
الفلسطينيون بين سندان الإنتخابات ومطرقة الإلتزامات الدولية
ولعل الحديث عن إضطراد الإعتراف بالدولة الفلسطينية وفقاً للقانون الدولي والمرجعيات ذات الصلة أمر جيد، ولكن السؤال الذي يحتاج للتفسير والتحليل أكثر، هل هذه الدول جادة بالإعتراف بالدولة الفلسطينية في الموعد المقرر؟ فإذا كانت جادة، لماذا التأجيل في ظل تنامي إجراءات الإحتلال الأحادية، وتفاقم الظروف التي يعيشها الفلسطينيون اليوم! من جهة أخرى، لو تم الإعتراف بالدولة الفلسطينية من جديد، هل ستتمكن هذه الدول من تجسيد هذه الدولة على أرض الواقع، دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود الرابع من حزيران عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية! علماً أن هناك أكثر من 75% من أعضاء دول المجتمع الدولي تعترف بفلسطين دولة وفق القانون الدولي، ولكن الكل الفلسطيني اليوم تحت الإحتلال المباشر، وإجراءات الإحتلال في إضطراد لضم الضفة الغربية وتهويد القدس، ومازال الفلسطينيون في حصار مستمر في كل الأراضي الفلسطينية، والمستوطنات في كل مكان، ناهيك عن غياب مقومات الحياة للفلسطينيين وفق ما تم الإتفاق عليه منذ أكثر من ثلاثون عاماً، وعليه نتساءل هنا: هل إستطاعت تلك الدول المعترفة بفلسطين "دولة" أن تحقق للفلسطينيين أهدافهم السياسية في الحرية والعودة وتقرير المصير؟ فالملاحظ على أرض الواقع أن ذلك لم يتحقق، وعندئذ هل الإعتراف الجديد سيحقق ما لم يتحقق من قبل! أعتقد جازماً أن ذلك لن يغير في الحال والواقع شيئاً، والسبب أن إسرائيل لم تتعاون ولم تلتزم بما يفعله الأخرون، والسبب الأخر أن الساسة الفلسطينيون مازالوا يراهنون من جديد على الغير (الأمريكي والغربي، وهم خارج إطار الصداقة والفعل الصادق والشراكة الإستراتيجية مع الفلسطينيين) لدعم وتحقيق طموحاتهم العادلة والمشروعة بشكل "حازم وثابت"، فكم من القرارات الدولية صدر بحق فلسطين منذ عام 1947! والتي لم يطبق منها شئاً يذكر، وأهمها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1397 في أذار 2002، الذي كانت الولايات المتحدة صاحبة المشروع أنذاك، حيث أكد الإعتراف بدولتان، تعيش جنباً إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها، فأين الدولة الفلسطينية اليوم! فالمعضلة ليست بالقرارات أو مصدرها، ولكن في التجاهل المتعمد وعدم التعاون مع الأخرين لتطبيقها، من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما.
والجدير بالذكر أن اللجنة الرباعية لرعاية عملية السلام في الشرق الأوسط، التي أنشئت في مدريد عام 2002، وتضم كل من الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا والولايات المتحدة، تهدف لإيجاد حل نهائي للنزاع، على حد وصفهم، وذلك من خلال التأكيد على نبذ العنف والإعتراف بدولة إسرائيل وقبول الإتفاقيات السابقة. وفي هذا السياق إلتزم الفلسطينيون بذلك تماماً، ولم تلتزم إسرائيل وحلفائها، لذلك بقيت الدولة الفلسطينية قيد الإنتظار مجدداً. فالملاحظ أن دور اللجنة الرباعية في سبات عميق وتراجع حقيقي، فالدور الأمريكي يضعف دور اللجنة ويمنع النظر في تقديم حلول فاعلة، حازمة وثابتة، لحل القضية الفلسطينية وتحقيق السلام والإستقرار في المنطقة.
