logo
الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل

الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل

كواليس اليوم٢٦-٠٤-٢٠٢٥

بقلم :عبد الحكيم العياط
باحث جامعي في العلوم السياسية
في عالم السياسة والقانون، نادراً ما تمنح الأنظمة الدستورية للمواطن العادي فرصة الوقوف في وجه القوانين الجائرة بقوة الدستور نفسه. لهذا السبب، شكلت آلية الدفع بعدم دستورية القوانين التي أتى بها دستور المملكة المغربية لسنة 2011 تحولا غير مسبوق في فلسفة العلاقة بين المواطن والدولة. لأول مرة، لم يعد التشريع محصنا بالكامل، ولم يعد البرلمان بمنأى عن الرقابة، بل أصبح بوسع أي طرف في نزاع قضائي أن يصرخ من داخل المحكمة: هذا القانون مخالف للدستور.
غير أن هذه الصرخة ظلت حبيسة النصوص، معلقة في الفراغ بين طموحات الدستور ومحدودية التفعيل التشريعي. فبعد مرور أكثر من عقد على التنصيص عليها، لا تزال آلية الدفع بعدم الدستورية معطلة بسبب غياب نص تنظيمي ملائم، بعدما أسقطت المحكمة الدستورية مشروعي القانونين التنظيميين المتتاليين بدعوى مخالفتهما لروح الفصل 133. في واقع الأمر، كان هذا الفصل يعني أن كل فرد، بمجرد أن يتضرر من تطبيق قانون ما، يستطيع أن يدفع بعدم دستوريته أمام القاضي العادي، الذي يحيل الدفع إلى المحكمة الدستورية للبت فيه، ولكن التشريعات التي حاولت تنظيم ذلك أدخلت شروطاً وإجراءات معقدة حولت الحق الدستوري إلى متاهة قانونية.
في فلسفة الدفع بعدم الدستورية، المواطن ليس مجرد مستهلك للحقوق، بل هو مدافع عنها. وهو لا يحتاج إلى وساطة برلمانية أو نقابية أو حزبية لرفع شبهة المخالفة، بل يكفي أن يستند إلى دستوره، ويتقدم بدفعه أثناء التقاضي. وهذا جوهر دولة القانون: أن الدستور يحمي الجميع بنفس الدرجة، وأن المحكمة الدستورية ليست سيدة القانون فحسب، بل حارسة الحقوق الفردية في وجه الانزلاقات التشريعية. لهذا السبب، انتقلت دول رائدة مثل فرنسا إلى تبني الدفع بعدم الدستورية سنة 2010 عبر آلية 'المسألة ذات الأولوية الدستورية' QPC، وهو ما مكن من إلغاء عدد معتبر من النصوص القانونية التي كانت لولا هذه الآلية ستمر مرور الكرام رغم تعارضها مع الدستور.
يؤكد فقهاء القانون الدستوري أن نجاح أي تجربة لدفع بعدم دستورية القوانين يرتبط أساساً بمدى بساطة وسلاسة الإجراءات المسطرية التي تحكم هذه الآلية. ففي التجربة الفرنسية مثلاً، رغم اعتماد نظام التصفية أمام محكمة النقض أو مجلس الدولة، فإن المسطرة تم تبسيطها إلى أقصى حد بحيث لا تتحول إلى عائق بيروقراطي أمام المواطن. أما في السياق المغربي، فإن المشروعات التي طرحت إلى حدود الساعة حملت في طياتها قيوداً معقدة وإجراءات تراتبية أدت إلى تفريغ الحق من مضمونه، وهو ما صرحت به المحكمة الدستورية بوضوح في قرارها رقم 70/18.
