logo
حفتر وفيديوهات الذاكرة

حفتر وفيديوهات الذاكرة

العربي الجديد٠٨-٠٥-٢٠٢٥

​تُصر قيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر على ترويج وهم فاضح، مفاده بأن الفيديو المسرب للنائب إبراهيم الدرسي في سجنه السري "مُفبرك بالذكاء الاصطناعي". ولو سلمنا جدلاً بهذا الادعاء المستحيل، فكيف يمكن لحفتر نفي صحة "فيديو الرعب" الذي يوثق جرائمه منذ أن أطلق أول حروبه في بنغازي عام 2014، بكل مشاهده المتتابعة: مذبحة قاعدة براك الشاطئ 2017، وحربه على طرابلس عامي 2019 و2020، اختطاف النائبة سهام سرقيوة وتغييبها سنة 2019، اغتيال الناشطة حنان البرعصي سنة 2022، قتل وزير الدفاع المهدي البرغثي 2023؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يزوّر عقدا كاملا، ويزيف خلاله أصوات أنين وبكاء أهالي الضحايا، ويلون المشاهد بحمرة الدم؟
صحيح أن الليبيين يعرفون أن من سرب الفيديو في توقيت سياسي مشبوه له أجندته وأهدافه، لكنهم يعرفون أيضاً أن "الفبركة" الحقيقية ليست في التقنية، بل في أكذوبة "المنقذ من الإرهاب" الذي أطلق منذ 2014 فيلم رعب طويلاً: سجون سرية، وإعدامات، وحصار مدن ومناطق، وقصف العاصمة التي تضم ثلاثة ملايين إنسان عاماً ونصف العام. فمشاهد هذا الفيديو لا تحتاج إلى مؤثرات صناعية، لسبب واحد، وهو أنها مسجلة في ذاكرة شعب يعرف أن من قتل البرغثي هو من عذب الدرسي، وأن من أخفى سرقيوة هو من يرفض الكشف عن مصير المئات من المختطفين.
ادعاء فبركة الذكاء الاصطناعي كشف عن "غباء" سياسي لنظام حفتر، يظهر جلياً حين يرفض الاعتراف بجريمة واحدة، ويتباهى في نفس الوقت بما يصفه بـ"الانتصارات العسكرية". فما المختلف في مشهد إهانة الدرسي وتعذيبه ووضع سلسلة في رقبته، عن مشهد جثث المدنيين الذين ربطت أيديهم قبل أن يدفنوا أحياء في مقابر ترهونة الجماعية؟ ولا تزال ذاكرة الليبيين "الطبيعية" تحتفظ بأرشيف مشاهد حية لفيديوهات لا تحتاج لفبركة.
وهنا يلوح سؤال آخر يتعلق بالعدالة الدولية التي تتغنى بحقوق الإنسان؟ لماذا تصمت المحكمة الجنائية الدولية؟ وأين العواصم ذات الثقل في الملف الليبي والبعثة الأممية الذين لا يتوقفون عن الحديث عن الاستقرار والسلام في ليبيا؟ هل كل هؤلاء عاجزون عن تحليل فيديو في مختبراتهم وبتقنياتهم التي يعلنون كل يوم أنها في خدمة الإنسان، أم أن صمت مجلس الأمن ومنظمة العفو الدولية يعني أن "الفبركة" الحقيقية هي في معايير العدالة الانتقائية التي تحاسب الضعيف وتتغاضى عن الجلاد إن حمل راية "مكافحة الإرهاب"؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فرنسا تستضيف 3 وزراء خارجية عرب تحضيراً لمؤتمر حول حل الدولتين
فرنسا تستضيف 3 وزراء خارجية عرب تحضيراً لمؤتمر حول حل الدولتين