وفي سياق متصل، إتخذ الساسة الإسرائيليون قراراً برفض الإعتراف بالدولة الفلسطينية قطعاً، وأكدوا عزمهم المضي قدماً بضم الضفة الغربية وتهويد القدس وإحتلال قطاع غزة كاملاً، بهدف التقليل من أهمية الإعتراف الدولي بدولة فلسطين. فإجراءات إسرائيل الأحادية تؤكد أن إمكانية العودة لمسار حل الدولتين وتجسيد دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وفق القانون الدولي، هو أمر في غاية التعقيد وغير قابل للتنفيذ، ناهيك عن رفض إسرائيل التفاوض مع الجانب الفلسطيني بحجة أنه لا يوجد طرف فلسطيني يمثل الفلسطينيون وقادر على تحقيق السلام، على الرغم من تأكيد الفلسطينيون إلتزامهم بالعملية السياسية والإتفاقيات السابقة على المستوى الرسمي، برغم ما يمر به الفلسطينيين من أحداث وظروف مصيرية. إضافة لذلك، فإن الرسائل والتفاهمات والإتفاقيات التي وقعت ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وإتفاق أوسلو وما رافقه من تفاهمات، لم تعد إسرائيل تلتزم بها، والدليل أن الكل الفلسطيني تحت الإحتلال المباشر، وأن الحدود والمال والخدمات الأساسية اليومية بيد إسرائيل، ولن تقبل بإدخال أي شئ للفلسطينيين إلا بعد تدخلات إقليمية ودولية.
من جهة أخرى، فالساسة الفلسطينيون يصرون على الإلتزام بتلك التفاهمات والإتفاقيات والمرجعيات من طرف واحد، على الرغم من إتخاذ المجلسين الوطني والمركزي قراراً بتعليق العمل بتلك التفاهمات والإتفاقيات لحين إلتزام إسرائيل بها، والذهاب لتجسيد الدولة الفلسطينية على أرض الواقع، الأمر الذي لم يطبق وبقي مصيره مجهول! إضافة لذلك، فلقد طرأ مطلب رسمي فلسطيني جاد، والذي يأتي إنسجاماً مع التفاعلات الدبلوماسية والسياسية التي تتعلق بنية بعض الدول الإعتراف بالدولة الفلسطينية مستقبلاً، بشرط القيام ببعض الإصلاحات الملموسة من قبل الساسة الفلسطينيين، منها على سبيل المثال فإن الترشح الفردي أو الجماعي للإنتخابات العامة داخل مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني يتطلب الإلتزام بالإتفاقيات والمرجعيات والتفاهمات الإقليمية والدولية ذات الصلة، بما فيها التفاهمات مع إسرائيل. مع العلم أن ذلك مسؤولية المؤسسة (منظمة التحرير الفلسطينية)، وليس الأفراد، بمعنى إذا قررت المؤسسة المنتخبة من الشعب الفلسطيني بكافة هيئاتها التشريعية والتنفيذية الجديدة، المضي قدماً في تلك التفاهمات والمرجعيات فليكن ذلك، فهي صاحبة القرار والمخولة بذلك، والعكس صحيح. وعليه، فالترشح سواء فردي أو جماعي، من الممكن أن يلتزم بالمؤسسة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني لأنها المخولة والمعترف بها لتمثيل الفلسطينيين أمام المحافل الإقليمية والدولية، شريطة أن تضم الكل الفلسطيني دون إستثناء، عندئذ يصبح ذلك منطقياً ويتم التوافق عليه بالإجماع دون خلاف، وهنا تكمن قوة التضامن والوحدة الفلسطينية في إتخاذ القرار الوطني المستقل لحماية المكتسبات الوطنية العليا للفلسطينيين وقضيتهم العادلة.
