بلاد الهنود (سكان أميركا الشمالية الأصليين)، وما سُجل من عادات الهنود ولغاتهم وطقوسهم وغيرها. ومن الطبيعي أن يتشكل كل من الأقسام الستة من فصول، تراوح ما بين الفصلين إلى الستة أو السبعة، تبعاً للوقائع المزدحمة أو الضحلة التي تكون قد جرت مع أفراد الحملة والتي غالباً ما كانت لغير صالح البعثة، المرسلة لمواصلة حملات الاستكشاف المنطلقة من إسبانيا منتصف القرن الـ15، ولتوسيع الإمبراطورية الإسبانية نطاق سيطرتها على أراض جديدة ومصالح جديدة. فلوريدا وبحرها ومجاهل الهنود ومن هذا القبيل، يعتبر الأقسام الثاني والثالث والرابع من أكثر الأقسام حشداً للوقائع، إذ تنطوي على 22 فصلاً، هي أحداث حية ينقلها الراوي، والمشارك في الحملة كابيزا دي فاكا أو رأس البقرة، بمتن سردي موجز ودقيق، ودال على الحال العامة التي سادت أفراد الحملة ومنظميها، ففي القسم الثاني يبسط الراوي مجمل الوقائع التي تلت انطلاق الحملة من إسبانيا، وبلوغها منطقة فلوريدا، بعد تزود السفن الخمس بالمؤن والخيول والسلاح والرجال من كوبا، وتعرضها لعواصف شديدة على شواطئ تلك البلاد، بلغت الحملة بر فلوريدا الثلاثاء الـ12 من أبريل (نيسان) من عام 1528. ولدى وصولها إلى فلوريدا وتوغلها داخل البلاد أخذت تتكشف لأفرادها والقيمين على الحملة من الإسبان الغزاة ملامح السكان الأصليين، إذ اعتقل أربعة هنود، كانوا أدلة على قرية منهم، إذ قدموا لهم بعضاً من الذرة غير الجاهزة. ومن ثم توالت اللقاءات والمصادمات مع أعداد أكبر من الهنود في تجمعات وقرى من قبيلتي الأبالاشي والدولشانشيلين المتخاصمتين، وكيف أن واحداً من رجال الحملة هلك غرقاً مع حصانه في النهر، وأن وعوداً أغدقت على رجال الحملة بتوفير القوت، بعد الخوف من نفاده، والذهب الذي ظنوه متوافراً بكثرة في البلاد. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ولدى حلول رجال الحملة في قرية أبالاشي تكشفت أمام الغزاة بلاد مترامية، تتوافر فيها "غابات أشجار الجوز والغار والصمغ والرز والعرعر والبلوط والسنديان وغيرها" (ص:38)، غير أن قدومهم إلى تلك البلاد لم يكن من طريق اللين، إذ عمد هؤلاء إلى احتجاز كثير من النساء الهنديات وأبنائهم رهائن، وراحوا يفاوضون الهنود طالبين منهم توفير الغذاء (مزيد من الذرة) والأمان لهم، وبتحقيقهما أفرجوا عن المحتجزين ومضوا إلى قرية آوتي الغنية بالذرة والفاصوليا واليقطين، إضافة إلى صيد السمك، ولكن الأمور لم تجر بهذا اليسر والتفوق لرجال الحملة، فقد كمن الهنود، الذين استفزهم وجود الغزاة وقساوتهم في التعامل مع قبائل سابقة، وأعدوا العدة لإصابة مزيد من رجال الحملة، وهذا ما جرى لهؤلاء، إذ قتل كثير منهم بسهام الهنود المهرة، و"تواروا في شعاب الغابة"، وأعاقوا بالفعل مسيرتهم، وألزموهم الحدود التي ينبغي لهم عدم تجاوزها. الآخر المختلف/ العدو لا يحتاج المرء إلى جهد كبير حتى يستخرج خطاب الغزاة من هذا التقرير، والذي ينطوي على قدر من الاستصغار والتعالي على شعوب أميركا من سكانها الأصليين، باعتبار أن حق الاستيلاء على أرض جديدة، وإن تكن بوسع قارة، معطى من قبل عاهل إسبانيا شارل الخامس، وأن الحرب التي تخوضها جيوش الملك ورجال حملاته إنما هي حرب مقدسة وشرعية ما دامت حاصلة على عناوين الدين المسيحي، في مقابل الشعوب الوثنية غير المدركة سبيل الخلاص، على حد زعم مطلقيها، وأن التفويض المعطى من الملك يجيز احتلال الأراضي الجديدة من دون اعتبار لأي ملكية سابقة، ولا لأي تكوين سياسي سابق، ولا لأي تكتل اجتماعي أو قبلي أو حضاري أو عرقي