توسيع رقابة الدفع بعدم الدستورية من شأنه أن يُعيد التوازن داخل النظام السياسي، خاصة في بلد يعرف ضعفاً تقليدياً في آليات الرقابة المؤسسية الداخلية. فبدلاً من الاقتصار على الرقابة السابقة التي تمارسها المحكمة الدستورية بطلب من جهات محددة، فإن إتاحة المجال لكل متقاضٍ لإثارة الدفع يجعل الرقابة أكثر انفتاحاً وأقل خضوعاً للحسابات السياسية. وهذا البعد هو الذي يجعل من آلية الدفع وسيلة لتعزيز الممارسة الديمقراطية من القاعدة، وليس فقط من القمة.
تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدول التي اعتمدت الدفع بعدم الدستورية بطريقة فعالة شهدت تطوراً نوعياً في حماية الحقوق الأساسية. ففي ألمانيا مثلاً، تُسجَّل سنوياً مئات الأحكام التي تُعلن عدم دستورية قوانين كانت قائمة لعقود طويلة، بما يعكس دينامية دائمة لمراجعة المنظومة القانونية. هذا النموذج يؤكد أن الدفع ليس فقط أداة لتعطيل بعض القوانين، بل هو أداة لإبقاء التشريع متجدداً ومتسقاً مع تطور المعايير الحقوقية والدستورية.
غياب التفعيل الفعلي لهذه الآلية في المغرب لا يعني فقط إخفاقًا في تنزيل إحدى مواد الدستور، بل يعني إهدار فرصة ذهبية لبناء ثقافة دستورية جديدة. ثقافة يعتبر فيها كل فرد أن الدفاع عن الدستور شأن يومي وليس نخبويًا، وأن سمو الدستور فوق كل تشريع مهما علا شأنه السياسي. في ألمانيا، حيث يُتاح الدفع أمام المحكمة الدستورية الفيدرالية بشكل موسع، يرد سنويًا حوالي 6000 دفع فردي بعدم الدستورية، ما ساهم في تطهير المنظومة القانونية بشكل دوري من القوانين المناقضة للحقوق الأساسية.
لو كان الدفع مفعلًا في المغرب، لكانت القوانين التي تمس بحرية التعبير أو الحريات الفردية أو الضمانات الجنائية قد خضعت لاختبار دستوري قاسٍ قبل أن تؤثر على المواطنين. ولأمكن للقضاة، بدل الاكتفاء بتطبيق النصوص، أن ينخرطوا في حماية الكرامة الإنسانية كقيمة دستورية. ولكان البرلمان نفسه قد غيّر كثيرًا من ممارساته التشريعية، تحت ضغط وعي دستوري يتجاوز الأغلبيات السياسية الظرفية.
إن الرهان اليوم لا يكمن فقط في إصدار قانون تنظيمي يحترم الفلسفة الأصلية للفصل 133، بل في إعادة بناء علاقة احترام متبادل بين المواطن والقانون والدستور. المواطن المغربي يستحق أن يرى دستوره وهو يُمارس في حياته اليومية، لا أن يبقى شعارًا فوق المباني الرسمية. والدستور بدوره يستحق أن يحظى بما يحفظ سموه أمام جموح التشريع والسياسة.
الدفع بعدم دستورية القوانين هو أكثر من مجرد تقنية إجرائية، إنه تجسيد عميق لفكرة أن كل قانون لا يُحترم فيه الدستور، يصبح نفسه غير مشروع. وإن مستقبل الديمقراطية الدستورية في المغرب سيتحدد بمدى قدرة الدولة على تحويل هذه الآلية من نص معطل إلى ممارسة حقيقية تؤسس لعدالة أرقى وأقرب إلى طموحات المجتمع المغربي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الأبواب المفتوحة للأمن الوطني: من الأمن في الممارسة إلى الأمن في التمثلات
الأبواب المفتوحة للأمن الوطني: من الأمن في الممارسة إلى الأمن في التمثلات

