
عندما قام المغاربة بقلي وغلي الجراد بدل محاربته
DR
يُعتبر المطبخ المغربي لوحة فنية تجمع بين الأطباق الشهية والألوان الزاهية والنكهات المبهجة. من الكسكس إلى الطاجين المحشو بالخضار والبسطيلة، يعكس هذا المطبخ تاريخا طويلا من الخبرة في الطبخ، كما يعبر عن فترات من التحديات والصعوبات.
ويحمل فصل من فصول المطبخ المغربي قصة من المعاناة والصمود، حيث تم ابتكار العديد من الأطباق خلال فترات الكوارث الطبيعية والأوبئة والعواصف والفيضانات والاجتياحات المدمرة للجراد والمجاعة، حيث عانى المغرب عبر العصور من موجات اجتياح الجراد التي كانت تلتهم المحاصيل وتترك الكثير من الناس جائعين. لكن الأسلاف وجدوا حلا مبتكرا: القضاء على الحشرات الغازية وتحويلها إلى وجبة تسد الجوع. فالمغاربة لم يكتفوا بتطوير وسائل لاستهلاك الجراد للبقاء، بل حولوه إلى طبق شهي.
في هذا المقال، يستعرض موقع يابلادي كيف كان المغاربة يطهون الجراد ويدمجونه في نظامهم الغذائي خلال أوقات الأزمات.
مسلوق، مقلي، مملح ومبهر
كان المغاربة يفضلون طهي الجراد عبر غليه أولا، وفقا للروايات التاريخية للدبلوماسيين الأجانب والكتاب في المغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ووفقا للمؤرخ المغربي محمد البزاز، الذي نقل عن القنصل العام البريطاني دروموند هاي، فإن "الفقراء كانوا يلتهمون الجراد المسلوق مع قليل من الملح والفلفل".
كما أفاد آخرون بأن المغاربة كانوا يقومون بقلي الجراد بعد غليه للحصول على قرمشة إضافية. ووفقا لجيمس جراي جاكسون، وهو تاجر بريطاني عاش في موغادور في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فإن أطباق الجراد كانت "تُقدم في الوجبات الرئيسية" خلال صيف 1799 وربيع 1800، الذي تميز بطاعون "كاد أن يفرغ البربر (اسم قديم للمغرب)".
كان المغاربة يطبخون الجراد بعدة طرق، حيث "كانت تُغلى عادة في الماء لمدة نصف ساعة، ثم تُرش بالملح والفلفل وتُقلى، مع إضافة قليل من الخل». كان مذاقها يشبه الجمبري، حسب جاكسون. وأوضح التاجر البريطاني أن الناس كانوا يأكلون مئات منها في وجبة واحدة "دون أي آثار جانبية". ولكن بالنسبة للفقراء الذين كانوا يضطرون للبقاء على الجراد المسلوق والمقلي فقط، كانوا يصبحون "هزيلين وخاملين".
مطبخ انتقامي
كان البعض يتخطى مرحلة الغلي، ويقلي الحشرات الطائرة بطريقة انتقامية. وبحسب مذكرات القبطان الأمريكي جيمس رايلي، الذي تحطمت سفينته قبالة سواحل المغرب في عام 1815 والذي أصبح فيما بعد عبدا، فكان الجراد يعتبر "طعاما جيدا جدا من قبل المور والعرب واليهود".
وصف رايلي كيف كان المغاربة يطهون الجراد "كانوا يصطادون كميات كبيرة منه في الموسم ويلقونها، حية وقافزة، في مقلاة من زيت الأركان المغلي". كانت الحشرات "تصفر وتفور حتى تحترق أجنحتها وتُطهى أجسادها بما يكفي". ثم تُصفى وتُقدم، كما كتب رايلي، الذي قارن قوامها ونكهتها بـ "صفار البيض المسلوق".
وفقا للسجلات التاريخية، كان بعض المغاربة يخلطون الجراد مع الحليب. في كتابه Insects as Human Food: A Chapter of the Ecology of Man ، ذكر عالم الحشرات فريدريش سيمون بودنهايمر أنه في شمال إفريقيا، كان الجراد، "طازجا أو محفوظا، بعد إزالة الأرجل والأجنحة والرؤوس"، يُشوى، يُغلى، أو حتى يُعد مع الكسكس.
