
هل يشعل القطب الشمالي شرارة حرب نووية؟
إيطاليا تلغراف
ماثيو والين
الرئيس التنفيذي لمشروع الأمن الأميركي (American Security Project)
ولّت منذ زمن بعيد، أيام تدريبات 'الاحتماء والانبطاح' والملاجئ النووية في الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي كانت هواجس الحرب النووية خلالها تسيطر على أذهان الكثيرين. فقد سادت لعقود أصوات العقل، وعملت الولايات المتحدة، وروسيا بشكل مشترك على تقليص خطر نشوب صراع نووي، وتقليص حجم ترساناتهما.
غير أن التعاون بدأ بالتفكك بحلول عام 2022، بعدما أثار الغزو الروسي الفاشل لأوكرانيا مخاوف جدية من تصعيد نووي، وقوّض بشدة آفاق التوصل إلى اتفاقيات مستقبلية للحد من الأسلحة النووية.
ومع ما يبدو من تجاهل روسيا محاولات إدارة ترامب التصالحية لإنهاء الحرب، تتلاشى الآمال في إنهائها، بينما تشعر أوروبا بوطأة الضغط، فتسارع إلى إطلاق جهود ضخمة لتعزيز دفاعاتها الذاتية.
وفي خضم هذه التوترات، أخذ ذوبان الجليد القطبي يفتح طرقًا بحرية في القطب الشمالي أمام حركة الشحن المتزايدة، واستكشاف الموارد، والاستعراضات العسكرية.
ففنلندا والسويد، أحدث أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، هما من الدول القطبية. أما روسيا، فهي اليوم اللاعب المهيمن في المنطقة القطبية، إذ تمتلك 53% من مجمل سواحل القطب الشمالي، وتدير أسطول كاسحات الجليد الأكبر عالميًا، فضلًا عن تعزيزها قواعدها العسكرية هناك.
وإلى جانب ذلك، أخذت الصين تلعب دورًا متناميًا، من خلال إجراء مناورات عسكرية قطبية مشتركة مع روسيا، وتسيير أسطولها الخاص من كاسحات الجليد، رغم أنها لا تملك أي أراضٍ داخل الدائرة القطبية الشمالية.
لكن، هل يُقدَّر للقطب الشمالي أن يكون بالفعل الشرارة الأرجح لحرب نووية؟ لنمعن النظر في الاحتمالات.
رغم برودته القارسة، لم يكن القطب الشمالي غريبًا عن النزاعات العسكرية، إذ يحتل موقعًا إستراتيجيًا بالغ الأهمية، ويُعدّ معبرًا نحو المحيطَين: الأطلسي والهادئ.
ففي الحرب العالمية الثانية، امتدت معركة الأطلسي إلى القطب الشمالي، حيث عبرت السفن المحملة بالإمدادات الأميركية إلى الاتحاد السوفياتي طريق البحر الشمالي. كما اجتاحت ألمانيا النازية النرويج، وشن الاتحاد السوفياتي حرب الشتاء ضد فنلندا عام 1940. ومع تطور الحرب الباردة، أصبح القطب الشمالي مسرحًا رئيسيًا للأنشطة الغواصيّة.
وفي أيامنا هذه، يسلط إصرار الرئيس ترامب على 'الاستحواذ على غرينلاند بطريقة أو بأخرى' الضوءَ على الأهمية المتزايدة للقطب الشمالي لمصالح الأمن القومي الأميركي.
فموقع غرينلاند الجغرافي، مقترنًا بتشغيل الولايات المتحدة قاعدة بيتوفيك الفضائية (Pituffik Space Base) في أقصى الشمال، يوفّر قدرات رئيسية في 'الإنذار الصاروخي، والدفاع الصاروخي، والمراقبة الفضائية'.
إذ يمر أقصر المسارات للطيران الصاروخي النووي بين الولايات المتحدة، وروسيا فوق المحيط المتجمد الشمالي، وفقدان هذه القاعدة – نتيجة خطأ دبلوماسي – قد يفتح فجوة خطيرة في نظام الدفاع الإستراتيجي الأميركي.
ومع ذلك، فإن فقدان القاعدة إثر هجوم روسي مباشر يهدف إلى تعطيل بنية الإنذار الصاروخي الأميركية، يبقى أمرًا غير مرجح، نظرًا لخطر الرد الفوري والتصعيد الكارثي.
حاليًا، يتمثل المسار الأرجح لنشوب تبادل نووي محتمل في القطب الشمالي في اعتداء روسي تقليدي، أو 'منطقة رمادية' ضد عضو في الناتو.
