
هل لسورية الجديدة حلفاء في لبنان؟
أصدر حزب القوات اللبنانية، في 24 مايو/ أيار الحالي، بياناً أكّد أن "المتابعة الحثيثة" مع الإدارة السورية الجديدة أدّت إلى تسليم قاتل المسؤول في "القوات" باسكال سليمان إلى الجهات اللبنانية المتخصّصة. ولم يُغفِل البيان الإشارة إلى متابعة قضية المغدور مع السلطات اللبنانية، فالقاتل كان قد غادر لبنان إلى سورية بعد قتله سليمان بمعيّةٍ من رفاق السوء السوريين.
قد لا يحمل أمر المتابعة "القواتية" مع الأجهزة اللبنانية جديداً، أو ما يشدّ النظر إلى سرّ مخبوء، فواقع الحال يفرض أفعال التواصل بين حزب لبناني ودولته، كما طبيعة الأشياء في دول المعمورة كافّة، إلا أن ملاحقة قضية جُرمية لها أبعاد أمنية، وتحمل في طيّاتها تواصلاًَ غير معهود بين طيف سياسي وريثٍ لأطيافٍ سابقةٍ مأخوذةٍ بالريبة من سورية، ومناوئةٍ لها عقوداً مضت، والإدارة السورية، يفتح المجال للسؤال عن تلك العلاقة الناشئة مع دمشق الجديدة، وبما يتخطى حصرية البحث عن قاتل مأفون وتقديمه للعدالة، وبطريقة يتوسّع فيها السؤال عن مشترك نفعي وسياسي آخذ بالنمو بين جماعة سياسية لبنانية والحُكم الجديد في سورية.
ما يدفع إلى ذاك الافتراض أن الجماعة السياسية اللبنانية المقصودة تقف في مساحة خصامية واحدة مع الإدارة السورية تجاه طرف لبناني محدّد، ما ينتج تجاوراً في المواقف، وتقارباً في الأهداف، وكلاهما قد يؤدّي إلى مزيد من التنسيق لمواجهة الغريم اللدود. في الذاكرة اللبنانية ما يماثل اجتماع النقائض وائتلافها بين بيروت ودمشق، فالأحزاب التي كانت محسوبةً على اليمين اللبناني مثل الكتائب، بزعامة الشيخ بيار الجميّل، والوطنيين الأحرار، بقيادة رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون، نسجت خطابها السياسي والتعبوي على الموقف النزاعي التقليدي مع سورية، وعلى التحذير الدؤوب من نفوذها في لبنان، واستمرّ هذا الخطاب يغزل على النول نفسه حتى عشية الحرب الأهلية عام 1975، وانتظام أهل اليسار اللبنانيين مع فصائل المقاومة الفلسطينية في إطار عسكري واحد. وعلى ما غدا معروفاً، أدّى ذاك الانتظام إلى انقلاب ظهر المجنّ بين دمشق القديمة وأهل اليمين، وبات هؤلاء يمنّون النفس بدخول القوات السورية لبنان بهدف تكسير شوكة اليسار، واقتلاع أظافر الفصائل الفلسطينية، والعودة إلى مشاهد وشواهد تلك المرحلة، فيها كثير مما يُحكى ويُروى.
عالم السياسة يشبه سائل الزئبق، ينبسط وينقبض
في "لبنان وسورية... مشقّة الأخوة"، يقول رئيس تحرير صحيفة العمل الكتائبية وأحد أهم العقول السياسية التي كانت قريبة من مؤسّس حزب الكتائب بيار الجميل، جوزيف أبو خليل: "إني أشهد بأننا كنّا مرحّبين بالدخول السوري إلى لبنان، وفي الكتائب، كما في كلّ الأوساط المسيحية، كنّا نتابع بلهفة حارّة أنباء تقدّم القوات السورية في البقاع، وفي صوفر وبحمدون وعاليه، وأحياناً كنّا نشكو بطء هذا التقدّم وتعثّره، والقوات السورية كانت تُستقبل برشّ الزهور في المناطق والأحياء الشعبية المسيحية". وينقل أبو خليل عن بيار الجميّل قوله في اجتماع للمكتب السياسي الكتائبي (8 أغسطس/ آب 1977): "من المستطاع أن نجعل من التضامن اللبناني ـ السوري أداةً لتقوية لبنان وتعزيز موقعه في المنطقة العربية مع استقراره، وبقدر ما نكون متفاهمين مع سورية يرتاح لبنان ويقوى ويستقرّ".
