
علماء يكتشفون كيف يهضم ثعبان الأصلة عظام فرائسه
هذا الاكتشاف يفتح نافذة جديدة لفهم التكيفات الهضمية في الزواحف المفترسة، ويلقي الضوء على آليات مذهلة تُمكِّن هذه الحيوانات من معالجة كميات ضخمة من المعادن دون أن تُصاب بأي ضرر. وقد نشرت الدراسة في عدد خاص من دورية "جورنال أوف إكسبرمنتال بيولوجي".
يقول جان-إيرفيه لينيو، الأستاذ في قسم البيئة وفسيولوجيا الطاقة في جامعة مونبلييه الفرنسية، والباحث الرئيسي في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "نعتقد أن هذا النوع من الخلايا يُسهم في التخلص من فائض الكالسيوم المذاب القادم من هيكل الفريسة، الذي يتمعدن على شكل جسيمات 'كروية'، وتُطرد هذه الجسيمات بعد ذلك إلى تجويف الأمعاء".
سحق كرات الكالسيوم
عن التجربة، يقول لينيو: "كان التحليل الكيميائي الدقيق المرتبط بالمجهر الإلكتروني هو الأداة المثالية. كما أن التلاعب بنوع الحمية، من فريسة طبيعية كالفئران، إلى خالية من الكالسيوم، أو معززة بالكالسيوم، كانت بمثابة الإطار التجريبي الذي سمح لنا بتحديد كيفية عمل هذا النوع الجديد من الخلايا".
اعتمدت الدراسة على تغذية الثعابين وفق 3 حميات مختلفة. الأولى عبارة عن فرائس طبيعية تحتوي على العظام كالفئران، والثانية فرائس منزوعة العظام، أي فئران منزوعة العظام، والأخيرة فرائس منزوعة العظام مضاف إليها الكالسيوم من خلال حقن مادة كربونات الكالسيوم داخل أجسامها.
وبتحليل الأنسجة المعوية بالمجهر الضوئي والإلكتروني، بالإضافة إلى تقنيات تحليل العناصر الكيميائية المرتبطة بالمجهر، كشف الفريق عن ظهور جسيمات بيضاء كروية.
تبين من التحليل الكيميائي للجسيمات الكروية أنها تراكيب غنية بالكالسيوم والفوسفور، تظهر بكثافة في أمعاء الثعابين بعد التهامها فريسة كاملة. وتُعد هذه الجسيمات نتاجًا فسيولوجيًا فريدًا يمثل استجابة تكيفية لهضم العظام دون أن يتسبب ذلك في اختلال توازن المعادن في دم الثعبان.
ظهرت هذه الجسيمات في خلايا خاصة في الأمعاء عند تناول وجبة تحتوي على العظام أو الكالسيوم حصرًا، وعندما أُزيلت العظام ولم يُضف كالسيوم، لم تظهر هذه الجسيمات.
بناءً على ذلك، استنتج الفريق وجود خلايا متخصصة تعمل على تجميع الفائض من الكالسيوم والفوسفور وتحوّله إلى جسيمات كروية صلبة تُطرَد لاحقًا عبر الجهاز الهضمي والإخراج.
تتصرف الخلايا المُكتشَفة كآلية ترشيح دقيقة، حيث تسمح بمرور جزء من الكالسيوم والفوسفور إلى مجرى الدم، بينما تحتفظ بالباقي داخل بطانة الأمعاء حيث يُعاد ترسيب الفائض في شكل الجسيمات الكروية.
ويقول لينيو: "تتغذى هذه الحيوانات على فرائس كاملة، وغالبًا من ذوات الدم الحار باستخدام مستشعرات الأشعة تحت الحمراء في أنفها. لذلك، يجب عليها التعامل مع هذا التدفق الهائل من المعادن، وذلك بالسماح بمرور جزء إلى الدم، واحتجاز الفائض داخل الأنسجة المُبطِنة وتحويله إلى جسيمات تُطرد لاحقًا".
أنواع مختلفة
لا يقتصر هذا النوع من الخلايا على ثعبان الأصلة البورمي فقط، يقول لينيو: "لقد وجدنا هذا النوع من الخلايا في أمعاء أنواع مختلفة من الثعابين والسحالي".
ويشير انتشار هذا النوع من الخلايا في كائنات أخرى إلى احتمال وجود نمط مشترك بين تلك الكائنات المفترسة، وهو ما يفتح آفاقًا جديدة للبحث في علم الأحياء المقارن. كما تُبرز الدراسة أهمية تقديم فرائس كاملة للحيوانات المفترسة في الأسر، وعدم الاكتفاء باللحوم فقط. فالنقص في الكالسيوم والفوسفور والحديد قد يؤدي إلى أمراض تمس الهيكل العظمي وأداء الأمعاء.
ويشكل هذا الاكتشاف إضافة مهمة لعلم وظائف الأعضاء المقارن، ويؤكد مدى تعقيد وتطور أنظمة الهضم لدى الزواحف المفترسة. كما يلقي الضوء على أهمية فهم البيولوجيا الداخلية للكائنات في تصميم إستراتيجيات تغذية مناسبة عند أسر هذه المفترسات، وكذلك إمكانية استلهام هذه الآليات الطبيعية لتطوير تقنيات حيوية جديدة والحفاظ على التوازن الحيوي في البيئة.
من أجل رفاهية الحيوانات، من الضروري الالتزام بنظام غذائي يشبه ما تتناوله في بيئتها الطبيعية. يقول لينيو: "أخبرني الأطباء البيطريون أن تقديم اللحوم فقط للثعابين التي تتغذى في البرية على فريسة كاملة من ذوات الدم الحار قد يؤدي إلى نقص في الحديد. ومن خلال عملنا، يمكن تفسير هذا النقص بمحاولات متكررة من بطانة الأمعاء لبناء هذه الجسيمات حتى في غياب الكالسيوم الكافي".
