
كيف تعيد شعائر الحج بناء الأمة وتذيب خلافاتها؟
لا تُختزل عشر ذي الحجة في كونها تمهيدًا ليوم النحر، بل هي فضاء زماني موصول بالقداسة والتكليف، تفتح أمام الأمة أبوابًا استثنائية للتجديد الروحي والنهضوي.
وقد رفع الله شأنها في كتابه الكريم بقَسَمه الجليل: {والفجر وليالٍ عشرٍ} [الفجر: 1–2]، وهو قسم لا يأتي إلا لما هو عظيم الشأن، عميق الأثر، وأجمع المفسرون على أن هذه الليالي هي عشر ذي الحجة، التي تُعدّ من أعظم الأزمنة منزلةً في ميزان الشرع. ولعل من أبرز خصائصها أنها:
أيام التفضيل المطلق: فقد ثبت عن النبي ﷺ قوله: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"…، وهو تصريح نبوي يضع هذه العشر في صدارة فرص العمر للتزود الإيماني والسمو الأخلاقي.
ملتقى أركان الإسلام العملية: ففيها تجتمع الشهادتان (تجديدًا للنية والولاء)، والصلاة (وهي الحبل اليومي بالله)، والزكاة (من خلال الهدي والنحر)، والصيام (لا سيما يوم عرفة)، والحج (ذروة السنام).
وفي ظل عالم يموج بالاستقطابات السياسية، والانقسامات المذهبية، والتشرذم الجغرافي، تتقدم فريضة الحج كمعجزة توحيدية متجددة، ومشهد حيّ لتجسيد وحدة الأمة.
إنها ليست مجرد عبادة طقسية، بل هي ورشة عمل كونية تُعيد عبرها الأمة اكتشاف ذاتها، وترميم مفهومها الحضاري المشترك، بعيدًا عن الهويات الضيقة والنزاعات المصطنعة.
يتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة
أولًا: الحج هو تجسيد حي لوحدة الأمة المفتقَدة
يُعد الحج في جوهره أكثر من مجرد أداء شعائر مفروضة؛ إنه تجسيد عملي ومعنوي لوحدة الأمة الإسلامية في أبهى صورها، تلك الوحدة التي باتت في واقعنا المعاصر مطلبًا غائبًا وأملًا مؤجلًا. ففي مشهد يوم عرفة، يقف ملايين الحجاج على صعيد واحد، بلباس واحد، في زمان ومكان موحدين، مجرَّدين من كل امتياز دنيوي.
وقد جسَّد النبي ﷺ هذه المعاني في خطبة الوداع حين قال "يا أَيها النّاس: إن ربكم واحد، وإنّ أَباكم واحد، أَلا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قَال: فليُبلّغ الشاهد الغائب" (أخرجه البيهقي).
هذا الإعلان النبوي ليس مجرد خطاب ديني فحسب، بل هو إعلان عالمي للمساواة الإنسانية وتحييد الهويات القومية والطبقية لصالح الهوية الإيمانية الجامعة.
وتأتي رمزية الإحرام لتُعزز هذا المعنى؛ فالتجرد من اللباس المخيط، وتجرد القلب من التعلقات الدنيوية، يوحد الجميع أمام الله في شعيرة تؤسس للمساواة، لا كشعار بل كواقع معيش.
ويوم عرفة ذاته هو يوم التأسيس الشرعي للعدالة الاجتماعية والحقوقية، كما أكده الرسول ﷺ في خطبته العظيمة، التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله عليه الصلاة والسلام فيها: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت".
ويتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات بين الفصائل الإسلامية المتنازعة، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة، في مشهد يتجاوز الحواجز النفسية والتاريخية بين الفرقاء.
ولعل في شعيرة التكبير الجماعي، الذي يتردد في أرجاء الحرم، تذكيرًا بوحدانية الله التي هي أصل الدين، ووحدة الكلمة التي ينبغي أن تسري في الأمة.
وقد أشار الإمام القرطبي إلى هذه المعاني في تفسيره لقول الله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم…}، معتبرًا أن التكبير في أيام الحج شعيرة ظاهرة، تُعيد ضبط البوصلة العقدية والاجتماعية للأمة.
