
كيف نسج أولادُ الجبلِ الهويةَ الدمشقية بالحب؟
في نسيج الهوية الدمشقية، هناك خيوط إذا فُكّت انهارت معها الحكاية الشريرة كلها. من بين تلك الخيوط المتينة، التي حيكت عبر عقود من الدم والثورة والحب والفن والموسيقى، تمتد خيوط دمشقية درزية لا يمكن فصلها.
خيوط نسجت علاقة وجدانية وعميقة بين أهل الشام وأبناء السويداء وجرمانا وصحنايا، حيث لم يكن الدروز للدمشقيين مجرّد جيران أو أبناء طائفة، بل شركاء في تشكيل الذاكرة، ومؤرخين للهجة، ومقاتلين في الساحات، وفنانين علقوا في الروح.
حين اشتعلت الثورة السورية الكبرى عام 1925، لم يكن جبل العرب وحده من هبّ، بل كانت دمشق أول من قال "نعم" لنداء سلطان باشا الأطرش. لم يرَ الدمشقيون فيه زعيم جبل، بل قائد وطن. فتحوا له أبوابهم، وطبعوا المنشورات، وخبّأوا الثوار، وكتبوا على جدران مدينتهم: "عاش سلطان باشا قائد الثورة السورية".
انطلقت الثورة من السويداء إلى صلخد والكفر، ثم إلى قرية المزرعة التي شكّلت معركة فاصلة، ثم امتدت الثورة نحو الغوطة ودمشق
أصدر سلطان باشا الأطرش بيان الثورة الشهير في 21 يوليو/ تموز وقال فيه: "أيها العرب السوريون: تذكّروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكّروا أن يد الله مع الجماعة، وأن إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتمدّنة الناهضة لن تنالها يد البغي، لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارّة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرّية الدين والفكر والضمير وحرّية التجارة والسفر حتى في بلادنا وأقاليمنا. إلى السلاح، أيها الوطنيون، إلى السلاح، تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح، تأييداً لسيادة الشعب وحرّية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية، وتناسى الأماني القومية".
انطلقت الثورة من السويداء إلى صلخد والكفر، ثم إلى قرية المزرعة التي شكّلت معركة فاصلة، ثم امتدت الثورة نحو الغوطة ودمشق، حيث قاتل الدمشقيون إلى جانب أبناء الجبل في المليحة، ويلدا، وببيلا، والنبك، وغيرها. ومن بين أولئك الذين انضموا إلى القتال في صفوف الثورة من دمشق، كان جدّي المجاهد الدمشقي محمد محسن عامر ابن حي العمارة، الذي قاتل في الغوطة تحت راية سلطان باشا الأطرش، تأكيداً على التحام الجبل بالعاصمة.
كان لحزب الشعب بقيادة شخصيات دمشقية، مثل عبد الرحمن الشهبندر وتوفيق الحلبي وأسعد البكري، دور أساسي في التنسيق مع سلطان باشا، وقد ذهب وفد من الحزب لمقابلته في كفر اللحف للاتفاق على خطّة لمهاجمة الفرنسيين في دمشق. ورغم تعذر تنفيذ الهجوم نتيجة احتشاد الجنود الفرنسيين المدجّجين في دمشق، إلا أن هذا التنسيق كان تتويجاً لعلاقة نضالية تاريخية بين الجبل والشام.
دمشق، حين تتحدث عن نفسها، لا يمكن أن تنسى أولاد الجبل
هذه ليست مجرد صفحة من تاريخ الثورة السورية الكبرى، بل قصة وطن تجاوز أبناؤه اختلافاتهم، ليصبحوا درعاً واحداً يحمي سورية؛ الأرض التي لطالما احتضنت الجميع والتي أثبتت دوماً قدرتها على التغنّي بتنوّع أبنائها.