ويختتم لينيو: "أتمنى حقًا أن تسهم هذه التغطية الإعلامية في تحفيز دراسات جديدة من الزملاء المهتمين بتحديد الجانب التطوري أو الآليات الجزيئية لهذه الظاهرة".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة
سيظل الرائد الكبير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رمزا حضاريا شامخا، يقف كتفا بكتف مع مؤسسي النهضة، وبناة المجتمعات، وفلاسفة المجتمع الكبار، من أمثال الفارابي، وابن خلدون، وجان جاك روسو، ومونتسكيو. وهو رجل النهضة الذي يقف أمام الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا ، وسائر المؤسسين والمصلحين. وسيبقى أسبق عين معاصرة للشرق على الغرب، وطليعة للحوار الحضاري في العصر الحديث. ذهب زعيم النهضة العلمية الحديثة إلى فرنسا إماما لأول بعثة مصرية كبيرة إلى أوروبا سنة 1826م، لدراسة العلوم الحديثة، وكانت مكونة من 44 طالبا، نصفهم من أصل مصري، يتقدمهم إمامهم الشاب، العالم الأزهري المتوثب، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي. وحسبما أوضح محمد علي باشا سبب هذه البعثات، في حديثه إلى الدكتور بورينغ (Bowring)، مندوب الحكومة الإنجليزية، حيث قال له الباشا بشأن الغرض من ابتعاث هؤلاء الطلائع الرواد: "ينظرون إلى الأشياء بعيونهم، ويتمرنون على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتكم جيدا، وأن يكتشفوا كيف ولم تفوقتم علينا، حتى إذا ما قضوا وقتا كافيا بين شعوبكم، عادوا إلى وطنهم وعلموا شعبي، فإن أمامي الشيء الكثير لأتعلمه أنا وشعبي". ولعل هذا ما دعا كارل ماركس — وكان معاصرا — إلى أن يقول: "إنه صاحب العمامة الوحيدة في الدولة العثمانية ، التي تحتها رأس يفكر". حيث شاءت إرادة الله، وعزم رفاعة، أن يكون إمام الصلاة.. إماما للنهضة العلمية المعاصرة. وقد أرسلت في عهد محمد علي سبع بعثات، كانت أولاها إلى إيطاليا عام 1809م، ثم تنوعت بعد ذلك إلى فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وإنجلترا، لدراسة الهندسة، والبحرية، والطب، والحقوق، والإدارة، والكيمياء، والترجمة، والزراعة، والفيزياء، والعلوم الرياضية، والطباعة، والفنون. وكانت آخرها عام 1848م، قبل رحيل محمد علي في 12 أغسطس/آب 1849م، الذي لم يكن متطرفا في النقل عن الغرب، ولا تابعا له بالكلية كما يردد البعض، وإلا لترك الأجانب في بلادنا، ولم يوفد أبناءنا إلى أوروبا. لكنه حاول سد هذه الفجوة العلمية الهائلة إلى حين، ليحل أبناء هذه الفرق العلمية محل الأساتذة، والضباط، والمهندسين الأجانب. وبذلك احتفظت مصر بهويتها وشخصيتها، بعدما ثبتت أقدامها في تاريخها وتراثها، ثم ملأت رأسها بعلوم أوروبا. وكان عثمان نور الدين باشا أول مبعوث مصري إلى أوروبا، حيث عاد من بعثته لترجمة الكتب والمراجع، والفنون الحربية المختلفة، وسائر الصنائع المتعلقة بها. كما أن عبد الرحيم أفندي قد عاد لترجمة كتب معامل الأقطان، وصناعتها، وآلاتها. ولعل تلك الخصوصية التي وعاها محمد علي، تبرز من قصة أدهم بك، رئيس المدفعية بورش المهمات الحربية، الذي أرسل إلى إنجلترا، فتزيا بزيهم، وحاكاهم في أقوالهم وعاداتهم. فلما علم الباشا محمد علي بذلك، غضب غضبا شديدا، وأرجعه فورا مغضوبا عليه، وقال: "إنني ابتعثته ليعاين الفبريقات، ويقف على صناعتها، وليعود بها إلى مصر، لا ليقلدهم في ملابسهم وعاداتهم". في الأزهر الشريف كان الأزهر الشريف حينئذ يفرك عينيه في أعقاب رحيل الفرنسيين، حيث اطلعت طلائعه على ما يملكه الفرنسيون من العلوم الحديثة والأسلحة المتطورة، وأيقنوا أن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في علوم الدنيا، وعلى رأسهم العلامة الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر حينئذ. إذ رأى نفسه مطالبا بالإجابة الواقعية على سؤال الحضارة الواقعي الملزم، وصدمتها التي حلت بالمحروسة، بوجوب الاطلاع على علوم العصر، وحتمية استكمال الحصانة الحضارية، بدراسة الرياضيات والكيمياء وسائر علوم العصر. فحصلها حتى صار حجة فيها، وخطا بكل همة وعزيمة إلى تبني صفوة من شباب النخبة، لقراءة شريعتهم بعيون المصلحين الأحياء. وكان من يمن طالع الشيخ رفاعة، أن كان من أوائل هذا الفريق الذي تتلمذ مباشرة على يد العطار. بل إن الشيخ العطار هو الذي قرأ فيه الأهلية، لاختياره إماما بالجيش، ثم اختياره إماما للبعثة المصرية الكبرى إلى باريس، حيث كان قد وضع يده على طاقته في البحث، ورغبته في الطموح، وعزيمته في التفوق، فاختاره إماما للصلاة، فصار إمام الصلاة، إماما للحركة العلمية في مصر في العصر الحديث. شأنه في ذلك شأن نظيره الشيخ محمد عياد الطنطاوي، الذي شرق إلى روسيا ، بينما غرب الشيخ رفاعة إلى فرنسا. ثم عاد رفاعة إلى وطنه، خيرا مما غادره، فكان: الشيخ، الإمام، الفقيه، المترجم، المؤسس، الرائد، الأميرالاي، الشاعر، المفكر. عِصاميٌّ طريفُ المجدِ سعيًا عِظاميٌّ شريفٌ بالتِّلادِ سِوى نَسَبِ العلومِ لي انتسابٌ إلى خيرِ الحواضرِ والبوادي وحسبي أنني أبرَزتُ كتبًا تُبيدُ كَتائبًا يومَ الطِّرادِ فمِنها منبعُ العِرفانِ يجري وكم طِرْسٍ تُحُبِّرُ بالمدادِ على عددِ التواترِ مُعْرَبَاتي تَفِي بفُنونِ سِلمٍ أو جِهادِ ولقد كان من بين الإلهامات العجيبة أن يتفرس الشيخ الصوفي الشريف، الشيخ السادات، في وجه هذا الشيخ الشاب، رفاعة الطهطاوي، ثم يهتف به، مانحا إياه هذا اللقب: "اذهب فأنت أبو العزم"، وسط ما كان الشيخ السادات يخلعه من ألقاب ومنح على من لديه من الطلاب، والعلماء، والأولياء، والتجار، والوجهاء المترددين على مجلسه الوقور، ببيته بـ "بركة الفيل". فكان هذا المفتاح النفيس سرا فاتحا لمجمع عزائم الطهطاوي، من الأزهر، إلى باريس، إلى التعليم، إلى القانون، إلى الطب والهندسة، إلى العلوم العسكرية، واللغات، إلى التحرير والترجمة، إلى مصر وفرنسا والسودان ، إلى كل موقع أو مهمة حل بها الطهطاوي وارتحل. مشوار الحضارة ولد الطهطاوي في طهطا عام 1216 ه / 1801 م، وإليها ينسب. وبها تفتحت عيونه على الدنيا، وصافحت أنظاره الناس والحروف والكلمات، وبها تأسس بالقرآن وعلومه، وتأهل لدخول الأزهر الشريف. وفي عام 1232 هـ / 1817 م، وفد إلى القاهرة والتحق بالأزهر الشريف، ومكث به خمس سنوات، ختم بها درسه، وأكمل بحثه، متخصصا في المذهب الشافعي. ونبغ في كل علم كان يدرس بالأزهر، حتى بلغ منزلة التدريس فيه، وهو ابن الحادية والعشرين. فكان كما قال تلميذه الفذ، الشاعر المؤرخ، صالح مجدي: "حسن الإلقاء، ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم من أحد إلا استفاد منه، وبرع في كل ما أخذ عنه". وأضاف: "يقوم بتدريس البيان، والبديع، والعروض، والحديث، والمنطق، والنحو، والصرف، سهل التعبير، حسن الأسلوب، مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، بحيث يفهم درسه الصغير والكبير، بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب". رفاعة في باريس في يوم الخميس من شهر رمضان 1241هـ / 24 أبريل/نيسان 1826م، أبحرت من الإسكندرية سفينة العلم والنور، تحمل الشيخ رفاعة وإخوانه. وفي التاسع من شهر شوال، وصلت بهم إلى مرسيليا، بعد أن رشحه أستاذه العلامة حسن العطار للعمل واعظا في العساكر الجهادية أولا، ثم إماما للبعثة العلمية إلى فرنسا ثانيا، صحبة "الأفندية" المبعوثين لتعلم العلوم والفنون الموجودة بفرنسا، والتي كشفت عنها صدمة الحملة الفرنسية الأثيمة على مصر عام 1798م، بهدف تحصيلها والعودة بها إلى بلادنا. وقد أحسن العلامة العطار، في وعيه الحضاري، الذي نبه فيه تلميذه رفاعة، بأن "يدون كل ما تقع عليه عينه، وأن يسجل ما يصادفه من الأمور الغيرية، والأشياء العينية، وأن يقيده ليكون كاشفا في كشف القناع عن ماهية هذه البقاع، التي يقال لها (عروس المدائن)". كما كان رفاعة واعيا أشد الوعي بما يصنع، حيث قال: "حسب ظني لم يظهر في اللغة العربية شيء في تاريخ باريس". وكان صحبة الشيخ رفاعة في هذه البعثة: حضرة "عهدي أفندي المهردار"، الذي تخصص في الأمور الملكية، يليه حضرة "مصطفى أفندي الدويدار"، الذي تخصص في الأمور العسكرية، والثالث "حسن أفندي الإسكندراني"، الذي تخصص في القبطانية والبحرية. يقول الشيخ رفاعة: "والحق أنني مدة إقامتي في هذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك، وخلو بلاد الممالك الإسلامية منه". وقال: "ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصوص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية". وقال: "وليست هذه الرحلة مختصرة على ذكر السفر ووقائعه، بل هي مشتملة على ثمرته وغرضه، وفيها إيجاز العلوم والصنائع المطلوبة، والتكلم عليها، وعلى طريقة تدوين الأفرنج لها، واعتقادهم فيها، وتأسيسهم لها". الديوان النفيس بإيوان باريس كان هذا هو الاسم الأول لكتاب رفاعة الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، جريا على سجع عناوين كتب الوقائع المشهورة، مثل: "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي، و"التبر المسبوك في نصيحة الملوك" للغزالي، و"بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس، وغيرها من آلاف الكتب والمراجع التي يزخر بها إرثنا وتراثنا. وتكلم الشيخ رفاعة في كتابه عن العلوم والفنون المطلوبة، والحرف والصنائع المرغوبة، وأوفى الحقوق الثلاثة قدرها (الطبيعية، والبشرية، والوضعية)، وتناول علوم تدبير العسكرية، والقبطانية، والبحرية، والعلاقات الدولية، والسفارات، وفنون المياه، وصناعات القناطر والجسور، والصناعات الفنية، والميكانيكا، والهندسة البحرية، والمدفعية (الطوبجية)، وصناعة المعادن، والكيمياء، والورق، والتحاليل، والطب، وصناعة البارود، والسكر، والأنسجة، والتشريح، والبيطرة، وعلوم الزراعة، والصرف، وعلوم النبات، والحيوان، وصناعة النقش والحفر، والترجمة، والجغرافيا، والفلك. حيث بسط الحديث في مقدمة كتابه عن جغرافيا العالم، ثم تحدث بعد ذلك عن مدينة الإسكندرية وتاريخها منذ نشأتها على يد الإسكندر المقدوني، إلى اليوم الذي تركها فيه رفاعة. لكنه تورط في هذا السرد في خطأ تاريخي فاحش، حين ذكر ما نصه: "ومن عجائب ما فيها.. خزانات الكتب التي حرقها عمرو بن العاص رضي الله عنه، على ما كان فيها من الكتب، ما قدره 700,000 مجلد". وهذا الخطأ مردود عليه بالأدلة التاريخية والشواهد الواقعية، ولعل أقوى الكتب التي تناولت هذه القضية بوضوح، تلك الدراسة الماتعة التي صدرت مؤخرا للعالم الباحث الدكتور المهندس ربيع الزواوي: "مكتبة الإسكندرية.. هل أحرقها عمرو بن العاص؟" (القاهرة، 2007م). وفي الطريق إلى باريس، تكلم الشيخ رفاعة عن جزيرة كريت، التي وصل إليها في اليوم