ويورد الأمين العام الأسبق لحزب الكتائب كريم بقرادوني، في كتابه "السلام المفقود... عهد إلياس سركيس 1976 - 1982"، أنه في أيلول 1976 أبلغ المبعوث السوري محمد الخولي قادة اليمين اللبناني باتخاذ دمشق قراراً عسكرياً محدوداً بضرب القوات المشتركة التابعة للقوى اليسارية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وقضى هذا القرار بدخول وحدات من الجيش السوري إلى منطقة المتن في جبل لبنان دون غيرها، وحين كان الخولي يشرح للرئيس كميل شمعون تفاصيل العملية، كانت علامات الفرح والانشراح ترتسم في وجه شمعون. ومع ذلك، أبدى الأخير استغرابه من محدودية العملية العسكرية السورية، وطالب باجتياح مناطق أخرى في جبل لبنان. أمّا بيار الجميّل، فلمّا تبلغ القرار من الخولي قال له "إني موافق بنسبة ألف في المائة" وأضاف: "هذا خبر حسن يستحقّ أن أدخن له سيجارة".
يوسع بيان "القوات" السؤال عن مشترك نفعي وسياسي آخذ بالنمو بين جماعة سياسية لبنانية والحُكم الجديد في سورية
وفي شهادة أخرى للرئيس شمعون في كتابه "أزمة في لبنان" (1977)، فمدينة "طرابلس وضواحيها تحت الاحتلال الفلسطيني، ولكن تُطوّقها من كلّ جهة قوات اليمين والفرق السورية الآتية من سهل عكّار، وأمّا زحلة والبقاع وجرود المتن التي حرّرتها القوات السورية، تعود خطوة خطوة إلى النظام اللبناني"، وقد يكون من المناسب تماماً التوقّف عند ما يقوله شمعون من "تحرير" القوات السورية مناطق في شرقي لبنان وشماله من القوات المشتركة اليسارية الفلسطينية. ولكن هذا الموقف سينقلب على عقبه حين راح أهل اليمين يطالبون بإخراج الجيش السوري عام 1978 من منطقة الأشرفية، الواقعة في الجانب الشرقي من بيروت، في إثر ما يُعرف بحرب المائة يوم، وما تلاها من حروب أخرى، كان أبرزها "حرب زحلة " عام 1981، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ومن المواقف المستجدّة آنذاك، والمعارضة لوجود الجيش السوري بعد انقلاب الأحلاف والأحوال، ما قاله بيار الجميّل: "حيث تتواجد قوات سورية، بات الناس يخافون على حياتهم ورزقهم، فيتهجّرون ويتشرّدون، وها هم مهجّرو الأشرفية وعين الرّمانة لا يعودون إلى منازلهم ومتاجرهم بفعل خوفهم من القوات السورية الموجودة في مناطقهم"، وفقا لما نقلت عنه صحيفة الأنوار البيروتية في 29 أغسطس/ آب 1978.
مغزى القول ودلالته في الشواهد المذكورة، أن عالم السياسة يشبه سائل الزئبق، ينبسط وينقبض، وتمثّل انبساطه سابقاً في الحالة اللبنانية بالتحالف بين حملة بيارق اليمين في لبنان ورافعي أعلام القومية العربية في سورية، بهدف مواجهة اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية، ولذلك جاء ترحيب أهل اليمين بدخول الجيش السوري إلى لبنان على أطباق من الزهور نكاية بأهل اليسار، وتجسّد الانقباض لما افترقت الأهداف والمآرب، فثُقبت الدفوف وشُجّت الطبول، فتفرّق العشّاق على ما يقول المثل المأثور.
