
"الشرق الأوسط في عيون ترامب".. هل نعيش النكسة الكبرى لعقلانية الدولة؟
ألا تزال الولايات المتحدة الأميركية تمارس نفوذها المطلق في الشرق الأوسط كما مارسته خلال العقود المنصرمة، أم أنّ دورها بدأ في الانحسار بسبب ظهور توازنات جديدة؟ ذلك هو
السؤال المحوري
الذي يطرحه المؤلَّف الجماعي الجديد: "الشرق الأوسط في عيون ترامب"، والذي صدر مؤخّراً في سويسرا عن "منشروات إيريك بونييه"، بإشراف الباحث المتخصص في شؤون
العالم العربي
وتحولاته السياسية حَسني عبيدي، بمشاركة سبعة باحثين مثل سارة داود، فتيحة دازي-هاني ولويس مارتينيز وغيرهم من المتخصصين في سياسات أميركا بالشرق الأوسط.
التحولات الجيوسياسية وتأثيرها
هذا السؤال شرعي وجيه، لأن السياق الجيو-سياسي لعُهدة ترامب الثانية يختلف جذرياً عن سياق ولايته الأولى: فقد باتت إيران على أعتاب القنبلة النووية بعد الترفيع من كميات اليورانيوم المخصب، كما تحرّرت سورية من قبضة النظام الأسدي إثر أكثر من خمسة عقود من الحكم المطلق وحرب أهلية فظيعة، إلى جانب تقهقر قوة حزب الله بعدما خسر جل قادته، وأخيراً استمرار حرب الإبادة في غزة التي أتت على الأخضر واليابس. هذه العوامل وغيرها تجعل من المشروع التساؤل عما تغير في تعامل ترامب مع الشرق الأوسط.
للإجابة عن هذا الإشكال، ركز الباحثون على فكرة imprévisibilité التي تُميز الرئيس الأميركي والتي يمكن ترجمتها "بعدم القدرة على توقّع ردات فعله"، والعجز عن تصوّر أدنى استراتيجية للتعامل معه نظراً إلى الكمّ الهائل من الاحتمالات المتوقعة وغير المتوقعة لسلوكه وقراراته. يصم هذا العيبُ سياسات الرئيس ويجعل منها فريسة الأهواء وتقلّبات المزاج في ظلّ غياب رؤية واضحة لقضايا المنطقة، والاسترسال مع "الصفقات" المشتهاة، في نكسة كبرى لعقلانية الدولة الحديثة والقانون الدولي. وهو ما يؤكد تحليلات المفكر السوري الراحل مطاع صفدي حول هيمنة منطق القوة على كل منطق آخر وفرض المصلحة الأميركية - الإسرائيلية فوق مصالح الشعوب الأخرى، في ضربة قاصمة لمفهوم الديمقراطية التي تُقدّم بوصفها "نظاماً كونياً" ولمبادئ الشرعية الدولية وتكافؤ الفرص أمام الدول بما فيها الضعيفة حتى يكون لها صوت في تسيير دفة النظام العالمي.
يقوم على مقاربة لسانية اجتماعية في قراءة الأحداث السياسية
ولعلّ ما تشترك فيه فصول هذا الكتاب هو التشديد على المفارقات التي تشمل مواقف ترامب خلال عهدته الثانية ومنها تأرجحه بين سياسات الجزرة والعصا، لا سيما حيال إيران وسورية ولبنان، وهو ما يظهر طغيان مفهوم "الصفقة" على تصوراته، والمفهوم تجاريّ في الأصل لكنّه يُطبقه في رمال السياسة المنزلقة. ولئن أمكن استخدامه في دنيا المال والأعمال فإن نتائجه ليست مضمونة في لعبة الأمم التي تحتاج إلى قدر أدنى من الثوابت والاستراتيجيات بعيدة المدى. وهو ما يشي بانحسار البعد الأخلاقي في تعامل هذا الرئيس مع "بقية العالم".