أبو عنتر... القبضاي الشامي بروح جبلية بملامحه القاسية وصوته الأجش، دخل ناجي جبر بيوت السوريين من أوسع أبوابها بدور القبضاي الشامي "أبو عنتر".
لكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا الوجه الشامي حتى العظم هو ابن السويداء، ابن الجبل، الذي حمل لهجة الشام في فمه كأنها وُلدت فيه، وجعل من شخصية "القبضاي" صورة جامعة بين حارات دمشق وحجارة الجبل. لم يكن أبو عنتر مجرّد شخصية فكاهية، بل جزءاً من الهوية الدمشقية، فجمل أبو عنتر الشهيرة مثل: "يا باطل"، "مالا فكاهة"، "بري عليك"، و"بيتزنزل بدني" بقيت خالدة في الذاكرة الدمشقية وصوره ما زالت تزيّن مقاهي في دمشق القديمة.
أسمهان.. الأميرة التي آنس صوتها سهرات الدمشقيين
وُلدت أسمهان في جبل العرب، وماتت في مصر، لكن صوتها كان يُقيم في دمشق. عندما كانت تغنّي كانت تفتح نوافذ البيوت، وتُطفأ الأنوار، ويجلس الدمشقيون أمام الراديو.
في وقتٍ كانت فيه المرأة تُحاصَر بالصمت والقيود، شقّ صوت أسمهان طريقه كالسهم، غنّت للحب، للموت، للحرية، وتحولت من أميرة سوريّة إلى نجمة عربية. ولم يكن سحرها محصوراً في الجبل، ولا في طبقته الفنية النخبوية، بل كانت حارات دمشق الشعبية تهواها أيضاً، إذ كانت تباع أسطواناتها في سوق الحميدية، ويتردّد صداها في مقاهي الشام القديمة، ويُروى عن صوتها كما يُروى عن المعارك والانتصارات.
نسيج سوري يستحيل تفكيكه
دمشق، حين تتحدّث عن نفسها، لا يمكن أن تنسى أولاد الجبل، ولا يمكن أن تُنتزع من نسيجها خيوط قيادة الثورة السورية التي حملها سلطان باشا الأطرش، أو محو صور أبو عنتر القبضاي الذي لطالما أضحك الدمشقيين من على جدران المقاهي، كما لا يمكن أن ينسى الدمشقيون عباراته التي صارت جزءاً من نكاتهم، ومن المستحيل أيضاً إسكات صوت أسمهان وأغانيها، فهي ستبقى تنبض في وجدان المدينة؛ هذه الخيوط متشابكة بقوة في نسيج دمشق لا بل في نسيج سورية، ولو فُكّ أي خيط منها، لانهارت اللوحة كلها.
حتى بعدما ظنّ نظام الأسد الساقط أنه أطفأ نار الثورة، وأن عبارات الحرية التي انطلقت من الشام ودرعا قد سكتت، عادت السويداء تردّد أغاني ثوار الشام وسورية، مؤكّدةً أن الجبل سيظلّ منارةً للكرامة والحرية، وأن نيران الثورة ستبقى مشتعلة في وجدان أبنائها كما كانت دوماً حاميةً لوحدة الوطن وهويته النابضة بالحياة.