كان البعض يجففها حتى في الشمس على الأسطح، ويطحنها إلى أن تصبح مسحوق، و"يخلطها مع الحليب" أو "يعجنها مع الدقيق ويغليها مع الدهون أو الزبدة والملح".
وكتب بودنهايمر نقلا عن الكاهن الدومينيكاني الفرنسي في القرن الثامن عشر جان-باتيست لابات، أن "المور كانوا ينتقمون من الجراد بأكله". "كانوا يجمعونه بعناية، ويضعونه في أكياس جلدية، ويطحنونه ويغلوه في الحليب".
في بعض مناطق المغرب، كان الجراد يُستهلك مدخنا، كما وصف القنصل الفرنسي في القرن الثامن عشر لويس دي شينييه. وذكر بأن "الجراد المدخن يُجلب بكميات هائلة إلى الأسواق في المغرب".
الطريقة المغربية اليهودية
لم يكن اليهود المغاربة استثناء فيما يخص استهلاك الجراد، حيث ذكر بودنهايمر أن اليهود المغاربة كانوا يأكلون الجراد الإناث فقط، معتقدين أن "الذكور غير طاهرين" وأن "تحت أجساد الإناث توجد حروف عبرية تجعلها حلالاً".
كانت لديهم أيضا طريقتهم الخاصة في الطهي البطيء. كانوا "يملحونها ويحفظونها لاستخدامها مع الطبق المعروف باسم دافينا، الذي يشكل عشاء السبت للسكان اليهود".
يتم إعدادا الطبق عن طريق تكديس اللحم، السمك، البيض، الطماطم ومكونات أخرى متنوعة في قدر، ثم يوضع في الفرن ليلة الجمعة. يبقى هناك حتى السبت، مما يضمن وجبة ساخنة دون انتهاك الحظر الديني على إشعال النار في ذلك اليوم.
أطول عملية طبخ في الصحراء
في الصحراء، كان لدى المغاربة الطريقة الأكثر تفصيلا لطهي الجراد. ووصف البحار الأمريكي أرشيبالد روبينز، الذي تحطمت سفينته قبالة سواحل المغرب في أوائل القرن التاسع عشر وأسر لاحقا من قبل البدو الصحراويين، العملية بالتفصيل.
"كانوا يعدونها بحفر حفرة عميقة في الأرض، وإشعال النار في القاع وملئها بالخشب. عندما يتم تسخين الأرض بأقصى قدر ممكن ويتم إزالة الفحم والجمر، كانوا يستعدون لملء التجويف بالجراد الحي، الذي تم الاحتفاظ به في كيس يحتوي على حوالي خمسة بوشل (ما يعادل 36.4 لترا)"، حسب رواية روبينز. كان الجراد يُسكب في الحفرة المسخنة، ويُغطى بسرعة بالرمل لمنع هروبه، ويُشوى تحت نار ثانية.
بعد التبريد، كان يجفف في الشمس لعدة أيام، ثم يطحن إلى مسحوق أو يستهلك كاملا بعد إزالة الرأس والأجنحة والأرجل".