وفي الحالة الراهنة، ثمّة من يقول في لبنان إن له "رفاق سلاح" في دمشق الجديدة، وكان له معها "متابعة حثيثة" أفضت إلى اعتقال قاتل أودى بمغدور، فهل تلك "المتابعة" منعزلة عن السياسة، ومنفصلة عن غايات في نفس يعقوب؟... العلم عند علّام الغيوب.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 35 دقائق
- القدس العربي
غزي يجمع بقايا مصاحف مزقها الاحتلال بقصف مسجد في دير البلح- (شاهد)
'القدس العربي': أظهر مقطع فيديو متداول قيام غزي بجمع بقايا مصاحف مزقها الاحتلال بقصف مسجد في دير البلح. ويظهر المقطع بقايا المصاحف الممزقة والمحترقة نتيجة القصف الذي استهدف مسجد أنصار في دير البلح وسط قطاع غزة بعد أن دمره الاحتلال. مصاحف ممزقة ودمار في كل مكان.. مشاهد من مسجد أنصار في دير البلح وسط قطاع بعد أن دمره الاحتلال. — شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) June 2, 2025


القدس العربي
منذ 35 دقائق
- القدس العربي
بعد مرور 20 عاما.. دارفور تواجه جحيما على الأرض من جديد
الفاشر (السودان): جاء المهاجمون من كل اتجاه، مثبتين الرشاشات فوق شاحناتهم الصغيرة، لاستهداف مخيم 'سامسام' للاجئين في ولاية شمال دارفور بالسودان. وسادت حالة من الذعر بين اللاجئين في المخيم الذي كان يؤوي ما يتراوح بين 500 ألف ومليون نازح داخلي، بحسب تقديرات مختلفة. وينتمي المهاجمون إلى ميليشيا قوات الدعم السريع، وهي نفس الجماعة التي فر منها اللاجئون. وشهد لاجئون كثيرون أحداثا مروعة، ومن بينهم محمد، الذي رفض الكشف عن اسمه بالكامل. وقال محمد عبر الهاتف من مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور: 'لقد تم حرق كبار السن الذين لم يتمكنوا من الفرار سريعا، وهم أحياء في أكواخهم. كما تم سحب الأطفال من الأماكن التي يختبئون بها وقتلهم'. وأوضح أن قوات الدعم السريع أساءت معاملة ضحاياها ووجهت إليهم إساءات عرقية. وتم إعدام عمال الإغاثة على الفور. ولا يمكن التحقق من تصريحات محمد بشكل مستقل، إلا أن المراقبين ومنظمات الإغاثة المتواجدين على الأرض، يؤكدون مقتل موظفين من منظمة الإغاثة الدولية في أعمال عنف. وبحسب إحصاءات لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، قتل ما لا يقل عن 23 طفلا. كما تشير التقارير إلى أن عدد القتلى بلغ 129 على الأقل، وربما عدة مئات. العنف في دارفور له جذور عميقة وتندلع في السودان حرب أهلية منذ أكثر من عامين، بين ميليشيا قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وقوات الحكومة بقيادة الزعيم الفعلي للبلاد، عبد الفتاح البرهان. وقام الجنرالان بالاستيلاء على السلطة سويا في عام 2021، ويتقاتلان ضد بعضهما البعض في الوقت الحالي، بعد أن فشلت الجهود الدبلوماسية المتعددة للتوسط بين الطرفين من أجل وقف إطلاق النار وبدء مفاوضات السلام. ومع ذلك، تعود جذور العنف في دارفور إلى ما هو أبعد من ذلك، وهي الصراعات بين البدو العرب والمزارعين الأفارقة، على موارد مثل المياه والأراضي. وكانت ميليشيات عربية تمتطي الخيول، انضم بعضها