الهوية ليست فقط جغرافيا نحتلها، بل هي تاريخ وشعور وروح تتنفس فينا، تجمع بين أبناء الوطن، وتكتب حكاية وطن لا يُفكك بسهولة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 15 ساعات
- العربي الجديد
البحث عن داود عبد السيّد
حالة خاصّة وفريدة جدّاً من مخرجي السينما في مصر، حالة خاصّة في عدم الظهور الإعلامي المتكرّر، حالة خاصّة في القبض على جمرة الفنّ بصمت بعيداً من ذلك الهوس الإعلامي الشائع كلّه، كحالة راهبٍ قنوع بمحبّةٍ بما في يده من بركة، حتى إن لم تتحقّق على الأرض. لا يجري داود وراء شيء، بل هو من يُجرى وراءه لقبول جائزة أو مهرجان أو ندوة، وغالباً لا يحضر أو يعتذر بأدب، ليس تكبّراً، بل زهداً وفطنةً، داود حالة سينمائية لم تدرّس على المستوى الشخصي بالشكل الكامل، وما هي أسباب تجرّده وزهده؟ كيف أتته حالة الامتلاء تلك، رغم الدفع له بين يديه بجائزة ساويرس بالجونة تكريماً خاصّاً، وجائزة النيل أيضاً في 2022، وكان الرجل فطناً في الحالتَين، فقبلهما راضياً أو مرغماً، ولا يهم تحليل ذلك الآن، خصوصاً أن مئاتٍ من المواقف سبحتْ في النهر، وجديد ذلك حالة الممثّل محيي إسماعيل، الذي ذكر أنه يريد الفلوس لا الدروع. كان داود حكيماً أكثر من محيي إسماعيل بكثير، فلم يحرج إدارة الجوائز ولا تطاول على فقر الدولة ولا دروعها المجّانية الخالية من الزبدة والبركة، ولا حتى مشى في سكّة صنع الله إبراهيم شفاه الله وعافاه، فقبِل الجائزة اتّفاقاً ورفضها في العلن، فاضحاً النظام في أوقات ضعفه، فقبول داود الجائزتَين صمتاً كان خاتمة لرجل راهب في الفنّ، يدفعه ذلك الحزن الشفيف وراء كلّ مصائر شخصياته واختياراته في أفلامه التي صنع مادّتها بنفسه، أو من تأليفه، حتى إن كانت في الأصل من روايات غيره، كما في فيلمه "الكيت كات"، عن رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين"، أو فيلمه "سارق الفرح" عن قصّة للكاتب الراحل خيري شلبي، أو سيناريو "أرض الأحلام" لهاني فوزي. ظلّ داود عبد السيّد صاحب ذلك الحزن الشفيف، لا ذلك الذي يجري وراء الحكايات المثيرة أو المدهشة، هو الذي قلب صناعة السينما رأساً على عقب، فمن "مالك الحزين" أخذ خيطاً وحيداً، ذلك الكفيف خفيف الظلّ بلا "أفّيهات" أو زغزغة للإضحاك، بل من خلال جسارة قلبه وسعيه البسيط للحياة والصحبة من دون دراما زاعقة، ولم ينسَ خيطه الأساس، وهو ذلك الحزن الشفيف الكامن وراء المصائر والاختيارات والضحك الهادئ من دون أن يجعل هذا الضحك مادّة معلنةً ومتغلّبةً كعادة صنّاع الكوميديا خلال عقودها، ولكنّ الضحك كان هامشاً خفيفاً وحزيناً وراء بحث تلك الشخصيات الحقيقية عن سعاداتها البسيطة مع أصحابها في دكّان بسيط، أو من خلال الصيد ومتعة الصحبة مع كفيف آخر عند البحر، أو من خلال انهيار البيت القديم وتدهور الوضع المالي لذاك الكفيف، حزن ما هادئ يمشي ظلّاً خفيفاً وراء كلّ شخصياته. حتى في فيلمه "أرض الأحلام" أيضاً، المكتوب خصّيصاً على مقاس فاتن حمامة، بعدما جعلها لثغاء، وتقع في حبّ الساحر "رؤوف"، محبّاً للحياة أكثر من حبّها هي لأميركا