logo
قلوب واجفة وأكف مرفوعة.. مشاهد من يوم عرفة

قلوب واجفة وأكف مرفوعة.. مشاهد من يوم عرفة

الجزيرةمنذ 2 أيام

مكة المكرمة ـ مع إشراقة شمس يوم التاسع من ذي الحجة، تدفقت جموع الحجيج إلى صعيد عرفات ، متوشحين البياض، ومرددين التلبية وقلوبهم خاشعة، وألسنتهم تلهج بالدعاء في أعظم يوم في أيام الدنيا.
منذ ساعات الصباح الأولى، اكتسى جبل عرفات ومحيطه بحشود الحجاج الذين انتشروا في كل الأرجاء، بين من اتخذ ظلال الأشجار وخيام الحملات مكانا للدعاء، ومن اعتلوا الجبل أو افترشوا الأرض يرفعون أكفهم إلى السماء، مستحضرين ذنوبهم وأمانيهم وآمالهم، في موقف تتجلى فيه المساواة بين البشر، لا فرق بين غني وفقير، أو عربي وعجمي إلا بالتقوى.
دموع ومناجاة
على سفح الجبل، وقفت الحاجة فاطمة من المغرب وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وقالت للجزيرة نت "كنت أظن أنني سأبكي يوم أرى الكعبة، لكن اليوم قلبي يكاد ينفطر من رهبة هذا المكان.. أشعر أني بين يدي الله". وأضافت أن أكثر دعواتها كانت أن يغفر الله لها ولأهلها، وأن يرفع الظلم عن المظلومين في كل مكان.
أما الحاج محمد من السودان فكان جالسا على صخرة في منتصف الجبل، يردد بصوت خافت دعاء مأثورا عن النبي صلى الله عليم وسلم، ثم يجهش بالبكاء. قال لنا "في هذا المكان نُبعث، وهنا نسأل الله العفو والرحمة.. دعوت لأولادي وأهلي وللسودان أن يحقن الله دمه ويرفع عنه الكرب".
أجواء روحانية مميزة
مع ارتفاع درجات الحرارة، كانت رياح خفيفة تنعش الأجواء بين الفينة والأخرى وكأنها رسائل رحمة من السماء، في حين انتشرت فرق المتطوعين والإسعاف لتقديم المياه والمساعدات الطبية، وحرص رجال الأمن على تنظيم الحشود وتوجيههم بسلاسة نحو أماكن الوقوف والخروج.
إعلان
رائحة المسك والعطور كانت تعبق في الأجواء، حيث عمد كثير من الحجاج إلى رش خيامهم وثيابهم، بينما علا صوت المآذن بالتكبير والدعاء، وامتزج بصدى التلبية القادمة من الحناجر المتنوعة في لغاتها والموحدة في مقصدها "لبيك اللهم لبيك".
وفي خيمتها القريبة من جبل الرحمة، قالت الحاجة رنا من فلسطين إنها خصّت دعاءها هذا العام لأهل غزة، ورفعت كفيها باكية وهي تقول "دعوت الله أن يرحم الشهداء، وأن يُنقذ الأطفال.. والله إن القلب ليتفطر ولا نملك إلا الدعاء".
أما الحاج عبد الله من إندونيسيا فقال "لم أتصور أن أقف على جبل عرفات يوما، وقد دعوت الله أن يبلغني الحج عن والدتي المريضة، وأن يعمّ السلام العالم الإسلامي". وأضاف أن التنظيم ساعده كثيرا على أداء نسكه رغم كبر سنه.
منصة المناسك
ولأول مرة، بثت بعض الحملات عبر تقنيات الواقع الافتراضي مشاهد مباشرة من عرفات لعائلات الحجاج حول العالم، مما أضفى بعدا وجدانيا فريدا، خاصة لأولئك الذين لم يتمكنوا من الحج.
وقدّم بعض الدعاة كلمات توجيهية من على المنصات المنتشرة على صعيد عرفات، مذكرين الحجاج بفضل هذا اليوم وأهمية الإكثار من الدعاء، خصوصا عند الزوال، حيث تتوجه القلوب بكاملها إلى الله، في لحظة لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر.
ومع غروب الشمس، تهيأت الجموع للنفرة إلى مزدلفة بهدوء وتنظيم على وقع الدعاء والتكبير. وبينما كانت الشمس تغيب خلف الأفق، كان الحجاج يودعون عرفات بقلوب ممتلئة بالرجاء بأن يكونوا من الذين غُفر لهم وعُتقوا من النار.
في هذا اليوم، تبدو الدنيا كلها وقد اجتمعت في مكان واحد، وقد نسيت مشاغلها ومظاهرها، لتقف أمام الله بقلوب خاشعة، تسأله المغفرة والقبول. مشهد يعكس عظمة الشعيرة، وعمق الإيمان، وصدق التوجه في يوم عرفة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

