
الإسلام السياسي ومعضلة الأمن القومي العربي ، بقلم : علاء عاشور
الإسلام السياسي ومعضلة الأمن القومي العربي ، بقلم : علاء عاشور
في خضم التحولات الكبرى التي تعصف بالمنطقة العربية، تبقى معضلة الأمن القومي واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الدولة القومية. ويُعد الإسلام السياسي، في أحد أوجهه، عاملاً رئيسًا في تعميق هذا التحدي، نظراً لارتباطاته الإقليمية العابرة للحدود، خاصة مع قوى إقليمية مثل تركيا وإيران، فضلاً عن دعم خفي أو علني من بعض الدول العربية الثرية ذات الأجندات الخاصة.
لقد أنتج هذا التداخل المركب بين الحركات الإسلامية والسياسات الخارجية الإقليمية خللاً بنيويًا في مفهوم الدولة القومية، وضربًا صريحًا في أساس شرعيتها ووحدة أراضيها، عبر تغذية النزاعات الطائفية والدفع بأيديولوجيات تتصادم مع مفاهيم التعايش والدولة المدنية.
ومن جهة أخرى، لعب التطرف الديني، وما صاحبه من تشدد تجاه الآخر المختلف دينيًا وثقافيًا، دورًا مدمّرًا في تقويض الاستقرار المجتمعي والسياسي. فالعنف باسم الدين لم يعد مجرد تهديد أمني، بل أصبح أداة لتفكيك المجتمعات من الداخل وإضعاف مؤسسات الدولة.
في المقابل، ما تزال غالبية الدول العربية تتبنى شكلاً من العلمانية الجزئية أو 'البراغماتية'، لا تتعارض في جوهرها مع روح الإسلام الوسطي، ولا تنفصل عن إرث تاريخي يمتد إلى فترات ازدهار حضاري كما في العهدين الأموي والعباسي، حيث كانت السياسة تُدار بمنطق الدولة، بينما ظل الدين مرجعية روحية وأخلاقية بعيدة عن صراعات السلطة.
السياسة بطبيعتها تقوم على موازين القوى، والمصالح، والتكتيك، وليس على الميتافيزيقا أو الغيبيات. ولهذا فإن العلمانية — بوصفها إطارًا تنظيميًا يفصل بين المجالين الديني والسياسي — تُعد اليوم ضرورة استراتيجية وليست ترفًا فكريًا. إنها الضامن الأول لبناء دول مستقرة، متماسكة، عصيّة على الاختراق الخارجي والأجندات العابرة للحدود.
وعلى الرغم من محاولات حركات الإسلام السياسي تجديد خطابها، إلا أن منحنى التأييد الشعبي لها في تراجع واضح، سواء في العالم العربي أو حتى على مستوى اليمين الديني العالمي. فالعالم، بكل تعقيداته، بات يطالب بمنهج اقتصادي وسياسي عصري قائم على الليبرالية الرشيدة، والشفافية، وكفاءة الإدارة، لا على الخطابات الشعبوية أو الأوهام الخلاصية.
إن المستقبل العربي الآمن يمرّ عبر بوابة الدولة المدنية، والدولة المدنية لا تقوم إلا على قاعدة من العقلانية السياسية، والتعايش، والمواطنة الكاملة. وهذه القيم لا يمكن أن تزدهر في ظل خلط مريب بين الدين والسياسة، بل عبر بناء نظام سياسي يفصل السلطات، ويؤمن بحرية الضمير، ويحصّن الأوطان من العبث الخارجي، مهما اختلفت مسمياته.
ولا تقتصر إشكاليات الإسلام السياسي على البعد النظري أو العلاقة مع الخارج فحسب، بل تتجلى أيضًا في قضايا مصيرية كالقضية الفلسطينية. لقد آن الأوان أن يُدرك الإسلاميون في فلسطين أن قضيتهم الوطنية العادلة — التي تمثل وجدان الأمة ومحور صراعها الوجودي — أكبر من أي إطار أيديولوجي أو ارتباط تنظيمي عابر للحدود.
إن استمرار ارتباط بعض الفصائل الفلسطينية بجماعة الإخوان المسلمين، بمواقفها وتحالفاتها ومشروعها العابر للدولة الوطنية، قد أضرّ بالمشروع الفلسطيني، لا سيما حين تقاطعت هذه الأجندات مع حسابات إقليمية لقوى ليست بالضرورة منحازة للمصلحة الفلسطينية الخالصة.
