
"مواليد حديقة الحيوان".. ثلاث روايات قصيرة تسرد مصر بنفَس أورويلي!
الرواية الأولى 'كابينة لا ترى البحر' بطلها "عارف" الفتى المراهق، الذي لا يعرف عن الحياة سوى الفقد، في وقت كان يلاحق فيه رغبة استكشاف جسده وغرائزه، لتنقلب بعدها حياته رأساً على عقب بسبب أمنية تمناها كانت تبدو مستحيلة، وهي أن يتمكن من "التصييف في الساحل الشمالي"، فيتوجه جدّه إلى الباشا الذي يشغّله، في حين يباغته "عارف" بالطلب فيوافق على غير المتوقع، وهناك يتعرف هو وشقيقته التي كانت ترافقه إلى حفيد الباشا، الذي يحاول إغواءه بتعاطي المخدرات، لكنه لم يكن يتخيل ما سيحدث له.. لم يكن حلماً بل كابوساً، إذ تقضي شقيقته تحت وقع هذا السم القاتل.
وكان يتردد أن الجد سافر إلى ليبيا للعمل، لكن "عارف"، وحين اكتشف الجيب الخفي في صندوق الصور، أدرك أن الجد كان مسجوناً لأكثر من مرّة في جرائم ارتكبها الباشا، الذي يحاول إقناع الجد بأن يكرر حفيده فعلته و"يشيل التهمة" عن حفيد الجد، وهو ما يكون بعد طول رفض، فيُحكم "عارف" لخمسة عشر عاماً، ويحصل على أموال طائلة.
"أنا زمان فديت الباشا الكبير بسنين كتيرة من رصيد عمري، أول مرّة سبع سنين كاملين، والمرّة التانية أخذوا منّي نصّهم وخرّجوني حسن سير وسلوك، أنا افهمِت إنك عرفت الحقيقة لمّا شفت الجرايد على سريرك، وفتحت صندوق أمك تاني يوم، وتأكدت، أنا كنت ناوي لمّا نرجع إمبابة أفهمك أنا ليه عملت كده، لكن حصل اللي حصل لأختك الله يرحمها، دي الوقت الفرصة جات لغاية عندك علشان تفهم موقفي، وتعرف تأمن مستقبلك".
الرواية غنية بالترميز والتأويلات، من بينها تكريس الطبقية وتوارثها في المجتمع المصري، وهو ما ينسحب على العديد من المجتمعات العربية وغير العربية في ظل تغوّل النظام الرأسمالي، وارتفاع وتيرة تحالف السلطة ورأس المال حد التماهي، كما تتطرق إلى السلطة الأبوية، وصراع الأجيال، والعيش تحت ظل الماضي، والمحاولات البائسة للتحرر منه، علاوة على تطرقها لخطورة البحث عن العوالم الخفية، والأسرار التي سعى أصحابها إلى إخفائها، وعواقب ذلك في عالم اليوم، لا سيما في مصر وغالبية الدول العربية، ودول ما يعرف بالعالم الثالث، مقدمة نقداً للمجتمع المصري وتحدياته.
أما العنوان "كابينة لا ترى البحر"، ويشير إلى الموقع الذي تورطت فيه شقيقة "عارف" بما أودى بها إلى الموت، فيعكس الفكرة المحورية للروايات جميعها، والمتمحورة حول أن الحقائق ليست كما تبدو عليه دائماً، فالرواية الأولى تتمحور حول الضياع، والبحث عن الذات، وكشف الحقائق المخفية، حيث يتشابك الواقع مع الخيال ليقدم صورة لرحلة إنسانية مليئة بالتحديات والمفاجآت.
الرواية الثانية حملت عنوان "مزرعة الخنازير"، وتتمحور حول حكاية "فايز حنا" تاجر الخنازير الذي يعيش في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويرث مزرعة لحوم مرفوضة دينياً واجتماعياً، فيستغل قرار الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات بمنع ذبح الحيوانات التي تؤكل لحومها لمدة عامين، في خطوة لضبط سوق اللحوم، ويسوّق اللحوم المرفوضة على أنها لحوم بقرية بعد تتبيلها بخلطته السرّية، فيتحول إلى شخصية غير الأولى تحت اسم "الشيخ فايز"، يحمل الديانة الإسلامية على عكس نسخته الأولى، التي أوهم الجميع أنها قضت في حريق، وكان يحمل الديانة المسيحية.