العربي الجديد

timeمنذ 19 ساعات

  • العربي الجديد

فرنسا تستضيف 3 وزراء خارجية عرب تحضيراً لمؤتمر حول حل الدولتين

من المقرّر أن يستضيف وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو وزراء خارجية السعودية فيصل بن فرحان ، والأردن أيمن الصفدي، ومصر بدر عبد العاطي، في اجتماع، بعد ظهر اليوم الجمعة، للتحضير لمؤتمر حول حل الدولتَين بحسب ما أفاد به مصدر دبلوماسي، الذي أشار إلى أنه "اجتماع عمل في الساعة 15.30"، موضحاً أنه لن يُعقد مؤتمر صحافي بعد اللقاء. ومن المقرّر أن تترأس فرنسا بالاشتراك مع السعودية مؤتمراً دولياً في نيويورك، بين 17 و20 حزيران/يونيو، لإعطاء دفع لحلّ الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. وأعلن بارو هذا الأسبوع أن فرنسا عازمة على الاعتراف بدولة فلسطين، وهو قرار من المرجح أن يتسبب باضطرابات في العلاقة مع إسرائيل. من جهته، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف لوموان: "من أجل حل الدولتين فإن مسألة الاعتراف المتبادل بين الدول أمر بالغ الأهمية"، وأضاف: "إذا أردنا أن نتمكن من التحدث عن حلّ الدولتين، فعلى الدول التي لم تعترف بفلسطين أن تعترف بها، وعلى الدول التي لم تعترف بإسرائيل أن تبادر إلى التحرّك نحو التطبيع". وعندما سئل لوموان، اليوم الجمعة، عن طبيعة التحركات المأمولة، قال إنّ ذلك يمكن التعبير عنه "من خلال العديد من التحركات: الاتصالات الأولية، بما في ذلك الاتصالات غير الرسمية، وخصوصاً مع المجتمع المدني الإسرائيلي الملتزم بحل الدولتين، والاعتراف بإسرائيل داخل حدودها المعترف بها دولياً لعام 1967، والالتزام بالمساهمة في أمن إسرائيل وأمن جيرانها". وأشار لوموان إلى أن حل الدولتين يعني الاعتراف بإسرائيل "يجب أن نكون واضحين: لا يمكنّنا أن ندعم حل الدولتين ونرفض في الوقت نفسه حق إسرائيل في الوجود"، وأضاف: "ما نراه اليوم هو أن عدداً من الدول ستكون مستعدة للقيام بذلك إذا تغير الوضع على الأرض وإذا أعطت سياسة الحكومة الإسرائيلية فرصة للسلام". وثائق نص خريطة الطريق إلى حل الدولتين في فلسطين 2003 ويعترف نحو 150 بلداً بدولة فلسطين التي تتمتع بصفة عضو مراقب في الأمم المتحدة، لكنّها لا يمكن أن تمنح العضوية الكاملة إلّا بتصويت مؤيّد من مجلس الأمن. وفي العام 2020، أدت "اتفاقات أبراهام" التي رعاها دونالد ترامب خلال ولايته الأولى في البيت الأبيض، إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وثلاث دول عربية هي الإمارات والبحرين والمغرب، لكن العديد من الدول العربية ترفض حتى الآن الانضمام إلى هذه الاتفاقات، خصوصاً السعودية، وجارتَي إسرائيل؛ سورية ولبنان. وفي قرار اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2024، دعت إلى إجراء مفاوضات ذات صدقية بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط، وقررت عقد هذا "المؤتمر الدولي الرفيع المستوى من أجل التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين" في يونيو/حزيران في نيويورك، وأوكلت رئاسته إلى باريس والرياض. (فرانس برس)

عراقجي عشية المباحثات النووية: لا تزال هناك خلافات جوهرية مع واشنطن
عراقجي عشية المباحثات النووية: لا تزال هناك خلافات جوهرية مع واشنطن