في وقت لاحق إلى قوات الدعم السريع، هاجمت قبل عشرين عاما قرى تابعة لجماعات عرقية أفريقية مثل 'المساليت' و'الزغاوة' و'الفور'. وتم تدمير آلاف القرى، كما أفادت تقارير واسعة النطاق بحدوث وقائع عنف جنسي ومجازر. وفي عام 2004، وصف وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، كولن باول، الأحداث في دارفور بـ'الإبادة الجماعية'. وفي عام 2010، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السوداني آنذاك، عمر البشير، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور. وعلى عكس ما يحدث اليوم، حظيت دارفور آنذاك باهتمام دولي، حيث أطلق نجوم بارزون في هوليوود من أمثال جورج كلوني وأنجلينا جولي وميا فارو، نداءات علنية 'لإنقاذ دارفور'. هل يعيد التاريخ نفسه؟ وفي الوقت الحالي، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. ففي صيف عام 2023، أفادت تقارير بوقوع مجازر استهدفت جماعة 'المساليت' العرقية في غرب دارفور. ومنذ ذلك الحين، تتهم الجماعات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، قوات الدعم السريع مرارا بارتكاب جرائم تعذيب واغتصاب جماعي وغيرها. ومنذ الهجوم على مخيم 'سامسام' في منتصف أبريل/ نيسان الماضي، ترد تقارير يومية بشأن سقوط عشرات القتلى بسبب القصف الذي تشهده الفاشر والقرى المحيطة بها. ويشار إلى أن الفاشر- وهي آخر مدينة رئيسية لا تزال تحت سيطرة الحكومة، والتي حاصرتها قوات الدعم السريع لمدة عام- لها أهمية استراتيجية كبيرة. وفي حال سيطرت قوات الدعم السريع على الفاشر، فإنها سوف تسيطر على دارفور بأكملها، وستتمكن من تنفيذ خططها لإنشاء حكومة موازية هناك. منظمة العفو الدولية تطالب باتخاذ إجراءات وبينما يفر الكثيرون، يواجه من لا يزالون يعيشون في السودان 'عمليات قتل وحالات إعدام بإجراءات موجزة ووقوع إصابات وجرائم اغتصاب واغتصاب جماعي واستعباد جنسي وأشكال أخرى من العنف الجنسي والتعذيب والاختفاء القسري وجرائم نهب واسع النطاق، والتي ترقى جميعها إلى جرائم الحرب، وقد يرقى بعضها أيضا إلى جرائم ضد الإنسانية'، بحسب ما كتبته منظمة العفو الدولية في نداء وجهته إلى الاتحاد الأوروبي من أجل التحرك. وأضافت المنظمة الدولية أن 'الأطفال وقعوا في مرمى نيران القصف الجوي والمدفعي، ما نتج عنه سقوط العديد من الضحايا، وأثر بشدة على سلامتهم وتعليمهم ورفاهيتهم'. وأشارت العفو الدولية في رسالتها المفتوحة إلى أنه منذ اندلاع الحرب، واجه الحصول على معلومات مستقلة وموثوقة ضغوطا شديدة، حيث يقوم الطرفان باستهداف الصحافيين بتهديدهم (بالقتل) وبالعنف والاعتداءات عليهم. كما تعرضت البنية التحتية الإعلامية، التي تشمل المكاتب والمعدات، للنهب والسرقة والحرق والتدمير المتعمد. ويؤدي تجدد مثل هذه الأساليب إلى زيادة خطر العودة إلى أسوأ أيام حروب السودان، عندما تسبب التطهير العرقي الممنهج وجرائم الحرب في تدمير مجتمعات بأكملها. (د ب أ)


العربي الجديد
منذ ساعة واحدة
- العربي الجديد
تغطية الإعلام الغربي للإبادة تتغيّر… لكن من يغيّر سيليكون فالي؟