وتشمل الأنشطة الرمادية الاشتباكات الحدودية، والهجمات السيبرانية، واختراقات المجال الجوي، والاعتراضات العسكرية الطائشة، ودعم الجماعات الانفصالية؛ وهي أفعال تقف عند التخوم الفاصلة بين السلم والحرب المفتوحة، لكنها قد تفضي إلى صراع يتصاعد إلى درجة الحرب النووية.
ومن الممكن أيضًا أن تقع هجمات رمادية أو عمليات معلوماتية تستهدف تقسيم الولايات المتحدة، وغرينلاند، والدانمارك، وهي احتمالات ليست بعيدة المنال.
ومع انضمام السويد – وفنلندا بشكل أهم، نظرًا لمشاركتها حدودًا طولها 1.343 كيلومترًا مع روسيا – إلى الناتو، تزايدت فرص استهداف دولةٍ قطبية عضوٍ في الحلف.
ولإبراز هذا الخطر، نفذت القوات الأميركية في ألاسكا تدريبًا حديثًا جرى خلاله نقل مئات الجنود إلى فنلندا للتصدي لغزو روسي افتراضي. ومع ذلك، يبدو أن روسيا ستلجأ على الأرجح إلى اختبار حدود الناتو من خلال أنشطة رمادية استفزازية ومزعزعة بدلًا من شنّ غزو صريح.
وقد أدت الكارثة التي حلت بالغزو الروسي لأوكرانيا إلى إثارة شكوك لدى موسكو بشأن قدرتها على تحقيق أهدافها في مواجهة مباشرة مع دولة نووية، ناهيك عن مهاجمة حليف كبير في الناتو، مما يجعل الهجوم المباشر أمرًا غير مرجّح.
ومع ذلك، تبقى مسألة تحديد الخط الأحمر للأنشطة الرمادية بالنسبة لفنلندا، وما الذي قد يؤدي إلى تفعيل المادة الخامسة من معاهدة الدفاع الجماعي، أمرًا غامضًا.
لطالما شكّلت التهديدات النووية الأميركية رادعًا لهجوم روسي على دول الناتو الأوروبية، إلا أن التصريحات المتكررة للرئيس ترامب التي تشكك في التزامه بالدفاع عن عضو في الناتو تعرض لهجوم، قد زعزعت ثقة الأوروبيين في التزام أميركا.
ونتيجة لذلك، تفكر فرنسا والمملكة المتحدة في توسيع ترساناتهما النووية، ما يشير إلى زيادة الاعتماد على الردع النووي، لا سيما للدفاع عن أعضاء الناتو القطبيين. إذ تعيد فرنسا النظر في قرارها المتعلق بإيقاف تشغيل رؤوسها النووية الحالية مع دخول بدائل جديدة إلى الخدمة، وهو ما قد يضاعف من حجم ترسانتها.
وفي الوقت ذاته، تقوم فرنسا بترقية قاعدة جوية أقرب إلى الحدود الألمانية، لتكون قادرة على استضافة أسلحة نووية. أما المملكة المتحدة، التي لطالما اعتمدت على الولايات المتحدة في دعم ترسانتها النووية، فقد بدأت تشكك في هذا الاعتماد، وقد تسعى إلى خيارات أخرى؛ لضمان امتلاك قدرة ردع فعالة وموثوقة. ومن شأن هذه التطورات أن تنذر بسباق تسلح نووي جديد.
وتلوح في الأفق بوادر فترة من الانتشار النووي مع حلول فبراير/ شباط 2026، وهو موعد انتهاء معاهدة 'ستارت الجديدة'، آخر معاهدة قائمة للحد من الأسلحة النووية الإستراتيجية بين الولايات المتحدة، وروسيا.
في غضون ذلك، تواصل الصين، التي تنشط في القطب الشمالي، بناء ترسانتها النووية بسرعة، مع طموح لامتلاك أكثر من ألف رأس نووي بحلول عام 2035. وترفض الصين باستمرار الانضمام إلى معاهدة تخفيض الأسلحة النووية متعددة الأطراف مع الولايات المتحدة، وروسيا، متذرعة بأن ترسانتها النووية أصغر بكثير مقارنة بهما.