في المحصلة، على الساسة الفلسطينيون عدم التفرد بإتخاذ أي قرار دون تشاور وإجماع وطني من كافة الأطراف الفلسطينية، الرسمية والشعبية والأهلية، وبالتالي لا بد من الإبتعاد عن تعزيز حكم الأشخاص والمتنفذين والسعي لتعزيز حكم الشعب والمؤسسة والقانون فقط، وهذا من شأنه أن يعزز حوكمة المؤسسة والحكم الرشيد لتحقيق العدالة للفلسطينيين، وغير ذلك من شأنه تعزيز الإنقسام الداخلي الفلسطيني وبالتالي التأثير على القضية الفلسطينية سلباً، وعندئذ يصاب الفلسطينيون بخيبة أمل من جديد. وكذلك عدم الإستعجال بالرد على أي خطوات تظهر في الوفق، والتروي لحين دراسة الأمر جيداً من قبل الخبراء والمختصون، ورؤية نتائج وحصاد تلك الخطوات على الأرض لصالح الفلسطينيين أم لا. إضافة لذلك، عدم إتخاذ قرارات مصيرية ومسبقة لإرضاء ومجاملة الغير بهدف إستجداء أمر ما، وهذا من شأنه التقليل من قيمة الفلسطيني في نظر الأخرين، فالفلسطيني يناضل ويكافح من أجل حقوقه المشروعة والعادلة، وهي ليست هدية من أحد، فهو يستحق الأفضل كباقي الشعوب في الحرية وتقرير المصير عبر دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، لها حقوق طبيعية غير منقوصة كغيرها من الدول على أساس الإحترام المتبادل وبعيدا عن التدخل في شؤونها، تعيش بأمن وسلام وإزدهار، وهذا لا يختلف عليه أي فلسطيني، سواء من هم داخل منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها. علاوة على ذلك، الإبتعاد عن الرضوخ والرهان مجدداً على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون، وعدم إستجداء الحقوق المشروعة والعادلة للفلسطينيين من أحد، وخاصة أن الوضع الفلسطيني العام لا يحتمل التأجيل، وبالتالي فإن المسؤولية الوطنية تحتم على الساسة البحث الجاد عن آليات ومرجعيات جديدة وغير مألوفة، متعددة ونزيهة ولديها موقف ورؤية مختلفة وصادقة في مساندة الحق الفلسطيني، للضغط والمطالبة بتطبيق الحقوق العادلة والمشروعة للفلسطينيين على الأرض بحزم وثبات وبما يتوافق مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، دون إنتظار أو مجاملة لأحد على حساب الضحية. وأيضاً الذهاب الفوري والمعلن لتطبيق إعلان بيكين لإتمام المصالحة الوطنية الفلسطينية، والدعوة لإجراء إنتخابات عامة بهدف إصلاح وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية كافة على أسس ديمقراطية سليمة مصدرها الشعب فقط، وليس المحاصصة والتقاسم بين هذا وذاك. وأخيراً الإبتعاد عن محاكمة أي طرف من الأطراف الفلسطينية، من ساسة ومثقفين وناشطين، عبر الإعلام الرسمي أو وسائل التواصل الإجتماعي وما شابه، وضرورة الإتزان في الخطاب الرسمي والشعبي الفلسطيني العام بهدف خلق بيئة مناسبة للحوار والتفاهم وحل الخلافات بالتشاور والتعاون لتعزيز الشراكة والإحترام المتبادل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ 15 دقائق
- فلسطين أون لاين
حماس ترحِّب بمبادرة "حرية التغطية" المُطالبة بدخول الصَّحفيين الدوليين إلى غزَّة
ثمّن عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" عزت الرشق، 'مبادرة حرية التغطية' («Freedom to Report») التي أطلقها 200 من الصحفيين البارزين حول العالم، وطالبوا فيها بالسماح الفوري وغير الخاضع للرقابة بدخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزّة، من أجل تغطية حقيقة حرب الإبادة والتجويع بكل حرية واستقلالية. وأكد الرشق في تصريح صحفي، اليوم الثلاثاء، أنَّ سياسة الاحتلال في منع الصحفيين الأجانب من دخول غزّة تمثل انتهاكاً صريحاً لحرية الصحافة ومنعاً