logo
كيف صمد الحوثيون في وجه أميركا؟

كيف صمد الحوثيون في وجه أميركا؟

Independent عربية١٦-٠٥-٢٠٢٥

بعد سبعة أسابيع ونصف من الغارات الجوية المكثفة على أكثر من 1000 هدف منفصل، انتهت حملة القصف التي شنتها إدارة ترمب ضد الحوثيين في اليمن بالطريقة المفاجئة نفسها التي بدأت بها، ففي السادس من (مايو) أيار الجاري وخلال اجتماع في المكتب البيضاوي مع رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، أعلن الرئيس دونالد ترمب ببساطة أن الحوثيين المدعومين من إيران "لا يريدون القتال بعد الآن"، وأن الولايات المتحدة "ستثق بكلامهم وستوقف القصف".
وأكد وزير الخارجية العُماني بدر بن حمد البوسعيدي عبر منصة "إكس" أن بلاده توسطت في اتفاق وقف إطلاق النار بين واشنطن والحوثيين، تعهد فيه الطرفان بعدم استهداف بعضهما بعضاً، وعلى رغم الهجمات الفعالة التي ينفذها الحوثيون على الملاحة الدولية في البحر الأحمر واستمرارهم في مهاجمة إسرائيل، فإن الاتفاق لا يفرض أي قيود صريحة على تحركاتهم ضد أي بلد آخر غير الولايات المتحدة، ويُلاحظ بصورة لافتة غياب إسرائيل والسفن "المرتبطة بإسرائيل" من نص الاتفاق، وهو تعبير فسره الحوثيون بصورة فضفاضة في الماضي [تعبير سبق أن فسره الحوثيون تفسيراً موسعاً يخدم مصالحهم].
وما يثير الحيرة في إعلان البيت الأبيض هو أن موقف الحوثيين لم يتغير فعلياً منذ أن بدأت إدارة ترمب حملتها الجوية المتصاعدة في الـ 15 من مارس (آذار) الماضي، فمن الناحية الظاهرية أُطلقت عملية "راف رايدر" (Operation Rough Rider)، وهي التسمية التي أعطيت للحملة الأميركية، بهدف استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر وإعادة فرض الردع ضد إيران ووكلائها، وعندما بدأت العملية كان الحوثيون يستهدفون إسرائيل وكذلك السفن المرتبطة بها بصورة صريحة، على رغم أنهم لم يستهدفوا السفن الأميركية، وقالوا إنهم سيواصلون القيام بذلك حتى تنهي إسرائيل حربها في غزة.
ومنذ بداية الحملة الأميركية أوضح قادة الحوثيين أنهم سيتوقفون عن مهاجمة السفن الأميركية إذا توقفت واشنطن عن القصف، لكن هجماتهم على إسرائيل ستستمر، وبعد إعلان ترمب عن اتفاق السادس من مايو الجاري، أعاد المتحدث باسم الحوثيين محمد عبدالسلام تأكيد هذا الموقف، وبعبارة أخرى فبعد عملية عسكرية أميركية كلفت أكثر من ملياري دولار، وكان من المفترض أن يكون لها تأثير كبير في القدرات العسكرية للحوثيين، أسفر وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين عن تثبيت موقف الجماعة الأساس من دون أن يحقق تغييرات جوهرية في سلوكها أو إستراتيجيتها، وعلى رغم ادعاء ترمب بأن الحوثيين قد استسلموا لكن الجماعة لا تزال تحتفظ بسلطتها وقد وصفت الاتفاق بأنه "انتصار لليمن".
وبالنسبة إلى إدارة ترمب فقد وفر وقف إطلاق النار نهاية سريعة لحملة أصبحت شيئاً فشيئاً عبئاً لا يمكن تحمله، فالقصف لم يكن مكلفاً للغاية وحسب، بل كان يثير أيضاً مخاوف بين صانعي السياسة في واشنطن من أن الولايات المتحدة قد تنجر إلى حرب أخرى لا نهاية لها في الشرق الأوسط، ولا شك في أن هذا السيناريو قد دفع به نائب الرئيس جي دي فانس وأعضاء الإدارة الأكثر ميلاً إلى الانعزالية الجديدة، والذين كانوا متشككين في المغامرات العسكرية الأميركية منذ البداية.
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخاتمة ستوافر فترة توقف كافية تسمح لإدارة ترمب بالتنصل من مشكلة الحوثيين، لكن إذا تجاهل ترمب هجمات الحوثيين المستمرة على إسرائيل فثمة أسباب تدعو إلى الاعتقاد بأن الحوثيين سيتجنبون مهاجمة الأصول الأميركية في الوقت الراهن، وعلى الأرجح كان الحوثيون سيصمدون حتى لو استمرت حملة القصف الأميركية، لكن توقفها له إيجابيات عدة بالنسبة إليهم، إذ يمكن لقادة الجماعة الآن الادعاء بأنهم خاضوا مواجهة مباشرة مع قوة عظمى وانتصروا، وأنهم قد تخلصوا من الضغط الذي كان يتسبب به القصف الأميركي، ويمكنهم أيضاً التركيز على إسرائيل الآن التي تشن بدورها حملة جوية عقابية رداً على الهجمات الحوثية، بما في ذلك هجوم صاروخي باليستي قرب مطار بن غوريون في تل أبيب أوائل مايو الجاري، والأهم من ذلك أن الاتفاق مع الولايات المتحدة يجعل من غير المرجح أن تدعم واشنطن هجوماً برياً ضد الحوثيين تشنه الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وهي ائتلاف منقسم داخلياً من الفصائل المناهضة للحوثيين التي تسيطر على الأجزاء الجنوبية والشرقية من البلاد، وقد يكون هذا الهجوم البري، بالتزامن مع القوة الجوية، الطريقة الأكثر فاعلية للضغط على الحوثيين حقاً وإضعاف قبضتهم على السلطة، على رغم ما ينطوي عليه من أخطار كبيرة.
واقع الأمر أن إدارة ترمب كانت محقة في محاولتها إيجاد مخرج من حملة جوية متزايدة الكلفة ومفتوحة الأجل، لكن الخيار الذي تبتنه قد يضر أكثر مما ينفع، فما لم تسارع واشنطن إلى تنسيق الجهود مع حلفائها في المنطقة، وخصوصاً السعودية، في إطار جهد أوسع للحفاظ على الضغط العسكري والاقتصادي والسياسي على الحوثيين، فستستمر الجماعة في إثارة الفوضى في اليمن وعبر المنطقة، وهناك بديل أفضل، فمن خلال دعم الأمم المتحدة ووسطاء آخرين مثل سلطنة عُمان، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وخارجها الدفع نحو تسوية سياسية أوسع في اليمن من شأنها تقييد قدرات الحوثيين العسكرية وطموحاتهم، وقد يبدو هذا أمراً صعباً لكنه من حيث الكلفة سيكون أكثر فعالية من البدائل الأخرى المتوافرة، وفي غياب مثل هذه الجهود سيستعيد الحوثيون قوتهم ويعيدون تنظيم صفوفهم، وقد يعاودون قريباً تشكيل التهديد الأمني نفسه الذي دفع إدارة ترمب إلى إطلاق حملتها في المقام الأول.