وقد تؤدي قضايا الملاحة في القطب الشمالي كذلك إلى تصعيدات عسكرية تبلغ مستوى الاستخدام النووي. فنظام الملاحة العالمية بالأقمار الصناعية (GNSS)، بما يشمل نظام تحديد المواقع الأميركي (GPS) ونظام غلوناس الروسي (GLONASS)، يعاني من تراجع في الدقة والموثوقية في القطب الشمالي، وذلك لأسباب عديدة، منها ميول مدارات الأقمار الصناعية، وتداخل الغلاف الأيوني.
ومع تزايد حوادث التشويش الروسي على نظم الملاحة في أوروبا، يمكن تصور أن روسيا قد تستخدم أساليب مماثلة في القطب الشمالي، بما في ذلك التلاعب بالإشارات، بهدف إثارة الاضطراب، أو التسبب بأخطاء ملاحية تؤدي إلى حادث دولي قابل للاستغلال.
وقد يؤدي انجراف سفن عسكرية أو مدنية إلى داخل المياه الإقليمية الروسية إلى احتجازها، أو الاستيلاء على حمولتها، أو احتجاز طواقمها لاستخدامهم في 'دبلوماسية الرهائن'. وحل مثل هذه المواجهات بالقوة قد يتدهور بسرعة إلى صراع شامل.
ومع ذلك، لا يعيش القطب الشمالي في عزلة، فهناك مناطق أخرى تتصاعد فيها التوترات النووية.
فاحتمال غزو الصين لتايوان يُعد السيناريو الأرجح لمواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وقوة نووية أخرى. وعلى الرغم من أن الرئيس شي جين بينغ لم يبدِ نية صريحة للغزو، فإنه يسعى لأن تكون قواته قادرة على اجتياح تايوان بحلول عام 2027.
وبينما أشار الرئيس بايدن إلى عزمه دعم تايوان مباشرة إذا وقع الغزو، يبدو أن الرئيس ترامب يفضل الموقف الأميركي التقليدي القائم على 'الغموض الإستراتيجي' حيال الجزيرة.
وإذا قرّرت الصين الغزو، وردت الولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان، فإنه من الصعب تصور لجوء واشنطن إلى استخدام سلاح نووي بشأن مسألة لا تهدد الأراضي الأميركية مباشرة أو أحد حلفاء الناتو.
ومع ذلك، قد يؤدي استهداف منشآت عسكرية صينية داخل الأراضي الصينية لتعطيل قوة الغزو إلى إثارة رد نووي.
وما يدعو للقلق أكثر أن السلوكيات العسكرية الاستفزازية في أي مكان، قد تؤدي إلى دورة من التصعيد غير المقصود تفضي في النهاية إلى تبادل نووي.
فمع انفتاح القطب الشمالي أمام المزيد من الأنشطة العسكرية والتجارية، يُتوقع أن تزيد وتيرة المواجهات بين القوات المسلحة. ومع زيادة هذه المواجهات، ترتفع احتمالية وقوع حادث أو هجوم غير مقصود.
وبينما تواصل روسيا تحليق طلعاتها الدورية إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي لألاسكا، وهي منطقة من المجال الجوي الدولي تراقبها الولايات المتحدة لرصد جميع الطائرات، فإن التصرفات العدائية من قبل الطيارين الروس، ترفع من خطر تحول مواجهة روتينية إلى حادث دولي خطير.
بيدَ أن مثل هذه الحوادث العدائية تحدث بوتيرة أعلى في مناطق أخرى، مثل بحر البلطيق وبحر الشمال. على سبيل المثال، في عام 2022، أطلق مقاتل روسي صاروخين من طراز SU-27 على طائرة استطلاع بريطانية من طراز RC-135 فوق البحر الأسود، إلا أنهما لم يصيبا هدفهما لحسن الحظ.
وبالمثل، تشتهر الصين بعمليات اعتراض غير آمنة متكررة للطائرات الأجنبية في بحرَي الصين: الشرقي، والجنوبي.
وفي نهاية المطاف، فإن احتمالية أن يشهد القطب الشمالي، أو أي منطقة أخرى صراعًا يؤدي إلى حرب نووية، تتوقف أكثر على الأطراف المعنية وخياراتها، لا على طبيعة المناطق ذاتها.