السابع من السفر، ثم جزيرة صقلية، ثم مسينا ببوغاز إيطاليا، ثم إلى نابولي، وهي إحدى البنادر الأربعة الأصلية في البلاد الإفرنجية، ثم إلى مرسيليا، ودخولهم إلى "الكرنتينة"، وما يذكره من طرائف التحليل والتحريم للحجر الصحي، بناء على فهم القضاء والقدر، وما دار بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي المدرس بجامع الزيتونة، والشيخ محمد البيرم شيخ الحنفية. وما إن وصل إلى مرسيليا، حتى اشتغل مع المبتعثين بتعلم تهجي الحروف الفرنساوية، وهم ما زالوا في الكرنتينة. ثم دخلوا باريس، فتكلم عن تخطيطها، ووصفها الجغرافي، وأهلها، وعاداتهم، وزروعها، وشوارعها، ومقاهيها، ودور العلم بها، وكل شيء فيها، حتى كأنك تراه رأي العين. وهنا انفتحت العين الناقدة، والبصيرة الشاهدة للشيخ رفاعة على اتساع محيطها، وامتداد قطرها، فقال: لَئِنْ طلَّقْتُ باريسَ ثلاثًا، فما هذا لغيرِ وصالِ مِصْرِ. فكُلٌّ منهُمُ عندي عروسٌ، ولكنْ مِصْرُ ليستْ بنتَ كُفْرِ. ومثلما قال في قصيدته الطويلة، مادحا مصر أم الدنيا من قلب باريس، عروس أوروبا، حيث لم يتخل عن حبه لبلده ساعة من نهار، فقال: زمنٌ عليّ به لمصرَ (فدَيتُها) حقٌّ وثيقٌ عاطلُ النكرانِ فلكَمْ بأزهرِها شموسٌ أشرقتْ وأنارتِ الأكوانَ بالعرفانِ فشذا عبيرِ علومِهم عَلَمُ الورى وسرتْ مآثرُهم لكلِّ مكانِ قد شبّهوها بالعروسِ وقد بدا منها (العروسيُّ) بهجةَ الأكوانِ قالوا تعطّرَ روضُها فأجبتُهم (عطّارُها حَسَنٌ) شذاهُ معانِ حبرٌ له شهدتْ أكابرُ عصرِه بكمالِ فضلٍ لاحَ بالبرهانِ ولئنْ حلفتُ بأنَّ مِصْرَ (لجنّةٌ) وقطوفُها للفائزينَ دوانِ والنيلُ كوثرُها الشهيُّ شرابُهُ لأبرُّ كلَّ البرِّ في أيماني ثم تحدث بعد ذلك عن أهل باريس، وتدبير الدولة الفرنساوية، واقتصادياتها، وما يتعلق بها من أمور المعاش، والصحة، والتعليم، والإدارة، والسياسة، والقانون، والعلوم. ثم قام بترجمة المنطق لأرسطو، وعلم الحساب. وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1830م، تقدم للامتحان النهائي في ختام الدراسة، وقدم للجنة الامتحان 12 كتابا قام بترجمتها خلال السنوات الخمس، تشمل علوم الاجتماع، والهندسة، والقيادة العسكرية، والميثولوجيا، والصحة، وتقويم البلدان، والجغرافيا، والتعدين، والفلسفة، والقانون، وفنون الأدب، بالإضافة إلى مخطوطة كتابه "تخليص الإبريز"، الذي يقدم فيه اكتشافه للحضارة الغربية وإضاءتها من داخلها، ناقدا واعيا مستبصرا، وهو ما زال ذلك الطالب الذي منتهى غايته أن يرضي أساتذته، وأن ينظر إلى كل شيء بعيونهم، لا بعيونه! لكنه كان غير ذلك تماما، حتى عاد إلى داره، ومداره، مصر المحروسة، عام 1831م، وقد تحول من إمام للدين والصلاة، إلى إمام للنهضة والحياة. الشيخ الأميرالاي عاد الشيخ رفاعة عام 1246هـ ليعمل مترجما في مدرسة الطب بتزكية من أستاذه مسيو جومار، المشرف العلمي على البعثة. مكث بها سنتين، ثم نقل عام 1249ه مترجما في مدرسة الطوبجية. ثم انتقل أستاذا في مدرسة الإدارة الملكية، ثم عين عام 1250هـ ناظرا لمدرسة التاريخ والجغرافيا. ثم أخذ يقنع الباشا بإنشاء مدرسة للإدارة الملكية، حتى أقنعه بتلك الفكرة، فكانت النواة التي نشأت عنها بعد ذلك "مدرسة الألسن" عام 1835م، باسم "مدرسة الترجمة" أولا، ثم تطورت إلى "مدرسة الألسن"، ومقرها السراي المعروفة باسم "بيت الدفتردار" بحي الأزبكية، حيث كان يقوم فندق شبرد القديم. وقد أنشئت مدرسة الألسن – كما رفع الشيخ رفاعة إلى الجناب العالي – "لينتفع بها الوطن ويستغنى بها عن الدخيل". وقد بدأت أولا بثمانين طالبا، ثم ازداد عددهم ليصل إلى 150، وقد تخرجت الدفعة الأولى منها عام 1255هـ / 1839م. وقام الشيخ رفاعة بوضع منهج المدرسة الدراسي، وكان على رأس إدارتها والتدريس فيها بكل حزم وإخلاص. وكان يدرس إلى جانب المقررات الدراسية الأدب، والفقه، والشريعة الإسلامية، ويقوم بالواجب القومي لترجمة مراجع النهضة العلمية المعاصرة من سائر العلوم والفنون. وفي هذه الفترة، عهد إلى رفاعة إعادة تنظيم صحيفة الوقائع المصرية، والإشراف على تحريرها عام 1257هـ، فقام بذلك على خير وجه لمدة ثلاث سنوات. وقد عاشت مدرسة الألسن نحو 15 عاما، وهي جوهرة النهضة وطليعة الحضارة، إلى أن أغلقها عباس الأول، الذي لم يكن على وفاق مع رجال جده محمد علي وعمه إبراهيم. فلم تمض أيام على ولاية عباس حتى ألغاها في المحرم 1266هـ / نوفمبر/تشرين الثاني 1849م. رفاعة في السودان لما ولي عباس الأول الأمر بعد وفاة جده محمد علي في 12 رمضان 1265هـ / 12 أغسطس/آب 1849م، وكان شديد التحفظ والانغلاق، كما لم يكن مطمئنا إلى رجال جده محمد علي ولا عمه إبراهيم، وعلى رأسهم الشيخ رفاعة، فأمر بإرساله إلى السودان ناظرا لمدرسة الخرطوم الابتدائية، التي قضى بها ثلاثة أعوام، وعاد منها بعد وفاة عباس الأول وتربع سعيد على عرش مصر عام 1854م، فعين وكيلا للمدرسة الحربية، ثم ناظرا لها بعد إحالة ناظرها سليمان باشا الفرنساوي. ولكن حنينه للألسن ما زال يلح عليه في العودة إليها، كدار واسعة للتربية والإعداد والإصلاح والنهضة. والذين نعوا على المصلح المجدد رفاعة الطهطاوي بعض قوله الشاكي في السودان، الذي أبعد إليه لجفوة بينه وبين عباس الأول، عليهم أن يعلموا أن رفاعة قد عانى الأمرين بالسودان، لا لمكرهة بينه وبين أهله، إنما لتعطل المشروع الإصلاحي الذي قضى حياته من أجله، وأن كل جهوده الإصلاحية قد داسها عربة عباس الأول دون ترو. ولكنه يلخص ذلك المشهد حيث يقول: وما خِلْتُ العزيزَ يريدُ ذلِّي ولا يُصغي لأخصامٍ لِدادِ لديهِ سعَوْا بألسنةٍ حِدادِ فكيف صغى لألسنةٍ حِدادِ؟ مهازيلُ الفضائلِ خادعوني وهل في حربِهم يكبو جوادي؟ وزخرفُ قولِهم إذ موّهوهُ على تزييفِهم نادى المنادي فهل من صيرفيِّ المعنى بصيرٍ صحيحِ الانتقادِ والاقتصادِ قياسُ مدارسٍ قالوا عظيمٌ بمصرَ، فما النتيجةُ في بِعادي؟ وما السودانُ قطُّ مقامَ مثلي ولا سَلمايَ فيهِ، ولا سُعادي بها ريحُ السَّمومِ يُشَمُّ منهُ زفيرُ لظىً، فلا يُطفيهِ وادِ رحلْتُ بصبغةِ المغبونِ عنها وفضلي في سواها في المزادِ يقول العلامة الدكتور أحمد أمين: "وكان الشيخ كما ترى، قد صاغ قصيدته على وزن وقافية القصيدة الشهيرة: لقد أسمعتَ إذ ناديتَ حيًّا / ولكن لا حياة لمن تنادي"، يقصد بذلك الغاية من الملاومة والتبكيت، بحيلته الأدبية البلاغية تلك. وهكذا قضى الشيخ رفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات، قاسى فيها شدائد الحرّ والإقصاء والتهوين، لا كرهًا في السودان، إنما رفضًا للمظلمة، وحزنًا على تعطيل مشروعه النهضوي الفريد. إلى ما سبق، فإن الشيخ رفاعة قد فقد في تلك المبعدة معظم أصدقائه، خاصة بيومي أفندي، أستاذ الرياضيات في مدرسة المهندسخانة، والذي نعاه ضمن القصيدة السابقة بقوله: "وحسبي فتكها بنصيفِ صحبي / كأن وظيفتي لبسُ الحدادِ". والشيخ رفاعة نفسه كان قطعة حية من الجسد المصري السوداني الحضاري العريق، فهو القائل على لسان مصر والسودان: نحن غصنانِ ضمّنا عاطفُ الوجدِ جميعًا في الحبِّ ضمنَ نطاقِ في جبينِ الزمانِ منكَ ومنِّي غُرّةٌ.. كوكبيةُ الإطلاقِ ومع ذلك، فقد أثمر الشيخ رفاعة في منفاه في السودان خير ثمرة، بحسن إدارة مدرسة الخرطوم، والنجاح في تخريج جيل من المصريين والسودانيين على خير ما يرام، ثم بترجمة قصة "تليماك"، التي وضعها بعد ذلك تحت عنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك". حسنات حضارية ذهب الطهطاوي إلى فرنسا وهو مزود بالأصالة الأزهرية، ومفعم بالنصر الذي حققه الشعب المصري على الحملة الفرنسية التي قدمت إليه عام 1798م، والتي دنست خيلها الأزهر الشريف، ثم انجلت غمتها عام 1801م، بعد ثلاث سنوات من المقاومة والجهاد العام. وهو نفس عام مولد السيد الشريف، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي تفتحت عيونه وإدراكه للحياة على هذا الثأر المبيت. فدخل الطهطاوي فرنسا وهو محصن بأزهريته الأصيلة، وتربيته الواعية، وأصله الشريف، وعوده الصلب، ووعيه المسبق على يد شيخه الأثير، العلامة الشيخ حسن العطار، شيخ الأزهر الشريف، الذي سبقت له معرفة بالفرنسيس واحتكاك علمي وحضاري بهم، حال حلولهم بالمحروسة، والذي عزم على سد الفجوة بتربية جيل واع واثق متوثب مخلص من شباب الأزهريين النوابغ، من أمثال: إبراهيم الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، والشيخ رفاعة وغيرهم، ليكونوا طليعة لبشائر النهضة. فذهب الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري المعبأ برغبة شعبه في النهضة، وتربية شيخه في الوعي، وصلابة أصله في التحمل، وتزكية خلقه في التصوف، وعلو محتده في الشرف، وعزيمة واليه في البناء، ورغبة الطهطاوي نفسه في التحدي، وقدرته الهائلة على الإنجاز والتحصيل. يقول زميله في البعثة، ومنافسه في الزعامة، أبو التعليم المصري (علي مبارك): "ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده". (الخطط التوفيقية ج 13 ص 54) تبدو الثقة بالنفس والشرع من كل ملاحظات الشيخ رفاعة، من أول يوم في بعثته إلى آخر يوم في حياته، حتى في ترويحاته واستملاحاته، وفي تسريته وتسليته، بغنائه وإنشاده، ومنظوماته ومقاماته، وهو ما زال بسفينة الذهاب. حيث تصادف دخولهم مع احتفال القوم ببعض أعيادهم، بالابتهاج وطرق النواقيس، فقال: أصبو إلى كلِّ ذي جمالِ ولستُ من صبوتي أخافُ وليس بي في الهوى ارتيابٌ وإنما شيمتي العفافُ يعكس "تخليص الإبريز" إجادة الطهطاوي للفرنسية، وإلمامه بالعلوم العصرية الحديثة، كما يعكس كفاءة عقلية باهرة، حيث انخرط الطهطاوي حتى أذنيه في معاملة المستشرقين الكبار، من أمثال سيلفستر دي ساسي بالكوليج دي فرانس، وكوسان دي برسفال بمدرسة اللغات الشرقية، وجوزيف رينو بدار الكتب، ومسيو جومار، وجول سالدان، منذ الأيام الأولى للبعثة. ولكن تلك العلاقة الوثيقة تعكس خلاصتها ثقة تراثية، وموسوعية ثقافية عند رفاعة. يقول أستاذه شوفالييه (وكان قد اتصل به أربعة أعوام كاملة): "إنما كان طلعة، يلتهم كل جديد في كل صوره المادية والمعنوية، ويتمثله التمثل الذي أقض مضاجع بعض أولي الأمر في مصر". فقد يأخذ ويعطي، ويؤثر ويتأثر، ويتعلم ويعلم، وما شابه أدنى اهتزاز أو تراجع، فضلا عن تبعية أو ذيلية قط. فهو القائل: "يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية، المشتملة على شيء من الفلسفة، أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يغتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه". (ص 179-180) انتقاده الواضح لما تحويه الثقافة الفرنسية من "الحشوات الضلالية المخالفة للكتب السماوية"، حيث قال قوله الحاسم، المؤسس