كما ركّز الباحثون على التواطؤ الكلي المنعقد بين ترامب والحكومة الإسرائيلية، فقد تمادى في مساندة حرب الإبادة وفي تبرير ما يجري خلالها من جرائم، رغم ما يظهره أحياناً من بوادر الامتعاض حيال مجرم الحرب نتنياهو. فالولايات المتحدة الأميركية هي الحليف المطلق لهذه الدولة المارقة حتى وإن تسبب هذا التواطؤ في تشويه صورة أميركا ورصيدها الأخلاقي ضمن "العالم الحر"، فضلاً عن شرقنا الأوسط، هذه المنطقة التي يريدها ترامب، مثل الرؤساء الديمقراطيين السابقين، خاضعة للهيمنة الإسرائيلية مستكينةً لمخططاتها الاستيطانية.
مصالح شخصية بلبوس سياسي
ولم تخلُ هذه الدراسات من إشارات ساخرة إلى تداخل الذاتي بالموضوعي وامتزاج المصالح الشخصية بالمصالح العليا للدولة الأميركية، إذ لم ينسَ ترامب أن يعبّئ جيوب شركاته وهيئاته الخاصة التي تمتلك مصالح مباشرة في بعض دول الخليج، مثل "برج ترامب" في جدة وملعب الغولف في الإمارات. إلا أن الباحثين لم يركّزوا بالقدر الكافي على صمود دول الخليج، ولا سيما قطر، التي جعلت من دعم المقاومة الإسلامية ثابتاً في سياساتها الخارجية ورؤاها الأخلاقية، بالرغم من كل الضغوط التي يمارسها الغرب عليها ومن حملات التشويه التي تتعرّض لها.
وأما المنهج المعتمد في الكتاب فيقوم على تحليل الخطاب السياسي، بما في ذلك التصريحات والمنشورات الرقمية والخُطب والإجابات الصحافية. وتندرج هذه الدراسات ضمن المقاربة اللسانية الاجتماعية التي تراوح بين تفكيك البُنى اللغوية من جهة، واستجلاء الأحداث السياسية التي تحتضن هذه الخطابات وتؤثر فيها من جهة أخرى. إلا أن وجه الجِدّة في هذا السياق يتمثّل في أن نصف الباحثين المعنيين بهذا النوع من الدراسات هم من العرب، في ظاهرة جديدة تقطع – ولو جزئياً – مع احتكار الباحثين الغربيين لتحليل ظواهر مجتمعاتنا وتاريخنا، دون أن يمتلك هؤلاء، في أحيان غير قليلة، المعارف الكافية أو الخلفيات الثقافية اللازمة لفهم هذه السياقات فهماً دقيقاً.
دراسات محصورة بالراهن دون الخوض في معطيات الثقافة
إلا أن ما يعوز هذا التحليل هو غياب المقاربة الأنثروبولوجية التي تغوص في أعماق اللاوعي السياسي الغربي عموماً وما ينسجه من تصورات حيال العالم العربي، ولذلك بقي الكتاب سجين الوصف الحَدَثي الراهن الذي يستعيد ما طرأ مؤخراً دون الخوض في المعطيات والتمثلات الثقافية التي يستبطنها الزعماء الغربيون ومستشارو السياسات الخارجية والدفاع ويعملون وفقها. والظاهر أن الغرب لا يزال يتخبط في سياسته هذه ضمن تمثلات متقادمة يضرب بعضها بجذور عميقة في المخيال الاستشراقي وبعضها الآخر في مخيال الاستعمار والمركزية الأوروبية - الأميركية.
ذلك أن المنهج الوصفي الراهن الذي اعتمده الكُتّاب لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل غير المادية ولا الأبعاد الرمزية والمبادئ الخفية التي تحكم الرؤى والممارسات السياسية المعاصرة، فلا نصل إلى فهم حقيقي للظواهر المدروسة. ومن ذلك مثلاً عدم الإشارة إلى الأيديولوجيا الصهيو-مسيحية التي تحرك عديد المؤسسات الأميركية وتغذي لديها عديد الأوهام الألفية فتسعى إلى تجسيدها عبر المساندة المطلقة لإسرائيل. كما أغفل الباحثون أيديولوجيا المظلومية والمهدوية التي تنبثّ في خطاب القوى الشيعية بالمنطقة، فضلاً عن صور واهمة عن الثروات اللامتناهية لدى دول الخليج، وصور أخرى تجاوزها الزمن حول وضعية المرأة ودورها المهمَّش في المشهدين السياسي والثقافي. وكل ذلك يعمل بشكل لاواعٍ في الخطاب الذي تحمله إدارة ترامب.