"انقلب فايز لشيخ عجوز مع أنه لا يزال شاباً في نهاية العشرينيات، هيبته ولقب المعلم الذي يسبق اسمه أضافا سنوات وهمية لعمره.. عاش طفولته في بحبوحة وهدوء، ومنذ عامين ورث عن أبيه مزرعة خنازير هي الأكبر بمدينة ملوي. أحب المكان لمّا أخبرته أمه أنها ولدته فيه عندما فاجأها طلق الولادة وبعدها نقل للمستوصف، كاد فايز يموت حتى أنقذ الطبيب حياته، فأسموه على اسمه.. لم يكمل تعليمه، وانشغل بتربية خنازيره، ولمّا مات أبوه فوّضه أشقاؤه لإدارتها رغم أنه أصغرهم، قضى عمره كله بين هذه الحيوانات التي تبدو لزجة وقذرة لدى كثيرين، لكنها بالنسبة له أكل عيشه ومهنته التي لا يعرف غيرها، ولا يجد فيها غضاضة، كما تربى ونشأ".
واعتمد العشماوي في هذه الرواية على سرد مشوق، بحثاً عن سر طلب المحامي من "فايز" ارتداء النقاب في بداياتها، وما وراء مقولته بأن "حياتك في موتك"، هو الذي كان يقضي يومياته على مدار تقليب صفحات الرواية الأطول بين الثلاث، هارباً من الموت عند ولادته، أو القضاء قتلاً على يد جماعة سلفية، أو هرباً من المحاكمة، أو اعتقال شبه يقيني من الشرطة، بحيث تحميه الجماهير لفرط شعبيته، ولما يقدمه لهم من خدمات جليلة، أي لحم فاخر و"حلال" بأسعار في متناول الكثيرين، حتى يُعيّن عضواً في مجلس الشعب، هو الذي كان ينقل لحم الخنازير المُعدّل في ناقلات تحمل صوراً للسادات وضيفه الرئيس الأميركي الراحل كارتر، مدموغة بشعار المعونة الأميركية!
"خلال أسبوعين مجلس الشعب يبتدي الدورة الجديدة، وانت معانا بالتعيين يا شيخ فايز بإذن الله"، وهنا "اتسعت ابتسامة المحامي، ولم ينتظر المساعد رداً، أخرج استمارة انضمام دفع بها ناحية فايز حنا، الذي وقّع عليها بغير تفكير، ثم أطال النظر لمساعد أمين التنظيم وابتسم.. اليوم تأكد أن الحكومة كلها سوف تحميه باعتباره من العشرة المبشرين بالحصانة البرلمانية".
وكما العديد من النهايات غير السعيدة، والواقعية في المسلسلات والأفلام المصرية، يكون مصير "فايز" كمصير كل من يفكر بـ"اللعب مع الكبار"، بحيث تتناول الرواية الاستبداد، والفساد، والجشع، والفقر، وتدهور القيم الأخلاقية، كما المفاهيم المتغيرة من ملّة إلى أخرى في ذات الجغرافيا، وما بين زمن وآخر، وجغرافيا وأخرى، فيما يعرف بـ"الحرام" و"العيب".
وكانت الثالثة "مواليد حديقة الحيوان" هي الرواية التي تحمل اسم المجموعة بأكملها، وخاتمة ثلاثية العشماوي، الذي يعود بنا فيها إلى سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وتحديداً حقبة حكم الرئيس الراحل السادات، مسلطة الضوء على قضايا سياسية واجتماعية شكلت ملامح تلك المرحلة الحيوية من تاريخ مصر الحديث.
تدور أحداث الرواية الثالثة هذه حول "إسماعيل"، الذي ولد في حديقة حيوانات الجيزة، حيث كان والده حارساً هناك ويقطن رفقة زوجته فيها.. يقضي الأب بين فكي أسد الحديقة في حادث سجل على أنه إهمال، وتموت الأم، فينتقل طفلاً إلى حيث بيت عمّه، ليدرس الطب البيطري، ويقدّم على وظيفة حكومية، وعلى شقة في مدينة "مايو الجديدة" للمتزوجين حديثاً، وكان أنشأها السادات كدعم للمقبلين على الزواج، فلا يتحصل على هذه ولا تلك.