على الإسلاميين الفلسطينيين أن يتحرروا من هذا الإرث الحزبي، وأن ينخرطوا في مشروع وطني شامل يتجاوز الانقسامات الفكرية والعقائدية، ويضع فلسطين أولاً، فوق كل اعتبار. فالقضية الفلسطينية ليست ميدانًا لصراع الأيديولوجيات، بل ساحة لنضال تحرري ينبغي أن يتوحد فيه الجميع، على اختلاف أطيافهم، تحت راية الدولة الفلسطينية المستقلة، الديمقراطية، والمتصالحة مع تنوع مجتمعها وعمقها العربي والإنساني.
إن التحرر من قيود التنظيمات العابرة للحدود، والعودة إلى منطق الدولة والمصلحة الوطنية العليا، هو ما يمكن أن يعيد البوصلة الفلسطينية إلى اتجاهها الصحيح، ويعزز من حضورها في المعادلة الدولية. فالقضية الفلسطينية بحاجة إلى وحدة القرار، لا تعدد المرجعيات، وإلى خطاب عقلاني جامع، لا شعارات تفرّق الداخل وتربك الخارج.
وبذلك، تكتمل معادلة الأمن القومي العربي: دولة مدنية قوية، تفصل الدين عن السياسة، وتقدّم المواطن على العقيدة، والوطن على التنظيم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ 11 ساعات
- فلسطين أون لاين
الجرح الثاني عشر: دفن الشهداء
إكرام الميت دفنه" شعار اتخذه المسلمون قولاً وفعلاً، ويدل على احترام الإسلام الإنسان حياً وميتاً؛ لأن تركه بلا دفن يعني تركه للسباع تنهش لحمه ويسبب أذى للميت وأهله، وقد تعلم الإنسان هذه الفكرة من الغراب كما في قصة قابيل وهابيل. طقس دفن الشهداء يتم بمراحل: أداء صلاة الجنازة في مسجد بحضور جماهيري، وتلاوة بيانات رسمية في أثناء مسيرة التشييع تذكر مناقب الشهيد، وإقامة بيت عزاء كبير يحضره أهل المدينة، لكن منذ عدوان أكتوبر 2023 اختلف الأمر، فكيف يتم دفن الشهداء؟ ما إن تعلم عائلة باستشهاد أحد أبنائها حتى يذهب أبناؤها للمشفى المركزي للتأكد وتسجيله في سجلات الشهداء بوزارة الصحة، ثم يودعونه لدفنه بأقرب مقبرة، وتتم التعزية عبر الجوال ومواقع التواصل. المحزن جداً في هذا العدوان، أنه: _ يتم نقل الشهيد للمشفى ومن ثم للمقبرة على عربة يجرها حمار، أو تكتك، أو سيارة الإسعاف في أحسن الأحوال، وهذا يتحدد بناء على بعد المكان، وسهولة الوصول له، وعدد الشهداء، وازدحام الطريق. _ تجد نصف أعضاء جسم الشهيد، والباقي تطاير بفعل قسوة القصف. _يتم دفن الشهداء في ساحات المشافي، لصعوبة نقلهم للمقابر. _يتم دفن عدة شهداء في قبر واحد، لكثرة العدد. _ يشارك في التشييع عدد قليل. _ يتم العثور على شهداء قُتلوا بعد فترة طويلة من استشهادهم، تصل لشهور، دون معرفة هويتهم لتحلل أجسامهم، وهذا حدث كثيراً، وأذكر في هدنة يناير 2025 عندما رجعنا لمناطقنا التي انسحب منها العدو وجدنا هياكل عظمية لم نتمكن من معرفتها. _ ألا يقام بيت عزاء للشهداء. _تجد كثيرا من الشهداء تحت الأنقاض لم تتمكن فرق الإنقاذ والدفاع المدني والإسعاف من الوصول لهم. تصوروا، حين يقصف الاحتلال مبنى مكونا من عدة طوابق مأهولة بالسكان، فالمؤكد صعوبة إنقاذهم جميعاً لعدم توافر وسائل ومعدات الإنقاذ. _تجد شهداء وقد سوت دبابات العدو جثتهم بالأرض. _أن يجد الطبيب المُعالج أن الشخص القادم في الإسعاف هو من أسرته، وهذا حدث كثيراً، وأكثر القصص ألماً هو ما حدث مع الطبيبة آلاء النجار التي تعمل في مشفى ناصر وسط خانيونس، وتفاجأت بأن الشهداء هم أولادها التسعة ثم بعد فترة لحق بهم زوجها ولم يبقَ إلا ابن واحد. وبالأرقام وحسب وزارة الصحة فقد وصل عدد الشهداء حتى كتابة هذا المقال إلى 54418 شهيدا، منهم 18000 طفل، و12400 امرأة، فهل تكفي هذه الأرقام كي تتحرك ضمائر العالم أم أن طغاة العصر لم يشبعوا بعد من لحم الأبرياء؟