هبة بريس

time١٨-٠٥-٢٠٢٥

  • هبة بريس

الأبواب المفتوحة للأمن الوطني: من الأمن في الممارسة إلى الأمن في التمثلات

بقلم :عبد الحكيم العياط – باحث جامعي في العلوم السياسية في إطار الاحتفال بالذكرى التاسعة والستين لتأسيس المديرية العامة للأمن الوطني، شهدت مدينة الجديدة في السادس عشر من ماي 2025 انطلاق فعاليات الدورة السادسة لأيام الأبواب المفتوحة التي تنظمها المديرية العامة للأمن الوطني تحت شعار 'فخورون بخدمة أمة عريقة وعرش مجيد'. وتستمر هذه التظاهرة الوطنية المفتوحة في وجه العموم إلى غاية الحادي والعشرين من الشهر نفسه، بمركز المعارض محمد السادس، حيث تحولت المدينة خلال هذه الأيام إلى قبلة لآلاف الزوار من مختلف الفئات العمرية والمهنية، في مشهد يجسد الانفتاح المؤسسي الذي أصبح يميز عمل الأمن الوطني في السنوات الأخيرة. تميز حفل الافتتاح بحضور شخصيات وطنية ودولية بارزة، من بينها وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، والمدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني عبد اللطيف حموشي، بالإضافة إلى رئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) أحمد ناصر الريسي، والأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب محمد بن علي كومان، ورئيس جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية عبد المجيد بن عبد الله البنيان . منذ لحظة دخولي إلى فضاء المعرض في يومه الثاني، كان لافتًا ذلك الإقبال الجماهيري الكبير والتنظيم المحكم الذي يضمن تدفق الزوار بسلاسة. ما أثار انتباهي بشكل خاص هو تلك المساحة الكبيرة المخصصة للعروض الميدانية، والتي قدمت فيها وحدات الشرطة بمختلف تخصصاتها عروضًا تطبيقية تحاكي التدخلات الأمنية في حالات الجريمة أو الكوارث. وقد شاركت شخصيًا في الورشات التفاعلية التي أقيمت داخل رواق خاص بالتحسيس والتربية على السلامة الطرقية، حيث تمكن الأطفال من قيادة سيارات صغيرة وسط ممرات مرورية تحاكي الواقع، في مبادرة تثقيفية لا تخلو من المتعة. في رواق الشرطة العلمية والتقنية، تم عرض أحدث التقنيات المستخدمة في تحليل الحمض النووي، مما يعكس التطور الملحوظ في هذا المجال. فقد توصل المختبر الوطني للشرطة العلمية والتقنية بالدار البيضاء خلال السنة الجارية بـ21,859 طلب خبرة علمية، من بينها 17,557 طلب تحليل ومطابقة لعينات الحمض النووي، بزيادة ناهزت 7.5% مقارنة مع السنة المنصرمة . هذا التطور يعكس التزام المديرية العامة للأمن الوطني بتعزيز قدراتها التقنية والعلمية لمواكبة التحديات الأمنية المتجددة. كما تم تسليط الضوء على الجهود المبذولة في مجال السلامة المرورية، حيث تم تسجيل 96,810 حادثة سير بدنية في المجال الحضري خلال سنة 2024، بنسبة ارتفاع بلغت 14%، مما استدعى تعزيز التدابير الوقائية والتوعوية للحد من هذه الظاهرة . من جهة أخرى، تميزت الدورة الحالية بعرض ابتكار أمني فريد تمثل في سيارة 'أمان' للدوريات الذكية، والتي طورتها كفاءات مغربية داخل المديرية العامة للأمن الوطني. هذه السيارة مجهزة بكاميرات بزاوية 360 درجة، وأنظمة تعرف تلقائي على لوحات الترقيم، وبرمجيات تشتغل بالذكاء الاصطناعي لتمييز الأشخاص المشبوهين، وقد أثارت اهتمام عدد كبير من الزوار والخبراء على حد سواء، لما تحمله من دلالات على السيادة التكنولوجية والاعتماد على الموارد الذاتية في تطوير منظومة الأمن. كما احتضن المعرض ندوة علمية مهمة حول الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في المجال الأمني، حضرها باحثون مغاربة وأجانب، وتم خلالها عرض تجارب دولية في هذا المجال ومقارنة مدى تطور النموذج المغربي في توظيف الرقمنة لخدمة الأمن العام. وتبين من خلال العروض أن المغرب يخطو خطوات جدية نحو دمج التكنولوجيات المتقدمة في التخطيط والتدخل الميداني، مع احترام تام للمعايير القانونية المرتبطة بالخصوصية وحماية المعطيات الشخصية. كما حضرت عرضاً حياً لمحاكاة تدخل أمني لتحرير رهائن، بمشاركة فرقة التدخل السريع. العرض كان دقيقاً، واقعياً، ومحترفاً إلى درجة جعلت بعض الحاضرين يعتقدون أن الأمر حقيقي. وقد أعقبه شرح مفصل حول مراحل التدخل، وتدابير السلامة، وآليات التفاوض في حالة الأزمات، مما أضفى على المعرض بعداً تربوياً بامتياز، خاصة للشباب الذين يتطلعون لفهم تفاصيل هذه المهن الشاقة. كما شكل عرض 600 طائرة مسيرة (درون) لحظة مدهشة في اليوم الأول، حيث تم تنظيم استعراض ضوئي ليلي بألوان العلم المغربي وشعارات الأمن الوطني، وهي سابقة وطنية في هذا النوع من العروض، عكست الحرفية والدقة التقنية التي وصلت إليها فرق الأمن في تعاملها مع تكنولوجيا الطائرات بدون طيار. من خلال زيارتي في اليوم الثاني، يمكن القول إن هذه الدورة من أيام الأبواب المفتوحة قد رفعت من سقف التطلعات، وكرست مقاربة جديدة تقوم على الشفافية والتواصل وتوطيد الثقة بين المواطن ومؤسساته الأمنية، بما يجعل الأمن اليوم ليس مجرد جهاز سلطة، بل فاعلًا مدنيًا يشارك في تربية الناشئة، وتوجيه الوعي الجماعي نحو قيم المواطنة والحفاظ على النظام العام. هذه التظاهرة لم تكن استعراضًا للقوة، بل درسًا في الاندماج المجتمعي، ودعوة مفتوحة لإعادة تصور العلاقة بين الأمن والمجتمع في مغرب يتغير بثبات.

الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل
الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل

أخبارنا

time٠٧-٠٥-٢٠٢٥

  • أخبارنا

الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل

في عالم السياسة والقانون، نادراً ما تمنح الأنظمة الدستورية للمواطن العادي فرصة الوقوف في وجه القوانين الجائرة بقوة الدستور نفسه. لهذا السبب، شكلت آلية الدفع بعدم دستورية القوانين التي أتى بها دستور المملكة المغربية لسنة 2011 تحولا غير مسبوق في فلسفة العلاقة بين المواطن والدولة. لأول مرة، لم يعد التشريع محصنا بالكامل، ولم يعد البرلمان بمنأى عن الرقابة، بل أصبح بوسع أي طرف في نزاع قضائي أن يصرخ من داخل المحكمة: هذا القانون مخالف للدستور. غير أن هذه الصرخة ظلت حبيسة النصوص، معلقة في الفراغ بين طموحات الدستور ومحدودية التفعيل التشريعي. فبعد مرور أكثر من عقد على التنصيص عليها، لا تزال آلية الدفع بعدم الدستورية معطلة بسبب غياب نص تنظيمي ملائم، بعدما أسقطت المحكمة الدستورية مشروعي القانونين التنظيميين المتتاليين بدعوى مخالفتهما لروح الفصل 133. في واقع الأمر، كان هذا الفصل يعني أن كل فرد، بمجرد أن يتضرر من تطبيق قانون ما، يستطيع أن يدفع بعدم دستوريته أمام القاضي العادي، الذي يحيل الدفع إلى المحكمة الدستورية للبت فيه، ولكن التشريعات التي حاولت تنظيم ذلك أدخلت شروطاً وإجراءات معقدة حولت الحق الدستوري إلى متاهة قانونية. في فلسفة الدفع بعدم الدستورية، المواطن ليس مجرد مستهلك للحقوق، بل هو مدافع عنها. وهو لا يحتاج إلى وساطة برلمانية أو نقابية أو حزبية لرفع شبهة المخالفة، بل يكفي أن يستند إلى دستوره، ويتقدم بدفعه أثناء التقاضي. وهذا جوهر دولة القانون: أن الدستور يحمي الجميع بنفس الدرجة، وأن المحكمة الدستورية ليست سيدة القانون فحسب، بل حارسة الحقوق الفردية في وجه الانزلاقات التشريعية. لهذا السبب، انتقلت دول رائدة مثل فرنسا إلى تبني الدفع بعدم الدستورية سنة 2010 عبر آلية "المسألة ذات الأولوية الدستورية" QPC، وهو ما مكن من إلغاء عدد معتبر من النصوص القانونية التي كانت لولا هذه الآلية ستمر مرور الكرام رغم تعارضها مع الدستور. يؤكد فقهاء القانون الدستوري أن نجاح أي تجربة لدفع بعدم دستورية القوانين يرتبط أساساً بمدى بساطة وسلاسة الإجراءات المسطرية التي تحكم هذه الآلية. ففي التجربة الفرنسية مثلاً، رغم اعتماد نظام التصفية أمام محكمة النقض أو مجلس الدولة، فإن المسطرة تم تبسيطها إلى أقصى حد بحيث لا تتحول إلى عائق بيروقراطي أمام المواطن. أما في السياق المغربي، فإن المشروعات التي طرحت إلى حدود الساعة حملت في طياتها قيوداً معقدة وإجراءات تراتبية أدت إلى تفريغ الحق من مضمونه، وهو ما صرحت به المحكمة الدستورية بوضوح في قرارها رقم 