نصحه عمّه للتقدم للعمل في حديقة الحيوانات، لكونه من مواليدها، لكون والده عمل فيها لسنوات، ويتحصل أخيراً على وظيفة حارس بيت الفيل، في مزيج من الفنتازيا والخيال والكوميديا السوداء، كما بقية الروايات، ليعبّر عن حالة البطالة والتهميش، التي يعيشها كما غيره، قبل أن يموت أسدان كانت كينيا قدمتهما هدية لمصر، بلحم حمير فاسد، في إطار المنظومة التي يشرف عليها مدير حديقة الحيوانات ونائبه، وهي جزء من المنظومة التي أودت بحياة والده، تليها وصول رسالة بنيّة الرئيس السادات ورئيس كينيا زيارة الحديقة، وخاصة قفص الأسدين، خلال أيام من عام السرد 1981.
وفي وحي من مسرحية لعادل إمام، يوافق "إسماعيل" وخطيبته على مقترح بارتداء ثوبَي أسد ولبؤة، مقابل ألف جنيه، وكان مبلغاً كبيراً، وقتذاك، لكن الرئيسين يلغيان الزيارة، وتحدث جلبة تكشف أمرهما، فتعتقلهما الشرطة، تحت تهمة الانتماء لتنظيم إرهابي يهدف إلى الإطاحة بالنظام يحمل اسم "تنظيم الأسد"!
ويمكن اعتبار "مواليد حديقة الحيوانات" تجربة جديدة ليست فقط في مسيرة العشماوي الروائية، بل في كتابة الرواية القصيرة على شكل سلسلة منفصلة متصلة في آن، فهو متنوع أساليب السرد، ومغناطيسي في قوة ترميزاته ومساحات تأويلاته، وهو علاوة على ذلك يشكل إطلالة على الذاكرة الجمعية المصرية في عقود خلت، وعلى واقعها المعاش، الذي هو امتداد لما فات، وكأنها تسرد مصر بنفسٍ أورويلي، لما تحتويه من تقاطعات، ولو خفية، مع "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل، خاصة في كونهما تشكلان استعارات غير موارِبة لوضعية المهمشين في ظل أنظمة قمعية أو ظروف سياسية واجتماعية وثقافية بائسة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة أنباء شفا
منذ 3 أيام
- شبكة أنباء شفا
المفكر الإسلامي محمد نبيل كبها يطلق كتابه العاشر بعنوان 'محمد أربعون'
شفا – يصادف ميلاد المفكر الإسلامي محمد نبيل كبها، والذي وطِئت قدمه فيه سن الأربعين، يطلق بعون الله تعالى كتابه العاشر بعنوان 'محمد أربعون' والذي يقول فيه: (ما زال فؤادي يقفز ويلعب ويشاغب كالأطفال.. ما زال فؤادي يكافح ويناضل ويحارب كالأبطال. ما زال عقلي بيت للشعر، وأرض للثورة، وقلم للكاتب، ونظرية للمفكر. أنا الأربعيني.. من تقيّأ الأغنوتولوجي، وقلّم أظافر الإستنعاج، وعكف على ندحته، وقرأ النواميس، وازدلف الى ربه( . ويردف قائلا: (إن الأربعينيات بداية الحياة، لا بداية النهاية) . ويختم حديثه: (صحيح أنني جسديا لا أستطيع اختراق فضاء مينكوفسكي، لكن روحيا أستطيع، ولو كان للشجرة خط مينكوفسكي، لرأيت فيها المعجزات، وكأن يد الله تعالى تجري في عروق هذه الشجرة، وتبسط فيها أراضٍ وبساتين وساحات، وترفع فيها عوالم وكواكب ومجرات، تعود بك الى نقطة الإنفجار العظيم. حتى الوردة التي ترقص في ذلك البستان، رأيت فيها شمساً وقمراً ومطراً ودخان، وعلى صفحة ورقتها كانت تسبح نجمة، وفوق كأسها تزحف يرقة، وتعانق نحلة حرفها بحنان. لقد كان كل ذلك عندما حدثتني الشجرة عن الإنسان، والنملة عن سليمان).