ويمكن البناء على هذه الرمزية لتأسيس برامج توعوية جماعية في أيام عشر ذي الحجة، تُبثّ في المساجد والساحات ومنصات التواصل، لخلق شعور جمعي بالانتماء الإسلامي يتجاوز النزعات الإقصائية المُمَنهجة إعلاميًّا.
كما يمكن تطوير مؤسسات الأضاحي في المملكة لتكون أداة إغاثية إستراتيجية تُرسل لحظيًّا إلى بؤر الأزمات والمجاعات في العالم الإسلامي، كفلسطين واليمن والسودان وغيرها من البلدان الإسلامية، بما يُعيد صياغة الشعيرة كجسر عملي للتكافل والتلاحم.
ثم يأتي الطواف حول الكعبة، لا كحركة جسدية فحسب، بل كرمز للانضباط الكوني الدائم، واتساق حركة العابد مع حركة الملائكة حول البيت المعمور، كما أوضح الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، حين بيَّن أن الطواف ليس حركة البدن حول البيت، بل طواف القلب حول رب البيت! إنه تعبير عن مركزية الله في الوجود، ومركزية القيم العليا في نظام الأمة.
إن الحج، بهذا المعنى المركّب، يُعلّمنا أن المقاصد أسبق من الأشكال، والمعاني أعمق من الحركات؛ فهو نموذج للديناميكية الجماعية التي يمكن استلهامها لتوحيد جهود الأمة، لا في مجال العبادة فحسب، بل في إطلاق مشروعات إستراتيجية مشتركة في مجالات التعليم، والاقتصاد، والصناعة، والدفاع، بروح التكامل لا التنافس، وبمنطق البناء لا التفكك.
مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري
ثانيا: دور روحانية الحج في معالجة أزمات الواقع
مواجهة التفرقة السياسية: يُستلهَم من مشهد الوقوف بعرفة نموذجٌ وحدوي فريد، تتلاشى فيه الفوارق الطبقية والسياسية، حيث لا تعلو سلطة على الجميع إلا سلطة الشريعة، بما يُشكّل دلالة رمزية على أولوية المرجعية الشرعية فوق كل مرجعية بشرية.
ومن ثمّ، يُعدّ هذا المشهد تجريدًا عمليًّا لشرعية الأنظمة التي تُكرّس التفرقة والتمزق بين المسلمين.
تجسير الهوة المذهبية: يُقدِّم الحج نموذجًا عمليًّا للتعايش المذهبي، حيث يُمارس كل حاجٍّ عبادته وفق مذهبه دون نزاع، ما يؤسس لإمكان تعميم هذا النموذج في المجال العام، كصيغة وحدة في ظل التنوع.
مكافحة العنصرية والطبقية: يُجسِّد الإحرام وحدة المظهر والمقصد، مانحًا الإنسان قيمته بمعيار التقوى لا النسب أو المال، بما يُلغي الطبقية ويمحو الحدود العرقية في الوعي الجمعي.
بناء منصات حوار دائمة: استلهامًا من لقاءات منى وعرفة، يُقترح تأسيس هيئة فكرية دائمة تجمع علماء الأمة ومفكريها، لتكون منبرًا للتشاور في قضايا المسلمين وتوليد حلول مشتركة.
رسالة سلام عالمية: الحج إعلان سنوي لقدرة الإسلام على صناعة مشهد إنساني جامع، تتعايش فيه ملايين النفوس بسلام رغم التوترات الجيوسياسية المحيطة.
تجديد الهوية: في مواجهة ضغوط الذوبان الثقافي، يُعيد الحج ترسيخ هوية المسلم كعضو في أمة تتجاوز القوميات والهويات القُطرية، مستندة إلى وحدة العقيدة والقبلة.
قوة الروح: تحمُّل ملايين الحجاج مشاقَّ المناسك شهادة عملية على الطاقة الروحية الكامنة في الإيمان، وقدرته على تجاوز حدود الجسد والنفس.