تمكن المغاربة من تحويل خصمهم الطبيعي إلى مورد غذائي، مسجلين بذلك انتصارا غير متوقع على الأزمات الغذائية. فقد أسهمت وفرة الجراد في الأسواق، باعتباره مصدرا غنيا بالبروتين، في إحداث انفراج اقتصادي مؤقت. ووفقا لشهادات عدد من المسافرين والدبلوماسيين الأجانب، فإن الإقبال على استهلاك الجراد وابتكار وصفات لتحضيره ساعد في تقليص الاعتماد على المؤن التقليدية، مما ساهم في انخفاض أسعار المواد الغذائية الأساسية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


يا بلادي
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- يا بلادي
المغرب وتاريخ الاستعداد للكوارث: من الإيكودار إلى الاستراتيجيات الحديثة
يعزّز المغرب جاهزيته لمواجهة الكوارث والطوارئ من خلال إنشاء منصات لتخزين الاحتياجات الأساسية، في مبادرة أُطلقت بناءً على تعليمات ملكية. وستشمل هذه المبادرة جميع جهات المملكة الاثنتي عشرة، ضمن خطة وطنية تبلغ قيمتها 7 مليارات درهم، وتهدف إلى الإنقاذ والإغاثة ورعاية السكان المتضررين أثناء الكوارث الطبيعية. وفي ظل توقع سيناريوهات مأساوية، كتلك التي شهدها المغرب خلال زلزال الحوز في سبتمبر 2023، والذي أودى بحياة الآلاف وشرّد الكثيرين، تأتي هذه المبادرة استمرارًا لتقليد راسخ في تاريخ المملكة في مجال تدبير الأزمات. على مر العصور، واجه المغرب أنواعًا مختلفة من الكوارث الطبيعية، من فيضانات وجفاف ومجاعات إلى أوبئة، وطوّر في كل مرة آليات خاصة للتعامل معها، سواء من خلال مؤسسات مخصصة، أو بنى تحتية، أو هيئات دينية، أو مبادرات خيرية. في هذا السياق، تستعرض "يابلادي" في هذا المقال الاستجابة التاريخية للمغرب تجاه الأزمات غير المتوقعة، واستراتيجياته في إدارة الكوارث. حصون التخزين: الإيكودار أدرك المغاربة منذ القدم أهمية الأمن الغذائي في أوقات الشدة، وكان تخزين الطعام جزءًا لا يتجزأ من تقاليدهم. وتُعد الإيكودار (جمع أغادير) منشآت تخزين جماعية تقليدية شيدتها القبائل، لا سيما في مناطق الأطلس الصغير والأطلس الكبير، كآلية للاستعداد لمواسم الندرة. تُعد هذه الهياكل أقدم أشكال "البنوك" الغذائية، إذ كانت تُبنى في مواقع استراتيجية مرتفعة، وتُشيّد بجدران سميكة من الحجر أو الطين. ومن بعيد، تبدو أشبه بالحصون أو القلاع الصغيرة، مزوّدة بأبراج ومداخل ضيقة وأنظمة إغلاق معقدة. أما في الداخل، فكانت تحتوي على طوابق وغرف صغيرة تُستخدم كخزائن لحفظ القمح والمجوهرات والوثائق المهمة، المعروفة محليًا باسم العراتن. الإثنوغرافي الفرنسي جاك مونييه يوضح في دراسته حول الإيكودار أن هذه المنشآت جاءت كاستجابة لمحدودية الإنتاج الزراعي وعدم انتظامه، خصوصًا في مناطق مثل سوس، حيث لا تكون سوى واحدة من كل أربع أو خمس محاصيل جيدة. كما يشير إلى أن "بُعد الأسواق وصعوبة النقل يجعل من المستحيل إعادة التزويد بشكل سريع ومنتظم"، وهو ما يبرز التحديات التي تفرضها جغرافيا المنطقة. ومن أبرز مميزات الإيكودار نظامها المبتكر في تخزين الحبوب على المدى الطويل، وهو ما أثبت فعاليته خلال فترات القحط والمجاعة. فقد كانت الحبوب تُخزن بطريقة تحد من التهوية النشطة، ما يمنع ارتفاع حرارتها، ويُعتقد أن بعض الإيكودار استطاعت حفظ الحبوب لمدة قد تصل إلى 25 أو حتى 30 عامًا. كما أدّت الإيكودار دورًا اجتماعيًا بارزًا في ضمان التضامن خلال الأوقات العصيبة؛ إذ كان إيداع الحبوب في خزائنها يتم من خلال مساهمات إلزامية، تُعاد لاحقًا توزيعها بعد موسم الحصاد لضمان عدم افتقار أي فرد من أفراد القبيلة للطعام. وهو ما يعكس روح التضامن والابتكار التي ميّزت المجتمع المغربي في مواجهة الشدائد. لكن، ماذا يحدث عندما تطول الأزمة ويستنزف الجوع الاحتياطيات؟ كانت الهجرة، نتيجة الكوارث أو الأوبئة أو المجاعات، حقيقة قائمة في تاريخ المغرب؛ إذ كان كثيرون يبحثون عن ملاذ في مناطق أو قبائل أقل تضررًا. وقد لجأ بعضهم إلى الزوايا، وهي أضرحة صوفية برزت أهميتها في المغرب منذ القرن الخامس عشر وانتشرت في مختلف أرجائه. كانت هذه المؤسسات الدينية القوية، المدعومة غالبًا بالتبرعات والهبات والزيارات، تقدم الحماية ليس فقط من المخزن، بل أيضًا من الجوع وسائر الصعوبات. ويشير الإثنوغرافي المغربي محمد معروف، في مقاربته متعددة التخصصات للمعتقدات والممارسات السحرية بالمغرب، إلى أن الزوايا «وفرت حماية للفلاحين الفقراء الذين أثقلتهم الضرائب الباهظة التي فرضها المخزن... وكان من لا يستطيع العمل يلوذ بالأولياء، مقدمًا أرضه للشرفاء مقابل مأوى وطعام وحماية مدى الحياة». كما كانت الزوايا توفر الإعانة للفقراء والنزلاء والخدم وحتى العبيد، كما يضيف معروف. ووفقًا له، فقد تمتعت الزوايا بسلطة كبيرة، خاصة خلال فترات المجاعة والأوبئة، منذ عهد الدولة المرينية في القرن الثالث عشر وحتى الدولة العلوية في القرن السابع عشر. القروض، الخيرية، وحلول أخرى في أزمنة النقص، والجفاف، والمجاعة، كان السلاطين المغاربة يقدمون أحيانًا قروضًا للقبائل لمساعدتها على إعادة زراعة محاصيلها. ففي كتابه عن تاريخ المجاعات والأوبئة بالمغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يروي المؤرخ المغربي محمد أمين البزاز كيف منح السلطان قرضًا لقبيلة بني حسن قرب الرباط خلال الموسم الزراعي العسير لسنتي 1780-1781. ويكتب: «بسبب المجاعة التي أصابت الفلاحين، تُركت مساحات واسعة من الأراضي بورًا. وفي بعض مناطق الغرب، لم يكن بالإمكان استعادة النشاط الزراعي إلا بمساعدة المخزن، حيث قدّم السلطان مبلغًا كبيرًا لقبيلة بني حسن لمساعدتها على زراعة جزء من أراضيها». وعندما تعذر على السلطان أو المخزن تقديم القروض، كانت الفئات المتضررة تستفيد من الأوقاف. ويلاحظ البزاز أن «من كان يدخر ويخزن المؤن هم، بطبيعة الحال، الأغنياء، أما الفقراء فلم يكن لديهم ما يدخرونه، ومع ذلك فقد استفادوا من أعمال الخير والإحسان العام». ويضيف: «لم تكن هناك مدينة مغربية تخلو من عائلات خصصت جزءًا من ممتلكاتها للأعمال الاجتماعية، ضمن ما يُعرف بالأوقاف، والتي كانت مخصصة، على سبيل المثال، لتوزيع الخبز أسبوعيًا — وهو من أكثر أشكال العمل الخيري انتشارًا». وتشهد الوثائق القانونية والأرشيفات النوتارية في تطوان خلال القرن الثامن عشر على مثل هذه المبادرات، ومنها حالة امرأة من المدينة أوقفت ثلث ممتلكاتها لتمويل شراء الخبز وتوزيعه على المحتاجين. وقد عُرف هذا النوع من المساعدات باسم «وقف الخبز». وتشمل استراتيجيات أخرى لمواجهة نقص الغذاء والماء والكوارث البنى التحتية التي أنشأها كل من المخزن والمجتمع، مثل أنظمة المطمورة التي كانت تُستخدم لتخزين الحبوب في حفر أرضية، إضافة إلى الخزانات، كساقية مولاي إسماعيل في مكناس، ومجمعات التخزين المجاورة التي كانت تُعدّ سابقًا إسطبلات سلطانية، لكنها خُصصت لاحقًا لتخزين الحبوب.