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

عراقجي عشية المباحثات النووية: لا تزال هناك خلافات جوهرية مع واشنطن

قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مساء الخميس إن "خلافات جوهرية" ما زالت قائمة مع الولايات المتحدة، عشية جولة جديدة من المحادثات النووية في روما بوساطة سلطنة عمان. وقال عراقجي للتلفزيون الرسمي: "لا تزال هناك خلافات جوهرية بيننا"، محذراً من أنه إذا أرادت الولايات المتحدة منع إيران من تخصيب اليورانيوم "فلن يكون هناك اتفاق". وكان عراقجي الصورة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي عباس عراقجي أكاديمي ودبلوماسي إيراني قاد فريق إيران في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني حتى تمكنت طهران من التوصل إلى اتفاق تخفيف العقوبات عنها مقابل فرض قيود على برنامجها النووي، عام 2015. كما تولى العديد من المهام الدبلوماسية والأكاديمية، وبعد انتخابات 2024، رشحه الرئيس مسعود بزشكيان لمنصب وزير الخارجية، وحظي بثقة البرلمان. حذر الخميس من أنّ إيران ستحمّل الولايات المتحدة مسؤولية أي هجوم إسرائيلي على منشآتها النووية، في حين هدّد الحرس الثوري الإيراني بأنّ إسرائيل ستتعرّض "لردّ مدمّر وحاسم" إذا هاجمت إيران. وقال عراقجي، في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، نشرت اليوم الخميس، إنه "في حال تعرّض المنشآت النووية لجمهورية إيران الإسلامية لهجوم من قبل النظام الصهيوني، فإنّ الحكومة الأميركية ستتحمّل المسؤولية القانونية" لذلك، وأضاف: "تحذر إيران بشدة من أي مغامرة يقوم بها النظام الصهيوني، وإنها ستردّ بحزم على أي تهديد أو عمل غير قانوني" يطاولها. وتأتي رسالة عراقجي، بعد تقرير بثته شبكة "سي أن أن"، أول من أمس الثلاثاء، نقلت فيه عن مسؤولين أميركيين قولهم إنّ إسرائيل تستعد لضرب المنشآت النووية الإيرانية . وأضافت الشبكة الأميركية أنه لم يتضح بعد ما إذا كان القادة الإسرائيليون قد اتخذوا قراراً نهائياً، مشيرة إلى وجود خلاف في الآراء داخل الحكومة الأميركية بشأن ما إذا كان الإسرائيليون سيقررون في نهاية المطاف تنفيذ الضربات. ومن جهته، حذر الحرس الثوري الإيراني، اليوم الخميس، من أنّ إسرائيل ستتعرّض "لردّ مدمّر وحاسم" إذا هاجمت إيران. ونقلت وسائل إعلام رسمية عن المتحدث باسم الحرس الثوري، علي محمد نائيني، قوله: "يحاولون تخويفنا بالحرب، لكنهم يخطئون في