وجواز سفرها والسفر إليها، وكأن داود كان يتنبّأ مُقدَّماً بتعاسة ذلك السعي إلى هناك، من دون صخب كثير وكلام سياسي مكرور ومألوف، وكاذب أيضاً. قلب داود رأساً على عقب قاعدة الإضحاك في السينما، ولم يجعلها من "الإفّيه"، بل من لحم الشخصية، حتى وإن كانت من أداء كفيف محبّ للحياة من دون أن يكون "سوبرمان" كفيفاً، أو مهزلة يومية تجلب الضحك المصنوع ليل نهار، ولكنّه مسك ذلك الحزن الشفيف لكفيفٍ باحثٍ عن لذائذه البسيطة من خلال فطنته وحسّه الشعبي البسيط ورؤيته الخاصّة للعيش في حيّ شعبي بسيط، وكلّ أمله الصحبة والفرفشة في وحدة الليل بجوار النيل لسماع النكتة، أو الغناء، أو دبيب أوائل خيوط الفجر والناس، وبداية لمّة الكائنات صباحاً بجوار قدر فول مدمّس للعم مجاهد (الصامت الحكيم). داود مصري في مجمل أفلامه ببساطة باستثناء "البحث عن سيّد مرزوق"، الذي في ظنّي هو داود الفنّان المرتبك، والباحث عن ذاته، والرائي أيضاً، فهل كان من أحزان المصادفات أيضاً أن يصمت داود نفسه، بل أن يظلّ هناك كذلك الباحث عن نفسه منذ 2015 من دون عمل، ما جعله يعتزل الصناعة والإخراج في يناير/ كانون الثاني سنة 2022، ما جعل جائزة النيل تعدّ خصّيصاً له في يونيو/ حزيران من العام نفسه، وكأنّ الجائزة بعد جائزة الجونة كانتا بمثابة حسن الصمت والأدب ونهاية الخدمة الجميلة في السينما، بعد قراره بأنه لم يعد قادراً على خدمة فنّه في ظلّ هذه الشروط المحيطة بالصناعة، واكتفى الرجل بذلك، وظلّ هناك هادئاً بعيداً، حتى عن أيّ تصريح سياسي من هنا أو هناك. وهكذا يفهم صمت الفنّان في بلادنا بمكافأة نهاية الخدمة وشهادة حسن السيرة والسلوك، وإن أراد أن يكتب مذكّراته، فله كامل الحرية والمطابع في انتظار ما تخطّه يده... في أدب أيضاً.


العربي الجديد
منذ 21 ساعات
- العربي الجديد
كاتب مكانه بين الناس
في صباح الأول من مايو/أيار الماضي، تعثّر الروائي المصري صنع الله إبراهيم في منزله وأصيب بكسور شديدة. لحظة إنسانية كشفت عن وجه آخر لصلابته المعهودة، إذ لم يعتد القرّاء ولا الوسط الثقافي أن يروا في صاحب "اللجنة" و"شرف" سوى الكاتب العنيد الذي يواجه المؤسسات والسلطات بعين ثابتة وقلم لا يهادن. وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، في زمن التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى. بدأ حياته المهنية في الصحافة، وجعل منها معبراً لفهم الواقع ومساءلته. انخرط مبكراً في الحركة اليسارية، وقضى سنوات في السجن (1959–1964) خلال حملة السلطة الناصرية على الشيوعيين، وهو ما صقل وعيه وعمّق قناعته بأن الكتابة موقف ومسؤولية وليست ترفاً. حين خرج من السجن، لم يسعَ صنع الله إبراهيم إلى ترميم حياته بالانخراط في المؤسسات الرسمية أو التقرب من السلطة، بل بدأ رحلة طويلة من العمل في الصحافة والسفر والكتابة الروائية، ملتزماً باستقلالية أخلاقية جعلته يرفض الجوائز أو يتعامل معها بحذر شديد. أشهر مواقفه رفضه جائزة الدولة التقديرية عام 2003 في حفل رسمي، بسبب ما اعتبره انتهاكاً للحريات العامة آنذاك. لم يكن ذلك الموقف