جريدة الايام
منذ 6 أيام
- جريدة الايام
رحيل الممثلة المصرية القديرة سميحة أيوب عن 93 عاماً
القاهرة-رويترز: توفيت الممثلة المصرية سميحة أيوب امس، عن عمر ناهز 93 عاماً بعد مسيرة فنية طويلة امتدت لأكثر من سبعة عقود. ووصف وزير الثقافة المصري أحمد هنو في بيان الراحلة بأنها "كانت نموذجاً للفنانة الوطنية المخلصة والمبدعة، التي أعطت للفن حياتها، ووهبت جمهورها مشواراً استثنائياً من الإبداع والتفرد". كما نعاها المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، والهيئة العربية للمسرح، ونقابة المهن التمثيلية. ولدت سميحة أيوب عام 1932 وتخرجت في المعهد العالي للتمثيل، حيث تتلمذت على يد زكي طليمات وشقت طريقها نحو المسرح الذي قدمت له أكثر من 150 مسرحية من أبرزها (سكة السلامة) و(السبنسة) و(الفتى مهران) و(دماء على ستار الكعبة) حتى صارت تلقب "سيدة المسرح العربي". شغلت منصب مدير المسرح القومي في 1975 ولمدة 14 عاما كما تولت إدارة المسرح الحديث. وفي السينما، شاركت في عشرات الأفلام منها (المتمردة) و(بين الأطلال) و(أدهم الشرقاوي) و(فجر الإسلام) و(الليلة الكبيرة). حققت نجاحا على شاشة التلفزيون عبر مجموعة كبيرة من المسلسلات من أشهرها (العودة) و(أوان الورد) و(الضوء الشارد) و(الطاووس). تزوجت من الممثل محسن سرحان ثم من الممثل محمود مرسي لكن أطول فترة زواج لها كانت من الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة الذي قدمت معه عدداً من الأعمال منها مسرحيتا (كوبري الناموس) و(بير السلم). حصلت على جائزة النيل، وهي أرفع جوائز الدولة المصرية، في الفنون عام 2015 كما نالت تكريمات متعددة من سورية وتونس وفرنسا.


شبكة أنباء شفا
منذ 7 أيام
- شبكة أنباء شفا
الإسلام السياسي ومعضلة الأمن القومي العربي ، بقلم : علاء عاشور
الإسلام السياسي ومعضلة الأمن القومي العربي ، بقلم : علاء عاشور في خضم التحولات الكبرى التي تعصف بالمنطقة العربية، تبقى معضلة الأمن القومي واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الدولة القومية. ويُعد الإسلام السياسي، في أحد أوجهه، عاملاً رئيسًا في تعميق هذا التحدي، نظراً لارتباطاته الإقليمية العابرة للحدود، خاصة مع قوى إقليمية مثل تركيا وإيران، فضلاً عن دعم خفي أو علني من بعض الدول العربية الثرية ذات الأجندات الخاصة. لقد أنتج هذا التداخل المركب بين الحركات الإسلامية والسياسات الخارجية الإقليمية خللاً بنيويًا في مفهوم الدولة القومية، وضربًا صريحًا في أساس شرعيتها ووحدة أراضيها، عبر تغذية النزاعات الطائفية والدفع بأيديولوجيات تتصادم مع مفاهيم التعايش والدولة المدنية. ومن جهة أخرى، لعب التطرف الديني، وما صاحبه من تشدد تجاه الآخر المختلف دينيًا وثقافيًا، دورًا مدمّرًا في تقويض الاستقرار المجتمعي والسياسي. فالعنف باسم الدين لم يعد مجرد تهديد أمني، بل أصبح أداة لتفكيك المجتمعات