حساباتهم، إذ يجهلون الدعم الشعبي والعسكري القوي الذي يمكن للجمهورية الإسلامية حشده في ظروف الحرب". ومن المفترض أن تعقد طهران وواشنطن جولة خامسة من المحادثات النووية، غداً الجمعة، في روما، وسط خلافات حادة حول تخصيب اليورانيوم في إيران، والذي تقول الولايات المتحدة إنه قد يفضي إلى تطوير قنابل نووية، وتنفي إيران أي نية لذلك. ويقول دبلوماسيون إنّ انهيار المفاوضات الأميركية الإيرانية أو نجاحها بالتوصل إلى اتفاق نووي جديد لا يقلل من مخاوف إسرائيل بشأن تطوير إيران أسلحة نووية، وقد يحفز إسرائيل على شن ضربات ضد خصمها الإقليمي. وكان المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف ، الذي يقود المحادثات من طرف واشنطن قد قال، يوم الأحد الماضي، إنّ الولايات المتحدة "لا يمكنها أن تسمح لإيران حتى بـ1% من قدرة التخصيب"، وتعتبر طهران هذا الطلب خطاً أحمر، يتعارض مع أحكام معاهدة حظر الانتشار النووي التي وقعت عليها إيران، وتصرّ على حقها في تخصيب اليورانيوم. وثائق قرار مجلس الأمن رقم 2231 حول المسألة النووية الإيرانية ووصف المرشد الإيراني علي خامنئي، أول من أمس الثلاثاء، مطالب الولايات المتحدة بوقف تخصيب اليورانيوم بأنها "وقاحة" وقال: "ليسعوا إلى تجنب الثرثرة. من الوقاحة جداً أن يقولوا لإيران لا نسمح لكم بتخصيب اليورانيوم"، وعبّر عن شكوكه إزاء نجاح المحادثات بشأن اتفاق نووي جديد. وتجمّع عشرات المتظاهرين، اليوم الخميس، بالقرب من موقع فوردو النووي في وسط إيران، تأكيداً على "الحق الثابت" في الطاقة النووية، بحسب لقطات فيديو بثتها وكالة مهر للأنباء. تجمع دانشجویان دانشگاه قم در حمایت از حق غنی‌سازی دانشجویان دانشگاه قم،در راستای بیانات رهبر معظم انقلاب درباره حق بومی غنی‌سازی، امروز با تجمع درمقابل #سایت_هسته‌ای_فردو در این منطقه،با قرائت بیانیه‌ای حق غنی‌سازی را حق طبیعی و غیرقابل مذاکره دانستند. — ISNAMEDIA (@ISNAMEDIA) May 22, 2025 وبدأت طهران وواشنطن، محادثات ثنائية في 12 إبريل/ نيسان الماضي بشأن برنامج إيران النووي، وبعد أربع جولات من المحادثات لا تزال هناك العديد من العقبات التي تعترض طريق التوصل لاتفاق. وتصاعد التوتر بين الطرفين إثر إصرار واشنطن على امتناع طهران عن تخصيب اليورانيوم، ومن المقرر أن تلتقي الدولتان في إيطاليا، غداً الجمعة، في جولة خامسة من المفاوضات بوساطة سلطنة عُمان. (رويترز، فرانس برس، العربي الجديد)