يا بلادي
٢٣-٠٤-٢٠٢٥
- يا بلادي
عندما قام المغاربة بقلي وغلي الجراد بدل محاربته
DR يُعتبر المطبخ المغربي لوحة فنية تجمع بين الأطباق الشهية والألوان الزاهية والنكهات المبهجة. من الكسكس إلى الطاجين المحشو بالخضار والبسطيلة، يعكس هذا المطبخ تاريخا طويلا من الخبرة في الطبخ، كما يعبر عن فترات من التحديات والصعوبات. ويحمل فصل من فصول المطبخ المغربي قصة من المعاناة والصمود، حيث تم ابتكار العديد من الأطباق خلال فترات الكوارث الطبيعية والأوبئة والعواصف والفيضانات والاجتياحات المدمرة للجراد والمجاعة، حيث عانى المغرب عبر العصور من موجات اجتياح الجراد التي كانت تلتهم المحاصيل وتترك الكثير من الناس جائعين. لكن الأسلاف وجدوا حلا مبتكرا: القضاء على الحشرات الغازية وتحويلها إلى وجبة تسد الجوع. فالمغاربة لم يكتفوا بتطوير وسائل لاستهلاك الجراد للبقاء، بل حولوه إلى طبق شهي. في هذا المقال، يستعرض موقع يابلادي كيف كان المغاربة يطهون الجراد ويدمجونه في نظامهم الغذائي خلال أوقات الأزمات. مسلوق، مقلي، مملح ومبهر كان المغاربة يفضلون طهي الجراد عبر غليه أولا، وفقا للروايات التاريخية للدبلوماسيين الأجانب والكتاب في المغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ووفقا للمؤرخ المغربي محمد البزاز، الذي نقل عن القنصل العام البريطاني دروموند هاي، فإن "الفقراء كانوا يلتهمون الجراد المسلوق مع قليل من الملح والفلفل". كما أفاد آخرون بأن المغاربة كانوا يقومون بقلي الجراد بعد غليه للحصول على قرمشة إضافية. ووفقا لجيمس جراي جاكسون، وهو تاجر بريطاني عاش في موغادور في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فإن أطباق الجراد كانت "تُقدم في الوجبات الرئيسية" خلال صيف 1799 وربيع 1800، الذي تميز بطاعون "كاد أن يفرغ البربر (اسم قديم للمغرب)". كان المغاربة يطبخون الجراد بعدة طرق، حيث "كانت تُغلى عادة في الماء لمدة نصف ساعة، ثم تُرش بالملح والفلفل وتُقلى، مع إضافة قليل من الخل». كان مذاقها يشبه الجمبري، حسب جاكسون. وأوضح التاجر البريطاني أن الناس كانوا يأكلون مئات منها في وجبة واحدة "دون أي آثار جانبية". ولكن بالنسبة للفقراء الذين كانوا يضطرون للبقاء على الجراد المسلوق والمقلي فقط، كانوا يصبحون "هزيلين وخاملين". مطبخ انتقامي كان البعض يتخطى مرحلة الغلي، ويقلي الحشرات الطائرة بطريقة انتقامية. وبحسب مذكرات القبطان الأمريكي جيمس رايلي، الذي تحطمت سفينته قبالة سواحل المغرب في عام 1815 والذي أصبح فيما بعد عبدا، فكان الجراد يعتبر "طعاما جيدا جدا من قبل المور والعرب واليهود". وصف رايلي كيف كان المغاربة يطهون الجراد "كانوا يصطادون كميات كبيرة منه في الموسم ويلقونها، حية وقافزة، في مقلاة من زيت الأركان المغلي". كانت الحشرات "تصفر وتفور حتى تحترق أجنحتها وتُطهى أجسادها بما يكفي". ثم تُصفى وتُقدم، كما كتب رايلي، الذي قارن قوامها ونكهتها بـ "صفار البيض المسلوق". وفقا للسجلات التاريخية، كان بعض المغاربة