منظور نفعي للعالم
ومن جهة ثانية، تفتقر هذه الدراسات إلى العمق التاريخي الذي يشرح الظواهر بالعودة إلى جذورها البعيدة وأسبابها العميقة، وظلّت التحليلات سجينة التطورات الأخيرة واستعراض الأحداث الراهنة، الأفعال وردات الفعل، مع وصف يكاد يكون خطّيّاً، موغلاً في الراهني. وقد يعجز بسبب حجاب المعاصرة هذا إجراء تعليل تاريخي، حيث يفسر واقع الشرق الأوسط بماضٍ كامل من القرارات الأميركية، صيغت إثر الحرب العالمية الثانية وتكثّفت بعد أزمة النفط سنة 1973، وترسخت منذ غزو العراق الكويت سنة 1991 وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001.
وقد ترافقت كل مرحلة من هذه المراحل بتصوّرات تفعل فعلها في الخطاب والممارسة، كما ذكر الباحثون، وتقترن بالرؤية المركنتيلية (الربحية) التي تمثل الدافع الرئيس في جل مواقف ترامب وتصريحاته، فهو "يتوجّه حيث يوجد المال" ويسير أنّى توفرت خزائنه، في تصور جَشِع للعالم يعتبره سوقاً كبيرة يعمل على استغلال ما فيها من سلع وبضائع، بل ونَهب ما توفره من فرص، وهو ما يؤكد تحوّل الأولويات، إذ لا تعنيه التحالفات التقليدية التي نَسجها سابقوه ورسمتها الدولة العميقة، بقدر ما يهمه الربح الضخم والعاجل وإبرام الصفقات على حساب القيم السياسية والأخلاقية.
وأما ما لا يقوله هذا الكتاب فهو حالة الارتهان العالمي لسياسات ترامب ومزاجه المتقلّب، في عِلّة دفينة طيَّ النظام الديمقراطي الراهن، الذي يتيح لشخص واحد أن يتحكم في مصائر الملايين داخل بلاده، وهو أمر يمكن تفهمه ضمن السياق المحلي، لكنه يصبح مدعاة للقلق عندما يتجاوز حدود دولته، في ازدراء تام لقيم التعدد والقوانين الدولية وحقوق الشعوب وثقافاتها في تقرير مصيرها واختيار نماذجها الحضارية.
وهو ما يدعو إلى تفكير معمّق في ضرورة تحوير جذري للنظام الانتخابي الأميركي وحدّ لصلاحيات الرئيس وتعزيز وزن باقي مؤسسات الدولة، بما لا يسمح لأي رئيس بأن يرى العالم كمجموعة من العقارات يجب الاستثمار فيها.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس
كتب
التحديثات الحية
"ما الإسلام؟" لـ شهاب أحمد... ألم يدرك الباحث الغربي حقيقته بعد؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 41 دقائق
- العربي الجديد
خامنئي: المقترح الأميركي ضد مصالحنا ولن نتخلى عن تخصيب اليورانيوم
أكد المرشد الإيراني علي خامنئي، اليوم الأربعاء، أن المقترح الذي أرسلته الولايات المتحدة الأميركية إلى بلاده عبر سلطنة عمان بشأن المفاوضات الجارية يعارض تماماً مقولة "نحن قادرون"، علماً أن هذا الشعار ترفعه الجمهورية الإسلامية الإيرانية للتعبير عن ضرورة الاتكال على القدرات الداخلية دون الخارج. وقال خامنئي في كلمة بذكرى وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الموسوي الخميني إن "الاستقلال الوطني يعني ألا تنتظر البلاد الضوء الأخضر من أميركا أو غيرها، بل إن أحد مبادئ الاستقلال الوطني هو مبدأ (نحن قادرون)"، وشدد على أن "التقدم والتطور العلمي والتقني والقدرات الدفاعية العظيمة التي حققتها الجمهورية الإسلامية أثبتت قدراتنا"، مشيراً إلى ضرورة المقاومة في وجه "الاستكبار والقوى العظمى"، وقال إن "المقاومة تعني أن نقف في مواجهة هذه القوى ولا نخضع لها". وقال خامنئي إن إيران "بفضل شبابها تمكنت من الحصول على الدورة الكاملة لإنتاج الوقود النووي"، مؤكداً أن "تخصيب اليورانيوم هو مفتاح الصناعة النووية وأعداؤنا يركزون على هذا"، واعتبر أن منع أميركا بلاده من تخصيب اليورانيوم يشبه منع بلد نفطي من إنشاء مصاف، مضيفاً أنه "لا فائدة من وجود مئات المفاعل النووية من دون تخصيب اليورانيوم، لأن هذه المنشآت بحاجة إلى الوقود النووي"، وعندها "علينا أن نمد يدنا إلى أميركا لتزويدنا بالوقود" ولا يمكن الثقة بأميركا بشأن ذلك، مشيراً إلى أنه قبل عقدين "قالوا لنا ابعثوا لنا وقودكم المنتج من اليورانيوم المخصب بنسبة 3% لنزودكم بالوقود بنسبة تخصيب 20%، لكنني قلت إنه يجب أن يرسلوا أولاً وقودهم إلى ميناء بندر عباس ثم نحن سنرسل إليهم الوقود، غير أنهم رفضوا". أخبار التحديثات الحية عراقجي: الرد على المقترح الأميركي بشأن الاتفاق النووي قيد الإعداد وشدد على أن إيران "لن تتخلى" عن تخصيب اليورانيوم، قائلاً إن الغرب "يعارض تقدم إيران وتطورها"، مضيفاً أن رئيساً أميركياً سابقاً وعد بتفكيك برنامج إيران النووي "لكنه فشل"، وأكد قائلاً "نقول لأميركا وإسرائيل إنكم لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئاً أحمق لتفكيك برنامجنا النووي". وأضاف خامنئي أن بلاده تحتل اليوم "المرتبة الأولى" في المنطقة في القدرات الدفاعية، مؤكداً أنها ستواصل "من الآن فصاعداً تعزيز القدرات الوطنية الشاملة"، لافتاً إلى أن "العقلانية ليست الخضوع أمام أميركا والاستسلام لها". وتوجه المرشد الإيراني إلى الولايات المتحدة الأميركية قائلاً: "لماذا تتدخلون في امتلاك إيران تخصيب اليورانيوم. ما علاقتكم بهذا الأمر؟ من أنتم؟"، مشدداً على أن "الجمهورية الإسلامية صمدت أمام جميع المؤامرات والمخططات وأحبطت أكثر من ألف مؤامرة" طيلة العقود الماضية منذ عام 1979، موضحاً أن هذه المؤامرات استهدفت إيران لإضعافها "غير أننا لم نضعف، بل ازدادت قدراتنا في الداخل والخارج". وتطرق خامنئي إلى الإبادة الجماعية في قطاع غزة، واعتبر أن ما يحصل في القطاع "محير للعقول وجريمة حقيقية"، وأضاف أن ذلك يعكس "أدنى مستوى الرذالة والحقارة التي وصل إليها الصهاينة"، مشيراً إلى أن "أميركا أيضاً شريكة في هذه الجرائم ويجب أن تُطرد من المنطقة". وقال خامنئي إن الدول العربية والإسلامية عليها "مسؤولية كبيرة واليوم لا مجال للمجاملة والحيادية والصمت"، مضيفاً أنه "إذا دعمت دولة من الدول الإسلامية الكيان الصهيوني بأي شكل من الأشكال فلتعلم يقيناً أن ذلك سيبقى وصمة عار على جبينها إلى الأبد"، وخاطب الدول المطبعة مع الاحتلال الإسرائيلي بالقول: "لتعلم الحكومات أن الاعتماد على الكيان الصهيوني لن يحقق الأمن لأي دولة"، مضيفاً أن هذا الكيان في "طور الانهيار ولن يطول ذلك كثيراً". إسلامي: سنمضي قدماً في صناعتنا النووية من جهته، وجه رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي رسالة شكر إلى خامنئي على كلمته، وتعهد في الرسالة بمواصلة "مسيرة التقدم