فالأطراف الملتزمة بحل النزاعات سلميًا ستجد السبل للحفاظ على السلام. أما في عصر يسوده التباهي بالعضلات، والمواجهة، والنزعة التوسعية، فقد نجد أنفسنا جميعًا نخطو نحو الهاوية بلا رجعة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الخبر
منذ 7 ساعات
- الخبر
ترامب يشعل "الحرب التجارية" مجددا
أعاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، اليوم الجمعة، إشعال فتيل التوترات التجارية، مستهدفًا عملاق الهواتف الذكية "آبل" إلى جانب واردات الاتحاد الأوروبي، في خطوة تسببت باضطراب في الأسواق العالمية بعد أسابيع من التهدئة النسبية التي منحت بعض الانفراج. وهدد ترامب بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على كل هاتف "آيفون" يُباع داخل الولايات المتحدة دون أن يُصنع فيها علما أن أكثر من 60 مليون هاتف يُباع سنويًا في السوق الأمريكية. وكتب ترامب على منصته "تروث سوشيال": "لقد أبلغت تيم كوك منذ فترة طويلة بأنني أتوقع أن يتم تصنيع هواتف آيفون المخصصة للبيع في الولايات المتحدة داخل الأراضي الأمريكية، وليس في الهند أو أي مكان آخر". وأضاف: "إذا لم يتم تحقيق ذلك، فعلى شركة آبل دفع تعريفة جمركية لا تقل عن 25% للولايات المتحدة". كما دعا ترامب، اليوم الجمعة، إلى فرض تعريفة جمركية قاسية بنسبة 50% على واردات الاتحاد الأوروبي، متهماً بروكسل بالتعنت وصعوبة التعامل خلال المفاوضات الجارية. وأعلن ترامب عن هذه الخطوة عبر منصته "تروث سوشيال"، حيث صبّ جام غضبه على تعثّر المحادثات، مشيرًا إلى أن "المناقشات لا تصل إلى أي مكان"، ومعلناً أن التوصية بفرض الرسوم الجديدة ستدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من الفاتح جوان 2025. وقال ترامب إن الاتحاد الأوروبي، الشريك التقليدي للولايات المتحدة، يستفيد من شروط غير عادلة مقارنة بالصين، الخصم الجيوسياسي لواشنطن. ففي الوقت الذي خفّضت فيه إدارته الرسوم الجمركية على بكين إلى 30% هذا الشهر لتسهيل التفاوض، يصرّ الأوروبيون، حسب وصفه، على خفض الرسوم إلى الصفر، بينما يتمسك هو بفرض ضريبة أساسية بنسبة 10% على معظم الواردات. وبعد اتفاق الولايات المتحدة والصين في وقت سابق من الشهر الجاري على تعليق الرسوم الجمركية المضادة بينهما، أعادت منشورات ترامب اليوم الرسوم الجمركية والتجارة إلى الواجهة من جديد. وتأتي هذه التهديدات في وقت حساس تشهده الأسواق الدولية، وسط محاولات مستمرة من واشنطن لعقد صفقات تجارية متوازنة مع شركائها التقليديين. ويرى مراقبون أن هذه الخطوة تهدف إلى ممارسة ضغط أكبر على المفوضية الأوروبية للرضوخ لشروط تفاوضية أكثر ملاءمة لواشنطن، لكنها قد تفتح الباب أمام رد أوروبي بالمثل، ما يُنذر بجولة جديدة من حرب تجارية لا تحمد عقباها بين الحليفَين التاريخيَّين.


خبر للأنباء
منذ 9 ساعات
- خبر للأنباء
الدفاع المدني بـ #غزة: 8 شهداء بينهم 7 أطفال ومصابون بقصف الاحتلال منزلا في قيزان النجار جنوبي #خان_يونس
الدفاع المدني بـ #غزة: 8 شهداء بينهم 7 أطفال ومصابون بقصف الاحتلال منزلا في قيزان النجار جنوبي #خان_يونس القاهرة الاخبارية: تحطم مروحية روسية من طراز مي -8 في مقاطعة أوريول ومقتل طاقمها ترامب يوصي بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على الاتحاد الأوروبي اعتبارا من الأول من يونيو ترامب: إتمام عملية تبادل كبيرة لسجناء بين #روسيا و #أوكرانيا برنامج الأغذية العالمي: انعدام الأمن في قطاع #غزة يتسبب في تفاقم الجوع واليأس والخوف من عدم وصول المساعدات الإنسانية الجيش السوداني يعلن السيطرة على مدينة الدبيبات في ولاية جنوب #كردفان وكالة الأنباء الفلسطينية: استشهاد 4 أشخاص وإصابة آخرين بغارة للاحتلال على منزل في جباليا شمالي قطاع غزة رويترز: مسودة الأوامر التنفيذية المرتقبة لترامب توصي ببناء منشآت نووية جديدة وتحديد مواقع محتملة لها ترامب: الولايات المتحدة تهيمن على سوق العملات الرقمية مثل البيتكوين وغيرها وسنُبقي الأمور على هذا النحو