يخلطون الجراد مع الحليب. في كتابه Insects as Human Food: A Chapter of the Ecology of Man ، ذكر عالم الحشرات فريدريش سيمون بودنهايمر أنه في شمال إفريقيا، كان الجراد، "طازجا أو محفوظا، بعد إزالة الأرجل والأجنحة والرؤوس"، يُشوى، يُغلى، أو حتى يُعد مع الكسكس. كان البعض يجففها حتى في الشمس على الأسطح، ويطحنها إلى أن تصبح مسحوق، و"يخلطها مع الحليب" أو "يعجنها مع الدقيق ويغليها مع الدهون أو الزبدة والملح". وكتب بودنهايمر نقلا عن الكاهن الدومينيكاني الفرنسي في القرن الثامن عشر جان-باتيست لابات، أن "المور كانوا ينتقمون من الجراد بأكله". "كانوا يجمعونه بعناية، ويضعونه في أكياس جلدية، ويطحنونه ويغلوه في الحليب". في بعض مناطق المغرب، كان الجراد يُستهلك مدخنا، كما وصف القنصل الفرنسي في القرن الثامن عشر لويس دي شينييه. وذكر بأن "الجراد المدخن يُجلب بكميات هائلة إلى الأسواق في المغرب". الطريقة المغربية اليهودية لم يكن اليهود المغاربة استثناء فيما يخص استهلاك الجراد، حيث ذكر بودنهايمر أن اليهود المغاربة كانوا يأكلون الجراد الإناث فقط، معتقدين أن "الذكور غير طاهرين" وأن "تحت أجساد الإناث توجد حروف عبرية تجعلها حلالاً". كانت لديهم أيضا طريقتهم الخاصة في الطهي البطيء. كانوا "يملحونها ويحفظونها لاستخدامها مع الطبق المعروف باسم دافينا، الذي يشكل عشاء السبت للسكان اليهود". يتم إعدادا الطبق عن طريق تكديس اللحم، السمك، البيض، الطماطم ومكونات أخرى متنوعة في قدر، ثم يوضع في الفرن ليلة الجمعة. يبقى هناك حتى السبت، مما يضمن وجبة ساخنة دون انتهاك الحظر الديني على إشعال النار في ذلك اليوم. أطول عملية طبخ في الصحراء في الصحراء، كان لدى المغاربة الطريقة الأكثر تفصيلا لطهي الجراد. ووصف البحار الأمريكي أرشيبالد روبينز، الذي تحطمت سفينته قبالة سواحل المغرب في أوائل القرن التاسع عشر وأسر لاحقا من قبل البدو الصحراويين، العملية بالتفصيل. "كانوا يعدونها بحفر حفرة عميقة في الأرض، وإشعال النار في القاع وملئها بالخشب. عندما يتم تسخين الأرض بأقصى قدر ممكن ويتم إزالة الفحم والجمر، كانوا يستعدون لملء التجويف بالجراد الحي، الذي تم الاحتفاظ به في كيس يحتوي على حوالي خمسة بوشل (ما يعادل 36.4 لترا)"، حسب رواية روبينز. كان الجراد يُسكب في الحفرة المسخنة، ويُغطى بسرعة بالرمل لمنع هروبه، ويُشوى تحت نار ثانية. بعد التبريد، كان يجفف في الشمس لعدة أيام، ثم يطحن إلى مسحوق أو يستهلك كاملا بعد إزالة الرأس والأجنحة والأرجل". تمكن المغاربة من تحويل خصمهم الطبيعي إلى مورد غذائي، مسجلين بذلك انتصارا غير متوقع على الأزمات الغذائية. فقد أسهمت وفرة الجراد في الأسواق، باعتباره مصدرا غنيا بالبروتين، في إحداث انفراج اقتصادي مؤقت. ووفقا لشهادات عدد من المسافرين والدبلوماسيين الأجانب، فإن الإقبال على استهلاك الجراد وابتكار وصفات لتحضيره ساعد في تقليص الاعتماد على المؤن التقليدية، مما ساهم في انخفاض أسعار المواد الغذائية الأساسية.