"فوضى عالمية"؟... لا تنظروا بعيداً
"فوضى عالمية"؟... لا تنظروا بعيداً

العربي الجديد

timeمنذ 3 أيام

  • العربي الجديد

"فوضى عالمية"؟... لا تنظروا بعيداً

عندما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين في كلمتها في القمة السادسة للمجتمع السياسي الأوروبي في تيرانا (عاصمة ألبانيا) أن "النظام العالمي تحول اليوم إلى فوضى عالمية"، فإنها لم تكن تنعى فقط النظام الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية بهيئاته ومؤسّساته المتعدّدة التي ضمنت حدّاً أدنى من التوازن العالمي، رغم تحفظاتٍ لا تعد ولا تُحصى، بل لعلها تبشر أيضاً ببديل لم يتبلور بعد. وكان من غريب المصادفات تزامن حديثها هذا مع تعليق مهام المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان "مؤقتاً" بسبب التحقيق معه في اتهامات "أخلاقية"! هذه المحكمة التي تمثل إحدى أهم مؤسّسات النظام العالمي المتداعي، والتي أصدرت مذكّرات اعتقال بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بعدما تبين للمحكمة والعالم جرائم وحشية تاريخية ارتكباها في غزّة التي لا تزال تنزف. ليس هذا النظام سوى مجموعة من المبادئ والقواعد والقوانين تجسّدت في مؤسّسات تحمل أسماء وعناوين، وتصبح هذه المؤسسات مجرد بنايات بلا هيبة أو مضمون، بمجرد فقدان القوانين والقواعد صلبها، قيمتها، بعدم الامتثال لها ودَوسها، وقد بدأ هذا التعدّي في التجلي في العقود القليلة الماضية، وتطلبت الكثير من الجهد تبريراً وتزويراً للحقائق، وهي عملية مضنية كان لا بد لها أن تعلن إفلاسها في النهاية، تصديقاً لمقولة أن "حبل الكذب قصير مهما طال"... وبلغت عملية سقوط أعمدة النظام الدولي ذروتها، وبلا مبالغة، منذ اليوم الأول من الحرب على غزّة، التي شاءت الأقدار أن تكون شاهداً تاريخياً على تدمير ذاتي، يجدر التساؤل اليوم عما إن كان متعمّداً أو أن الفاعلين الرئيسيين في هذا العالم، ومن يحرّكهم، لم يكن أمامهم طريق أخرى سالكة سواه، بحرق الأشرعة حتى لا يمكنهم العودة إلى ما كان وما يتيح محاسبتهم. "يونيسف"، وكل ما ترمز إليه من أمل وبراءة وتطلع إلى المستقبل، لم يعد لصوتها صدى وسط دويّ القصف وعويل المكلومين عندما ارتفعت ملايين الشعارت في آلاف الشوارع والساحات حول العالم تحذّر من مغبة انتهاك الحقوق الإنسانية والقوانين الدولية والمبادئ التي جعلت الناس (ولو نظرياً) متساوين في الكرامة والحقّ في الحياة والدفاع عن النفس... كانت آلة القتل منشغلة في حصد ما أمكنها من الأرواح بأقصى سرعة ممكنة في غفلة من الزمن، ومن حالة تضامن إنساني كوني نادر... ولما اصطدمت الآلة بمقاومة لم تتحسّب لها، كان رهان القضاء على عنفوانها، من العمى بحيث لم تكن تلك الشعارات تعني له شيئاً آخر غير الرعب من الإهانة والمحاسبة معاً، فتضاعفت الشهية لحصد المزيد وبأبشع الوسائل، ومع هذا التحوّل تغير مضمون الشعارات الأولى إلى ما يحاكي الازدراء والتمرّد والتحريم على متصدّري منصّات السياسة الدولية الحديث، بعد الذي حدث ويحدث، عن "الحقوق" و"الحريات" واحترام "القانون" و"القواعد"، والتوقف عن ممارسة نفاق يورّطهم ويكشف تواطؤاً وعجزاً أحياناً... حتى باتت خطبهم وتصريحاتهم تكاد تخلو تماماً من أي إحالة على مرجعية قانونية أو أخلاقية/ مبدئية، بعدما أدركوا حجم الورطة التي وقعوا فيها، ففاقد الشيء لا يعطيه، وناكره لا يستشهد به. تشهد أروقة مجلس الأمن على حجم الضغوط