رحلة وعرة
بدأت الولايات المتحدة ضرباتها ضد الحوثيين للمرة الأولى في عهد الرئيس جو بايدن الذي شن حملة محدودة من الغارات الجوية في يناير (كانون الثاني) 2024 رداً على هجمات الجماعة على الشحن والملاحة في البحر الأحمر، وبخاصة هجومها على سفينة حربية أميركية، وسعت إدارة بايدن إلى اتباع إستراتيجية محسوبة، إذ كان الهدف هو الرد على هجمات الحوثيين من دون تصعيد النزاع أو التسبب في سقوط ضحايا مدنيين أو إثارة تصعيد إقليمي أكبر مع إيران، وعلى النقيض من ذلك كان ترمب أكثر عدوانية بكثير، إذ انتقد بايدن بشدة بسبب ما وصفه بالرد "الضعيف بصورة مثيرة للشفقة" على تهديد الحوثيين، ويبدو أن إدارته استمدت جرأة إضافية من ضعف إيران الكبير بعد أن تضررت القوى الموالية لها في غزة ولبنان وسوريا بصورة كبيرة خلال العام الماضي، نتيجة حرب إسرائيل ضد "حماس" و"حزب الله"، وسقوط نظام الأسد.
ومع ذلك فقد كان حجم الحملة غير متوقع، وفي الواقع تُعد عملية "راف رايدر" أكبر تدخل عسكري لإدارة ترمب وأكثرها كلفة حتى الآن، ولقد شملت العملية أكثر من 1000 ضربة جوية استهدفت مجموعة واسعة من أهداف الحوثيين، بما في ذلك مستودعات الأسلحة ومراكز القيادة والسيطرة وأنظمة الدفاع الجوي والبنية التحتية الحيوية وقادة الحوثيين، ولتنفيذ هذه العملية الطموحة نشرت الإدارة مجموعتي حاملات طائرات هجومية وطائرات مسيرة من طراز "أم.كيو-9 ريبر" MQ-9 Reaper، وقاذفات شبح من طراز "بي-2"، إضافة إلى منظومات الدفاع الجوي "باتريوت" و"ثاد".
موقف الحوثيين لم يتغير فعلياً
وإضافة إلى التصعيد الكبير في الغارات الجوية، كثفت الإدارة الأميركية أيضاً الضغط الاقتصادي والسياسي، ففي مارس الماضي أعادت تصنيف الحوثيين كـ "منظمة إرهابية أجنبية" (FTO)، وهو تصنيف يفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية شديدة، وقد أدى هذا التصنيف إلى شل النظام المصرفي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين وحد من قدرتها على استيراد الوقود، كما جعل بعض العناصر في اتفاق مقترح ترعاه الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، وكان قيد التفاوض قبل بدء هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، غير قابل للتطبيق، وكان من المتوقع أن يؤدي تنفيذ الاتفاق الذي يحظى بدعم حلفاء واشنطن في الخليج إلى وقف شامل لإطلاق النار يمهد لانطلاق عملية سياسية تهدف إلى تحديد آليات تقاسم السلطة في اليمن، وعلاوة على ذلك وعد الاتفاق بفوائد اقتصادية كبيرة، بما في ذلك صيغة لدفع رواتب جميع الموظفين الحكوميين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
ونظراً إلى موارد اليمن المحدودة فقد كان ذلك سيتطلب دعماً مالياً خارجياً كبيراً، لكن تصنيف واشنطن الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية جرّم التحويلات المالية إليهم، مما جعل هذا الجانب من الاتفاق غير قابل للتنفيذ.
وفرضت إجراءات واشنطن ضغطاً حقيقياً على الحوثيين، فخلال الحملة، وفقاً للـ "بنتاغون"، انخفض إطلاق الحوثيين للصواريخ الباليستية ضد أهداف إسرائيلية وأميركية بنسبة 87 في المئة، وانخفضت هجمات الطائرات المسيرة بنسبة 65 في المئة، وإضافة إلى ذلك أجبرت الضربات الأميركية معظم قادة الجماعة على الاختباء وأبطأت وتيرة التواصل الداخلي بينهم، وكذلك عملت الأجهزة الأمنية الداخلية التابعة للحوثيين على تكثيف الاعتقالات بحق اليمنيين الذين يشتبه في كشفهم عن معلومات استهداف لأطراف قد تسربها إلى الولايات المتحدة أو حلفائها.
وإضافة إلى ذلك غيرت الضربات الأميركية الحسابات العسكرية للجماعة بصورة موقتة، فبعد تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية، سعت الجماعة في البداية إلى السيطرة على حقول النفط والغاز في محافظة مأرب شرق العاصمة صنعاء، وهي مورد إستراتيجي كان من شأنه التخفيف من أثر التصنيف، لكن الحملة الجوية الأميركية أخرت موقتاً هذا الطموح، والذي لو تحقق كان ليعزز موارد الحوثيين ويمهد الطريق لهجمات لاحقة على محافظات أخرى منتجة للنفط في الجنوب والشرق، تخضع حالياً لسيطرة الحكومة اليمنية.
وقبل إعلان وقف إطلاق النار في السادس من مايو الجاري رفعت الضربات سقف التوقعات لدى الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً بأنها قد تتمكن من الحصول على دعم أميركي وإقليمي لشن هجوم بري جديد لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وقد ضغط مسؤولو الحكومة اليمنية بشدة على واشنطن للحصول على هذا الدعم، مدركين أن الفرصة التي أمامهم عابرة وقد لا تدوم طويلاً، وأنهم إن لم يستغلوها فسيكون الحوثيون قادرين على استخدام انتصارهم المتمثل في الصمود أمام الحملة العسكرية الأميركية لتعزيز موقفهم أكثر، وشكل التهديد بإمكان شن عملية برية مصدر قلق بالغ لقادة الحوثيين الذين يصفون أي معارض داخلي لهم بأنه عميل للعدوان الأميركي - الإسرائيلي.
اختبار الصمود
كان لحملة الضغط التي شنها ترمب حدود بدأت تتضح خلال بضعة أسابيع، فقد واصلت القوات الأميركية ضرب أهداف حوثية بصورة شبه يومية مستخدمة كميات هائلة من الذخائر، وادعت الـ "بنتاغون" أنها قتلت قادة مهمين في الجماعة، ومع ذلك لا يوجد دليل يذكر على تصفية أفراد من الهيكل القيادي للجماعة، فالدوائر الداخلية للقيادة لا تزال سليمة إلى حد كبير، والأهم من ذلك أن قدرة الجماعة على استهداف الأهداف الأميركية والإسرائيلية لم تتضرر بصورة كبيرة.