مجرد احتجاج، بل امتداد طبيعي لمسار رجل آمن أن الكاتب لا يحق له أن يهادن على حساب ضميره. ورغم صرامته، كان لصنع الله وجه إنساني يظهر في دوائر الأصدقاء والمقرّبين؛ قليل الكلام، يفضّل الإصغاء، وتخرج من كلماته روح الدعابة الممزوجة بالمرارة. عاش بتقشف اختياري بعيداً عن الأضواء، مقتنعاً أن المكان الطبيعي للكاتب هو بين الناس، لا في الصالونات المغلقة. كان على قناعة بأن مكان الكاتب هو بين الناس لا في الصالونات المغلقة ظلّ إبراهيم وفيّاً لجذوره اليسارية، لكنه لم يحوّل قناعاته إلى شعارات جامدة، إذ كان يرى أن الموقف السياسي الحقيقي يُختبر في لحظات الشدّة، حين يختفي التصفيق وتبقى الحقيقة وحدها. خلال انتفاضة يناير/ كانون الثاني 2011، لم يسعَ إلى تصدّر المشهد أو التحدث باسم أحد، بل كان حضوره في الميدان صامتاً وحادّاً في آن، يتنقل بين الحشود بعين الراصد وذاكرة من عاش القمع والتغيير في دورات متكررة. لم يكن أسير الماضي، بل قارئ نهم للحاضر، متابعاً التطورات التكنولوجية والسياسية، ومؤمناً أن التغيير في مصر لن يأتي إلا من الداخل عبر وعي الناس بتاريخهم وحقوقهم. ربما كان سرّ تأثيره في الجمع بين الحدة والحنان، بين الرفض المطلق للسلطة حين تظلم، وبين القدرة على الإصغاء والتعاطف مع حكايات الناس البسطاء. لم يترك تلاميذ بالمعنى الأكاديمي، لكنه ألهم أجيالاً من الكتّاب والصحافيين الذين وجدوا في سيرته نموذجاً لالتزام الكاتب تجاه قضايا عصره. لا يعني رحيل صنع الله إبراهيم غياب صوته، لأن أعماله ومواقفه ستظل حاضرة مرجعاً أخلاقياً وفنياً. بل ربما يزداد حضوره الآن، لأن السياق الذي كُتب فيه، عن القمع والفساد والآمال بالحرية، لم يتغير كثيراً، وكأن كتبه كانت رسائل زمنية موجهة لنا اليوم. آداب التحديثات الحية صُنع الله إبراهيم.. سيرة جسد يقاوم هشاشته


العربي الجديد
منذ 21 ساعات
- العربي الجديد
صنع الله إبراهيم.. الراوي السياسي العليم
حلْم التغيير هو ما رسخه صنع الله إبراهيم الذي رحل أمس، في الرواية السياسية العربية التي كانت أبرز أصواتها منذ السبعينيات، وهو من عاش حياة قلقة بسبب انتمائه إلى اليسار وتعرّضه للاعتقال والاضطهاد من قبل السلطات الحاكمة. وجد الروائي المصري الذي اعتقل إبان العهد الناصري خمس سنوات (1959-1964)، نفسه في متاهة الواقع، فسكَت كثيرون ممن عاشوا تجربته النضالية ذاتها، لكنه وجد أن الخضوع لإماءات القمع يعني هزيمة مبرمة، فكان أن مضى في الدروب التي صنعت اسمه. وطبقًا لهذا، فإن الرواية السياسية لم تُبنَ كونها تيارًا إبداعيًّا بقدر تعبيرها عن نباهة الفاعلين وقدرتهم فيها على تثبيت موقعها بآليات تجعلها حاضرة أمام جمهور يتناولها بمتعة. صنع الله المولود في القاهرة، لعائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة وفق تعبيره، حين تحدث عن طفولته في رواية "التلصص"، التي نشرتها دار هنداوي مجانًا أمام القراء العرب في نسخة إلكترونية، بالإضافة إلى رواياته الأخرى، بدأ دراسته الجامعية في كلية الحقوق، لكنه سرعان ما انخرط في التنظيم الشيوعي المصري، وانتهى