لنقل الواقع إلى الرأي العام العالمي، وتكشف خوفه من فضح عدوانه وإرهابه، مضيفًا أنّها "جريمة تضاف إلى مسلسله الإجرامي بحقّ الإعلاميين والصحفيين في غزّة والضفة والقدس المحتلة، الذين ارتقى منهم 233 شهيداً على مدار 22 شهراً منذ بدء العدوان الصهيوني". ودعا الرشق، إلى مواصلة وتصعيد التحرّك الدولي، وممارسة مزيد من الضغوط على الاحتلال لتجريم جرائمه ضدّ الصحفيين والإعلاميين في فلسطين، وإجباره على السماح بدخول وسائل الإعلام الدولية إلى قطاع غزّة، للوقوف على حقيقة إجرامه، ونقل واقع الإبادة والتجويع والتدمير المُمنهج والقتل اليومي بحق شعبنا وكل مقوّمات الحياة الإنسانية. وقّع أكثر من 100 صحفي ومصور ومراسل حربي من مختلف دول العالم على عريضة تدعو إلى السماح "الفوري وغير الخاضع للرقابة" بدخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة، لتغطية الحرب الجارية هناك بشكل مستقل، في ظل استمرار منع دخولهم منذ اندلاع اندلاعها في عام 2023. وأُطلقت العريضة ضمن مبادرة "الحق في التغطية"، التي أسسها المصور الحربي الحائز على جوائز أندريه ليوهن، وشارك في توقيعها عدد من الصحفيين البارزين، من بينهم أليكس كروفورد من "سكاي نيوز"، مهدي حسن، كريستيان أمانبور من "سي إن إن"، كلاريسا وارد، والمصور الحربي الشهير دون ماكولين. ودعا الموقعون "إسرائيل" وحركة "حماس" إلى فتح المجال أمام الصحافة الدولية لدخول القطاع، مشددين على أن حجب التغطية يشكل انتهاكاً واضحاً لحق الجمهور في الوصول إلى المعلومات. ومنذ 7 أكتوبر 2023، تشن "إسرائيل" حرب إبادة جماعية بغزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها. وخلفت الإبادة، بدعم أمريكي، أكثر من 210 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين. المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين أون لاين
منذ 15 دقائق
- فلسطين أون لاين
المكتب الحكومي: الاحتلال يواصل خنق غزة وأطفالها بالتجويع ويجب التَّحرُّك العاجل لفتح المعابر
قال المكتب الإعلامي الحكومي، إنَّ ما دخل قطاع غزة، أمس الاثنين، 95 شاحنة مساعدات فقط، تعرّضت غالبيتها للنهب بفعل الفوضى الأمنية التي يزرعها الاحتلال "الإسرائيلي" ضمن سياسة ممنهجة لـ"هندسة الفوضى والتجويع"، بهدف ضرب تماسك المجتمع وتفكيك صموده. وأوضح المكتب الحكومي في بيان صحفي، اليوم الثلاثاء، أن القطاع يحتاج يومياً إلى ما لا يقل عن 600 شاحنة إغاثة ووقود لتلبية الحد الأدنى من المتطلبات الصحية والغذائية والخدماتية، وسط انهيار شامل للبنية التحتية واستمرار حرب الإبادة الجماعية. وأدان استمرار جريمة التجويع الممنهج وإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات، محمّلًا الاحتلال وحلفاءه المسؤولية الكاملة عن تفاقم الكارثة الإنسانية التي تطال أكثر من 2.4 مليون إنسان. ودعا المكتب الحكومي المجتمع الدولي والدولي العربية للتحرك الفعلي لفتح المعابر بشكل دائم، وضمان تدفّق الإغاثة الغذائية والطبية وحليب الأطفال بكميات كافية وآمنة، ومحاسبة الاحتلال على جرائمه ضد المدنيين. وتزداد حدّة الجوع في قطاع غزة، فيما تعجز المنظمات الدولية عن إيجاد آلية لإدخال المساعدات والأدوية والمكملات الغذائية للأطفال المجوَّعين، نتيجة السياسات الإسرائيلية المفروضة، الأمر الذي يهدّد حياة الآلاف الذين يفتقرون إلى التغذية السليمة، فيما تتصاعد التحذيرات من خطورة التجويع المتعمّد في قطاع غزة. ومنذ 2 مارس/آذار الماضي، أغلق الاحتلال الإسرائيلي جميع المعابر المؤدية إلى قطاع غزة، منقلبًا على اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 18 يناير/كانون الثاني، والذي نصّ على إدخال 600 شاحنة مساعدات و50 شاحنة وقود يوميًا. وخلفت الإبادة "الإسرائيلية" بدعم أمريكي، أكثر من 210 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين. المصدر / فلسطين أون لاين