ومن جانبهم يدّعي الحوثيون أنهم أسقطوا ما لا يقل عن سبع طائرات أميركية مسيرة من طراز "ريبر" منذ مارس الماضي تبلغ كلفة الواحدة منها 30 مليون دولار، وفي الـ 28 من أبريل (نيسان) الماضي سقطت طائرة مقاتلة أميركية بقيمة 60 مليون دولار في البحر عندما اضطرت حاملة الطائرات التي تقلها إلى القيام بانعطاف حاد لتجنب نيران الحوثيين، وفي أوائل مايو الجاري تمكن صاروخ أطلقه الحوثيون من اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية وسقط قرب مطار تل أبيب، مما دفع إسرائيل إلى رد عنيف.
وباختصار فإن المكاسب التكتيكية التي حققتها الولايات المتحدة كانت تأتي بكلفة متزايدة وأخطار جسيمة، فاستمرار العمليات كان سيزيد من احتمال مقتل أفراد من القوات الأميركية، وهو سيناريو كان من شأنه أن يدفع واشنطن حتماً إلى التورط بصورة أكبر في الصراع، وعلاوة على ذلك كانت الولايات المتحدة تستنفد الذخائر بمعدل مقلق، وكانت وزارة الدفاع الأميركية تعاني بالفعل ضغوطاً في تلبية الطلب المتزايد على الأسلحة، بسبب التزامات أميركية سابقة تجاه إسرائيل وأوكرانيا، إضافة إلى ضربات إدارة بايدن ضد الحوثيين والجهود الأميركية الرامية إلى الدفاع عن إسرائيل من الهجمات الإيرانية المباشرة، وأبدى بعض المسؤولين الأميركيين قلقهم من أن الكمّ الكبير من الأسلحة البعيدة المدى المستخدمة ضد الحوثيين، إضافة إلى نقل كتيبة دفاع جوي تستخدم صواريخ من طراز "باتريوت" من القيادة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى منطقة الشرق الأوسط، قد يُضعف استعداد الولايات المتحدة لمواجهة التهديدات الصينية.
وافر وقف إطلاق النار نهاية سريعة لحملة أصبحت شيئاً فشيئاً عبئاً لا يمكن تحمله
وعلاوة على ذلك فقد كانت الغارات الجوية الأميركية تلحق أضراراً متزايدة بالمدنيين والبنية التحتية المدنية في اليمن، وهي حقيقة سارعت وسائل إعلام الحوثيين إلى استغلالها لمصلحة الجماعة، فمثلاً أسفرت ضربة أميركية في منتصف أبريل الماضي استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي في محافظة الحديدة عن مقتل أكثر من 70 يمنياً، كما أسفرت غارة في أوائل مايو الجاري على مركز احتجازٍ يديره الحوثيون ويضم مهاجرين أفارقة، عن مقتل العشرات، بمن فيهم مدنيون. يُظهر مسار الحرب الأهلية السابقة أن مثل هذه الحوادث لا تُضعف الدعم المحلي للحوثيين، بل على العكس تصب في مصلحتهم، وهو ما سمح لهم بدرء الانتقادات وحشد الدعم ضد عدو خارجي.
ومنذ بداية حملة ترمب أعلن الحوثيون أنهم قادرون على الصمود في وجه الضغوط والخروج منها أقوى، فالقوة الأساس لحركة الحوثيين كانت في النضال المسلح، فبصفتها فرعاً راديكالياً من المذهب الزيدي في الإسلام، المناهض بشدة لإسرائيل والغرب، تشكلت الجماعة في خضم الحرب ضد الحكومة اليمنية منذ العقد الأول من هذا القرن، وبفضل تمركزهم في المرتفعات الجبلية الوعرة في اليمن، فقد اكتسب الحوثيون أعواماً من الخبرة في إخفاء قياداتهم وأسلحتهم، كما أن لديهم قدرة هائلة على تحمل الهجمات وفقدان المقاتلين والأسلحة، وعلاوة على ذلك، وعلى رغم أن إيران، الداعم الرئيس للجماعة، أصبحت أضعف بكثير، فقد تمكن الحوثيون من تنويع خطوط إمدادهم، فمن خلال تطوير شبكات جديدة لتهريب الأسلحة تمتد الآن إلى ما بعد إيران وصولاً إلى القرن الأفريقي، وبناء علاقات انتهازية مع الصين وروسيا، أصبحت الجماعة أكثر قدرة على الصمود.
باختصار، وعلى رغم أن الحملة الأميركية وضعت الحوثيين تحت ضغط شديد لكنها لم تفلح في ردعهم على الإطلاق، وكانوا بعيدين كل البعد من الهزيمة عند دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وبحلول أوائل مايو الجاري كانت الولايات المتحدة تحقق مكاسب تكتيكية من خلال تدمير الأسلحة والقدرات الحوثية، وإجبار القيادات على الاختباء، وإثارة مخاوف الحوثيين من احتمال شن هجوم بري جديد ضدهم قريباً، لكن الولايات المتحدة لم تتمكن من تحويل نقاط الضغط هذه إلى مكاسب إستراتيجية.
الإستراتيجية المفقودة
من الممكن للولايات المتحدة أن تحد من تدخلها العسكري وتدعم في الوقت ذاته مساراً نحو التسوية، أو في الأقل نحو احتواء التهديد الحوثي من خلال العمل مع حلفائها لممارسة ضغوط عسكرية واقتصادية وسياسية على الجماعة، ولتحقيق ذلك يجب على صانعي السياسات الأميركيين أن يتخلصوا أولاً من وهم إمكان الفصل الواضح بين ما يحدث داخل اليمن وما يحدث في البحر الأحمر أو المنطقة الأوسع، وبخاصة في الخليج، وقد أبدى كل من فانس ووزير الدفاع بيت هيغسيث عدم اهتمامهما بما يحدث داخل اليمن، وعلى حد تعبير فانس فإذا توقف الحوثيون عن شن هجمات في البحر الأحمر فيمكنهم "العودة لما كانوا يفعلونه قبل مهاجمة السفن المدنية"، ومع ذلك فإن المشكلات التي تواجهها واشنطن وحلفاؤها في البحر الأحمر نابعة بالتحديد من الصراع الداخلي على السلطة في اليمن، فبصفتهم قوة مسلحة بصورة متزايدة وغير خاضعة للرقابة، يتمتع الحوثيون بالقدرة على إبراز قوتهم وتهديداتهم خارج حدود اليمن، وسيواصلون القيام بذلك إلى أن يواجهوا قيوداً داخلية حقيقية، إذ لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتدخل في كل تفاصيل السياسات المعقدة في اليمن، ولا تحتاج إلى تكون الطرف القائد في توجيه الإستراتيجية السياسية المتعلقة باليمن، ولكن في أقل تقدير يجب أن تمتلك سياسة واضحة تجاهه.
ولضمان حفاظ اليمن على بعض التوازن في الداخل، ينبغي على الولايات المتحدة منح داعمي الحكومة اليمنية الخليجيين، بما في ذلك السعودية والإمارات العربية المتحدة، الضمانات الأمنية اللازمة لمواصلة دعم الحكومة سياسياً وعسكرياً، فهذان البلدان هما الموردان الرئيسان للأسلحة والمال لقوات الحكومة اليمنية، لكنهما صرّحا علناً بعدم رغبتهما في إشعال الحرب من جديد، كما أنهما يدركان أنه إذا تقدمت القوات اليمنية ضد الحوثيين ميدانياً، فمن المرجح أن تستهدفهما الجماعة أيضاً، حتى ولو اقتصر دورهما على دعم حلفائهما اليمنيين في الدفاع عن خطوط المواجهة الحالية، وعلى رغم قلق الرياض وأبوظبي في شأن التهديدات الأمنية الطويلة المدى التي يشكلها الحوثيون، لكنهما حريصتان على تحويل تركيزهما إلى الأولويات الاقتصادية المحلية.