70/18. توسيع رقابة الدفع بعدم الدستورية من شأنه أن يُعيد التوازن داخل النظام السياسي، خاصة في بلد يعرف ضعفاً تقليدياً في آليات الرقابة المؤسسية الداخلية. فبدلاً من الاقتصار على الرقابة السابقة التي تمارسها المحكمة الدستورية بطلب من جهات محددة، فإن إتاحة المجال لكل متقاضٍ لإثارة الدفع يجعل الرقابة أكثر انفتاحاً وأقل خضوعاً للحسابات السياسية. وهذا البعد هو الذي يجعل من آلية الدفع وسيلة لتعزيز الممارسة الديمقراطية من القاعدة، وليس فقط من القمة. تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدول التي اعتمدت الدفع بعدم الدستورية بطريقة فعالة شهدت تطوراً نوعياً في حماية الحقوق الأساسية. ففي ألمانيا مثلاً، تُسجَّل سنوياً مئات الأحكام التي تُعلن عدم دستورية قوانين كانت قائمة لعقود طويلة، بما يعكس دينامية دائمة لمراجعة المنظومة القانونية. هذا النموذج يؤكد أن الدفع ليس فقط أداة لتعطيل بعض القوانين، بل هو أداة لإبقاء التشريع متجدداً ومتسقاً مع تطور المعايير الحقوقية والدستورية. غياب التفعيل الفعلي لهذه الآلية في المغرب لا يعني فقط إخفاقًا في تنزيل إحدى مواد الدستور، بل يعني إهدار فرصة ذهبية لبناء ثقافة دستورية جديدة. ثقافة يعتبر فيها كل فرد أن الدفاع عن الدستور شأن يومي وليس نخبويًا، وأن سمو الدستور فوق كل تشريع مهما علا شأنه السياسي. في ألمانيا، حيث يُتاح الدفع أمام المحكمة الدستورية الفيدرالية بشكل موسع، يرد سنويًا حوالي 6000 دفع فردي بعدم الدستورية، ما ساهم في تطهير المنظومة القانونية بشكل دوري من القوانين المناقضة للحقوق الأساسية. لو كان الدفع مفعلًا في المغرب، لكانت القوانين التي تمس بحرية التعبير أو الحريات الفردية أو الضمانات الجنائية قد خضعت لاختبار دستوري قاسٍ قبل أن تؤثر على المواطنين. ولأمكن للقضاة، بدل الاكتفاء بتطبيق النصوص، أن ينخرطوا في حماية الكرامة الإنسانية كقيمة دستورية. ولكان البرلمان نفسه قد غيّر كثيرًا من ممارساته التشريعية، تحت ضغط وعي دستوري يتجاوز الأغلبيات السياسية الظرفية. إن الرهان اليوم لا يكمن فقط في إصدار قانون تنظيمي يحترم الفلسفة الأصلية للفصل 133، بل في إعادة بناء علاقة احترام متبادل بين المواطن والقانون والدستور. المواطن المغربي يستحق أن يرى دستوره وهو يُمارس في حياته اليومية، لا أن يبقى شعارًا فوق المباني الرسمية. والدستور بدوره يستحق أن يحظى بما يحفظ سموه أمام جموح التشريع والسياسة. الدفع بعدم دستورية القوانين هو أكثر من مجرد تقنية إجرائية، إنه تجسيد عميق لفكرة أن كل قانون لا يُحترم فيه الدستور، يصبح نفسه غير مشروع. وإن مستقبل الديمقراطية الدستورية في المغرب سيتحدد بمدى قدرة الدولة على تحويل هذه الآلية من نص معطل إلى ممارسة حقيقية تؤسس لعدالة أرقى وأقرب إلى طموحات المجتمع المغربي.

الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل
الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل

كواليس اليوم

time٢٦-٠٤-٢٠٢٥

  • كواليس اليوم

الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب: بين طموحات النص وإكراهات التفعيل

بقلم :عبد الحكيم العياط باحث جامعي في العلوم السياسية في عالم السياسة والقانون، نادراً ما تمنح الأنظمة الدستورية للمواطن العادي فرصة الوقوف في وجه القوانين الجائرة بقوة الدستور نفسه. لهذا السبب، شكلت آلية الدفع بعدم دستورية القوانين التي أتى بها دستور المملكة المغربية لسنة 2011 تحولا غير مسبوق في فلسفة العلاقة بين المواطن والدولة. لأول مرة، لم يعد التشريع محصنا بالكامل، ولم يعد البرلمان بمنأى عن الرقابة، بل أصبح بوسع أي طرف في نزاع قضائي أن يصرخ من داخل المحكمة: هذا القانون مخالف للدستور. غير أن هذه الصرخة ظلت حبيسة النصوص، معلقة في الفراغ بين طموحات الدستور ومحدودية التفعيل التشريعي. فبعد مرور أكثر من عقد على التنصيص عليها، لا تزال آلية الدفع بعدم الدستورية معطلة بسبب غياب نص تنظيمي ملائم، بعدما أسقطت المحكمة الدستورية مشروعي القانونين التنظيميين المتتاليين بدعوى مخالفتهما لروح الفصل 133. في واقع الأمر، كان هذا الفصل يعني أن كل فرد، بمجرد أن يتضرر من تطبيق قانون ما، يستطيع أن يدفع بعدم دستوريته أمام القاضي العادي، الذي يحيل الدفع إلى المحكمة الدستورية للبت فيه، ولكن التشريعات التي حاولت تنظيم ذلك أدخلت شروطاً وإجراءات معقدة حولت الحق الدستوري إلى متاهة قانونية. في فلسفة الدفع بعدم الدستورية، المواطن ليس مجرد مستهلك للحقوق، بل هو مدافع عنها. وهو لا يحتاج إلى وساطة برلمانية أو نقابية أو حزبية لرفع شبهة المخالفة، بل يكفي أن يستند إلى دستوره، ويتقدم بدفعه أثناء التقاضي. وهذا جوهر دولة القانون: أن الدستور يحمي الجميع بنفس الدرجة، وأن المحكمة الدستورية ليست سيدة القانون فحسب، بل حارسة الحقوق الفردية في وجه الانزلاقات التشريعية. لهذا السبب، انتقلت دول رائدة مثل فرنسا إلى تبني الدفع بعدم الدستورية سنة 2010 عبر آلية 'المسألة ذات الأولوية الدستورية' QPC، وهو ما مكن من إلغاء عدد معتبر من النصوص القانونية التي كانت لولا هذه الآلية ستمر مرور الكرام رغم تعارضها مع الدستور. يؤكد فقهاء القانون الدستوري أن نجاح أي تجربة لدفع بعدم دستورية القوانين يرتبط أساساً بمدى بساطة وسلاسة الإجراءات المسطرية التي تحكم هذه الآلية. ففي التجربة الفرنسية مثلاً، رغم اعتماد نظام التصفية أمام محكمة النقض أو مجلس الدولة، فإن المسطرة تم تبسيطها إلى أقصى حد بحيث لا تتحول إلى عائق بيروقراطي أمام المواطن. أما في السياق المغربي، فإن المشروعات التي طرحت إلى حدود الساعة حملت في طياتها قيوداً معقدة وإجراءات تراتبية أدت إلى تفريغ الحق من مضمونه، وهو ما صرحت به المحكمة الدستورية