جريدة الايام
منذ 5 أيام
- جريدة الايام
"مواليد حديقة الحيوان".. ثلاث روايات قصيرة تسرد مصر بنفَس أورويلي!
"مواليد حديقة الحيوان" لأشرف العشماوي، والصادر عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، عبارة عن ثلاث روايات قصيرة تمزج الواقع بالخيال، والحاضر بالماضي، والفصحى بالعامية، وتحافظ على قدرة لافتة في التشويق، كأنك أمام مسلسل درامي في أجزاء، لكل منها حكايته، لكن ثمة رابطاً ما بينها، فأحداث الروايات تدور حول شخصيات تحلم بعيش كريم، وبعض الأحلام والطموحات العادية أو الأقل من العادية، ويجمعها أيضاً أنها تجد نفسها متورطة في مواقف تفوق قدراتها وتتجاوز المنطق أحياناً، ما يقلب يوميّاتها وجلّ حيواتها، إن لم يكن كلها، رأساً على عقب، وأنهم يحاولون الخروج من هذه المواقف بطرقهم الخاصة، ليكتشفوا أن الحقائق خادعة، وأن الصور ليست دائماً كما تبدو عليه. الرواية الأولى 'كابينة لا ترى البحر' بطلها "عارف" الفتى المراهق، الذي لا يعرف عن الحياة سوى الفقد، في وقت كان يلاحق فيه رغبة استكشاف جسده وغرائزه، لتنقلب بعدها حياته رأساً على عقب بسبب أمنية تمناها كانت تبدو مستحيلة، وهي أن يتمكن من "التصييف في الساحل الشمالي"، فيتوجه جدّه إلى الباشا الذي يشغّله، في حين يباغته "عارف" بالطلب فيوافق على غير المتوقع، وهناك يتعرف هو وشقيقته التي كانت ترافقه إلى حفيد الباشا، الذي يحاول إغواءه بتعاطي المخدرات، لكنه لم يكن يتخيل ما سيحدث له.. لم يكن حلماً بل كابوساً، إذ تقضي شقيقته تحت وقع هذا السم القاتل. وكان يتردد أن الجد سافر إلى ليبيا للعمل، لكن "عارف"، وحين اكتشف الجيب الخفي في صندوق الصور، أدرك أن الجد كان مسجوناً لأكثر من مرّة في جرائم ارتكبها الباشا، الذي يحاول إقناع الجد بأن يكرر حفيده فعلته و"يشيل التهمة" عن حفيد الجد، وهو ما يكون بعد طول رفض، فيُحكم "عارف" لخمسة عشر عاماً، ويحصل على أموال طائلة. "أنا زمان فديت الباشا الكبير بسنين كتيرة من رصيد عمري، أول مرّة سبع سنين كاملين، والمرّة التانية أخذوا منّي نصّهم وخرّجوني حسن سير وسلوك، أنا افهمِت إنك عرفت الحقيقة لمّا شفت الجرايد على سريرك، وفتحت صندوق أمك تاني يوم، وتأكدت، أنا كنت ناوي لمّا نرجع إمبابة أفهمك أنا ليه عملت كده، لكن حصل اللي حصل لأختك الله يرحمها، دي الوقت الفرصة جات لغاية عندك علشان تفهم موقفي، وتعرف تأمن مستقبلك". الرواية غنية بالترميز والتأويلات، من بينها تكريس الطبقية وتوارثها في المجتمع المصري، وهو ما ينسحب على العديد من المجتمعات العربية وغير العربية في ظل تغوّل النظام الرأسمالي، وارتفاع وتيرة تحالف السلطة ورأس المال حد التماهي، كما تتطرق إلى السلطة الأبوية، وصراع الأجيال، والعيش تحت ظل الماضي، والمحاولات البائسة للتحرر منه، علاوة على تطرقها لخطورة البحث عن العوالم الخفية، والأسرار التي سعى أصحابها إلى إخفائها، وعواقب ذلك في عالم اليوم، لا سيما في مصر وغالبية الدول العربية، ودول ما يعرف