لم تتمكن الولايات المتحدة من تحويل نقاط الضغط إلى ميزة إستراتيجية
ومن خلال تقديم ضمانات أمنية للرياض وأبوظبي تكون واشنطن في الواقع قد تعهدت بحماية حليفتيها، مما يسمح لهما بتعزيز القوات المعارضة للحوثيين في الداخل اليمني، وبالتالي يزيد من فرص التوصل إلى اتفاق متوازن لتقاسم السلطة، وإضافة إلى ذلك يمكن للولايات المتحدة تشجيع السعودية والإمارات العربية المتحدة على تحسين تنسيق دعمهما العسكري والسياسي لقوات الحكومة اليمنية، إذ غالباً ما تتفاقم الانقسامات داخل هذه القوات بسبب التباين بين داعميها، فمثلاً رفضت أبوظبي منذ زمن العمل مع المقاتلين المرتبطين بـ "جماعة الإخوان المسلمين"، وهذا التنسيق أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ إن خيبة الأمل في صفوف قوات الحكومة اليمنية من الانسحاب الأميركي، إضافة إلى الضائقة الاقتصادية المتزايدة والصراع السياسي الداخلي، يهددان بانهيار الحكومة مما يفتح المجال فعلياً أمام توسع الحوثيين أو عودة ظهور تنظيم "القاعدة" في المناطق الخاضعة للحكومة.
ويجب أن يكون للضغط على الحوثيين هدف واقعي، فالحملة الجوية العسكرية وحدها لم تكن يوماً خياراً عملياً، ومع وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، يبدو الرد العسكري البري مستبعداً بصورة متزايدة، وقد يكون التوصل إلى اتفاق مع إيران يشمل تعهد طهران بوقف تزويد الحوثيين بأسلحة متقدمة مفيداً، لكنه لن يكون الحل الأمثل لكبح طموحاتهم، كما أن وقف إطلاق النار في غزة قد يوافر فرصة لاختبار مدى التزام الحوثيين بوقف هجماتهم في البحر الأحمر والضغط عليهم من خلال دبلوماسية متعددة الأطراف ومنسقة، لكن لا يوجد حل سهل لليمن، ولا بديل عن نهج إقليمي أكثر شمولاً وتنسيقاً، ولذا ينبغي على الولايات المتحدة وشركائها التركيز على هدف قابل للتحقيق، وإن كان صعباً، وهو الدفع باتجاه اتفاق تدعمه الأمم المتحدة ويقدم ضمانات أقوى لأمن البحر الأحمر وقيوداً على تسليح الحوثيين، وضمانات لتقاسم السلطة داخلياً، ويمكن أن يبدأ ذلك بإعادة تقييم الأطراف لاتفاق الأمم المتحدة المقترح الذي كان قيد التفاوض سابقاً، بما في ذلك تعزيز أحكام وقف إطلاق النار وتعديل نظام توزيع الموارد المالية بما يتماشى مع تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، ووضع ضمانات أقوى لدعم اتفاق لتقاسم السلطة بين الحوثيين وقوات الحكومة، لكن تحقيق أي من هذا يتوقف بصورة كاملة على تعاون إدارة ترمب مع حلفائها الخليجيين واليمنيين لتثبيت خطوط المواجهة في اليمن، ومواصلة ممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري على الحوثيين، وإذا فشلت إدارة ترمب في دعم تطوير صيغة متوازنة لتقاسم السلطة في الداخل فلن تبقى المشكلات محصورة داخل حدود اليمن.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زيادة تصلب المتطرفين وجرأتهم
خلال إنهاء حملتها في اليمن، واجهت إدارة ترمب واقعاً قاسياً، فالاستمرار في ضرب الحوثيين بهذا المعدل قد يصبح قريباً غير مجد وبلا هدف، ويلحق الضرر بالحاجات العسكرية الأميركية في أماكن أخرى، وعلاوة على ذلك فالحملة الجوية وتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، من غير المرجح أن ينهيا، في حد ذاتهما، تهديدات الحوثيين لأمن البحر الأحمر وإسرائيل، وفي الوقت نفسه سيكون دعم الولايات المتحدة لقوات الحكومة اليمنية محفوفاً بالأخطار نظراً إلى الانقسامات الداخلية العميقة في هذه القوات، كما أنه يتناقض مع رفض ترمب المعلن الحروب الدائمة في الشرق الأوسط، وربما إدراكاً منه للحاجة إلى خروج سريع، أعلن ترمب بصورة مفاجئة في السادس من مايو الجاري وقف العمليات.
لكن هذا التوقف المفاجئ لا يؤدي إلا إلى تشجيع الحوثيين، ومن المرجح أن يفاقم التهديدات الأمنية ذاتها التي سعت الولايات المتحدة إلى معالجتها في المقام الأول، فلقد بدأ الحوثيون يُحولون انتباههم الآن إلى إسرائيل، واحتفظوا بحق ضرب السفن "المرتبطة بإسرائيل"، وهي عبارة غير واضحة تماماً من حيث النطاق، والأهم من ذلك، حتى في حال وقف إطلاق النار في غزة، فإن الحوثيين بعد أن اختبروا فعالية استخدام تهديد الملاحة في البحر الأحمر كورقة ضغط، قد يميلون في المستقبل إلى استخدام هذه الأداة مجدداً لتحقيق مكاسب سياسية، وقد يحاولون أيضاً الاستمرار في فرض رسوم على السفن في مقابل المرور الآمن عبر مضيق باب المندب، مثلما فعلوا مع شركات الشحن التجارية [السفن التجارية] خلال عملياتهم في البحر الأحمر.
لقد راهن الحوثيون منذ بداية الضربات على قدرتهم على الصمود أكثر من الولايات المتحدة و نجحوا في ذلك، وعلى القدر نفسه من الأهمية، بدد وقف إطلاق النار آمال اليمنيين في الحصول على دعم أميركي لحملة برية، وهناك احتمال حقيقي أن تنهار الحكومة اليمنية المنقسمة أصلاً تحت وطأة الضغط المالي الذي بدأ يتراكم منذ أن أوقف الحوثيون صادراتها النفطية أواخر عام 2022، إضافة إلى أثر ما يُنظر إليه كانتصار للحوثيين، ومن شبه المؤكد أن الانهيار المحتمل للحكومة سيؤدي إلى توسع الحوثيين الإقليمي و/أو السماح لتنظيم "القاعدة" بتحقيق مكاسب في جنوب البلاد.
مترجم عن "فورين أفيرز" مايو (أيار) 2025
أبريل لونغلي ألي هي خبيرة أولى سابقة في شؤون دول الخليج واليمن في "معهد الولايات المتحدة للسلام"