لفلسفة العقل والنقل: "إن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا أقره الشارع، والتكاليف الشرعية التي عليها نظام العالم مؤسسة على التكاليف العقلية الصحيحة، الخالية من الموانع والشبهات، لأن الشريعة والسياسة مبنيان على الحكمة المعقولة لنا، أو التعبدية التي حكمتها إلى المولى سبحانه وتعالى.. وليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه، إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه". (د. محمد عمارة: الأعمال الكاملة للطهطاوي، ج 2، ص 159). "والذي يرشد إلى تزكية النفس، هو سياسة الشرع". (المرجع السابق، ص 32). عاش الطهطاوي سنواته الخمس معتزا بدينه، أمينا على علمه، واعيا برسالته. فهو يتتبع أخبار نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنسوية، خصوصا المماليك الجورجية والجركسية، وكذلك سعى إلى تتبع أخبار النساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن. يقول: "وقد وجدت امرأة عجوزا باقية على دينها.. وممن تنصر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان قد ولاه الفرنسيون بمصر (أغا الإنكشارية) في أيامهم، ثم تبعهم وبقي على إسلامه خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر والعياذ بالله. ولقد رأيت له ولدين وبنتا، أتوا إلى مصر وهم على دين النصرانية، أحدهم معلم الآن في أبي زعبل". (ص 120-121). ويصف الطهطاوي موقعا أسماه "البستان" يحتوي على عدد من المحنطات الحيوانية، وفي رواق يسمى "بستان التشريح"، يوجد بعض الشيء من جثة المرحوم الشيخ "سليمان الحلبي" الذي استشهد بقتله الجنرال "كليبر"، القائد الثاني للحملة الفرنسية. (ص 187). ما أقدم رفاعة في بعثته على شيء، إلا وهو يعي هدفه من وراء ذلك بكل وضوح. وما ملاحظاته على لبس المرأة الفرنسية، وحقوقها وطريقتها في الحياة، وانبهاره ببعض الأمور والتدابير التي رآها لأول مرة في حياته، وكذلك وصفه للمقاهي والعاديات الحياتية والسلوكية عند الفرنسيس، إلا تطورا طبيعيا لمشواره في سبر أغوار الحياة والناس والعلوم، وتعرفه إلى كبار الأساتذة بالجامعات وغيرها، وهضم ذلك كله، وإعادة تمثله وعيا جديدا صالحا مفيدا. يشهد له كل ذلك بقمة التيقظ، والقدرة على الفرز الحضاري الواثق، فهو القائل: "ومعلوم أن الشرع لا يحظر جلب المنافع، ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسنة، التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة". (الأعمال الكاملة، ص 387). "فإن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشارعه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأحاطها بالسقي والري، ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسة عنها بمنزلة الفرع". (ص 370). بل إنه اكتشف منذ الساعات الأولى في كتابة "تخليص الإبريز" أن القوانين التجارية الفرنساوية مأخوذة برمتها من الفقه المالكي، وهو الشيخ الأزهري الشافعي المذهب. عمل رفاعة مع محمد علي سبعة عشر عاما، وعلى الرغم من جبروت محمد علي واستبداده بالأمر، إلا أن الشيخ رفاعة قد انتقده بقوله: "ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه.. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور". ما ذهب رفاعة إلى مكان، أو حل بموقع، إلا وحلت به الهمة، وارتفع صوت العمران. فكان مع التخطيط والتنفيذ والإنشاء، يضع المناهج ويقوم بالتدريس والتأسيس. فعل ذلك في كل مكان حل به، وفي كل مهمة كلف بها، وفي أي علم قام بتدريسه، أو معهد قام بتأسيسه. وعلى سبيل المثال، حين كلف بتدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية، ألف لهم منظومته "جمال الأجرومية" وكتابه "التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية"، وهو أول كتاب في النحو العربي ذي سمات تجديدية. شبهات وردود عاد الشيخ رفاعة من باريس عام 1246هـ، حيث كان على رأس مستقبليه إبراهيم باشا، ابن محمد علي، ذلك القائد العسكري التاريخي الجبار. ثم التقى بعده محمد علي، وانخرط بكليته في البناء والتأسيس، من موقع إلى موقع، ومن مكان إلى مكان، وهو "قليل النوم، كثير الانهماك على التأليف والترجمة"، كما يقول تلميذه صالح مجدي: "وذهب إلى باريس، وعاد خيرا مما ذهب". وحين أنشأ علي مبارك مجلة "روضة المدارس" النصف شهرية عام 1870م، أسند رئاسة تحريرها إلى رفاعة الطهطاوي، فجعلها مجالا لرواد العمل الثقافي في مصر، من أمثال علي مبارك نفسه، وعبد الله فكري، وإسماعيل صبري، وقدري باشا القانوني، وإسماعيل باشا الفلكي، وصالح مجدي من تلاميذ الشيخ رفاعة، والشيخ حمزة فتح الله اللغوي الشهير. وأصدر معها على عدة حلقات متتابعة كتابه "القول السديد في الاجتهاد والتقليد"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" الذي لم يقتصر فيه على السيرة، بل تناول تاريخ صدر الإسلام بأسلوب جديد تماما. وكان قد كتب من قبل في التاريخ المصري القديم كتابه "أنوار توفيق الجليل"، فأفاد فيه لأول مرة في اللغة العربية من الكشوف الأثرية الحديثة. (في فكرنا الحديث والمعاصر، الجزء الأول، د. حسن الشافعي، القاهرة، 2024، ص 98). والذين يأخذون على رفاعة ترجمته للقانون التجاري الفرنسي الذي ترجمه عام 1868م، وتعريبه للقانون المدني الفرنسي الذي طبع في مجلدين عام 1868م، فما صنع الرجل ذلك من