يا بلادي
٢٢-٠٣-٢٠٢٥
- يا بلادي
طبسيل الطاووس: العشق المغربي لخزف إيماري الياباني
DR يُعتبر خزف "الطاووس" من أكثر القطع الثمينة في كل منزل مغربي، حيث تتصدر الأطباق والصحون باللونين الأزرق والأحمر، والمزخرفة بالذهب، والتي تحمل زخارف الطاووس الرمزية، المشهد على الطاولات المغربية خلال شهر رمضان. في المغرب، أصبح هذا الخزف جزءا لا يتجزأ من طقوس الطبخ، والاحتفالات، والديكور المنزلي. وتمتد جذوره إلى تاريخ أعمق، إذ تعود إلى التجارة بين أوروبا والمغرب والشرق الأقصى. الخزف الصيني في العالم الإسلامي قبل ظهور "الطاووس" بشكله الحديث، كان الخزف الشرقي قد اكتسب شهرة واسعة عالميا. وكان الخزف الصيني، على وجه الخصوص، يحظى بتقدير كبير في العالم الإسلامي منذ العصر العباسي، حيث كان مفضلا لدى الحكام والأثرياء. في المغرب، كان الخزف الصيني معروفا بالفعل في زمن الرحالة الشهير ابن بطوطة، الذي أشار إليه خلال زيارته للصين في القرن الرابع عشر. غير أن الهوس الحقيقي بالخزف الصيني كان واضحا بين العثمانيين، الذين جمعوا كميات هائلة منه، مفضلين القطع المزينة بالأزرق والأبيض، وذلك بسبب الحظر الإسلامي على الأكل من الأواني المعدنية النفيسة. يعتقد الباحثان نادية أرزيني وستيفن فيرنوا ، في دراستهما " الخزف الإيماري في المغرب" ، المنشورة في "Muqarnas: An Annual on the Visual Culture of the Islamic World"، أن التأثير العثماني ربما كان الدافع الأول وراء اقتناء المغاربة للخزف الشرقي. ويشير الباحثان إلى أن رحلة الحج وفّرت للمسؤولين والتجار المغاربة فرصة للاطلاع على الثقافة العثمانية، كما لعبت التبادلات الدبلوماسية دورا مهما، حيث دخل المغرب، خلال العهدين السعدي والعلوي، في تجارة مباشرة مع العثمانيين شملت الخزف. وهذا ما يفسر شهادة السفير المغربي أبو الحسن التمكروتي، الذي قاد سفارة إلى السلطان العثماني مراد الثالث، حيث وصف، خلال مأدبة ملكية في قصر البديع بمراكش، تقديم الطعام على "أطباق مذهبة من مالقة وبلنسية، وأطباق رائعة من تركيا والهند [على الأرجح من الشرق الأقصى]. دور التجارة الأوروبية في إدخال الخزف إلى المغرب موقع المغرب الجغرافي سهل التجارة البحرية الأوروبية، التي بدأت في القرن السادس عشر وأدخلت الخزف الصيني عبر التجار البرتغاليين. فقد احتلت البرتغال العديد من الموانئ المغربية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وربما وصلت منتجات الشرق الأقصى إلى المغرب عبر هذه القنوات. تشير الأدلة الأثرية إلى ذلك، حيث كشفت الحفريات في القصر الصغير، وهو ميناء كان تحت السيطرة البرتغالية بين 1458 و1550، عن وجود خزف صيني يعود إلى أوائل القرن السادس عشر، وفقًا لأرزيني وفيرنوا. إلى جانب التأثير العثماني والتجارة البرتغالية مع الصين واليابان، فإن خزف "الطاووس" المعروف اليوم ليس من أصل صيني، بل ياباني. يُعرف باسم "إيماري"، نسبةً إلى ميناء إيماري الذي كان يُصدر منه، وهو نمط من الخزف الياباني الذي أنتج في مقاطعة هيدزن، شمال غرب كيوشو. وصل الخزف الإيماري إلى المغرب في أوائل القرن الثامن عشر، بالتزامن مع توسع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع أوروبا، خصوصا إنجلترا وهولندا. لعب القناصل الإنجليز والهولنديون، لا سيما في تطوان وسلا، دورا مهما في تسهيل هذه التجارة. خلال القرن السابع عشر، كانت شركة الهند الشرقية الهولندية