كان لا يزال قائماً في البلاد، منذ مئات، بل آلاف الأعوام قبل قيام الحضارة الغربية ونهضتها من ظلامية القرون الوسطى. وفي أي حال يعتبر التقرير سجلاً صادقاً عن وجود القبائل الهندية الأميركية في نطاق فلوريدا، موضوع الاكتشاف والغزو، ومصدراً قيماً للدلالة على العادات والتقاليد وأنماط العيش التي كانت سائدة، أواسط القرن الـ16 لدى السكان الهنود الأصليين، قبل أن تدهمهم حملات المستوطنين الإنجليز والفرنسيين وغيرهم، وتعمل على اجتثاث حضورهم في الولايات الأميركية كافة، واقتصارها على المحميات المتنازع على شرعيتها. وللمفارقة، يظهر التقرير، في فصوله الأخيرة، أفراد الحملة وقد خسروا من الرجال، في قتال السكان الأصليين وفي المرض والغرق، ما جعلهم مستضعفين حيال الهنود، ومستعبدين لديهم، وعلى قاب قوسين من التضحية بأرواحهم في حفلات الهنود الطقوسية. ولولا إيمان البعض بقدرة إلهية خارقة على شفاء المرضى والمصابين من الهنود لما ظل واحد منهم على قيد الحياة، ولما تمكنوا من بلوغ مناطق المسيحيين، وما هي إلا فترة زمنية قصيرة حتى تناهت إلى أسماعهم أخبار الغزوات الكبرى التي يقوم بها "المسيحيون" (الإسبان، والبرتغاليون، وغيرهم) لتلك البلاد، والرعب الذي راح يتملك الهنود من اجتياح بلادهم ودخولهم عصر العبودية. "قطعنا مسافات طويلة، كانت البلاد مقفرة خالية من سكانها الذين تركوا بيوتهم وحقولهم، ولاذوا إلى الجبال خوفاً من المسيحيين. أشفقنا لرؤية تلك الأراضي الخصبة الجميلة والغنية بالمياه والأنهار وقد صارت موحشة ومحروقة..." (ص:135).


العربية
٢٥-٠٣-٢٠٢٥
- العربية
بهذه المعاهدة.. انتهت حرب استمرت 19 سنة بين إنجلترا وإسبانيا
ما بين عامي 1585 و1604، عاشت القارة الأوروبية على وقع أحداث الحرب الإنجليزية الإسبانية. وبهذه الحرب التي استمرت لنحو 19 سنة وأسفرت عن سقوط عشرات آلاف القتلى واجهت القوات الإنجليزية نظيرتها الإسبانية بمناطق عديدة وتجاوزت القارة الأوروبية لتبلغ الكاريبي. من جهة ثانية، تلقت إنجلترا دعما عسكريا هاما من حليفتها جمهورية هولندا بينما حصل الإسبان على دعم من البرتغاليين تزامنا مع دعمهم لما عرف حينها بهولندا الإسبانية. وخلال الحرب الإنجليزية الإسبانية، فقدت إسبانيا هيبتها بسبب حادثة الأرمادا (Armada) التي لا تقهر. فبعد وصفها بأقوى سلاح بحرية بالعالم، تلقت البحرية الإسبانية سنة 1588 صفعة قاسية عقب خسارتها لما يزيد عن 50 سفينة أثناء مواجهة جمعتها بسفن البحرية الإنجليزية وحليفتها الهولندية، التابعة لجمهورية هولندا، بالقرب من القناة الإنجليزية. فشل المفاوضات الأولى خلال العام 1600، اتجهت إسبانيا لفتح قنوات اتصال مع الإنجليز بهدف وضع حد للحرب المستعرة بين البلدين. فخلال هذه الحرب التي استمرت منذ العام 1585، لم تتمكن إسبانيا من تحقيق أي من أهدافها حيث فشلت في غزو إنجلترا عقب حادثة الأرمادا سنة 1588 كما عانت قواتها من الإنهاك وتراجع المعنويات. من جهة ثانية، تخوفت إسبانيا من إمكانية اندلاع حرب مع الفرنسيين على إثر تزايد حدة التوتر بين البلدين. بحلول شهر نيسان/أبريل 1600، افتتحت أولى جلسات المفاوضات بين الطرفين. وخلالها، طالب الإسبان بعدد من الأراضي الإنجليزية. وفي المقابل، طالبت إنجلترا بإقرار مبدأ حرية التجارة بينها وبين الإمبراطورية الإسبانية وحماية الرعايا الإنجليز من محاكم التفتيش وضمان دخول السفن الحربية الإنجليزية فقط لبحر المانش. إلى ذلك، فشلت جولة المفاوضات الأولى في تحقيق اية نتيجة تذكر حيث رفض كلا الطرفين الشروط المقترحة. وبردها، تحدثت