كيف تعيد شعائر الحج بناء الأمة وتذيب خلافاتها؟
كيف تعيد شعائر الحج بناء الأمة وتذيب خلافاتها؟

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

كيف تعيد شعائر الحج بناء الأمة وتذيب خلافاتها؟

لا تُختزل عشر ذي الحجة في كونها تمهيدًا ليوم النحر، بل هي فضاء زماني موصول بالقداسة والتكليف، تفتح أمام الأمة أبوابًا استثنائية للتجديد الروحي والنهضوي. وقد رفع الله شأنها في كتابه الكريم بقَسَمه الجليل: {والفجر وليالٍ عشرٍ} [الفجر: 1–2]، وهو قسم لا يأتي إلا لما هو عظيم الشأن، عميق الأثر، وأجمع المفسرون على أن هذه الليالي هي عشر ذي الحجة، التي تُعدّ من أعظم الأزمنة منزلةً في ميزان الشرع. ولعل من أبرز خصائصها أنها: أيام التفضيل المطلق: فقد ثبت عن النبي ﷺ قوله: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"…، وهو تصريح نبوي يضع هذه العشر في صدارة فرص العمر للتزود الإيماني والسمو الأخلاقي. ملتقى أركان الإسلام العملية: ففيها تجتمع الشهادتان (تجديدًا للنية والولاء)، والصلاة (وهي الحبل اليومي بالله)، والزكاة (من خلال الهدي والنحر)، والصيام (لا سيما يوم عرفة)، والحج (ذروة السنام). وفي ظل عالم يموج بالاستقطابات السياسية، والانقسامات المذهبية، والتشرذم الجغرافي، تتقدم فريضة الحج كمعجزة توحيدية متجددة، ومشهد حيّ لتجسيد وحدة الأمة. إنها ليست مجرد عبادة طقسية، بل هي ورشة عمل كونية تُعيد عبرها الأمة اكتشاف ذاتها، وترميم مفهومها الحضاري المشترك، بعيدًا عن الهويات الضيقة والنزاعات المصطنعة. يتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة أولًا: الحج هو تجسيد حي لوحدة الأمة المفتقَدة يُعد الحج في جوهره أكثر من مجرد أداء شعائر مفروضة؛ إنه تجسيد عملي ومعنوي لوحدة الأمة الإسلامية في أبهى صورها، تلك الوحدة التي باتت في واقعنا المعاصر مطلبًا غائبًا وأملًا مؤجلًا. ففي مشهد يوم عرفة، يقف ملايين الحجاج على صعيد واحد، بلباس واحد، في زمان ومكان موحدين، مجرَّدين من كل امتياز دنيوي. وقد جسَّد النبي ﷺ هذه المعاني في خطبة الوداع حين قال "يا أَيها النّاس: إن ربكم واحد، وإنّ أَباكم واحد، أَلا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قَال: فليُبلّغ الشاهد الغائب" (أخرجه البيهقي). هذا الإعلان النبوي ليس مجرد خطاب ديني فحسب، بل هو إعلان عالمي للمساواة الإنسانية وتحييد الهويات القومية والطبقية لصالح الهوية الإيمانية الجامعة. وتأتي رمزية الإحرام لتُعزز هذا المعنى؛ فالتجرد من اللباس المخيط، وتجرد القلب من التعلقات الدنيوية، يوحد الجميع أمام الله في شعيرة تؤسس للمساواة، لا كشعار بل كواقع معيش. ويوم عرفة ذاته هو يوم التأسيس الشرعي للعدالة الاجتماعية والحقوقية، كما أكده الرسول ﷺ في خطبته العظيمة، التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله عليه الصلاة والسلام فيها: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت". ويتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات بين الفصائل الإسلامية المتنازعة، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة، في مشهد يتجاوز الحواجز النفسية والتاريخية بين الفرقاء. ولعل في شعيرة التكبير الجماعي، الذي يتردد في أرجاء الحرم، تذكيرًا بوحدانية الله التي هي أصل الدين، ووحدة الكلمة التي ينبغي أن تسري في الأمة. وقد أشار الإمام القرطبي إلى هذه المعاني في تفسيره لقول الله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم…}، معتبرًا أن التكبير في أيام الحج شعيرة ظاهرة، تُعيد ضبط البوصلة العقدية والاجتماعية للأمة. ويمكن البناء على هذه الرمزية لتأسيس برامج توعوية جماعية في أيام عشر ذي الحجة، تُبثّ في المساجد والساحات ومنصات التواصل، لخلق شعور جمعي بالانتماء الإسلامي يتجاوز النزعات الإقصائية المُمَنهجة إعلاميًّا. كما يمكن تطوير مؤسسات الأضاحي في المملكة لتكون أداة إغاثية إستراتيجية تُرسل لحظيًّا إلى بؤر الأزمات والمجاعات في العالم الإسلامي، كفلسطين واليمن