به الحال سجينًا ضمن حملات ضد اليسار في عهد عبد الناصر. وبعد خروجه، سجل شيئًا من تفاصيل ما عاشه في المعتقل في قصة "تلك الرائحة"، التي صدرت عام 1966، وعُرف من خلالها بوصفه ساردًا واعدًا في الأوساط الأدبية، رغم قرار الرقابة بمنعها آنذاك. عُرف بوصفه ساردًا واعدًا منذ مجموعته القصصية الأولى رغم منعها انتظرت تجربته الروائية وقتًا مديدًا قبل أن تتكرّس في المشهدين المصري والعربي، حيث قضى قرابة عقد ونصف عقد في الكتابة الصحافية، ثم ذهب إلى موسكو لدراسة السينما (الكتابة والإخراج)، حيث التحق بالمعهد السوفييتي "VGIK" في أوائل السبعينيات، غير أن دراسته لم تكتمل بسبب انشغاله بكتابة روايته الثانية "نجمة أغسطس" التي صدرت عام 1974، التي تناولت بناء السد العالي، والاستغراق بالمشروع التنموي كنايةً عن طموح وطني وشعبي هائل، يكتمل رغم الفساد الذي يتخلل فترة إنجازه، ثم قرر التفرغ للكتابة الأدبية نهائيًّا عام 1975، كما ساهمت علاقاته الشخصية بزملائه من السينمائيين العرب في العمل مع المؤسسة العامة للسينما في سورية، حيث كتب في العام 1979 سيناريو فيلم "القلعة الخامسة" للمخرج بلال صابوني عن قصة للعراقي فاضل عزاوي. وفي عام 1981، أصدر روايته الأشهر "اللجنة" (1981)، التي شكلت بمضمونها هجاءً ساخرًا لسياسة الانفتاح في عهد السادات، ضمن منحى كافكاوي ويمكن بلغة الحاضر اعتباره ديستوبيا حقيقية، يُستدعى بطل الرواية أمام هيئة غامضة تُدعى "اللجنة"، التي تمثّل رمزًا لسلطة تمارس القمع الفكري، والإذلال، والمراقبة المطلقة، وتطلب منه أن يختار أبرز إنجازات العصر. وبأسلوبية لافتة، يدمج الروائي بين المونولوج الداخلي والتوصيف الساخر في أفق عبثي ولغة صحافية محايدة صراع المثقف مع السلطة، حيث ينتهي إلى كرامة مفقودة وهشاشة نفسية لا تصمد، وبفقدان كامل للأمل! وثّق الحرب الأهلية اللبنانية وثورة ظفار وأحداثًا أخرى منذ روايته هذه، أصبح أسلوب صنع الله إبراهيم معروفاً بإدماج الواقعية التوثيقية مع السخرية، يعتمد تكنيكًا يجعل من الوثائق والإعلام الرسمي عنصرين فاعلين ضمن سرد روائي، ثم تتالت أعماله الروائية، فصدرت له رواية "بيروت بيروت" (1984)، في تجربة معايشة للحرب الأهلية اللبنانية، حين ينتقل الكاتب إلى العاصمة اللبنانية بحثًا عن ناشر لكتابه، فيُفاجأ بتدمير مقر دار النشر بسبب الحرب، ويتعرف إلى مخرجة وثائقية ويشتغل معها على سيناريو لفيلم يوثق الحرب بالصور والتعليقات الصوتية. وفي عام 1992، صدرت لصنع الله رواية "ذات"، التي يغرق قارئها في التحولات الاجتماعية التي عاشتها مصر في مرحلة سنوات الثمانينيات، وتم تحويلها إلى مسلسل درامي أنتج سنة 2013. وفي العامين التاليين، نشر أعمالًا مترجمة بتوقيعه من اللغة الإنكليزية إلى العربية (رواية "العدو" لجيمس دروت، وكتاب "التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائي العالمي" 1994)، ثم أصدر عام 1997 رواية "شرف"، التي يُجمع كثير من النقاد أنها من أهم الروايات العربية بما احتوته من ثيمة مثيرة للجدل، حين تتحدث عن تجربة شاب يدخل السجن