بوضوح في قرارها رقم 70/18. توسيع رقابة الدفع بعدم الدستورية من شأنه أن يُعيد التوازن داخل النظام السياسي، خاصة في بلد يعرف ضعفاً تقليدياً في آليات الرقابة المؤسسية الداخلية. فبدلاً من الاقتصار على الرقابة السابقة التي تمارسها المحكمة الدستورية بطلب من جهات محددة، فإن إتاحة المجال لكل متقاضٍ لإثارة الدفع يجعل الرقابة أكثر انفتاحاً وأقل خضوعاً للحسابات السياسية. وهذا البعد هو الذي يجعل من آلية الدفع وسيلة لتعزيز الممارسة الديمقراطية من القاعدة، وليس فقط من القمة. تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدول التي اعتمدت الدفع بعدم الدستورية بطريقة فعالة شهدت تطوراً نوعياً في حماية الحقوق الأساسية. ففي ألمانيا مثلاً، تُسجَّل سنوياً مئات الأحكام التي تُعلن عدم دستورية قوانين كانت قائمة لعقود طويلة، بما يعكس دينامية دائمة لمراجعة المنظومة القانونية. هذا النموذج يؤكد أن الدفع ليس فقط أداة لتعطيل بعض القوانين، بل هو أداة لإبقاء التشريع متجدداً ومتسقاً مع تطور المعايير الحقوقية والدستورية. غياب التفعيل الفعلي لهذه الآلية في المغرب لا يعني فقط إخفاقًا في تنزيل إحدى مواد الدستور، بل يعني إهدار فرصة ذهبية لبناء ثقافة دستورية جديدة. ثقافة يعتبر فيها كل فرد أن الدفاع عن الدستور شأن يومي وليس نخبويًا، وأن سمو الدستور فوق كل تشريع مهما علا شأنه السياسي. في ألمانيا، حيث يُتاح الدفع أمام المحكمة الدستورية الفيدرالية بشكل موسع، يرد سنويًا حوالي 6000 دفع فردي بعدم الدستورية، ما ساهم في تطهير المنظومة القانونية بشكل دوري من القوانين المناقضة للحقوق الأساسية. لو كان الدفع مفعلًا في المغرب، لكانت القوانين التي تمس بحرية التعبير أو الحريات الفردية أو الضمانات الجنائية قد خضعت لاختبار دستوري قاسٍ قبل أن تؤثر على المواطنين. ولأمكن للقضاة، بدل الاكتفاء بتطبيق النصوص، أن ينخرطوا في حماية الكرامة الإنسانية كقيمة دستورية. ولكان البرلمان نفسه قد غيّر كثيرًا من ممارساته التشريعية، تحت ضغط وعي دستوري يتجاوز الأغلبيات السياسية الظرفية. إن الرهان اليوم لا يكمن فقط في إصدار قانون تنظيمي يحترم الفلسفة الأصلية للفصل 133، بل في إعادة بناء علاقة احترام متبادل بين المواطن والقانون والدستور. المواطن المغربي يستحق أن يرى دستوره وهو يُمارس في حياته اليومية، لا أن يبقى شعارًا فوق المباني الرسمية. والدستور بدوره يستحق أن يحظى بما يحفظ سموه أمام جموح التشريع والسياسة. الدفع بعدم دستورية القوانين هو أكثر من مجرد تقنية إجرائية، إنه تجسيد عميق لفكرة أن كل قانون لا يُحترم فيه الدستور، يصبح نفسه غير مشروع. وإن مستقبل الديمقراطية الدستورية في المغرب سيتحدد بمدى قدرة الدولة على تحويل هذه الآلية من نص معطل إلى ممارسة حقيقية تؤسس لعدالة أرقى وأقرب إلى طموحات المجتمع المغربي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store