من الداخل وإضعاف مؤسسات الدولة. في المقابل، ما تزال غالبية الدول العربية تتبنى شكلاً من العلمانية الجزئية أو 'البراغماتية'، لا تتعارض في جوهرها مع روح الإسلام الوسطي، ولا تنفصل عن إرث تاريخي يمتد إلى فترات ازدهار حضاري كما في العهدين الأموي والعباسي، حيث كانت السياسة تُدار بمنطق الدولة، بينما ظل الدين مرجعية روحية وأخلاقية بعيدة عن صراعات السلطة. السياسة بطبيعتها تقوم على موازين القوى، والمصالح، والتكتيك، وليس على الميتافيزيقا أو الغيبيات. ولهذا فإن العلمانية — بوصفها إطارًا تنظيميًا يفصل بين المجالين الديني والسياسي — تُعد اليوم ضرورة استراتيجية وليست ترفًا فكريًا. إنها الضامن الأول لبناء دول مستقرة، متماسكة، عصيّة على الاختراق الخارجي والأجندات العابرة للحدود. وعلى الرغم من محاولات حركات الإسلام السياسي تجديد خطابها، إلا أن منحنى التأييد الشعبي لها في تراجع واضح، سواء في العالم العربي أو حتى على مستوى اليمين الديني العالمي. فالعالم، بكل تعقيداته، بات يطالب بمنهج اقتصادي وسياسي عصري قائم على الليبرالية الرشيدة، والشفافية، وكفاءة الإدارة، لا على الخطابات الشعبوية أو الأوهام الخلاصية. إن المستقبل العربي الآمن يمرّ عبر بوابة الدولة المدنية، والدولة المدنية لا تقوم إلا على قاعدة من العقلانية السياسية، والتعايش، والمواطنة الكاملة. وهذه القيم لا يمكن أن تزدهر في ظل خلط مريب بين الدين والسياسة، بل عبر بناء نظام سياسي يفصل السلطات، ويؤمن بحرية الضمير، ويحصّن الأوطان من العبث الخارجي، مهما اختلفت مسمياته. ولا تقتصر إشكاليات الإسلام السياسي على البعد النظري أو العلاقة مع الخارج فحسب، بل تتجلى أيضًا في قضايا مصيرية كالقضية الفلسطينية. لقد آن الأوان أن يُدرك الإسلاميون في فلسطين أن قضيتهم الوطنية العادلة — التي تمثل وجدان الأمة ومحور صراعها الوجودي — أكبر من أي إطار أيديولوجي أو ارتباط تنظيمي عابر للحدود. إن استمرار ارتباط بعض الفصائل الفلسطينية بجماعة الإخوان المسلمين، بمواقفها وتحالفاتها ومشروعها العابر للدولة الوطنية، قد أضرّ بالمشروع الفلسطيني، لا سيما حين تقاطعت هذه الأجندات مع حسابات إقليمية لقوى ليست بالضرورة منحازة للمصلحة الفلسطينية الخالصة. على الإسلاميين الفلسطينيين أن يتحرروا من هذا الإرث الحزبي، وأن ينخرطوا في مشروع وطني شامل يتجاوز الانقسامات الفكرية والعقائدية، ويضع فلسطين أولاً، فوق كل اعتبار. فالقضية الفلسطينية ليست ميدانًا لصراع الأيديولوجيات، بل ساحة لنضال تحرري ينبغي أن يتوحد فيه الجميع، على اختلاف أطيافهم، تحت راية الدولة الفلسطينية المستقلة، الديمقراطية، والمتصالحة مع تنوع مجتمعها وعمقها العربي والإنساني. إن التحرر من قيود التنظيمات العابرة للحدود، والعودة إلى منطق الدولة والمصلحة الوطنية العليا، هو ما يمكن أن يعيد البوصلة الفلسطينية إلى اتجاهها الصحيح، ويعزز من حضورها في المعادلة الدولية. فالقضية الفلسطينية بحاجة إلى وحدة القرار، لا تعدد المرجعيات، وإلى خطاب عقلاني جامع، لا شعارات تفرّق الداخل وتربك الخارج. وبذلك، تكتمل معادلة الأمن القومي العربي: دولة مدنية قوية، تفصل الدين عن السياسة، وتقدّم المواطن على العقيدة، والوطن على التنظيم.