والمساومات، وحتى التهديدات قبل وفي أثناء وبعد الجلسات التي دعت إليها دول لا تزال تتشبث بتلابيب القانون الدولي الممزّقة، لإدانة إسرائيل أو محاولة ردعها، ولم ترتدع، بل عكست الهجوم وانخرطت في حملة تشويه للهيئة الأممية الأهم واتهامها بتسرّب "غير الحضاريين" إليها، وبدا، في لحظة عبثية، أن منظمة الأمم المتحدة باتت تقاتل من أجل بقائها أكثر من أي شيء آخر. وسرت على المنظمات الإنسانية المنضوية تحت هيئة الأمم المتحدة، وخصوصاً التي لا تزال تعمل بشقّ الأنفس في الأراضي الفلسطينية وقطاع غزّة تحديداً، ما سرى على مجلس الأمن وأجهزته، فقد حوصرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في الحيّز الضيق الذي تتحرّك فيه، قبل أن تتهم بالضلوع في مساعدة حركة حماس وإبقائها على قيد الحياة ومدّها بالأوكسجين، لتستمر في مواجهة قوات الاحتلال التي قلبت تربة القطاع بحثاً ومطاردة وتخريباً... ثم مرّت إلى استهداف ما بقي من مدارسها وملاجئ الإيواء التي توفرها، بالقصف والتدمير تحت أنظار الجميع، ومن دون أدنى قدر من الحياء أو الاعتبار لمموّليها، ومنهم حلفاء لإسرائيل نفسها... "يونيسف"، وكل ما ترمز إليه من أمل وبراءة وتطلع إلى المستقبل، لم يعد لصوتها صدى وسط دويّ القصف وعويل المكلومين، وصخب الفوضى التي تحيط بهم، حتى بات مجرّد دعوتها إلى تلقيح الأطفال الناجين، ضد الأوبئة التي بدأت بالانتشار، أمراً يدعو إلى الشفقة في مربع كل ما فيه يحيل على موتٍ قادم أو مؤجّل. كل طرق الفوضى التي يشهدها العالم بالفعل، تفرعت بوتيرة متسارعة عن فوهة بركان غزّة الذي أثارته إسرائيل لم تنجُ الصحافة بترسانة القوانين التي تحمي المنتسبين إليها، خصوصاً في أثناء الصراعات وفي زمن الحرب، من أجندة خفية لدى حكومة إسرائيل المتطرفة بتمييع مفهوم "الخطوط الحمراء" أو "غير المعتاد" و"غير المقبول" أخلاقياً وقانونياً، أمام كل ما من شأنه عرقلة خطتها الجهنمية التي تمضي فيها، وكان العالم كله لم يعد له وجود، فقتلت ما لا يقل عن 107 صحافيين بين 2023 و2025... وكانت الاتهامات لأغلبهم جاهزة، وتبرير "الموت كاحتمال ضمن مخاطر المهنة"، جاهزاً لبعضهم الآخر. وامتدّت أيدي إسرائيل الطويلة إلى ما هو أبعد، إلى نواب أوروبيين هاجموا من منابر برلمانات دولهم وحشية إسرائيل وحذروا من الخطر الذي تشكله ممارساتها المنفلتة، على استقرار مجتمعاتهم أولاً، وعلى العالم بأسره والنظم التي لا تزال تحول دون انهياره، فطاردت بعضهم، وأخرجت لآخرين من جعبتها اتهامات بالفساد ومعاداة السامية وتهماً أخرى معلبة، متجاهلة حقّ مواطنيهم في معرفة الحقيقة، كما تتيحها ديمقراطية دولهم، أو الحصانة التي يتمتّعون بها في ظروف معينة، وأمعنت في ذلك أملاً في إخراس ما تبقى من أصوات حرّة وشجاعة... وعبر أذرعها الأطول وبعد موسم عاصف من المظاهرات والفعاليات الأكاديمية والطلابية احتضنتها رحاب جامعات أوروبية وأميركية عريقة، انتظرت إسرائيل قليلاً حتى ذهبت إدارة جو بايدن، وسرعان ما بدأ موسم قطف الرؤوس: عمداء جامعات وطلاب فُصلوا أو رُحِّلوا أو هُدّدوا بذلك إلى أن "يعدلوا سلوكهم" ثم يصمتوا... في انتهاك غير مسبوق لحقّ التظاهر والتجمّع والتعبير عن الرأي، وهو حقّ مكتسب عند تلك الأمم، مجرّد النقاش حوله يبدو أمراً عجيباً ومستهجناً... وبعد ما جرى، تدفع فئات فيها خطوة إلى الوراء. على الأرض في قطاع غزّة، لم يعد هناك هامش في لائحة انتهاكات إسرائيل القانون الدولي لإضافة