بعد أن يقتل، دفاعًا عن نفسه، سائحًا أجنبيًّا حاول الاعتداء عليه جنسيًّا، وما يبدو جريمة فردية يتحول إلى مرآة واسعة تكشف بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر. في عام 2000 أصدر روايته "وردة" التي تستند إلى وقائع تاريخية عن حركة "ظفار" في عُمان خلال الستينيات والسبعينيات، مع مزج بين التوثيق والخيال. و"أمريكانلي" (2003)، التي كتبها بعد إقامته في الولايات المتحدة مطلع الألفية، وفيها يضع المجتمع الأميركي تحت مجهره السردي بمنهجه التوثيقي والنقدي نفسه. في العام ذاته، رفض صنع الله إبراهيم تسلّم جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي عام 2003، معللًا ذلك بسياسات النظام والقمع الثقافي، واحتجاجًا على التطبيع، ثم حصل بعد ذلك على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004. عاد صنع الله سنة 2005 إلى ومضات من سيرته الذاتية في كتابه "يوميات الواحة"، مُركّزًا على مرحلة الطفولة وتكوين شخصيته، والبواكير الأولى في القراءة والكتابة، ثم مرحلة الجامعة، وبداية انخراطه في العمل الثوري، وخروجِه في المظاهرات، وبداية تشكيل وعيه السياسي وتكوينه الأيديولوجي، ثم يُفرِد مساحة واسعة ليحكي عن تجربته في سجن الواحات أثناء الحقبة الناصرية. وكذلك فعل في رواية "التلصص" (2007)، حين جسّد الحارة المصرية عام 1948، من خلال عيون طفل صغير يبلغ من العمر تسع سنوات، يتجول دائمًا ممسكًا يد أبيه؛ الرجل الكبير الذي تجاوز الخامسة والستين من عمره، بينما وثّقت روايته "العمامة والقبعة" التي صدرت في 2008، وقائع الحملة الفرنسية على مصر. أما في رواية "الجليد" 2011، فاستعاد ذاكرته في مرحلة إقامته في الاتحاد السوفييتي، من خلال إطار سردي روائي يحكي ما عايشه من حيثيات الحياة في المجتمع الروسي آنذاك، ليطلع القارئ على أسباب الانهيار من وجهة نظره. استذكر أيضاً تجربته في كتابة سيناريو عن نهر النيل طُلب منه من شركة فرنسية عام 1994، لكن ما أعدّه جاء بصورة مغايرة لما تريده المخرجة؛ فظل السيناريو حبيس الأدراج حتى قرر نشره في كتاب "النيل مآسي" بعد نحو ثلاثة عقود.وفي العام التالي أصدر الكتاب رواية حملت عنوان "67"، أي سنة النكسة؛ الحدث السياسي والعسكري الذي يعتبر من الأشد تأثيرًا على حياة الأجيال العربية الراهنة. وفي العام ذاته نال جائزة كفافيس للأدب، التي قبلها واعتبرها منحة مهمة لربطها بين الشعبين المصري واليوناني في ظروف مشتركة عاشاها معًا. متابعة أعمال صنع الله في سنواته الأخيرة، تومئ للقارئ بأنه أراد أن يمرّ على كلّ النقاط البارزة المؤثرة في التاريخ الحديث للمصريين ويسجّلها من منظوره روائياً ومثقفاً مشتبكاً مع السياسة. وضمن هذا السياق استعاد في رواية حملت عنوان "1970" علاقة الجماهير بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر؛ العمل الذي صدر في 2019 لم يخرج عن التركيبة التقليدية لأسلوب صنع الله، أي المزج بين الحدث والأرشيف الصحافي. * كاتب وناقد سوري مقيم في فرنسا آداب التحديثات الحية وليد الخالدي.. المؤرخ المقاتل في مئة عام