حوار الحضارات: يُمثل الحج ملتقى حضاريًّا فريدًا، تتفاعل فيه ثقافات وأعراق متعددة ضمن أجواء من الاحترام والتلاقي، حول مقصد روحي موحد.
المشهد الكوني: مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري (يا بني آدم) وقدرة الإسلام على جمع الشتات تحت مظلة التوحيد.
محو الفوارق: ينصهر الجميع في الحج دون امتيازات؛ لا تمييز بين حاكم ومحكوم، غني وفقير، ذكر وأنثى، في مشهد نادر للمساواة المطلقة أمام الله.
التضامن والتعاون: يتجلى التكافل الاجتماعي في الحج بشكل عملي، من مشاركة الماء والطعام، إلى مساعدة الضعيف والمرهق، إلى إرشاد التائه.. إنها مدرسة عملية في التعايش السلمي والإيثار والرحمة.
في زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك
كما أن الحج، بمناسكه المنظّمة، يشكّل دستورًا روحيًّا عمليًّا يصل العبد بربّه، فإنه يُمثّل أيضًا دستورًا اجتماعيًّا ضمنيًّا لإعادة تشكيل وعي الأمة وتحصين وحدتها.
إعلان
إن التغافل عن الرسائل التوحيدية العميقة التي يتضمنها الحج، يُعدّ تفريطًا سنويًّا في أكبر فرصة إصلاحية شاملة تُمنَح للأمة عبر مشهد حي وواقعي؛ فالحج ليس طقسًا عابرًا يُختتم بذبح الهدي، بل هو مؤتمر تأسيسي سنوي يعيد التأكيد على مركزية الكعبة، ووحدة القبلة كرمزية لوحدة المصير.
وفي زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك.. تلك بعض الرسالة الكونية للحج، فهل نستجيب لندائها؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
غزة والمسجد الأقصى في صدارة خطب العيد بعدة دول عربية
اشتملت خطب عيد الأضحى في عدة دول عربية، اليوم الجمعة، على دعوات صادقة لدعم الفلسطينيين في قطاع غزة وتحرير المسجد الأقصى ، في ظل استمرار الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق سكان القطاع للشهر الـ20 على التوالي. وجاء ذلك في خطب رصدتها وكالة الأناضول في كل من السعودية وقطر وسلطنة عُمان ومصر والجزائر والأردن. قطر شهد مصلى لوسيل حضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ووزير الخارجية محمد بن عبدالرحمن آل ثاني خلال صلاة عيد الأضحى، حيث دعا الخطيب يحيى النعيمي إلى نصرة غزة وتحرير المسجد الأقصى. وقال النعيمي في خطبته: "هذا العيد المبارك جعله الله يوم ذكر وفرح وسرور؛ يوم تتحرر فيه النفوس من الشهوات والملذات، والقلوب من الكذب والنفاق، والصدور من الشحناء". وأضاف أن "العيد الأكبر هو أن يتحرر المحاصرون في غزة مما يتعرضون له من ظلم وحصار ظالم وعداء متراكم، وأن تتحرر ساحات وأكناف المسجد الأقصى المبارك". السعودية ودعا خطيب العيد في المسجد الحرام، الشيخ ماهر المعيقلي، لوحدة الصف بين المسلمين، وقال: "لقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على توحيد الصف، وجمع الكلمة، ونبذ الخلاف والفرقة، وفي الحج اجتماع ووحدة ومساواة وأخوّة، فربنا واحد، ونبينا واحد، وكتابنا واحد، وأصل خلقتنا واحد". وتوجّه بالدعاء لغزة والمسجد الأقصى قائلا: "اللهم فرّج هم إخواننا في فلسطين، وتقبّل شهداءهم، وداوِ جرحاهم، واشفِ مريضهم، وأطعم جائعهم. اللهم عليك بالصهاينة المحتلين المعتدين، شتّت شملهم وفرق جمعهم، واحفظ المسجد الأقصى شامخا عزيزا". سلطنة عُمان وفي جامع السلطان قابوس بمحافظة الداخلية، دعا وزير الأوقاف محمد المعمري: "اللهم كن للمظلومين في فلسطين نصرا يليق بجلال عدلك، وطهر أرضهم". كما دعا مساعد مفتي السلطنة، كهلان الخروصي، لغزة في أحد مساجد مسقط، بحضور نائب رئيس