شهدت الأسابيع الأخيرة تغيراً تدريجياً، لكنه ملحوظ في تغطية وسائل الإعلام الغربية لما يحدث في غزة. بعد أشهر من التهرب، بدأ الإعلام الأوروبي والأميركي باستخدام مصطلح الإبادة الجماعية عند الحديث عن العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على قطاع غزة. صحيفة ليبراسيون كتبت على صفحتها الأولى: "الإبادة في غزة مستمرة"، بينما وصفت "لوموند" الوضع بأنه "حرب شاملة لا تميز بين مدني ومسلح"، منتقدة منع دخول المساعدات وتجويع السكان أداة حرب. في ألمانيا، نشرت "دير شبيغل" تحقيقات معمّقة حول جرائم حرب "محتملة". وفي الولايات المتحدة، وبعد تردد طويل، بدأ كُتّاب رأي في صحيفتَي نيويورك تايمز وواشنطن بوست بإبداء تشكيك علني في "الرواية الأمنية" الإسرائيلية. حتى إن مراسلين عسكريين معروفين بقربهم من البنتاغون باتوا يتحدثون عن "عدم فعالية القصف العنيف في تحقيق أهدافه"، وعن "كلفة أخلاقية وسياسية طويلة المدى". لكن هذا التحول المتأخر في لغة الإعلام، الذي جاء استجابة لضغط جماهيري وأكاديمي وشعبي، يطرح سؤالاً موازياً: لماذا لا نشهد تحولاً مماثلاً في وادي السيليكون؟ ولماذا تبدو كبرى شركات التكنولوجيا وكأنها تقف، صامتة – أو متواطئة – أمام مأساة موثقة عالمياً؟ منذ بدء حرب الإبادة على غزة ، أثبتت تقارير موثقة أن الشركات التكنولوجية الأميركية الكبرى - مثل أمازون، وغوغل، ومايكروسوفت، وميتا، وبالانتير - لم تكن مجرد مراقب صامت، بل فاعلاً نشطاً في دعم الآلة العسكرية الإسرائيلية، تقنياً وتمويلياً وأيديولوجياً. اعتمد الجيش الإسرائيلي بشكل واسع على أدوات استهداف مبنية على الذكاء الاصطناعي. وهذه البرامج لا تعمل في فراغ، بل تعتمد على بنية رقمية قوية توفرها شركات أميركية: غوغل : تقدم خوارزميات التعرف إلى الوجه. أمازون : تقدم خدمات حوسبة سحابية لاستضافة البيانات التحليلية. مايكروسوفت : توفر أدوات التعرف إلى الكلام لتسريع معالجة المعلومات الاستخبارية. تُستخدم هذه الأدوات في أنظمة يصفها جنود إسرائيليون سابقون بأنها تشبه "البحث عن صديق على فيسبوك"، لكن النتيجة ليست دعوة إلى لقاء، بل إشارة إلى اغتيال. في عام 2021، وقّعت غوغل وأمازون عقداً مع الحكومة الإسرائيلية بقيمة 1.2 مليار دولار تحت اسم "نيمبوس"، يتيح استخدام خدماتهما في الوزارات، ومن بينها الجيش والمخابرات. العقد يحتوي على بنود تمنع الموظفين من الاعتراض على استخدام التقنية في عمليات عسكرية. ورغم احتجاجات موظفين وناشطين داخل الشركتين، استمرت الشركتان في تفعيل المشروع. بعض التطبيقات التي نُفّذت ضمن "نيمبوس" ظهرت لاحقاً في أدوات المراقبة داخل الضفة الغربية وغزة، بما فيها أنظمة تمييز الوجوه وتتبّع حركة الأفراد. أما شركة Palantir، التي أسسها بيتر ثيل وأليكس كارب، فتُعَدّ اليوم أحد أهم مزوّدي الجيشين الأميركي والإسرائيلي بأدوات "استهداف ذكية". بعد افتتاحها فرعاً في تل أبيب عام 2015، باتت تزود إسرائيل بأدوات تحليل بيانات ضخمة تشمل البريد الإلكتروني، والمكالمات، والموقع الجغرافي، والسوشيال