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هل استسلم العالم لمحو غزة من الخريطة؟
هل استسلم العالم لمحو غزة من الخريطة؟

الوطن

timeمنذ 34 دقائق

  • الوطن

هل استسلم العالم لمحو غزة من الخريطة؟

العالم غاضبٌ، حانقٌ، مقهورٌ، مستَفَزٌّ وعاجزٌ، حيال فظاعة ما يجري في قطاع غزّة، لكنه يبدو مستسلمًا أمام «القدر» الذي صنعته عقول التطرّف الوحشي وآلة التقتيل والتدمير الإسرائيلية. مستسلمٌ لأن الولايات المتحدة والقوى الغربية التي سارعت إلى العراق وسوريا لسحق تنظيم «داعش» وإرهابه و«دولته»، ولمنعه من العبث بجغرافية البلدَين، لم تمانع أن تمارس إسرائيل إرهابًا «ما بعد داعشيٍّ» بأحدث الأسلحة والقنابل الاختراقية والذكاء الاصطناعي لاقتلاع فلسطينيي غزّة من بيوتهم، لتسوية أبنيتهم ومستشفياتهم ومدارسهم ومساجدهم بالأرض، لتجريف آثارهم ومقابرهم ولإلغاء أي وجود وتاريخ وملكية وانتماء لهم إلى هذه الأرض. بعد نحو عشرين شهرًا من الحرب، تتحدّث إسرائيل عن خططها العسكرية الراهنة بمصطلحات واضحة، وتنفذّها بطرائق أكثر وضوحًا بمعدل مجازر عدة يوميًا، مع تركيز شديد على الأطفال والنساء. يوم السبت (24.05.25) وصلت طبيبة الأطفال آلاء النجار إلى عملها في مجمع ناصر الطبي في خان يونس، وبعد لحظات وصلت جثامين تسعة من أطفالها قُتلوا بصاروخ إسرائيلي وأصيب زوجها وابنها العاشر. هذه مجرد عيّنة من إجرام قضى على عائلات بأكملها. يُجمَع الآن مليونا غزّي في زاوية في جنوب غربي القطاع ليصبحوا فعلًا في معسكر تصفية قبل القتل أو الترحيل. مسؤولون في الكيان الإسرائيلي لا يتورّعون عن ذكر مصطلح «الحل النهائي» الذي استخدمه النازيون لإبادة اليهود. لم يعد خافيًا أن الخطة ترمي إلى إبادة غزّة، إلى محوها من جغرافية فلسطين. لم تتلقف العواصم الكبرى أيًّا من الإشارات الكثيرة التي لاحت منذ بدء الحرب حتى اليوم، لإدراك خطورة نهج الإبادة الذي ظهرت معالمه وواصلت إنكاره. دعمت واشنطن وحلفاؤها «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، أعطوها أكثر الأسلحة فتكًا ورأوا بأم العين كيف استخدمتها ضد المدنيين بذريعة أن مقاتلي «حماس» والفصائل متغلغلون بينهم. دافعوا عنها في مجلس الأمن وأمام محكمة العدل الدولية، وحقدت واشنطن على جنوب إفريقيا التي قاضت إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية إلى حدّ أن دونالد ترمب نصب فخًّا لرئيسها سيريل رامافوزا واستخدم فيديو «أدلة مغلوطة» لاتهام بلاده بإبادة المزارعين البيض. وعندما كُشف أن ذلك الفيديو من الكونغو لم يُصدر البيت الأبيض أي اعتذار أو توضيح، فالمهم أن الرئيس استطاع إفحام ضيفه ولو بالكذب. تلاعب بنيامين نتنياهو وعصابته بالإدارة الأمريكية السابقة، شريكتهم، إلى حدّ إهانتها وإذلالها. أحبطوا كل خطة اقترحتها لـ«اليوم التالي» بعد الحرب، لأن إسرائيل لم تتصوّر أي نهاية لهذه الحرب بوجود أهل غزّة على أرضها. وبعد أيام من تسلّمه صلاحياته سارع ترمب إلى إعلان تبنّيه «خطة تهجير سكان غزّة» باعتبارها نتيجة بديهية لما أنجزته إسرائيل، ومع أنه اقتصد في الحديث عنها بعد الاعتراضات العربية إلا أنه لم يتخلَّ عنها. ولترسيخ اقتناع ترمب بالمشروع العقاري في غزّة، يُنفذ الجيش الإسرائيلي الآن أوامر بتدمير أي مبنى لا يزال قائمًا. في آخر تصريحات لنتانياهو حرص على القول إنه ماضٍ في خطط السيطرة على كامل قطاع غزّة «وصولًا إلى تهجير سكانها وفقًا لبرنامج ترمب» الذي هو في الأساس برنامج إسرائيلي. ردّ نتنياهو بصلفٍ على انتقادات أوروبية لممارسات لإسرائيل سواء في عملياتها العسكرية أو في منعها دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزاه الجوع وبدأ يميت أطفالًا ومسنّين. خلافًا لألمانيا التي لم تغادر هوسها المَرَضي بدعم إسرائيل في حربها، خرجت بريطانيا أخيرًا عن صمتها، ومعها فرنسا وكندا، وإلى حدٍّ ما بلجيكا، واتخذت لندن إجراءات (تعليق مفاوضات اتفاق جديد للتجارة الحرّة) وفرضت عقوبات على أشخاص وكيانات منخرطة في اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية، فيما طلبت باريس مراجعة لاتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ولوّحت الدول الثلاث بإمكان «الاعتراف بدولة فلسطينية». لم تأتِ هذه المواقف متأخرة فحسب، بل ظلّت الإجراءات المعلنة بعيدة عن وقف الإمدادات العسكرية وبالتالي غير مؤثرة أو رادعة للوحش الإسرائيلي الهائج. وبعد مقتل موظفين إسرائيليين في واشنطن، برصاص شخص هتف «فلسطين حرّة»، أمكن آلة التضليل الإسرائيلية أن تتحدّى الأوروبيين وتتهمهم بأنهم يحرّضون على «معاداة السامية». وذهب نتنياهو إلى حدّ مقارنة «فلسطين حرّة» بالشعار النازي «هايل هتلر». وعلى الرغم من الحديث عن جفاء شخصي بينه وبين ترمب، وعن ضغوط أمريكية للتوصل إلى صفقة وقف إطلاق نار مع تبادل أسرى فإن وفد إسرائيل غادر مفاوضات الوسطاء في الدوحة من دون تحقيق أي تقدم، ولم يتسنَّ العثور على أثر لضغوط أمريكية. وبعد اتصال ترمب- نتنياهو نقل مكتب الأخير أن الرئيس الأمريكي عبّر عن «دعمه لضمان إطلاق جميع الرهائن وللقضاء على حماس»، أي أنه لا يؤيّد المآخذ الأوروبية ولا يمارس ضغوطًا. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»