الوزراء فهد بن محمود. مصر وأدى الرئيس عبد الفتاح السيسي صلاة العيد بمركز مصر الثقافي الإسلامي بالعاصمة الإدارية الجديدة (مسجد مصر). وأكد خطيب صلاة عيد الأضحى بالمسجد أن فريضة الحج تهدف إلى ترسيخ القيم العليا في النفس البشرية، وعلى رأسها السعة والإنسانية، مشددا على أهمية أن يتحلى الإنسان بالسلوك القويم، وأن يكون صانعا للخير. كما شهدت مساجد عديدة، منها مسجد عمرو بن العاص التاريخي في القاهرة، دعوات لغزة والمسجد الأقصى. وفي الجزائر، أدى الرئيس عبد المجيد تبون صلاة العيد في جامع الجزائر. وفي خطبته، دعا عميد الجامع، الشيخ محمد الحسني، إلى الإكثار من فعل الخيرات والتقرب إلى الله في هذا اليوم المبارك. كما شبه الحسني مقاومة الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي بكفاح الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، مؤكدا مشروعية نضالهم، "نستحضر ما يجري على أرض فلسطين من عدوان غاشم يمارسه الاحتلال الصهيوني بحق شعب أعزل، ونتوقف عند المقاومة المشروعة التي يخوضها الفلسطينيون، أسوة بكفاح الشعب الجزائري خلال الثورة التحريرية المجيدة من أجل تحرير الوطن واستعادة عزته"، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الرسمية. الأردن وأدى الآلاف من المواطنين في الأردن، صباح الجمعة، صلاة عيد الأضحى في الساحات والمساجد التي حددتها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في مختلف أنحاء المملكة، حسب وكالة الأنباء الرسمية. وألقى مفتي المملكة، أحمد الحسنات، خطبة العيد الرئيسية في مدينة الحسين للشباب، ودعا خلالها إلى نصرة الفلسطينيين في غزة، قائلا: "اللهم تقبل شهداءنا، وداوِ جرحانا، وانصر أهلنا في فلسطين وفي غزة الصامدة، واجعل النصر والفرج قريبا، واجمع كلمة الأمة على الخير والحق والعدل". ويُعد عيد الأضحى الحالي هو الرابع الذي يحل على قطاع غزة في ظل أوضاع كارثية جراء حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين منذ 20 شهرا. وتواصل إسرائيل، بدعم أميركي، ارتكاب إبادة جماعية في غزة، رغم النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها. وأسفرت الحرب عن أكثر من 180 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، إضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود ومئات آلاف النازحين وسط مجاعة متفاقمة.


العرب القطرية
منذ يوم واحد
- العرب القطرية
حريـة الاعتـقـاد بين الإسلام وغيره من العقائد والمذاهب
-A A A+ حريـة الاعتـقـاد بين الإسلام وغيره من العقائد والمذاهب يقف الإسلام بين الأديان والمذاهب والفلسفات شامخاً متميزاً في هذا المبدأ الذي قرر فيه حرية التدين، فهو يعلنها صريحة لا مواربة فيها ولا التواء، أنه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. فالإسلام من منطلق الثقة بصدق الدعوة، ورجحان الكفة، وتكامل الرسالة، ووضوح الحجة، وانتصاف العقل، واكتمال الأدلة؛ لا يكره أحداً على الدخول في عقيدته، أو الإيمان بدعوته. (حقوق الإنسان بين التطبيق والضياع، د. محمود عمار، ص298) وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وهذه من أخص خصائص التحرر الإنساني، تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله ـ باختياره لعقيدته ـ أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، فإما أن يعتنق مذهب الدولة، وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب. إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق (الإنسان) التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً، والإسلام ـ هو أرقى تصور للوجود وللحياة ـ وهو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، ويمنع أصحابه ـ قبل سواهم ـ من إكراه الناس على هذا الدين، فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسفة، وهي لا تسمح لمن يخالفها بالحياة؟ والتعبير ـ في الآية:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ـ يرد في صورة النفي المطلق نفي الجنس، أي نفس جنس الإكراه ابتداء، فهو يستعبده من عالم الوجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مزاولته، والنهي في صورة النفي ـ والنفي للجنس ـ أعمق إيقاعاً، وآكد دلالة. وصحيح أن الإسلام حارب أعداءه، ورفع السيف في وجه مخالفيه، دفاعاً عن النفس، أو تكسيراً للحدود التي تحول دون وصول الدعوة، وتحطيماً للأقفاص الكبيرة التي سجنت فيها الشعوب، فمنعت التواصل الفكري، ولكنه يقف عند هذا الحد، ولا يتجاوزه، ولا يتدخل في قلوب الناس وعقولهم إلا بالمنطق والإقناع {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ويترك بعد ذلك مطلق الحرية في الاختبار والتسليم، وقبول الدعوة، وعدم الإكراه. فيلمس الضمير البشري لمسة توقظه وتشوقه إلى الهدى، وتهديه إلى الطريق، وتبين الإيمان الذي أعلن أن الدعوة أصبحت واضحة، وأنضجت سماتها، وأثبتت رجحان كفتها وغلبة منطقها، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور وطمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وما قيمة إسلام أو إيمان يفرض على صاحبه ، فيتظاهر بالقول، ويدعي الموافقة وقلبه مليء بالحقد والعداوة والكيد والتدبير، إن ضرره أكثر من نفعه، وخطره أقوى من خيره، وخوفه أقرب من أمنه. ولما كانت حرية الاعتقاد حقّاً من حقوق الإنسان، وقراراً شخصيّاً يتحمل المرء تبعاته؛ كان القرآن الكريم صريحاً صراحة تامة في مواجهة الناس بهذه الحقيقة ليختاروا بمحض إرادتهم، وترك الباب أمامهم مفتوحاً. ولا يملك أحد الضغط على الناس، أو إكراههم على الإيمان حتى ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ـ صاحب الدعوة ـ كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. ومبدأ الإكراه مرفوض من الأصل، ولا يتوقع لأحد يفهم رسالة الإسلام أن يمارسه؛ لأنه يخالف طبيعة الدعوة، ويناقض أهداف الرسالة، ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى، فجعله لا يعرف إلا طريق الإيمان كالملائكة.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
كيف تعيد شعائر الحج بناء الأمة وتذيب خلافاتها؟
لا تُختزل عشر ذي الحجة في كونها تمهيدًا ليوم النحر، بل هي فضاء زماني موصول بالقداسة والتكليف، تفتح أمام الأمة أبوابًا استثنائية للتجديد الروحي والنهضوي. وقد رفع الله شأنها في كتابه الكريم بقَسَمه الجليل: {والفجر وليالٍ عشرٍ} [الفجر: 1–2]، وهو قسم لا يأتي إلا لما هو عظيم الشأن، عميق الأثر، وأجمع المفسرون على أن هذه الليالي هي عشر ذي الحجة، التي تُعدّ من أعظم الأزمنة منزلةً في ميزان الشرع. ولعل من أبرز خصائصها أنها: أيام التفضيل المطلق: فقد ثبت عن النبي ﷺ قوله: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"…، وهو تصريح نبوي يضع هذه العشر في صدارة فرص العمر للتزود الإيماني والسمو الأخلاقي. ملتقى أركان الإسلام العملية: ففيها تجتمع الشهادتان (تجديدًا للنية والولاء)، والصلاة (وهي الحبل اليومي