للصناعة النووية بكل قوة وصلابة. وسنقف كالماضي في وجه أطماح أميركا وبقية القوى الغربية"، واعداً خامنئي بـالمضي قدماً في تطوير الصناعة النووية الإيرانية "الاستراتيجية في المستوى العالمي لترك تأثيراتها على حياة المواطنين بشكل متزايد". كما أكدت الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية في بيان، اليوم الأربعاء، أن القوات المسلحة الإيرانية "على أهبة الاستعداد لمواجهة أي عمل شرير للأعداء وخطأهم في الحسابات في أي زمان وبأي مستوى من التهديد". وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي قد قال، أول أمس الاثنين، عن المقترح الأميركي: "سنقدم الرد المناسب للطرف المقابل استناداً إلى مبادئ حقوق ومصالح الشعب الإيراني"، وأضاف: "بعيداً عن هذا، من الواضح أنه لن يحظى حتماً أي نص يتضمّن مطالب متطرفة ويتجاهل الحقوق والمصالح المشروعة للشعب الإيراني برد إيجابي منا"، موضحاً أن رد إيران سيُبنى على خطوطها الحمراء، مشيراً إلى أن إنشاء تحالف إقليمي لتخصيب اليورانيوم "لا يمكنه أن يشكل بديلاً عن التخصيب الداخلي" في إيران، ولافتاً إلى أن طهران ستقرر بشأن استمرار المفاوضات في مشاوراتها مع سلطنة عُمان.


القدس العربي
منذ 5 ساعات
- القدس العربي
بين قوى إقليمية ودولية أين تتجه البوصلة السورية؟
رفع العلم الأمريكي من قبل المبعوث الأمريكي لسوريا توماس باراك في مبنى إقامة السفير له دلالة كبيرة وسريعة لتطبيع العلاقات الأمريكية مع الإدارة السورية الجديدة بعد 14 سنة من القطيعة مع نظام الأسد المخلوع، فهي نقطة تحول كبرى بعد لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس أحمد الشرع برعاية سعودية، ومباركة تركية، وتحفظ مكتوم من قبل إسرائيل وإيران. لكن هذا التحول المفاجئ في موقف الإدارة الأمريكية لم يأت بطيبة الرئيس ترامب، أو بإرضاء رغبة الأمير محمد بن سلمان الذي أغدق عليه بكرم، ولا بجهد تركي وتمهيد الطريق أمام الرئيس أحمد الشرع الذي كان بالأمس مطلوبا من الإدارة الأمريكية، وبجائزة 10 ملايين دولار لمن يلقي القبض عليه، بل هي نتيجة لمجموعة عوامل اجتمعت في ظروف مواتية زمانا ومكانا. فسقوط نظام الإجرام الأسدي كان ضرورة ملحة لأسباب متعددة. فمن ناحية كان من الضروري التخلص من الهيمنة الإيرانية وميليشياتها الطائفية في سوريا وعلى رأسها «حزب الله» التي تهدد دولة الاحتلال من ناحية، وإضعاف موقف إيران في معالجة ملفها النووي في حال أي عملية تفاوضية لاحقة من ناحية أخرى، خاصة وأن إسرائيل كانت وعلى مدى عدة سنوات تقوم بقصف مواقعها في سوريا، في محاولة لقطع خط الإمدادات لحزب الله عبر سوريا، وقد تضررت مطارات وموانئ سوريا التي كانت تستقبل الشحنات الإيرانية الموجهة لحزب الله، وقد كشفت الأحداث بعد عملية طوفان الأقصى أن حزب الله كان مخترقا وبنك معلوماته السرية كانت مكشوفة لإسرائيل عبر وسائل مختلفة وخاصة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتجنيد أكثر من عنصر من عناصره الذي كان يزود الموساد بكثير من المعلومات وقد تم إلقاء القبض على أحدهم واعترف بذلك. وبإسقاط نظام الأسد تسقط الحلقة الوسطى في محور طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت، وهذه الضربة القاسية لطهران أرغمتها مع كل ميليشياتها على الرحيل من سوريا وأن تترك وراءها خسائر كبيرة تقدر بأكثر من 50 مليار دولار لن تسترد منها دولارا واحدا لأنها تعرف أن دمشق ستطالبها بفدية دماء السوريين الذين كانوا ضحية لهجمات هذه الميليشيات، وعلى رأسها حزب الله الذي سيطر على مناطق عديدة في وادي بردى والقلمون والقصير، ولم تفتح إيران إلى اليوم أي قنوات تواصل مع الإدارة الجديدة حتى أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قال: «لسنا في عجلة من أمرنا للتواصل مع دمشق». العامل الثاني الذي لا يقل أهمية بالنسبة لواشنطن وهو الملف الروسي ووجود قواعده ونفوذه في سوريا (قاعدة حميميم، والقاعدة البحرية في طرطوس) وخاصة أن موسكو دخلت في حرب مدمرة مع أوكرانيا والتي تعتبر بالنسبة للغرب ولأوروبا بشكل خاص مصدر تهديد مستمر وتعمل جاهدة في دعم أوكرانيا في وجه الغزو الروسي، ففي حال سقوط النظام الأسدي سيضع موسكو في موقف جديد مع الإدارة الجديدة، يمكن أن يهدد استمرارية تواجده العسكري في سوريا، وهذا ما دفع روسيا توجيه دعوة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لزيارة موسكو، وبعد محادثات حثيثة مع الإدارة الجديدة التي طالبت بتسليم بشار الأسد اللاجئ في روسيا، واستعادة الأموال المنهوبة، رفضت موسكو تسليم الأسد لكنها انفتحت على تزويد سوريا بالقمح والنفط واستعادة بعض الأموال، وتسعى للحفاظ على شعرة معاوية مع الإدارة الجديدة التي كانت تقصفها بالأمس في مناطق سيطرتها في إدلب، وقتلت الآلاف من السوريين أيضا. هذا التحول المفاجئ في موقف الإدارة الأمريكية لم يأت بطيبة الرئيس ترامب، أو بإرضاء رغبة الأمير محمد بن سلمان، بل هي نتيجة لمجموعة عوامل اجتمعت في ظروف مواتية زمانا ومكانا لم تقم الأنظمة السورية المتعاقبة منذ الاستقلال بأي اتصال مباشر مع تل أبيب لغاية العام 1965 حيث كان تعتبر أي سوري يتواصل مع العدو الصهيوني، أو يزور إسرائيل خائنا وتطبق عليه قوانين الخيانة العظمى، حيث أثيرت بعض الشكوك حول بعض المصادر التي تشير أن حافظ الأسد عندما كان قائدا للقوات الجوية قام بزيارة إلى بريطانيا بحجة إجراء فحوصات طبية وهناك تم لقاء بينه وبين وفد إسرائيلي، وكانت فضيحة الجاسوس ايلي كوهين قد هزت سوريا في نفس هذه الفترة، وجاء البلاغ رقم 66 في بداية حرب النكسة في 1967 والذي طلب فيه الأسد الذي أصبح وزيرا للدفاع بانسحاب الجيش السوري من الجولان بحجة أن الجيش الإسرائيلي قد وصل إلى مدينة القنيطرة وهو لم يصل بشهادة مئات الضباط (ومنهم والدي الذي كان في القنيطرة) وبهذا الانسحاب تمكنت إسرائيل من احتلال مرتفعات الجولان بالكامل التي كان يعتبر حصنا طبيعيا منيعا، فعادت الشكوك لتكون أكثر واقعية خاصة بعد اتفاق فصل القوات التي حازت فيه إسرائيل على معظم أراضي الجولان، وانتشر شعار بين السوريين وخاصة بعد الثورة يتهمون الأسد بالخيانة: «باع الجولان ابن الحرام»، وقد أظهر الأسد بعد تطبيع مصر علاقاتها مع إسرائيل بأنه حامي القضية الفلسطينية بتشكيل جبهة مناهضة للتطبيع وتجميد