عندياته أولا، ولا صنعه ليحكم به محل الشريعة ثانيا. فقد كان الرجل من أساطين الفقه والشريعة المعدودين. إنما ترجم القانون التجاري ليحل مشكلة المشاكل في التعاملات التجارية مع الأجانب، الذين أغرقوا البلاد بالديون لحساب قانونهم في بلادهم، فأراد الرجل التبصير بهذا الأمر الخطير "حتى لا يجهل أهل هذا الوطن أصول الممالك الأخرى، لاسيما وأن علاقات الاقتضاء، ومناسبات الأخذ والعطاء، تدعو إلى الإلمام بمثل تلك الأصول الوضعية، ليكون من يتعامل معهم في تسوية الأمور على بصيرة". (الأعمال الكاملة، ص 367). وما ترجم القانون المدني رفقة طلابه –عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري– إلا وقد اجتهد قدر الطاقة في سبر أغوار الفقه والشريعة الإسلامية، للإتيان بالمصطلح المناسب الذي يفي بقدرة الشريعة وكفايتها. وقد تنبه لذلك مبكرا حين أنشأ بمدرسة الألسن قسما لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، وهو المذهب الذي كان يتبناه العثمانيون طوال مدة حكمهم لأكثر من ستة قرون. رحمة الله ورضوانه على الطهطاوي الشيخ، المسيو، الأميرالاي، الذي أوقف عن العمل، وتعرض للبطالة عدة مرات، استمر بعضها إلى سنوات، ولم ينل رتبة الباشوية، في حين نالها من هم دونه بكثير. الناثر، الشاعر، المترجم، ناظر ومؤسس مدرسة الألسن، ووكيل وناظر المدرسة الحربية، وناظر مدرستي الهندسة الملكية والعمارة. العالم المعلم، صاحب "مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية"، و"المرشد الأمين للبنات والبنين"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز". وصاحب ريادات: تعليم المرأة، والحوار الحضاري، والصحافة العامة، والصحافة المدرسية، ودراسات الاستشراق، ودراسة اللغات، والثقافة الحضارية، وتأسيس النهضة، وتقنين الشريعة الإسلامية. الذي عاش في باريس خمس سنوات، تعدل في منتوجها خمسين عاما من العلم والوعي، واسترداد الثقة الحضارية، وتفعيل التراث، واستحضار العصر والدين معا. والذي لخص لنا رسالته بقوله: "لا تحصيل إلا بتعليم أحكام الدين، الواجب معرفتها على كل إنسان، وذلك بالاعتماد على الكتاب والسنة وبصائر العقول". و"إذ لا شك أن رسالة الرسل بالشرائع، هي أصل التمدن الحقيقي الذي يعتد به، وأن الذي جاء به الإسلام، من الأصول والأحكام، هو الذي مدن بلاد الدنيا على الإطلاق". ورحمة الله على الرجل الذي نعى باريس وما قدمت من "حشوات ضلالية" في بهرجها الحضاري الفاتن، فقال: أيوجدُ مثلَ باريسٍ ديارُ وليلُ الكفرِ ليس له صباحٌ أما هذا وحقكمُ عجيبُ وقضى عمره كسن الرمح، حتى لقي ربه في غرة ربيع الآخر سنة 1290هـ / 27 مايو/أيار 1873م، وهو يناهز الخامسة والسبعين من عمره النافع الميمون. فاهتزت مصر كلها لموته، على حد قول العلامة الدكتور أحمد أمين: "واحتشد لجنازته الألوف المؤلفة من المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس، وازدحمت الشوارع بالناس يردّدون بعض جميله… يذكره الأزهريون على أنهم ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم، وكلهم يتوجع لفقده، ويشيد بذكره". يا ابنَ الذي أيقظتْ مصرُ معارفَهُ أبوكَ كان لأبناءِ البلادِ أبا وسلام على الصادقين.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
معاملة عادلة وحب غير متساو.. متلازمة الطفل المفضل تكسر قلوب الأبناء
"أنت تحب أخي أكثر مني!" عبارة كهذه قد تهز مشاعر أي أب أو أُم، خاصة عندما تصدر عن طفل يشعر بأنه أقل أهمية. فرغم حرص معظم الآباء والأمهات على معاملة أبنائهم بعدل، واقتناعهم بأن مشاعر الحب موزعة بالتساوي بينهم، فإن الواقع قد يكشف عن فروقات عاطفية تحدث غالبًا دون قصد أو وعي. ففي دراسة حديثة أجرتها مؤسسة "أبينيو" الألمانية لقياس الرأي، بمناسبة عيد الأم، أقر 18% من المشاركين بأن لديهم طفلًا مفضلًا. هذه النتيجة لا تُدهش سوزانه دول-هينتشكر، أستاذة علم النفس الإكلينيكي والعلاج النفسي في جامعة فرانكفورت للعلوم التطبيقية، إذ تقول إن الآباء يميلون، منذ اللحظات الأولى بعد ولادة الطفل، إلى البحث عن أوجه الشبه بينهم وبين المولود الجديد. وتوضح أنه "نوع من الإسقاط النفسي، فعندما يرى الوالدان أنفسهما في طفلهما، فإن ذلك ينعكس على طريقة تعاملهما معه". إن أوجه التشابه أو الاختلاف في الطباع، والاهتمامات، وحتى في الأدوار الأسرية، تلعب دورا كبيرا في تشكيل علاقة خاصة بين أحد الوالدين وأحد الأبناء. تقول فابين بيكر-شتول، مديرة المعهد الحكومي لتعليم الطفولة المبكرة والكفاءة الإعلامية في أمبرغ: "بعض الأطفال يتمتعون بطباع هادئة، بينما يكون الآخرون أكثر تطلبًا. كما أن هناك مراحل عمرية يصبح فيها من الصعب على الوالدين فهم سلوك الطفل أو التعامل معه". وتضيف أنه في مثل هذه المراحل -كأن يرفض الطفل أداء واجباته المدرسية- قد يشعر الوالدان بالنفور من المساعدة، وهو أمر طبيعي. المهم هو أن يدرك الأهل أن مسؤولية بناء علاقة متوازنة تقع على عاتقهم وليس على الطفل. وتؤكد: "يجب أن يشعر الطفل بأنه محبوب بلا شروط"، فالعلاقة الآمنة مع الوالدين تعزز الثقة بالنفس، وتمنع شعور الطفل بأنه أقل حبًّا من شقيقه في فترات يكون فيها الأخير محطا لاهتمام خاص بسبب ظروف معينة. من جانبها، تشير دول-هينتشكر إلى أن "المعاملة غير المتساوية أمر لا مفر منه"، لأن لكل طفل