نشطة في تجارة الخزف الشرقي، حيث كان الهولنديون التجار الأوروبيين الوحيدين المسموح لهم بدخول اليابان، مما ساهم في انتشار خزف إيماري في مختلف المناطق، ومنها المغرب. هوس المغاربة بخزف إيماري بحلول القرن الثامن عشر، انتشرت تجارة الخزف الإيماري في المغرب بشكل واسع. وتشير المصادر إلى أن بعثة دبلوماسية بريطانية إلى السلطان إسماعيل عام 1721 قدمت هدية تضمنت ثريا، أقمشة، سكر، وصندوقًا من الخزف الصيني. كما تم تقديم صندوق كبير من الخزف لحاكم تطوان عام 1727، بالإضافة إلى صندوق آخر احتوى على جرار خزفية مملوءة بالحلوى قُدمت للسلطان. بعض هذه القطع لا تزال محفوظة حتى اليوم، حيث تحتوي مجموعات خاصة في تطوان على أطباق إيماري كبيرة من أوائل القرن الثامن عشر. إحدى هذه الصحون، بقطر 53.5 سم، تتميز بحواف مائلة وزخارف مقسمة إلى ثلاثة لوحات، وهي مشابهة تمامًا لصحون موجودة في مجموعة الملكة إليزابيث الثانية. وفقًا للبحث، لم يكن مصطلح "الطاووس" جديدًا على المغاربة، فقد كان خزف إيماري يرتبط بالطائر الأسطوري، الذي غالبا ما كان يُصور على هذه الأواني. تظهر الإشارات إلى "الطاووس" في الوثائق المغربية منذ القرن التاسع عشر. وتوثق سجلات عائلة أرزيني، التي كانت تستورد البضائع من جبل طارق إلى الداخل المغربي، وكذلك أرشيف عائلة كوركوس اليهودية في الصويرة، دخول الخزف عبر موانئ تطوان والصويرة، ثم نقله إلى فاس ومراكش. كان خزف "الطاووس" مطلوبا بشكل خاص من قبل السلطان والعائلة المالكة والمسؤولين الكبار. وتشير السجلات إلى أن الوزير محمد المختار الجامعي طلب ستة أكواب طاووس فاخرة من تاجر يهودي في الصويرة عام 1864. طبسيل الطاووس والشاي يُعد ارتباط الطاووس بالشاي في المغرب واحدا من الجوانب المثيرة للاهتمام في تاريخه، حيث لم يكن مجرد عنصر فاخر اقتنته العائلات الثرية والمسؤولون، بل كان جزءًا لا يتجزأ من ازدهار تجارة الشاي في القرن التاسع عشر. تشير سجلات عائلة إرزيني من عام 1855-1856 إلى استيراد عشرات أكواب الشاي من الشرق الأقصى، بما في ذلك مجموعة خاصة أُشتريت لأحد الوزراء. كما ورد في وثائق عام 1864 أن محمد المختار الجامعي، الذي أصبح لاحقًا الوزير الأعظم، طلب ستة أكواب طاوس فائقة الجودة من التاجر اليهودي أبراهام كوركوس في الصويرة. كانت هذه الواردات تشمل أطقمًا من الأكواب، الأطباق، السلطانيات، والجرار المزودة بأغطية. لكن ما يجعل قصة طاوس أكثر إثارة هو علاقته غير المتوقعة بتجارة الشاي. فمع تزايد الطلب على الشاي في المغرب خلال القرن التاسع عشر، زادت أيضا واردات خزف إيماري. ويرجع ذلك إلى أن السفن القادمة من الشرق الأقصى كانت تحمل الصناديق الخزفية أسفل حاويات الشاي، حيث كان الخزف مادة عديمة الرائحة، ما يساعد في الحفاظ على نكهة الشاي وحمايته من التلف الناتج عن الرطوبة. ظل خزف إيماري الصيني، إلى جانب تقليده، يحظى بمكانة مرموقة بين المغاربة، حتى في القرن العشرين، حيث أصبحت الخزائن الزجاجية في المنازل المغربية أماكن عرض لأطقم الطاووس الفاخرة. كما ظل استخدامه أمرا ضروريا في تجهيزات الموائد المغربية خلال المناسبات الخاصة، مثل حفلات الزفاف. واليوم، يتم إنتاج نسخ مقلدة من خزف إيماري بكميات كبيرة في كل من الصين والمغرب، وغالبا ما تحمل تصميم الطاووس وحتى كلمة "طاووس" منقوشة على ظهر الأطباق، مما يؤكد استمرار تأثير هذا التراث العريق في الثقافة المغربية.