ميديا. يرى مؤسسو بالانتير أنفسهم ضمن "الطبقة المحاربة الرقمية"، ويعتبرون تقنياتهم "وسيلة لخوض الحرب من دون دماء"، رغم أن نتائجها على الأرض تقول عكس ذلك: آلاف القتلى من المدنيين في غزة في غضون أشهر. بعيداً عن أدوات القتل المباشرة، لعبت "ميتا" دوراً مختلفاً، لكنه لا يقل خطورة. بحسب تحقيق لـ"الجزيرة"، سمحت الشركة بنشر أكثر من 100 إعلان مدفوع يروّج لبيع شقق في مستوطنات غير شرعية في الضفة الغربية، ويدعو إلى تمويل وحدات عسكرية إسرائيلية تنفذ عمليات في غزة. من بين الإعلانات: تمويل لطائرات مسيّرة تستخدم في استهداف الغزيين، وشراء معدات قناصة للواء غولاني، والترويج لمشروع "رامات أديرت" في مستوطنة أريئيل. ورغم سياسة "ميتا" التي "تحظر الترويج للأسلحة"، استمرت هذه الإعلانات لفترات طويلة من دون تدخل يذكر، مع كل المداخيل المالية التي جنتها الشركة منها. في موازاة ذلك، شكا الآلاف حذف منشورات مؤيدة لفلسطين، أو خفض وصولها عبر خوارزميات "فيسبوك" و"إنستغرام"، ما يعزز الشكوك حول انحياز سياسي ممنهج. انطلاقاً من كل ما سبق، يمكن فهم أسباب انحياز الشركات في سيليكون فالي، حتى مع تغيّر المواقف السياسية والإعلامية الغربية. فأولاً، الحرب تدرّ أرباحاً هائلة. عقود الدفاع تُقدّر بعشرات المليارات، وغالباً ما تكون طويلة الأمد. مقابل ذلك، تراجعت أرباح الإعلانات والاشتراكات، ما يدفع الشركات إلى البحث عن مصادر دخل مستقرة. السبب الثاني، الذي غالباً ما يُسقَط عند الحديث عن وادي السيليكون. فأغلب شركات التكنولوجيا في الوادي، ولدت في أحضان البنتاغون. فأولى برمجيات الإنترنت، والحواسيب المتقدمة، ونظم GPS، جميعها كانت مشاريع عسكرية في الأصل. واليوم، تعود هذه العلاقة إلى الواجهة عبر الذكاء الاصطناعي. ولا تخفي بعض الشركات أهمية المشاريع الدفاعية ــ العسكرية هذه. فيروج مستثمرون ومؤسسو شركات مثل Anduril لفكرة أن "السلام لا يتحقق إلا بالخوف". في قمة DefenseTech الأخيرة في تل أبيب قبل أشهر قليلة، قال ممثل Palantir: "الشعوب تريد الأمان، والأمان يعني أن العدو خائف". تكنولوجيا التحديثات الحية "مايكروسوفت" تحظر رسائل البريد الإلكتروني التي تحوي كلمة "فلسطين" إلى جانب تداخل العلاقات التكنولوجية ــ العسكرية، عملت الشركات في الوادي إلى قمع أي صوت عمّالي محتج على التعاون مع الاحتلال. فبعد احتجاجات موظفين على مشاريع عسكرية، عمدت الشركات إلى ميثاقات تمنع العمل السياسي الداخلي. في مشروع "نيمبوس"، وُضع بند يمنع الاعتراض الأخلاقي من قبل العاملين. إذاً صحيح أن الصحافة الغربية بدأت تعيد النظر في خطابها، وتنتقد صراحة سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وتستخدم كلمات كانت قبل أشهر محرّمة (إبادة، تطهير عرقي، تجويع جماعي)، لكن الشركات التقنية تواصل دورها في تمكين هذه السياسات على الأرض. وإذا كانت الصحافة قادرة - بتراكم الضغط - على التحوّل، فإن التكنولوجيا لا تخضع للضغط الأخلاقي بالسهولة نفسها. فهي محكومة بمنطق الربح والسوق والعلاقات مع مراكز القرار.