احتياجات مختلفة. وتعطي مثالًا: "من غير المنطقي معاملة طفل يبلغ عامين كما لو كان عمره 4 سنوات"، لكنها تؤكد أن شرح أسباب هذا التفاوت للأطفال يُساعد على تقبله. ومع ذلك، تحذر من أن التفاوت المؤقت لا يجب أن يتحول إلى تفضيل دائم، فالطفل الذي يلاحظ أن شقيقه يحظى دائمًا بالمزيد من الحنان والرعاية قد يتأذى نفسيا بشدة. تحذر أنيا ليباخ-إنغيلهارت، أستاذة علم النفس النمائي والتربوي في جامعة "بي إف إتش" (PFH) الخاصة في غوتنغن، قائلة: "عندما يشعر الطفل بالإقصاء أو الإهمال بشكل دائم، فإن هذا يؤثر سلبًا على تقديره لذاته وصورته عن نفسه". ولا يقتصر الضرر على الطفل المُهمش فقط، بل حتى الطفل المُفضل قد يتحمل أعباء غير متوقعة، وتوضح إنغيلهارت: "في كثير من الأحيان، يُكلف الطفل المُفضل بمسؤوليات إضافية تتعلق برعاية الوالدين". أما عن الأسباب التي قد تجعل طفلا مفضلا، فتقول إن ترتيب الولادة يلعب دورًا في ذلك. "فغالبا ما يحظى الطفل البكر باهتمام خاص، كونه الأول، لكنه أيضا يُطالَب بمزيد من المسؤولية". كما أن الطفل الأصغر قد يحظى برعاية استثنائية، في حين يعاني أطفال الوسط من الإهمال النسبي. ويبدو أن الجنس يلعب دورا أيضا، وفقا لتحليل شمولي نُشر عام 2024 من قِبل الجمعية الأميركية لعلم النفس، استنادا إلى بيانات من حوالي 20 ألف شخص. وخلص التحليل إلى أن الآباء قد يُظهرون ميلًا لتفضيل البنات، وكذلك الأطفال المتعاونين أو الذين يتسمون بالضمير الحي. وتشير نتائج التحليل إلى أن الأطفال الذين يحصلون على معاملة تفضيلية يميلون إلى التمتع بصحة نفسية أفضل، ومعدلات أقل من السلوكيات المشكِلة، ونجاح دراسي أكبر، وتنظيم ذاتي أفضل، وعلاقات اجتماعية أكثر صحة. كما أن البيانات تدعم العكس تمامًا بالنسبة للأطفال الذين لم يحظوا بهذه المعاملة. وكتب الباحثون: "المعاملة التفاضلية من قبل الوالدين لها آثار واضحة ومتميزة تتجاوز تأثيرات التربية العامة. وهذا يعني أن نتائجها -سلبية أو إيجابية- لا ترتبط بجودة الأبوة بقدر ما ترتبط بالاختلاف في أسلوب التعامل مع كل طفل على حدة". وغالبًا لا يكون هذا التفضيل مقصودا. ومع ذلك، فإن الاعتراف بأن جودة العلاقة تختلف بين الأبناء لا يزال من المحرمات بالنسبة للعديد من الآباء، وبالتالي يتم إنكاره في الاستطلاعات العلنية، حسب ليباخ- إنغيلهارت. لكنها توضح أن هناك دراسات عديدة تثبت أن التفضيل اللاواعي موجود فعليا، ويتجلى مثلا في منح طفل معين مزيدًا من الانتباه أو التساهل أو الثناء. فماذا يفعل الأب أو الأم إذا لاحظ أنه أقرب عاطفيا إلى أحد أبنائه؟ إذا كان من السهل التحدث مع طفل معين، أو أنه أكثر حنانًا؟ تنصح ليباخ-إنغيلهارت بالبدء بـ"الصدق مع النفس والتأمل الذاتي". وتقترح أن يسأل الوالدان أنفسهما: كيف أتحدث مع كل طفل؟ كم من الوقت أقضيه مع كل منهم؟ ما الذي يُزعجني أو يُقلقني أو يُخيب أملي فيهم؟ وما الذي أقدّره لديهم؟ إعلان ثم تأتي الخطوة التالية، وهي: لماذا أمنح طفلا معينًا اهتمامًا أو تساهلًا أكثر؟ هل يتكرر ذلك؟ وكيف أستطيع موازنة الأمور؟ كأن أوزع الوقت والاهتمام بشكل واعٍ، أو أن يتفاعل كل والد مع كل طفل على حدة من وقت لآخر. وتقول إن "المعاملة العادلة لا تعني بالضرورة المعاملة المتساوية، بل أن تكون منصفة وتراعي اختلاف الاحتياجات". ولا تقتصر آثار التفضيل على الطفل نفسه، بل تمتد إلى العلاقة بين الإخوة، فالغيرة والتنافس والشعور بالذنب قد تضر بشكل كبير بروابط الأخوّة. وقد يجد الأطفال أنفسهم في أدوار مفروضة عليهم دون اختيار. وتختتم دول-هينتشكر بالقول: "بعض علاقات الإخوة تتضرر تماما بسبب هذا التفضيل، وربما تظل متوترة مدى الحياة". ومع ذلك، تؤمن بيكر-شتول بإمكانية الشفاء العاطفي إذا أُتيح المجال لحوار صريح بين الأهل والأبناء، وإذا اعترف الوالدان بالألم الذي تسبب فيه التفضيل، خاصة لدى الطفل الذي عانى من التهميش. وتضيف أن تحمّل المسؤولية عن العلاقة مع كل طفل، وطرح سؤال بسيط: "ماذا يمكنني أن أفعل لتحسين هذه العلاقة؟"، يُعتبر خطوة مهمة لرؤية كل طفل وحده، واحترام مشاعره وأخذه على محمل الجد.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
لاعب سويدي يعود للملاعب بعد مرض نادر في المخ
بعد غياب دام 20 شهرا عاد لاعب كرة القدم السويدي الدولي السابق كريستوفر أولسون إلى الملاعب عقب إصابته بمرض دماغي حاد. وشارك أولسون البالغ من العمر 30 عاما -اليوم السبت- مع فريقه "آي كيه سليبنر" المنافس بدوري الدرجة الثانية السويدي في المباراة الودية أمام أوستراكر يونايتد، ونجح في تسجيل هدف، بحسب وكالة الأنباء السويدية (تي تي). وفي فبراير/شباط 2024 جرى تشخيص أولسون بالتهاب نادر للغاية في الأوعية الدموية في المخ، مما تسبب في ظهور العديد من الجلطات الدموية الصغيرة بالمخ. وفقد اللاعب السويدي وعيه فجأة في منزله، وتم وضعه في البداية على جهاز التنفس الصناعي لفترة طويلة بالمستشفى، في الوقت الذي بحث فيه الأطباء عن تشخيص لحالته الحادة في المخ. ونُقل أولسون لاحقا إلى مركز إعادة تأهيل لأمراض الأعصاب، حيث استعاد تدريجيا قدراته الحركية واللفظية. وفي وقت سابق من هذا العام، وافق أولسون وناديه الدانماركي آنذاك ميتييلاند على إنهاء التعاقد بينهما بالتراضي بين الطرفين، قبل انتقاله إلى "آي كيه سليبنر".