بالله)، والزكاة (من خلال الهدي والنحر)، والصيام (لا سيما يوم عرفة)، والحج (ذروة السنام). وفي ظل عالم يموج بالاستقطابات السياسية، والانقسامات المذهبية، والتشرذم الجغرافي، تتقدم فريضة الحج كمعجزة توحيدية متجددة، ومشهد حيّ لتجسيد وحدة الأمة. إنها ليست مجرد عبادة طقسية، بل هي ورشة عمل كونية تُعيد عبرها الأمة اكتشاف ذاتها، وترميم مفهومها الحضاري المشترك، بعيدًا عن الهويات الضيقة والنزاعات المصطنعة. يتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة أولًا: الحج هو تجسيد حي لوحدة الأمة المفتقَدة يُعد الحج في جوهره أكثر من مجرد أداء شعائر مفروضة؛ إنه تجسيد عملي ومعنوي لوحدة الأمة الإسلامية في أبهى صورها، تلك الوحدة التي باتت في واقعنا المعاصر مطلبًا غائبًا وأملًا مؤجلًا. ففي مشهد يوم عرفة، يقف ملايين الحجاج على صعيد واحد، بلباس واحد، في زمان ومكان موحدين، مجرَّدين من كل امتياز دنيوي. وقد جسَّد النبي ﷺ هذه المعاني في خطبة الوداع حين قال "يا أَيها النّاس: إن ربكم واحد، وإنّ أَباكم واحد، أَلا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قَال: فليُبلّغ الشاهد الغائب" (أخرجه البيهقي). هذا الإعلان النبوي ليس مجرد خطاب ديني فحسب، بل هو إعلان عالمي للمساواة الإنسانية وتحييد الهويات القومية والطبقية لصالح الهوية الإيمانية الجامعة. وتأتي رمزية الإحرام لتُعزز هذا المعنى؛ فالتجرد من اللباس المخيط، وتجرد القلب من التعلقات الدنيوية، يوحد الجميع أمام الله في شعيرة تؤسس للمساواة، لا كشعار بل كواقع معيش. ويوم عرفة ذاته هو يوم التأسيس الشرعي للعدالة الاجتماعية والحقوقية، كما أكده الرسول ﷺ في خطبته العظيمة، التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله عليه الصلاة والسلام فيها: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت". ويتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات بين الفصائل الإسلامية المتنازعة، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة، في مشهد يتجاوز الحواجز النفسية والتاريخية بين الفرقاء. ولعل في شعيرة التكبير الجماعي، الذي يتردد في أرجاء الحرم، تذكيرًا بوحدانية الله التي هي أصل الدين، ووحدة الكلمة التي ينبغي أن تسري في الأمة. وقد أشار الإمام القرطبي إلى هذه المعاني في تفسيره لقول الله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم…}، معتبرًا أن التكبير في أيام الحج شعيرة ظاهرة، تُعيد ضبط البوصلة العقدية والاجتماعية للأمة. ويمكن البناء على هذه الرمزية لتأسيس برامج توعوية جماعية في أيام عشر ذي الحجة، تُبثّ في المساجد والساحات ومنصات التواصل، لخلق شعور جمعي بالانتماء الإسلامي يتجاوز النزعات الإقصائية المُمَنهجة إعلاميًّا. كما يمكن تطوير مؤسسات الأضاحي في المملكة لتكون أداة إغاثية إستراتيجية تُرسل لحظيًّا إلى بؤر الأزمات والمجاعات في العالم الإسلامي، كفلسطين واليمن والسودان وغيرها من البلدان الإسلامية، بما يُعيد صياغة الشعيرة كجسر عملي للتكافل والتلاحم. ثم يأتي الطواف حول الكعبة، لا كحركة جسدية فحسب، بل كرمز للانضباط الكوني الدائم، واتساق حركة العابد مع حركة الملائكة حول البيت المعمور، كما أوضح الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، حين بيَّن أن الطواف ليس حركة البدن حول البيت، بل طواف القلب حول رب البيت! إنه تعبير عن مركزية الله في الوجود، ومركزية القيم العليا في نظام الأمة. إن الحج، بهذا المعنى