شبهة تحريم الحج وشبهة تحريم التصريح له
شبهة تحريم الحج وشبهة تحريم التصريح له

الوطن

timeمنذ 34 دقائق

  • الوطن

شبهة تحريم الحج وشبهة تحريم التصريح له

جاء كلام يظهر على أنه فتاوى بتحريم الحج هذا العام، وبعضها تحرمه منذ أعوام وبعضها لا تحرم الحج وإنما تفتي بحرمة المال الناتج عنه. وهو كلام لا نزال نسمعه منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى حين لم يكن هناك سوى ما تروج له الدولة العثمانية، ومن يتصدرون لتأليف الكتب على ما تريد، كأحمد زيني وابن عبدالشكور وابن جرجيس وابن سند وغيرهم، أما الآن فقد أصبح بإمكان كل فرد أن يكون إعلاماً بذاته، ولذلك فحينما يكثر المعارضون للسعودية تكبر معه جماهيريتهم وتشيع دعايتهم، وهكذا كان. وقلة ممن تحدث في هذا الموضوع من طلبة العلم بشكل علمي رصين، يرجو الحق، ويبتعد عن التَّسيِيس؛ وقد اطلعت على رد أحد هؤلاء وهو مبادرة طيبة، جزاه الله خيراً، لكنه أهمل كثيراً من الجوانب المهمة جداً التي يكتمل رده لو أضافها. وهنا أقول كان كثيرون يقولون إن السعودية كدولة تأخذ كثيراً من المال على الحجاج عند إصدار التأشيرة؛ وإن كان الكلام ليس جديداً، فقد كان يقال مثله منذ أسست مع أنها كانت تصدر تأشيرات الحج مجاناً، فلا غرابة أن يأتي الكلام عليها حين جعلت رسم تأشيرة الحج مبلغ 300 ريال أي أقل من الـ100 دولار وبالتحديد حوالى 80 دولاراً وهو السعر نفسه لتأشيرة الزيارة ولتأشيرة السياحة، أي إن من يدخل السعودية لأي غرض سواء أكان حجاً أم عمرة أم سياحة سيدفع المبلغ نفسه. وهذا المبلغ لا يقتضي هذه الفتوى الشنيعة بتحريم الحج أو تأثيم فاعله أو غير ذلك، لأمور منها: أنه مبلغ أقل بكثير جداً من المبلغ الذي تأخذه من الحجيج دولهم، إذ تأخذ الدول مبالغ تتفاوت ما بين 4 آلاف دولار و500 في بعض الدول العربية، إلى 15 ألف دولار في دول أخرى. إذاً هل يصبح أن يكون دفع 80 دولاراً مؤدياً إلى القول بالتحريم؟ أمر آخر: إن الحج واجب على القادر عليه أياً كان وأينما كان؛ ولو بُلي الناس بحاكم لا قدر الله يأخذ المال الضخم على الحجاج لوجب الحج مع وجود هذا الحاكم، ومع إثمه، فيما إذا كان ما يأخذه فوق ما يكلفه عمل الحج وخدمته بكثير، فإن كان ما يأخذه الحاكم دون ما يكلفه عمل الحج أو مثل ما يُكلفه عمل الحج أو فوقه بمقدار يعادل ربح العمل فهذا أمر مباح وليس محرماً ومن قال بالتحريم فإنما هو من السفهاء حقاً. نعم هم السفهاء حقاً، وليسوا بعلماء ولا بطلاب علم على الحقيقة؛ وذلك أنهم يقولون مثلاً: إن الأموال التي يدفعها الحاج تعود إلى الكيان الصهيوني، وهذا أولاً زعم مخالف للحقيقة كما أنه زعم يَتَصَور صاحبه لجهله أن الـ300 ريال التي يقدمها الحاج كأنها تصير بمجموعها 3 تريليونات أو أكثر، وهذا تصورٌ لا نقول إنه طفولي؛ بل الأطفال يتصورون أفضل منه؛ لأن الـ300 ريال تصير إذا حَسَبْنا الحجاج بمليوني نسمة إلى 600 مليون ريال أي 160 مليون دولار، وهو مبلغ لا يصل إلى قيمة طائرة حربية من الطائرات التي يستخدمها الصهاينة؛ كما أن السعودية وهذا هو الكلام الحق ليس بينها وبين الكيان الصهيوني أية علاقة، وقد حاول خصوم المملكة إثبات ذلك بكلام استطاعوا به تأليب الشعوب غير المتعاطفة مع السعودية، لكنه غير صحيح، وليس لديهم شاهد على ذلك صورة واحدة بين مسؤول سعودي في موقع المسؤولية وأي مسؤول صهيوني؛ مع أن الصهاينة ينشرون الصور بشكل مريب كما نشروا صور بعض من زارهم من كبراء العرب ولهم معهم علاقات وطيدة، وحاول هؤلاء العرب ستر تلك الصور؛ لكن ولع الصهاينة بالفضائح فوق كل اعتبار عندهم. على أي حال هذا رد على القول بوجود علاقة بين السعودية والكيان الصهيوني، مع أنه في حال وجود علاقة لا يمكن القول بتحريم الحج؛ فليست العلاقة تعني الإمداد المالي، وليست أموال الحج هي التي تغني العدو بالسلاح، ومعروفة مصادر العدو من الأسلحة؛ وعلى افتراض كون العدو يشتري الأسلحة بمال السعودية، وهذا افتراض أبعد من الشمس، ولكننا نقوله جدلاً فلا يجعل ذلك الحج