والسودان وغيرها من البلدان الإسلامية، بما يُعيد صياغة الشعيرة كجسر عملي للتكافل والتلاحم. ثم يأتي الطواف حول الكعبة، لا كحركة جسدية فحسب، بل كرمز للانضباط الكوني الدائم، واتساق حركة العابد مع حركة الملائكة حول البيت المعمور، كما أوضح الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، حين بيَّن أن الطواف ليس حركة البدن حول البيت، بل طواف القلب حول رب البيت! إنه تعبير عن مركزية الله في الوجود، ومركزية القيم العليا في نظام الأمة. إن الحج، بهذا المعنى المركّب، يُعلّمنا أن المقاصد أسبق من الأشكال، والمعاني أعمق من الحركات؛ فهو نموذج للديناميكية الجماعية التي يمكن استلهامها لتوحيد جهود الأمة، لا في مجال العبادة فحسب، بل في إطلاق مشروعات إستراتيجية مشتركة في مجالات التعليم، والاقتصاد، والصناعة، والدفاع، بروح التكامل لا التنافس، وبمنطق البناء لا التفكك. مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري ثانيا: دور روحانية الحج في معالجة أزمات الواقع مواجهة التفرقة السياسية: يُستلهَم من مشهد الوقوف بعرفة نموذجٌ وحدوي فريد، تتلاشى فيه الفوارق الطبقية والسياسية، حيث لا تعلو سلطة على الجميع إلا سلطة الشريعة، بما يُشكّل دلالة رمزية على أولوية المرجعية الشرعية فوق كل مرجعية بشرية. ومن ثمّ، يُعدّ هذا المشهد تجريدًا عمليًّا لشرعية الأنظمة التي تُكرّس التفرقة والتمزق بين المسلمين. تجسير الهوة المذهبية: يُقدِّم الحج نموذجًا عمليًّا للتعايش المذهبي، حيث يُمارس كل حاجٍّ عبادته وفق مذهبه دون نزاع، ما يؤسس لإمكان تعميم هذا النموذج في المجال العام، كصيغة وحدة في ظل التنوع. مكافحة العنصرية والطبقية: يُجسِّد الإحرام وحدة المظهر والمقصد، مانحًا الإنسان قيمته بمعيار التقوى لا النسب أو المال، بما يُلغي الطبقية ويمحو الحدود العرقية في الوعي الجمعي. بناء منصات حوار دائمة: استلهامًا من لقاءات منى وعرفة، يُقترح تأسيس هيئة فكرية دائمة تجمع علماء الأمة ومفكريها، لتكون منبرًا للتشاور في قضايا المسلمين وتوليد حلول مشتركة. رسالة سلام عالمية: الحج إعلان سنوي لقدرة الإسلام على صناعة مشهد إنساني جامع، تتعايش فيه ملايين النفوس بسلام رغم التوترات الجيوسياسية المحيطة. تجديد الهوية: في مواجهة ضغوط الذوبان الثقافي، يُعيد الحج ترسيخ هوية المسلم كعضو في أمة تتجاوز القوميات والهويات القُطرية، مستندة إلى وحدة العقيدة والقبلة. قوة الروح: تحمُّل ملايين الحجاج مشاقَّ المناسك شهادة عملية على الطاقة الروحية الكامنة في الإيمان، وقدرته على تجاوز حدود الجسد والنفس. حوار الحضارات: يُمثل الحج ملتقى حضاريًّا فريدًا، تتفاعل فيه ثقافات وأعراق متعددة ضمن أجواء من الاحترام والتلاقي، حول مقصد روحي موحد. المشهد الكوني: مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري (يا بني آدم) وقدرة الإسلام على جمع الشتات تحت مظلة التوحيد. محو الفوارق: ينصهر الجميع في الحج دون امتيازات؛ لا تمييز بين حاكم ومحكوم، غني وفقير، ذكر وأنثى، في مشهد نادر للمساواة المطلقة أمام الله. التضامن والتعاون: يتجلى التكافل الاجتماعي في الحج بشكل عملي، من مشاركة الماء والطعام، إلى مساعدة الضعيف والمرهق، إلى إرشاد التائه.. إنها مدرسة عملية في التعايش السلمي والإيثار والرحمة. في زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك كما أن الحج، بمناسكه المنظّمة، يشكّل دستورًا روحيًّا عمليًّا يصل العبد بربّه، فإنه يُمثّل أيضًا دستورًا اجتماعيًّا ضمنيًّا لإعادة تشكيل وعي الأمة وتحصين وحدتها. إعلان إن التغافل عن الرسائل التوحيدية العميقة التي يتضمنها الحج، يُعدّ تفريطًا سنويًّا في أكبر فرصة إصلاحية شاملة تُمنَح للأمة عبر مشهد حي وواقعي؛ فالحج ليس طقسًا عابرًا يُختتم بذبح الهدي، بل هو مؤتمر تأسيسي سنوي يعيد التأكيد على مركزية الكعبة، ووحدة القبلة كرمزية لوحدة المصير. وفي زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك.. تلك بعض الرسالة الكونية للحج، فهل نستجيب لندائها؟