إسبانيا عن كونها إمبراطورية عظمى مؤكدة رفضها الرضوخ لمطالب ملكة، أي الملكة إليزابيث الأولى، تحكم بعض الجزر. معاهدة سلام لإنهاء الحرب وإفلاس مع وفاة إليزابيث الأولى سنة 1603 وتولي جيمس الخامس (James VI) مقاليد السلطة بالبلاد، تغيرت التوجهات بإنجلترا حيث مال الملك الجديد للسلام مع نظيره الإسباني فيليب الثالث الذي واجه مصاعب في التغلب على الهولنديين المؤيدين للإنجليز. إلى ذلك، تحققت أولى خطوات السلام خلال شهر حزيران/يونيو 1603. فبتلك الفترة، أرسل ملك إسبانيا فيليب الثالث وزيره خوان دي تاسيس (Juan de Tassis) للندن من أجل البحث عن بنود هدنة وسلام شامل. وفي الاثناء، آمن فيليب الثالث بضرورة إنهاء هذه الحرب بسبب إشراف الخزينة الإسبانية على الإفلاس وانهيار معنويات أسطوله البحري الذي هيمن على البحار وأرعب القراصنة العثمانيين بالمتوسط لفترة طويلة. بحلول شهر آب/أغسطس 1604، توصل الطرفان، رفقة ممثلي مناطق هولندا الإسبانية، لمعاهدة سلام أنهت هذه الحرب التي استمرت لنحو 19 سنة. وبموجب ما جاء بالمعاهدة، تخلت إسبانيا عن طموحاتها بإعادة هيمنة الكنيسة الرومانية على إنجلترا والقضاء على الأنغليكانية. من جهة ثانية، تعهدت إنجلترا بإنهاء حركات القرصنة ضد السفن التجارية الإسبانية بالمحيط الأطلسي والسماح للإسبان بالإبحار ببحر المانش. أيضا، تعهدت إنجلترا بإنهاء دعمها للمتمردين بهولندا الإسبانية. وببنود هذه المعاهدة، سمح كلا الطرفين للطرف الآخر بإستخدام موانئه لأغراض تتعلق بالتزود بالمؤن وعمليات إصلاح السفن تزامنا مع قبلوهما بعودة الحدود والأمور السياسية للحال الذي كانت عليه ما قبل الحرب. بإنجلترا، قوبلت المعاهدة الإنجليزية الإسبانية بغضب شديد حيث اتهم جيمس الخامس بالتخلي عن حلفائه بهولندا. وبإسبانيا، رحب الإسبان بهذه المعاهدة وأقاموا احتفالات عديدة على شرف الملك فيليب الثالث. من جهة ثانية، تسببت هذه الحرب، إضافة للحروب الأخرى ضد جمهورية هولندا وفرنسا، في إفلاس الخزينة الإسبانية خلال السنوات التالية.

سعورس
٠٣-٠٣-٢٠٢٥
- سعورس
دبلوماسية الردع عن بُعد
الرئيس ترمب يظن أنه لا يحتاج في تطبيق نهج مثل هذا على السياسة الخارجية لبلده، لا إلى القوة الصلبة، بكل إمكاناتها الردعية الهائلة، ولا أيضاً قوتها الناعمة متعددة الإمكانات اللينة. بعبارة أخرى: لا يريد الرئيس ترمب في إدارة السياسة الخارجية لبلده لا أن يستخدم لا العصا ولا الجزرة. هو لا يريد أن يبعث بجنوده إلى الخارج، حتى ولو تلويحاً بالعصا، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لبلده في الساحة الدولية، كما لا يرغب في إنفاق ولا حتى سنت واحد لدفع تكلفة تحقيق أهداف سياسته الخارجية، حتى ولو كان الأمر متعلقاً بفرض الهيمنة الكونية الحصرية لواشنطن ، على النظام الدولي. يبدو أن الرئيس ترمب عنده مفهوم مختلف لحالة الهيمنة الكونية، التي حكمت من خلالها واشنطن النظام الدولي، عقب الحرب الكونية الثانية، وحتى بداية فترة ولايته الثانية، منذ العشرين من يناير الماضي. من أهم شروط الهيمنة الكونية لأي قوة عالمية تنافس على هذه المكانة الرفيعة (دفع تكلفة التزاماتها، بقدر ما هو الأمر في توقع جني عوائدها). لا هيمنة كونية لأي قوة عظمى دون دفع تكلفتها.. ولا توقع التمتع بعوائد امتيازاتها، دون الالتزام بالقيام بمسؤولياتها الأممية. كل الدول العظمى، التي نافست على مكانة الهيمنة الكونية، في عصور الأنظمة الدولية الحديثة المتتالية، منذ نهاية القرن الخامس عشر، الذي شهد موجة الاكتشافات