بالعالم الثالث، مقدمة نقداً للمجتمع المصري وتحدياته. أما العنوان "كابينة لا ترى البحر"، ويشير إلى الموقع الذي تورطت فيه شقيقة "عارف" بما أودى بها إلى الموت، فيعكس الفكرة المحورية للروايات جميعها، والمتمحورة حول أن الحقائق ليست كما تبدو عليه دائماً، فالرواية الأولى تتمحور حول الضياع، والبحث عن الذات، وكشف الحقائق المخفية، حيث يتشابك الواقع مع الخيال ليقدم صورة لرحلة إنسانية مليئة بالتحديات والمفاجآت. الرواية الثانية حملت عنوان "مزرعة الخنازير"، وتتمحور حول حكاية "فايز حنا" تاجر الخنازير الذي يعيش في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويرث مزرعة لحوم مرفوضة دينياً واجتماعياً، فيستغل قرار الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات بمنع ذبح الحيوانات التي تؤكل لحومها لمدة عامين، في خطوة لضبط سوق اللحوم، ويسوّق اللحوم المرفوضة على أنها لحوم بقرية بعد تتبيلها بخلطته السرّية، فيتحول إلى شخصية غير الأولى تحت اسم "الشيخ فايز"، يحمل الديانة الإسلامية على عكس نسخته الأولى، التي أوهم الجميع أنها قضت في حريق، وكان يحمل الديانة المسيحية. "انقلب فايز لشيخ عجوز مع أنه لا يزال شاباً في نهاية العشرينيات، هيبته ولقب المعلم الذي يسبق اسمه أضافا سنوات وهمية لعمره.. عاش طفولته في بحبوحة وهدوء، ومنذ عامين ورث عن أبيه مزرعة خنازير هي الأكبر بمدينة ملوي. أحب المكان لمّا أخبرته أمه أنها ولدته فيه عندما فاجأها طلق الولادة وبعدها نقل للمستوصف، كاد فايز يموت حتى أنقذ الطبيب حياته، فأسموه على اسمه.. لم يكمل تعليمه، وانشغل بتربية خنازيره، ولمّا مات أبوه فوّضه أشقاؤه لإدارتها رغم أنه أصغرهم، قضى عمره كله بين هذه الحيوانات التي تبدو لزجة وقذرة لدى كثيرين، لكنها بالنسبة له أكل عيشه ومهنته التي لا يعرف غيرها، ولا يجد فيها غضاضة، كما تربى ونشأ". واعتمد العشماوي في هذه الرواية على سرد مشوق، بحثاً عن سر طلب المحامي من "فايز" ارتداء النقاب في بداياتها، وما وراء مقولته بأن "حياتك في موتك"، هو الذي كان يقضي يومياته على مدار تقليب صفحات الرواية الأطول بين الثلاث، هارباً من الموت عند ولادته، أو القضاء قتلاً على يد جماعة سلفية، أو هرباً من المحاكمة، أو اعتقال شبه يقيني من الشرطة، بحيث تحميه الجماهير لفرط شعبيته، ولما يقدمه لهم من خدمات جليلة، أي لحم فاخر و"حلال" بأسعار في متناول الكثيرين، حتى يُعيّن عضواً في مجلس الشعب، هو الذي كان ينقل لحم الخنازير المُعدّل في ناقلات تحمل صوراً للسادات وضيفه الرئيس الأميركي الراحل كارتر، مدموغة بشعار المعونة الأميركية! "خلال أسبوعين مجلس الشعب يبتدي الدورة الجديدة، وانت معانا بالتعيين يا شيخ فايز بإذن الله"، وهنا "اتسعت ابتسامة المحامي، ولم ينتظر المساعد رداً، أخرج استمارة انضمام دفع بها ناحية فايز حنا، الذي وقّع عليها بغير تفكير، ثم أطال النظر لمساعد أمين التنظيم وابتسم.. اليوم تأكد أن الحكومة كلها سوف تحميه باعتباره