في الحج.. نهوض الأمة بالحياة كلها إلى الله أسوة برحلة الحج
في الحج.. نهوض الأمة بالحياة كلها إلى الله أسوة برحلة الحج

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

في الحج.. نهوض الأمة بالحياة كلها إلى الله أسوة برحلة الحج

الحج منهج حياة لا موسم عبادة فقط؛ فهو ليس مجرد شعيرة وطقوس ومناسك وأعمال بدنية حركية، بل مدرسة عظيمة تعلمنا كيف نبني أهدافنا في الحياة، وكيف نرتّب أولوياتنا، وكيف نتحرك نحوها بخطى ثابتة وزادٍ كافٍ ونفس متجردة؛ إنه نموذج حي لكيفية صنع القصد والتوجه الصحيح، وكيفية إدارة الحياة بكفاءة. معنى الحج وارتباطه بالواقع الشامل الدائم للحياة المعنى العام للحج: هو القصد والتوجّه والنية نحو الغاية العظمى والأهداف الصحيحة. المعنى الخاص للحج: تمثله رحلة الحج كنموذج للحج؛ بالقصد والتوجه إلى بيت الله الحرام لتحقيق فريضة وركن من أركان الإسلام الخمسة، هو نموذج عملي لكيفية توجه الإنسان بحياته كلها إلى الله تعالى. أعمال الحج كلها برنامج شامل يوضح متطلبات ومهارات ومراحل بناء الحياة بكل تفاصيلها، ويربي على تحقيق الأهداف بطريقة جماعية عالمية، ضمن أمة واحدة لا فرق فيها بين أعجمي وعربي، ولا بين أبيض وأسود أعمال الحج تعلم كيفية إدارة كل شؤون الحياة الحج يعلّم المسلم كيف يخطط ويعمل ويوفر متطلبات الحياة بأموال حلال، وكيف يتزود بالزاد المعين من العلم والتقوى والرفقة الصالحة (توفير نفقات ومتطلبات الحج)؛ وكيف يقرر الوجهة والقصد ويحدد موعد الانطلاق (أشهر الحج)؛ وكيف يقرر البداية ويبدأ بالنية والتطهر، ويحَّرم على نفسه ما حرمه الله تعالى، وينفك عن الدنيا ويتخلص من العادات والمألوفات (النية والإحرام)؛ وكيف يمارس التلبية والاستجابة الكاملة لله، تعالى، والخضوع الكامل له وحده بلا شريك ولا أغراض دنيوية (التلبية: لبيك اللهم لبيك)؛ وكيف يخرج وينطلق ويسير في الطريق الموصل، وكيف يحسن التعرف على الأماكن والمواقيت (الالتزام بالمواقيت). الحج يربي على كيفية تحقيق الأركان وتنفيذ الخطة المحددة وفق النظام، وذلك من خلال: تكرار التمحور نحو الهدف المقصود عبر الطواف بأشواط عديدة (الطواف حول الكعبة). ثم استمداد مصادر الخير والصلاح والنهل من منابع البركات (الشرب من زمزم). ثم السعي وبذل الجهد والطاقة لأشواط عديدة لاستجلاب العون ممن يملك العون سبحانه؛ ببذل الجهد العملي المتكرر في دروب الحياة، والأمل الدائم المقرون بالحركة حتى الوصول للمبتغى (السعي بين الصفا والمروة). ثم التروية للجسد والروح