الجغرافية غرب الأطلسي، من الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، وحتى البريطانيين، وصولاً إلى نظام الأمم المتحدة الحالي، كان تبوؤ هذه المكانة الدولية الرفيعة والحفاظ عليها، يعتمد أكثر على «الكرم»، لا «البخل»، في دفع تكلفتها. الولايات المتحدة ، رغم الدعوات الصاخبة للعودة للعزلة، بعد الحرب العالمية الثانية، وعت حقيقة خطأها الجسيم في عدم دفع تكلفة مكانة الهيمنة الكونية، التي وجدت نفسها فيها بعد الحرب العظمى (1914-1919)، الذي تَمَثل في عدم انضمامها لعصبة الأمم (1919-1939)، رغم أنها من وضع ميثاقها، في ما عرف بمبادئ ويلسون الأربعة عشر. وكانت أن نشبت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بعد عقدين فقط من عمر نظام عصبة الأمم ، غير المستقر. خطأ لم ترد واشنطن أن تكرره، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقيادتها، عندما تكفلت بإعمار أوروبا.. وكتبت ميثاق نظام الأمم المتحدة الحديث، ووضعت أسس ومؤسسات نظامه الاقتصادي، بموجب اتفاقية برتون وود (يوليو 1944)، التي اتخذت من الدولار عملة التبادل التجاري الوحيدة المقبولة في العالم، بعد أن كان الجنيه الإسترليني، الذي كان يعتمد على نظام الذهب، وحكم اقتصاد العالم لمائة عام (1815-1914)، بل وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، في ما عرف بالعهد البريطاني (Pax Brittanica). نفس الخطأ (الاستراتيجي)، الذي وقعت فيه الولايات المتحدة ، بعد الحرب العظمى، يتكرر اليوم بعد ما يقرب من ثمانين سنة، من عهد نظام الأمم المتحدة الحالي. الولايات المتحدة ، تريد اليوم أن تتحلل من التزاماتها تجاه حلفائها التقليديين في أوروبا، بل وتطالبهم بتكلفة حمايتهم تحت المظلة النووية الأمريكية ، وبأثر رجعي، بما في ذلك المطالبة بتكاليف إعادة إعمار أوروبا، بعد الحرب، وبأثر رجعي أيضاً! بل حتى أنها تعمل على الانسحاب من عضوية الأمم المتحدة! ليس هذا، فحسب؛ بل إن واشنطن تزمع التوسع شمالاً وشرقاً، على حساب حلفائها التقليديين، في أوروبا وجيرانها القاريين، في كندا والمكسيك وحِمَى حديقتها الخلفية، كما هو التهديد باستعادة قناة بنما... بل وتتطلع إلى ثروات حلفائها، في أوروبا، مثل ما هي عينها على ثروات أوكرانيا المعدنية، كثمن لوقف حرب روسيا عليها، دون أية التزامات أمنية لكييف.. بالإضافة: لدفع ثمن المساعدات العسكرية، التي قدمتها واشنطن لكييف، منذ نشوب الحرب، ولما لم تتضع الحرب أوزارها، بعد. باختصار: واشنطن في ولاية الرئيس ترمب الحالية (الثانية)، تتبع سياسة خارجية تعتمد على عائدات استثماراتها الأمنية الممتدة، بحسابها (نقداً).. وإمكاناتها التكنولوجية المتقدمة، مع غناها الاقتصادي المتعدد، في فرض هيمنتها الكونية على العالم، بأدوات ردع تراها فعّالة، لا تعتمد بالضرورة على احتمال استخدام قوتها الصلبة ولا الناعمة، لفرض هيمنة كونية (منفردة) على العالم، دون تكلفة تذكر، لا دفاعية ولا اقتصادية، ولا حتى تكنولوجية. ردع يبدو لواشنطن فعّالاً، دون ما حاجة لأن تكون له مخالب وأنياب صلبة، ولا حتى قفازات مخملية ناعمة. في عدم وجود قوة كونية حقيقية وفاعلة، على الساحة الدولية، تدخل مضمار المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية الرفيعة، فإن الرئيس ترمب يبدو أنه سيواصل استراتيجية جديدة لمؤسسات النظام الدولي، كما هو منهجه في تغيير استراتيجية مؤسسات نظام بلاده الديمقراطي، وفي مقدمتها الدستور، بحجة تطهيرها من الفساد. أخبار ذات صلة الدوري أهلاوي التسامح...