عضوية مصر في الجامعة العربية رغم أنه قام بحرب لا هوادة فيها ضد الفلسطينيين ومنظمة التحرير في لبنان انتهت بطرد المقاومة من لبنان في العام 1982، وحسب الرئيس المصري الراحل حسني مبارك فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين عرض على الأسد الانسحاب من كامل الجولان مقابل التطبيع مع تل أبيب لكنه رفض العرض، ومع الوريث بشار الأسد لم يتغير الوضع كثيرا لكن كان هناك أحاديث كثيرة تشير إلى محادثات تحت الطاولة بين النظام وإسرائيل. هذا الوضع تفاقم مع قيام الثورة السورية بعد أن استنجد الأسد بإيران وميليشياتها، وروسيا التي أهداها قاعدة حميميم مقابل ضرب الشعب السوري الثائر، لكن تواجد إيران وميليشياتها في سوريا لم يرق لإسرائيل الذي رأت فيه تهديدا لها فقامت بمئات الغارات الجوية على القواعد الإيرانية دون أي رد من الجانب السوري رغم الأضرار الجسيمة التي تعرضت لها منشآت سورية متعددة، وبدأ الشك يخامر القيادات الإيرانية بتعاون مخابراتي سوري إسرائيلي بتسريب المعلومات عن أماكن تواجد الإيرانيين واجتماعاتهم التي كانت تستهدف لحظة بلحظة، ورفض الأسد إجراء أي تحقيق طلبته إيران وخاصة بعد استهداف قنصليتها في دمشق. وطرح تساؤل كبير بعد سقوط النظام الأسدي وفي يوم الاحتفال بالنصر بقصف إسرائيل للمربع الأمني المجاور لساحة الأمويين، حيث كانت الاحتفالات، والذي يضم كل ملفات المخابرات المركزية السورية بما فيها ملفات العلاقات السورية الإسرائيلية. ثم توالى القصف لكل مراكز الجيش السوري وقواعد الطيران والموانئ، ورغم أن الرئيس السوري أحمد الشرع قد صرح أكثر من مرة بأنه لا يرغب في فتح جبهات قتال مع أحد، ولا يريد أن يقوم بعمليات انتقام من أي جهة كانت إلا أن إسرائيل حاولت بحجة حماية الدروز التدخل في سوريا وقامت باحتلال عدة مناطق في الجولان ضاربة عرض الحائط اتفاق فصل القوات 1974 وكانت تمني النفس بالتحريض على حرب أهلية تنتهي بتقسيم سوريا حسب تصريحات أكثر من مسؤول إسرائيلي. وقد كشفت مصادر مطلعة لوكالة رويترز مؤخرا، عن إجراء سوريا ودولة الاحتلال الإسرائيلي اتصالات مباشرة وجها لوجه ربما بوساطة إماراتية بعد زيارة الشرع لأبو ظبي ولقائه بالرئيس محمد بن زايد، وأشارت الوكالة إلى أن الاتصالات المباشرة تمثل تطورا كبيرا في العلاقات بين الجانبين وتمهد لاتفاق عدم الاعتداء حسب ما نصح به الموفد الأمريكي لسوريا، ورغم أن الإدارة الجديدة سلمت مقتنيات الجاسوس إيلي كوهين لإسرائيل كعربون حسن نية لم يثنها عن استمرارية اعتداءاتها وقصف المواقع العسكرية السورية بحجة وجود أسلحة تهدد أمنها القومي. قامت تركيا ومنذ بداية الثورة وبعد استقبالها ملايين اللاجئين السوريين، باستقطاب بعض الفصائل السورية المسلحة، ومنها هيئة تحرير الشام، وقد عملت حثيثا مع فصائل مسلحة لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية، وفي الوقت نفسه العمل مع هيئة تحرير الشام لإسقاط النظام الأسدي رغم أنها كانت توحي بأنها تبحث عن تطبيع علاقاتها معه حسب رغبة موسكو وطهران، وقامت بالتخطيط والدعم معها لبدء عملية تحرير سوريا التي بدأت بمدينة حلب وانتهت بدمشق في