محرماً، لأن الله أمر عباده بالحج إلى مكة، ولم يكلف أحداً بتتبع ما يدفعه من مال وأين يصير؛ لأن الله إذا شاء نَصْرَ المسلمين نَصَرَهُم ولو كانت الدنيا تُمِد عدوهم كما فعل، عز وجل، بالمسلمين الأوائل فانتصروا في اليرموك والقادسية وغيرها. وقضية أخرى يذكرها المسيسون ضد السعودية ولم نر عالماً بذل نفسه للعلم- لا للسياسة- ذكرها؛ وهي إنكارهم على المملكة اشتراط التصريح للحج؛ وأَعْلَمُ أن هؤلاء المنكرين لو تولى من يُحِبونه- لأقدر الله- شأن الحج، ونسأله أن يزيد عزنا بمن ولاه الله حكمنا، لأقر التصاريح، وربما زاد عليها؛ ولكن حديثنا هنا سيكون للبعيدين عن تأثير السياسة والحقد والحسد فيهم؛ فنقول لنفرض صحة ما قالوه من عدم ضرورة التصاريح وجواز الاحتيال، نعوذ بالله من ذلك، وهذا ما قاله بعض أدعياء العلم واستدلّ بقوله تعالى «سبيلاً» الواردة في قوله تعالى «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً»، وقال إنها نكرة في سياق الإثبات فتعم كل سبيل، سواء بتصريح أو غير تصريح أو احتيال أو غيره ؛ فأولاً: النكرة في سياق الإثبات لا تعم وهذا وهم منه؛ ثانياً: لو فرضنا صحة ذلك هل سيكون الإسلام هو الإسلام؟ هل الإسلام الذي يدعو إلى الصدق والسماحة والعدل والانضباط والوقار والاعتدال وحفظ المروءة والكرامة، هو الإسلام الذي يبيح الكذب والحيلة والتزوير والاندساس والتذلل للبشر، وكل هذه الصفات هي التي لا بد للمحتال من اقترافها، فهل هذا هو الإسلام، لا والله لا يكون الإسلام بهذا الشكل أبدا. واستدلال هذا المتمشيخ معارض بالكتاب ومعارض بالمصالح، أما معارضته بالكتاب فقوله تعالى ﴿يَسأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُل هِيَ مَواقيتُ لِلنّاسِ وَالحَجِّ وَلَيسَ البِرُّ بِأَن تَأتُوا البُيوتَ مِن ظُهورِها وَلكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى وَأتُوا البُيوتَ مِن أَبوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [البقرة: 189] فقوله تعالى «ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها» وقوله «وأتوا البيوت من أبوابها» ظاهر في أن دخول البيوت من ظهورها زيادة مبتدعة في أعمال الحج، وكان الأحمسيون وهم قريش يعملونها، وكذلك الأنصار، فنهوا عن ذلك، فإذا كان دخول البيوت من ظهورها منهي عنه في ذلك الزمن، ففي هذا الزمن أولى ألا تدخل للحج بالحيلة، وهي تقتضي الكذب والكذب محرم في الإسلام، وهو أشد تحريماً إذا كان في عبادة يرجو المرؤ منها أن يخرج من سيئاته كيوم ولدته أمه، فكيف يفتتحها بالحيل والأكاذيب. هذا وإن الحكومة السعودية ترجو أن تضخم من أعداد الحجيج، ولكن كيف تُضَخِّمُهم ومنهم من يحجون دون تصريح فيصلون بذلك إلى ضعف عددهم، وربما إن أتيح الأمر دون رقابة كما يطالب هؤلاء أن يتضاعف العدد أضعافاً أخرى، لذلك فضبط هذا الأمر مما لا شك في ضرورته واتخاذ كافة الوسائل لفعله، فلولا ضبط عدد الحجاج لبطل حج كثير من الناس وذلك لأن عرفة لن تستغرقهم وسوف يبقى كثيرون خارج عرفة والحج كما يعلم الكل: عرفة، وكذلك الأمر في منى ومزدلفة، وقد وجدنا هذا الأمر حدث فعلاً في المشاعر الثلاثة ووجدناه في منى بشكل فظيع، فهل يريد هؤلاء المتهورون المتهوكون في ما يبثونه على المسلمين من فتاوى ألَّا يحج الناس أم يريدون مكسباً سياسياً في وهمهم حين تقع السعودية في هذه العقبات وتسقط المسلمين. أضف إلى ذلك أمراً هو الأهم، وهو أن منع الحج دون تصريح بل وتحريمه يسهم في تأمين الحجاج وسلامتهم من كثير من الأمور، ومنها: الفوضى وما تؤدي إليه، وقد علمنا ما نتج عن الفوضى في أزمان سابقة من موت المسلمين وما حل ببعضهم، ومنها: أن مكة في أيام الحج يعدها كبار قادة المخدرات في العالم مكاناً مناسباً للتبادل، ولا أعني هنا أن القادمين للزيارة من هذا النوع حاشا لله فكثير منهم بل والغالب عليهم حسن الديانة إلا أننا نجد استخدام الحج غير النظامي وسيلة لانتهاك الحج بكثير من المعاصي ومنها هذه المعصية أمراً مقبولاً عند هؤلاء أجارنا الله وإياكم.