خبر للأنباء
منذ يوم واحد
- خبر للأنباء
بعد زيلينسكي.. رئيس جنوب أفريقيا ضحية جديدة لـ"مسرحيات" ترامب الدبلوماسية
جاء هذا المشهد المُعد مسبقاً من البيت الأبيض لتحقيق أقصى تأثير إعلامي، في إحياء لسابقة مماثلة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي فبراير الماضي، حيث واجه ترامب رامافوسا باتهامات كاذبة بـ"إبادة جماعية" ضد البيض في جنوب أفريقيا، مزعوماً حدوث مجازر ومصادرات للأراضي. يكشف الحادث عن استعداد ترامب لتحويل المكتب البيضاوي - المقام الرسمي المخصص عادة لاستقبال الضيوف الأجانب بكل تكريم - إلى منصة لإذلال قادة الدول الأقل نفوذاً أو ممارسة الضغوط عليهم بشأن قضاياه الشخصية. قد يؤدي هذا النهج غير المسبوق إلى تردد القادة الأجانب في قبول دعوات ترامب، خشية التعرض للإهانة العلنية، ما قد يعيق بناء تحالفات مع حلفاء تتنافس واشنطن مع الصين على كسبهم. وصف باتريك جاسبار، السفير الأمريكي السابق لدى جنوب أفريقيا في عهد أوباما، اللقاء بأنه "مشهد مخزٍ" حيث "تعرض رامافوسا لهجوم بواسطة مقاطع مصورة مزيفة وخطاب تحريضي". وأضاف جاسبار، الباحث حالياً في مركز "أمريكان بروغرس": "التعامل مع ترامب بشروطه ينتهي دوماً بشكل سيء للجميع". كان من المفترض أن يمثل اللقاء فرصة لإصلاح العلاقات المتوترة بين البلدين، خاصة بعد فرض ترامب رسوماً جمركية، وتهدئة الجدل حول مزاعمه غير المدعومة بـ"إبادة البيض" وعرضه إعادة توطين جماعة الأفريكان البيض. وبعد بداية ودية، أمر ترامب - نجم تلفزيون الواقع السابق - بتعتيم الأضواء لعرض مقاطع فيديو ومقالات زعم أنها تثبت اضطهاد البيض، في مشهد مسرحي مبالغ فيه. حافظ رامافوسا على هدوئه رغم استفزازه الواضح، محدثاً توازناً دبلوماسياً بين تفنيد الادعاءات وتجنب المواجهة المباشرة مع الرئيس الأمريكي المعروف بحساسيته المفرطة. ومازح رامافوسا قائلاً: "آسف لعدم امتلاكي طائرة لأهديك إياها"، في إشارة إلى عرض قطر تزويد ترامب بطائرة فاخرة بديلة لـ"إير فورس وان". وأكد متحدثه الرسمي أن الرئيس "تعرض لاستفزاز واضح لكنه تجنب الوقوع في الفخ". يأتي هذا الحادث بعد أشهر فقط من مشادة علنية بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي، حيث اتهمه الأخير بعدم الامتنان للمساعدات الأمريكية، مما أثار قلق حلف الناتو. ورغم أن جنوب أفريقيا ليست في قلب صراع جيوسياسي، إلا أنها تمثل قوة اقتصادية أفريقية رئيسية، حيث تحتل الصين المرتبة الأولى بين شركائها التجاريين، تليها الولايات المتحدة. يذكر أن جنوب أفريقيا، التي أنهت نظام الفصل العنصري عام 1994، ترفض بشدة مزاعم ترامب، فيما يُعتبر خطابه موجهًا بشكل واضح لقاعدته الانتخابية من اليمين المتطرف. منذ عودته للسلطة، ألغى ترامب مساعدات لدول أفريقية وطرد دبلوماسيين، بينما يواصل تقييد قبول اللاجئين من معظم أنحاء العالم. يُذكر أن قانون إصلاح الأراضي في جنوب أفريقيا - الذي يهدف لتصحيح مظالم الماضي - يسمح بالمصادرة دون تعويض في حالات المصلحة العامة، مع ضمانات قضائية كاملة. علق محلل الشؤون الدولية تيم مارشال: "من كان يشك في أن حادثة زيلينسكي كانت مدبرة، فليتأكد الآن أن الأمر يتكرر بنفس السيناريو".