بيوم النصر في 8 ديسمبر 2024. وصرح ترامب أنه ترك لتركيا حرية تطوير علاقاتها بالإدارة السورية الجديدة. وهكذا نرى أن بوصلة سوريا الجديدة تتجه شمالا نحو تركيا وغربا نحو أوروبا وأمريكا، وجنوبا نحو المملكة العربية السعودية، وكل الزيارات المتعاقبة للمسؤولين في هذه الدول الثلاث تؤكد ذلك، بعد أن كانت في عهد الأسد تتجه إلى موسكو وطهران بشكل أساسي، وبذلك تدخل سوريا في انقلاب جذري في علاقاتها الإقليمية والدولية. كاتب سوري


العربي الجديد
منذ 5 ساعات
- العربي الجديد
مصدر إيراني يكشف لـ"العربي الجديد" تفاصيل عن المقترح الأميركي
كشف مصدر إيراني مسؤول لـ"العربي الجديد"، مساء الأربعاء، بعض تفاصيل المقترح الأميركي الذي جرى إرساله إلى إيران ، السبت الماضي، نافياً صحة التقارير الإعلامية الأميركية حول الاتفاق على تحديد زمان الجولة السادسة ومكانها من المفاوضات وعقدها في بداية الأسبوع المقبل، قائلاً: "لم يجرِ أي تفاوض بهذا الشأن حتى الآن". وقال المصدر الإيراني، الذي رفض الكشف عن هويته، إن "الطرف الأميركي يغيّر موقفه باستمرار في المفاوضات ولا يمتلك الجدية والإرادة الكافية للتوصل إلى اتفاق"، نافياً "أي اعتراف أميركي حتى الآن بحق إيران في تخصيب اليورانيوم باعتبار ذلك خطاً أحمر أساسياً"، مؤكداً أن ما نُشر في وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية بهذا الشأن غير صحيح تماماً. وشدّد على أن "العرض الأميركي المقدَّم لإيران غير متوازن وغامض للغاية، ولا يلبّي المطالب الرئيسية والأساسية لإيران"، موضحاً أنه "وفي الجولات الخمس الماضية من المفاوضات، وكذلك في هذا العرض، لم يُبدِ الطرف الأميركي استعداداً لبحث مسألة رفع العقوبات بشكل جدي، وكل تركيزه حتى الآن منصب فقط على تحقيق مطالبه في المجال النووي، وهذا يُعدّ دليلاً آخر على عدم جدية إدارة ترامب في المفاوضات للتوصل إلى اتفاق". رصد التحديثات الحية "أكسيوس": إيران منفتحة على إبرام اتفاق نووي يتضمن اتحاداً للتخصيب وكشف المصدر الإيراني في حديثه مع "العربي الجديد" أن "أميركا، وفي إطار لعبة معقّدة، وافقت بشكل مؤقت وبمستوى محدود جداً على تخصيب أقل من مستويات الاتفاق النووي، وذلك لأغراض البحث في مفاعل لفترة معينة، لكنها، بوضعها شروطاً ومطالب غير معقولة، جعلت حتى هذا الأمر بحكم العدم والملغى". وأكد المصدر أنه "بشكل عام، فإن غاية أميركا من عرضها، من خلال طرح مطالب وشروط غير معقولة، هي إيقاف كامل لتخصيب اليورانيوم في إيران، وهو أمر غير مقبول إطلاقاً". ولفت إلى أن "طرح إنشاء تحالف إقليمي لتخصيب اليورانيوم يأتي في هذا السياق، بهدف التحضير لحرمان إيران من حقها الأساسي في امتلاك دورة تخصيب اليورانيوم"، نافياً صحة تقارير غربية عن موافقة أميركية على إنشاء المركز في جزيرة إيرانية. وقال المسؤول الإيراني إن "الهدف من الأخبار المتناقضة التي تنشرها وسائل الإعلام الأميركية نقلاً عن مسؤولي إدارة ترامب هو ممارسة الضغط على الجانب الإيراني في المفاوضات، وهي لعبة مكشوفة لتأليب الرأي العام الإيراني؛ لكنّ الشعب الإيراني أكثر وعياً من أن تنطلي عليه هذه الأساليب والألاعيب".