الحوثيون: 1.4 مليار دولار خسائر موانئ الحديدة جراء الغارات الأمريكية والإسرائيلية
الحوثيون: 1.4 مليار دولار خسائر موانئ الحديدة جراء الغارات الأمريكية والإسرائيلية

الموقع بوست

timeمنذ ساعة واحدة

  • الموقع بوست

الحوثيون: 1.4 مليار دولار خسائر موانئ الحديدة جراء الغارات الأمريكية والإسرائيلية

قالت جماعة الحوثي إن خسائر موانئ الحديدة، جراء الغارات الأمريكية والإسرائيلية بلغت نحو 1.4 مليار دولار. وذكرت مؤسسة موانئ البحر الأحمر التابعة للجماعة، في بيان إن خسائر مباشرة وغير مباشرة تجاوزت مليارا و387 مليون دولار في موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، نتيجة لسلسلة غارات العدوان الصهيوني الأمريكي، التي استمرت من يوليو (تموز) 2024 حتى مايو/أيار 2025، وفق وكالة سبأ نسخة صنعاء. وأشارت إلى أن الأضرار المباشرة بلغت أكثر من 531 مليون دولار، في الوقت الذي قدرت المؤسسة الخسائر غير المباشرة بـ 856 مليون دولار نتيجة توقف الخدمات وتعطل تدفق الإمدادات. وأكدت أن هذه الاعتداءات استهدفت البنية التحتية والمنشآت التشغيلية للموانئ المدنية، كما تسببت في تدمير أرصفة، ورافعتين رئيسيتين، ومحطات كهرباء ومولدات، ومرافق خدمية ولوجستية. وحسب البيان شمل الدمار الأرصفة العائمة والقاطرات والمستودعات التي كانت مخصصة لتفريغ المواد الغذائية والإغاثية والدوائية، في الموانئ الثلاثة المذكورة. وأفاد أن الغارات تسببت بتدمير الأرصفة (1، 2، 5، 6، 7، 8)، ورافعتين رئيسيتين، ومحطات كهرباء ومولدات، ومرافق خدمية ولوجستية، بما في ذلك الأرصفة العائمة والقاطرات والمستودعات، التي كانت مخصصة لتفريغ المواد الغذائية والإغاثية والدوائية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store