للتمكن من استكمال الرحلة والمسير؛ بالاستعداد الذهني والروحي والجسمي لبذل أقصى الطاقات (يوم التروية بمنى). ثم الوقوف لتجديد المعرفة والتعرف والمراجعة والمحاسبة لتجديد التوبة وفتح صفحة جديدة (الوقوف بعرفة). ثم النفير للازدلاف والتقرب إلى الله تعالى (المبيت بمزدلفة). ثم الانطلاق لتحقيق المنى والأماني؛ برجم الشر ورأس الفتنة ومصدر المهددات، والتخلص من العقبات بمراحلها الثلاث، الصغرى والوسطى والكبرى (رمي الجمرات بمنى). وتعلم التضحية والفداء بالنفس والأبناء في سبيل المبادئ؛ بالإقامة في المكان الذي استعد فيه الابن للذبح وأطاع الأب واستجابت الأم واتفقت الأسرة كلها على أمر الله تعالى (الإقامة في منى يومين أو ثلاثة). وذبح الأنانية والانحراف والخلل، والتضحية بالشهوات التي تعيق السير في الطريق، والتضحية بالمال لله (ذبح الهدي). والتخلص من بعض المظاهر الشكلية والزينة الزائفة، التي كثيرًا ما تعيق عن المسير (حلق الشعر). محطة للترويح وتجديد النشاط؛ للانطلاق إلى مرحلة جديدة بعد غسل الروح وتجديد العهد مع الله تعالى (التحلل من الإحرام). الحج مدرسة كبيرة تعلم الأمة كلها، وتصنع القادة الكبار، وهذا يتطلب بذل الجهود من الإعلام ومناهج التعليم والآباء والأمهات والمربين، لترسيخ التربية على معاني الحج ودروسه في بناء الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والعالم، لتكون حياتهم كلها لله الحج نموذج حضاري كامل أعمال الحج كلها برنامج شامل يوضح متطلبات ومهارات ومراحل بناء الحياة بكل تفاصيلها، ويربي على تحقيق الأهداف بطريقة جماعية عالمية، ضمن أمة واحدة لا فرق فيها بين أعجمي وعربي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين قائد وجندي، أو وزير وغفير، أو عالم وعامي.. أمة واحدة بغاية واحدة، بأهداف مشتركة واحدة، وبوصلة واحدة؛ تعظم الشعائر، وترتبط بالمشاعر، وتشهد المنافع، وتعتمر لتعمر النفوس وتعمر بيت الله الحرام وتعمر الأرض كلها بمنهج الله تعالى. الحج مدرسة كبيرة تعلم الأمة كلها، وتصنع القادة الكبار، والأطفال الصغار، والرجال والنساء القاصدين الله، العاملين له، المضحين من أجله، الراسخين في الطريق نحوه سبحانه. وهذا يتطلب بذل الجهود من الإعلام ومناهج التعليم والآباء والأمهات والمربين، لترسيخ التربية على معاني الحج ودروسه في بناء الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والعالم، لتكون حياتهم كلها لله؛ بدوام قصده، والعمل بمنهجه، ونصرة دينه، والحج إليه سبحانه.