المركّب، يُعلّمنا أن المقاصد أسبق من الأشكال، والمعاني أعمق من الحركات؛ فهو نموذج للديناميكية الجماعية التي يمكن استلهامها لتوحيد جهود الأمة، لا في مجال العبادة فحسب، بل في إطلاق مشروعات إستراتيجية مشتركة في مجالات التعليم، والاقتصاد، والصناعة، والدفاع، بروح التكامل لا التنافس، وبمنطق البناء لا التفكك. مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري ثانيا: دور روحانية الحج في معالجة أزمات الواقع مواجهة التفرقة السياسية: يُستلهَم من مشهد الوقوف بعرفة نموذجٌ وحدوي فريد، تتلاشى فيه الفوارق الطبقية والسياسية، حيث لا تعلو سلطة على الجميع إلا سلطة الشريعة، بما يُشكّل دلالة رمزية على أولوية المرجعية الشرعية فوق كل مرجعية بشرية. ومن ثمّ، يُعدّ هذا المشهد تجريدًا عمليًّا لشرعية الأنظمة التي تُكرّس التفرقة والتمزق بين المسلمين. تجسير الهوة المذهبية: يُقدِّم الحج نموذجًا عمليًّا للتعايش المذهبي، حيث يُمارس كل حاجٍّ عبادته وفق مذهبه دون نزاع، ما يؤسس لإمكان تعميم هذا النموذج في المجال العام، كصيغة وحدة في ظل التنوع. مكافحة العنصرية والطبقية: يُجسِّد الإحرام وحدة المظهر والمقصد، مانحًا الإنسان قيمته بمعيار التقوى لا النسب أو المال، بما يُلغي الطبقية ويمحو الحدود العرقية في الوعي الجمعي. بناء منصات حوار دائمة: استلهامًا من لقاءات منى وعرفة، يُقترح تأسيس هيئة فكرية دائمة تجمع علماء الأمة ومفكريها، لتكون منبرًا للتشاور في قضايا المسلمين وتوليد حلول مشتركة. رسالة سلام عالمية: الحج إعلان سنوي لقدرة الإسلام على صناعة مشهد إنساني جامع، تتعايش فيه ملايين النفوس بسلام رغم التوترات الجيوسياسية المحيطة. تجديد الهوية: في مواجهة ضغوط الذوبان الثقافي، يُعيد الحج ترسيخ هوية المسلم كعضو في أمة تتجاوز القوميات والهويات القُطرية، مستندة إلى وحدة العقيدة والقبلة. قوة الروح: تحمُّل ملايين الحجاج مشاقَّ المناسك شهادة عملية على الطاقة الروحية الكامنة في الإيمان، وقدرته على تجاوز حدود الجسد والنفس. حوار الحضارات: يُمثل الحج ملتقى حضاريًّا فريدًا، تتفاعل فيه ثقافات وأعراق متعددة ضمن أجواء من الاحترام والتلاقي، حول مقصد روحي موحد. المشهد الكوني: مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري (يا بني آدم) وقدرة الإسلام على جمع الشتات تحت مظلة التوحيد. محو الفوارق: ينصهر الجميع في الحج دون امتيازات؛ لا تمييز بين حاكم ومحكوم، غني وفقير، ذكر وأنثى، في مشهد نادر للمساواة المطلقة أمام الله. التضامن والتعاون: يتجلى التكافل الاجتماعي في الحج بشكل عملي، من مشاركة الماء والطعام، إلى مساعدة الضعيف والمرهق، إلى إرشاد التائه.. إنها مدرسة عملية في التعايش السلمي والإيثار والرحمة. في زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك كما أن الحج، بمناسكه المنظّمة، يشكّل دستورًا روحيًّا عمليًّا يصل العبد بربّه، فإنه يُمثّل أيضًا دستورًا اجتماعيًّا ضمنيًّا لإعادة تشكيل وعي الأمة وتحصين وحدتها. إعلان إن التغافل عن الرسائل التوحيدية العميقة التي يتضمنها الحج، يُعدّ تفريطًا سنويًّا في أكبر فرصة إصلاحية شاملة تُمنَح للأمة عبر مشهد حي وواقعي؛ فالحج ليس طقسًا عابرًا يُختتم بذبح الهدي، بل هو مؤتمر تأسيسي سنوي يعيد التأكيد على مركزية الكعبة، ووحدة القبلة كرمزية لوحدة المصير. وفي زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك.. تلك بعض الرسالة الكونية للحج، فهل نستجيب لندائها؟