مزيد مما تقدّم عليه كل يوم، لتجعل من القواعد الأهم التي تهدف إلى الحد من همجية الحروب، مجرّد نصوص نظرية تلوكها تقارير حقوقية وقانونية للتوثيق فحسب... وبين قنابل بزنة ألفي رطل في مساحات عالية الكثافة السكانية، قتلت بواسطتها من الغزّيين ما يزيد على أربعة أضعاف من قتلتهم في 23 عاماً، وبين تدمير للممتلكات والمنشآت العامة جعل أكثر من 70% من القطاع غير صالح للعيش، وصولاً إلى التهجير القسري، وابتزاز الدول المجاورة ودول أبعد بهذه الملف الحارق، تجد إسرائيل حيّزاً في استراتيجيتها المعقدة، لاستخدام الجوار مظهراً آخر من مظاهر القوة والعربدة التي تستعرضها، فيصبح اختراق الحدود مع لبنان تارة وسورية تارة أخرى، أمراً معتاداً، تجد له مبرّرات وعناوين لا تنضب، تنضوي تحت "استباق تحرّكات عدائية" أو بتعلة عجز إحدى الدولتين عن توفير الأمن في تلك المناطق، فتقوم إسرائيل بـ"الواجب" نيابة عنها... وفي الأثناء، تفقد الحدود والسيادة والاتفاقيات معناها وتصبح هلامية مطّاطة كأشياء كثيرة أخرى آلت إلى المصير نفسه في ثنايا هذه الحرب... وهكذا، لم يعد مستغرباً تصاعد أصوات تعبّر عن شهية مفتوحة للاستيلاء على مدن وجزر وأراضٍ هنا وهناك. أطلقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين تصريحها اللافت عن تحوّل النظام العالمي اليوم إلى فوضى عالمية، ودقت ناقوس الخطر عندما أطلقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين تصريحها اللافت عن تحوّل النظام العالمي اليوم إلى فوضى عالمية، ودقت ناقوس الخطر، هل استحضرت بعضاً من هذه الصور غير المسبوقة، التي سقطت خلالها أعمدة كثيرة كانت لا تزال تبقي النظام العالمي ثابتاً نسبياً؟ أم أن زاوية النظر لديها لم تتجاوز حرب أوكرانيا، والحرب الهندية ــ الباكستانية الخاطفة، التي تجاوز الذعر الذي أثارته حدود قارة آسيا الشاسعة إلى أنحاء العالم بأكمله؟ الثابت أن كل طرق الفوضى التي يشهدها العالم بالفعل، تفرعت بوتيرة متسارعة عن فوهة بركان غزّة الذي أثارته إسرائيل، ولا أحد غيرها. الخوف الناجم عن فكرة أن القوانين وقواعد العلاقات الدولية وضوابط الحرب لم تعد تحمي من يستظل بها، يدفع الدول والمجموعات البشرية والأفراد إلى تخيل أسوأ السيناريوهات والاستعداد لها واستعداء الجميع للجميع. لا يزال بإمكان إسرائيل أن تعتمد بعض الوقت على دعم حلفائها الغربيين، وهي تسقط يومياً حجراً آخر في نظام دولي تشبثوا به إلى آخر رمق، فيما يتجه قادة أوروبا إلى إيجاد بديل تدريجي لحلف الناتو، استرشاداً بمؤشرات صادرة عن إدارة ترامب الجديدة، ويتحدثون عن خطط إعادة تسليح الاتحاد الأوروبي بحجم إنفاق يتوقع مراقبون أن يؤدّي إلى عدم استقرار اجتماعي، ويجاهر كثيرون اليوم بالحاجة الملحّة إلى طيّ صفحة هيئة الأمم المتحدة التي أسقطت حرب غزة بقايا ورقة التوت التي غطت عجزها، وإنشاء هيكل على أنقاضها يمثل فقط من ستنطبق عليه شروط الفرز، ولا ينبئ المشهد برمته بأن البديل سيكون أفضل تمثيلاً أو أكثر عدالة... وحتى لا يجد العرب أنفسهم على الهامش في حركة التحوّل هذه، وبعدما تأكدت قدرة بعضهم منهم على التأثير في صياغة القرار الإقليمي والدولي، عليهم أن يحجزوا مقعداً لهم وبشكل مبكّر واستباقي، حتى لا يبكوا يوماً على أطلال الأمم المتحدة ونظام عالمي آفل، ويؤكّدوا مقولة عشق العرب للبكاء على الماضي كيفما كان هذا الماضي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store