من العشرة المبشرين بالحصانة البرلمانية". وكما العديد من النهايات غير السعيدة، والواقعية في المسلسلات والأفلام المصرية، يكون مصير "فايز" كمصير كل من يفكر بـ"اللعب مع الكبار"، بحيث تتناول الرواية الاستبداد، والفساد، والجشع، والفقر، وتدهور القيم الأخلاقية، كما المفاهيم المتغيرة من ملّة إلى أخرى في ذات الجغرافيا، وما بين زمن وآخر، وجغرافيا وأخرى، فيما يعرف بـ"الحرام" و"العيب". وكانت الثالثة "مواليد حديقة الحيوان" هي الرواية التي تحمل اسم المجموعة بأكملها، وخاتمة ثلاثية العشماوي، الذي يعود بنا فيها إلى سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وتحديداً حقبة حكم الرئيس الراحل السادات، مسلطة الضوء على قضايا سياسية واجتماعية شكلت ملامح تلك المرحلة الحيوية من تاريخ مصر الحديث. تدور أحداث الرواية الثالثة هذه حول "إسماعيل"، الذي ولد في حديقة حيوانات الجيزة، حيث كان والده حارساً هناك ويقطن رفقة زوجته فيها.. يقضي الأب بين فكي أسد الحديقة في حادث سجل على أنه إهمال، وتموت الأم، فينتقل طفلاً إلى حيث بيت عمّه، ليدرس الطب البيطري، ويقدّم على وظيفة حكومية، وعلى شقة في مدينة "مايو الجديدة" للمتزوجين حديثاً، وكان أنشأها السادات كدعم للمقبلين على الزواج، فلا يتحصل على هذه ولا تلك. نصحه عمّه للتقدم للعمل في حديقة الحيوانات، لكونه من مواليدها، لكون والده عمل فيها لسنوات، ويتحصل أخيراً على وظيفة حارس بيت الفيل، في مزيج من الفنتازيا والخيال والكوميديا السوداء، كما بقية الروايات، ليعبّر عن حالة البطالة والتهميش، التي يعيشها كما غيره، قبل أن يموت أسدان كانت كينيا قدمتهما هدية لمصر، بلحم حمير فاسد، في إطار المنظومة التي يشرف عليها مدير حديقة الحيوانات ونائبه، وهي جزء من المنظومة التي أودت بحياة والده، تليها وصول رسالة بنيّة الرئيس السادات ورئيس كينيا زيارة الحديقة، وخاصة قفص الأسدين، خلال أيام من عام السرد 1981. وفي وحي من مسرحية لعادل إمام، يوافق "إسماعيل" وخطيبته على مقترح بارتداء ثوبَي أسد ولبؤة، مقابل ألف جنيه، وكان مبلغاً كبيراً، وقتذاك، لكن الرئيسين يلغيان الزيارة، وتحدث جلبة تكشف أمرهما، فتعتقلهما الشرطة، تحت تهمة الانتماء لتنظيم إرهابي يهدف إلى الإطاحة بالنظام يحمل اسم "تنظيم الأسد"! ويمكن اعتبار "مواليد حديقة الحيوانات" تجربة جديدة ليست فقط في مسيرة العشماوي الروائية، بل في كتابة الرواية القصيرة على شكل سلسلة منفصلة متصلة في آن، فهو متنوع أساليب السرد، ومغناطيسي في قوة ترميزاته ومساحات تأويلاته، وهو علاوة على ذلك يشكل إطلالة على الذاكرة الجمعية المصرية في عقود خلت، وعلى واقعها المعاش، الذي هو امتداد لما فات، وكأنها تسرد مصر بنفسٍ أورويلي، لما تحتويه من تقاطعات، ولو خفية، مع "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل، خاصة في كونهما تشكلان استعارات غير موارِبة لوضعية المهمشين في ظل أنظمة قمعية أو ظروف سياسية واجتماعية وثقافية بائسة.