في رحاب آيات الحج والبيت الحرام
في رحاب آيات الحج والبيت الحرام

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

في رحاب آيات الحج والبيت الحرام

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} وصف الله تعالى البيت الحرام بالمثابة التي يعود إليها الناس مرارًا وتكرارًا.. وبالأمن، حيث يأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [سورة البقرة: 125]. يعني: اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي صيرناه لهم، والمراد به الكعبة لأنّها بيت الله، عزّ وجل، وأتى هنا بـ"الـ" التفخيم والتعظيم، يعني: البيت المعهود الذي لا يُجهل (قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين، ص 61). وسمّيت الكعبة بذلك لتكعيبها، أي تربيعها وارتفاعها ونتوئها، وارتفاع ذكرها في الدنيا واشتهار أمرها في العالم، ولذلك يقولون لمن عظم أمره: فلان علا كعبه (بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبدالله، ص 30). وقد ذكر الله، سبحانه وتعالى، في كتابه الكريم عدة أسماء للكعبة، ومن هذه الأسماء: البيت العتيق، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وذُكرت في تسميته بالبيت العتيق عدة أسباب منها: لأنَّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة. أنَّ العتيق بمعنى القديم. أنّه لم يُملك قط. لأنّه أعتق من الغرق زمن الطوفان (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، ص 243). سمّيت مكة بأم القرى لتقدمها على سائر القرى، وسميت بذلك لأنَّ الأرض منها دحيت وعنها حدثت، فصارت أمًا لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه. وسمّيت كذلك بالبلد الأمين: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} وسمّيت مكة ببكة، حيث قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ..}، وفي سبب التسمية ذكر العلماء أقوالًا منها: إعلان لازدحام الناس عندها، والمعنى هو الزحم، إذ يُقال: بَكَّ فلان فلانًا إذا زحمه وصدمه، فهو يبكه بكًّا، وسميت البقعة بفعل المزدحمين بها (زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، 1/344). لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة، أي تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله (تفسير ابن كثير، 2/57). لأنّها تقع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل أي وضعت منه، ووردت نخوته، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها (زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، 1/343). ومن أسمائها المسجد الحرام؛ قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ]البقرة:144[ (بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص31). ومن أسمائها أم القرى؛ لشرفها وعلو كعبها على باقي القرى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]. وسمّيت بأم القرى لتقدمها على سائر القرى، وسميت بذلك لأنَّ الأرض منها دحيت وعنها حدثت، فصارت أمًا لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه. وسمّيت كذلك بالبلد الأمين: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (ملة أبيكم إبراهيم، المرسومي، ص 186). {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}: أي مرجعًا ومعادًا، كلما انصرفوا منه اشتاقوا إليه، فعادوا وثابوا إليه في الحج والعمرة والعبادة؛ فلا ينقضي منه الوطر ولا تشبع منه النفوس، ويثوبون إليه أيضًا في الصلاة بقلوبهم، ويتوجهون إليه بأجسادهم، ويتذكرونه في كل يوم وليلة (تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص 217). ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}: "تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة، بيت مأخوذ من البيتوتة، وهو المأوى الذي تأوي إليه، وتسكن فيه وتستريح، وتكون فيه زوجتك وأولادك، ولذلك سّميت الكعبة بيتًا؛ لأنّها المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله، ومثابة يعني مرجعًا تذهب إليه وتعود، ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يجب أن يرجع مرات ومرات، إذن فهو مثابة؛ لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربّه، وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته (تفسير الشعراوي، 1/575). تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن، ولا تتذكر أولادك ولا شؤون دنياك، ولو ظلت جاذبية بيت الله تعالى في قلوب الناس مستمرة؛ لتركوا كل شؤون دنياهم ليبقوا بجوار البيت، ولذلك كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حريصًا على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة. ومن رحمة الله سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه؛ لأنَّ الحجيج كلما كربهم شيء أو همهم شيء توجهوا إلى ربّهم وهم في بيته، فيذهب عنهم الهمّ والكرب، ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37].. أفئدة وليست أجسامًا، وتهوي: أي يلقون أنفسهم إلى البيت. إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله؛ ليمحو، الله سبحانه، ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة (تفسير الشعراوي، 1/576). و{أَمْنًا}: أي جعلناه آمنًا يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم، ويأمن فيه حتى الصيد والأشجار أن تقطع، وهو محل آمن لمن يسكنه، وكان الرجل في الجاهلية يرى قاتل أبيه وأخيه في الحرم، فلا يتعرض له، وكانوا لا يُغيرون على مكة مع شركهم، ولأجل توفير الأمن فيه نهى النبي- صلّى الله عليه وسلّم- عن حمل السلاح في مكة المكرمة فقال: لا يُحمل فيها سلاح لقتال (صحيح مسلم، رقم: 1374) (تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص217).

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store