معا الاخبارية
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- معا الاخبارية
الخليل تحتضن مؤتمر إطلاق فعاليات "مهرجان اللغة العربية الثامن السنوي للشباب"
الخليل- معا- تحت رعاية وزير الثقافة عماد حمدان، وبحضور نخبة من الأكاديميين والمهتمين بالشأن الثقافي واللغوي، أُعلن خلال مؤتمر صحفي عن إطلاق فعاليات مهرجان اللغة العربية السنوي الثامن للشباب، بعنوان "عين على غزة وعين على أدب الشباب"، الذي ينظمه نادي أَحباب اللغة العربية الفلسطيني، بالشراكة مع وزارة الثقافة والصندوق الثقافي الفلسطيني، وذلك في متحف البلدة القديمة في الخليل. جاء ذلك بحضور وزير الثقافة عماد حمدان، ورغد الدويك رئيسة جامعة الخليل، ومصطفى أبو الصفا رئيس جامعة بولتكنيك فلسطين، ومحمود طميزة ممثلاً لجامعة فلسطين الأهلية ورئيس المهرجان رئيس نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني عباس مجاهد، وأماني أبو سنينة مدير الأنشطة في دار المحافظة وممثلة لمحافظ الخليل بحضور ثقافي ورسمي وإعلامي. وفي كلمة له قال وزير الثقافة عماد حمدان :"نلتقي اليوم في مهرجان اللغة العربية السنوي الثامن للشباب، برعاية وزارة الثقافة ودعم من الصندوق الثقافي الفلسطيني، لنحتفي بلغتنا العربية بوصفها، حصن هويتنا، إنها لغة اختارها الله لكتابه العظيم، وتعهد بحفظها، فحفظ بذلك هويتنا. إنها اللغة التي تميزنا وتمنحنا فرادةً صوتيةً بين الأمم، إن عبقرية لغتنا العربية تكمن في بنيتها التي تعكسُ روحَ الصمود والتجدد. وأضاف الوزير حمدان :"في فلسطين، لم يكن الأدب يوماً منعزلا عن الواقع، فهو على الدوام وسيلة استراتيجية في النضال الوطني. لقد كان "أدب المقاومة"، وهو المصطلح الذي شاع بعد عام 1967، السمة الفارقة لإنتاجنا الثقافي الحديث، والوسيلة التي أثبتنا بها تجذرنا في هذه الأرض وفضحنا بطش المحتل، يقف شبابنا اليوم على أكتاف عمالقة، خطوا بدمائهم ومدادهم فصول سرديتنا الكبرى. إننا نقف احتراماً لغسان كنفاني، الذي كانت أعماله مثل "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا" نصوصاً تأسيسية لهويتنا ووعينا الوطني والثقافي. ونستذكر شعراء المقاومة "محمود درويش وسميح القاسم"، الذين عبرت كلماتهم الأسوار والحدود، ورسمت قضيتنا في وجدان العالم. وأكد الوزير حمدان أن إحصائيات الإبادة، تفوق الخيال وتؤكد أن الاستهداف متعمد وممنهج. وخلف كل رقم قصةً إنسانيةً، تحملُ عبء الحياة والذاكرة، وهناك إبادة أخرى لا تقل وحشية، وهي حرب "الإبادة الثقافية"، وهي استراتيجية متكاملة تهدف إلى محو ماضي غزة وحاضرها ومستقبلها، مؤكداً التزام الوزارة بدعم المبدعين ودعم هذه المبادرات الثقافية، التي تُعد جزءاً من تحصين جبهتنا الثقافية. كما استعرض عبّاس مجاهد رئيس المهرجان، أبرز محاور وفعاليات الدورة الثامنة معلناً عن جوائز النادي الثلاثة: - شخصية اللغة العربية لعام ٢٠٢٥م - شخصية الإبداع الشبابي - جائزة الشاعر شفيق الرجبي للآداب تخلّل المؤتمر عرضاً لأهداف المهرجان، ومحاوره، وفئاته المستهدفة، حيث يركّز هذا العام على أدب الشباب، والكتابة الإبداعية، والهوية اللغوية، مع تسليط الضوء على غزة كرمز للإبداع والصمود. وينطلق المهرجان مساء الإثنين المقبل ويستمر لمدة ثلاثة أيام في محافظة الخليل يتخلله أوراق وأبحاث لغوية وأدبية ومشاركات شعرية وورش فنية وأدبية وإطلاق كتب ومعرض فني وتكريم باحثين بمشاركة نخبة من أدباء وعلماء وشعراء وفناني فلسطين وإعلان شخصية اللغة العربية وجائزة الإبداع الشبابي 2025م وجائزة الشاعر الراحل شفيق الرجبي لأفضل عمل أدبي. يُذكر أن مهرجان اللغة العربية السنوي بات تقليدًا ثقافيًا بارزًا، يستقطب الكتّاب الشباب والمربين ومحبي اللغة من مختلف محافظات الوطن، ويُعدّ منصةً لعرض التجارب الأدبية، وميدانًا للتنافس الراقي في خدمة الضاد .