معا الاخبارية
منذ 15 دقائق
- معا الاخبارية
العالم يتحرك… فمتى ننهض؟
لم يكن تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن نية بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل مجرد تصريح دبلوماسي عابر، ولا خطوة رمزية تُضاف إلى قائمة طويلة من المواقف الإنشائية التي طالما سمعها الفلسطينيون من عواصم القرار الدولي. إنه تحوّل نوعي، في توقيته ودلالاته، وفي ما يفتحه من أبواب وفرص وما يفرضه من استحقاقات ومسؤوليات على القيادة الفلسطينية. فرنسا، باعتبارها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وقوة أوروبية محورية، لم تأتِ إلى قرارها فجأة. هذا التحوّل نتاج مسار سياسي طويل، تراكمي، محكوم بميزان حساس بين مصالح استراتيجية وشعور داخلي متزايد في المجتمع الفرنسي، شعباً ونخبة، بالاشمئزاز من الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة الغربية. لقد صمتت باريس، كما غيرها، طويلاً على وحشية الاحتلال، لكنها وصلت إلى نقطة انفجار أخلاقي وسياسي لم يعد الصمت فيها ممكناً. التحول الفرنسي لا يمكن فصله عن مشهد أكثر اتساعاً. فقد سبقته اعترافات رسمية من إيرلندا، إسبانيا، والنرويج، وهي خطوات أوروبية باتت تمثّل "كتلة حرجة" داخل القارة العجوز، تتحدى الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية على القرار الدولي في ما يتعلق بفلسطين. واللافت أن هذا التحول لا يأتي فقط من "الهامش" الأوروبي، بل بدأ يصل إلى القلب، إلى دولة مثل فرنسا التي حاولت إسرائيل طويلاً تحييدها واحتواؤها. هذا القرار أثار ذعراً حقيقياً داخل المؤسسة الإسرائيلية، بدليل التهديدات المباشرة التي صدرت من تل أبيب ضد باريس، شملت تقليص التعاون الاستخباراتي، وتعطيل مشاريع إقليمية مشتركة، بل وصل التهديد حد التلويح بضم أراضٍ جديدة في الضفة الغربية كرد انتقامي. كل هذا يشير إلى أن إسرائيل تدرك أن اعتراف فرنسا ليس خطوة رمزية فقط، بل قنبلة سياسية قد تفجّر "التوافق الدولي غير المكتوب" على تجميد الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى. هنا، لا بد من التوقف أمام السؤال الجوهري: ماذا بعد؟ كيف يجب على القيادة الفلسطينية أن تتعامل مع هذا التحول؟ وهل نحن أمام فرصة تاريخية لانتزاع مكاسب استراتيجية، أم أننا سنكتفي من جديد بالاحتفاء الإعلامي؟ الاعترافات الدولية، على أهميتها، ليست بديلاً عن المشروع الوطني التحرري، بل هي رافعة يجب أن توظّف في خدمته. ولكي يحدث ذلك، لا بد من تحولات فلسطينية داخلية حاسمة، أولها إنهاء الانقسام السياسي الذي أضعف كل موقف، وأفقد الشعب الفلسطيني ثقته بجدية قيادته. من المعيب أن تُفتح لنا نوافذ جديدة في المجتمع الدولي، بينما نغلق أبواب المصالحة على بعضنا. ثانياً، آن الأوان لإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، بوصفه مشروع تحرر وطني مدعوم بقوة القانون الدولي، لا مشروع سلطة إدارية تحت الاحتلال. يجب الانتقال من خطاب الضحية إلى خطاب الفاعل، ومن التوسل السياسي إلى فرض الحضور القانوني والدبلوماسي في المحافل الدولية. لدينا اليوم اعترافات رسمية، وعضوية مراقب في الأمم المتحدة، وأدوات قانونية كالمحكمة الجنائية الدولية، فماذا ننتظر لتفعيلها بشكل جريء وهادف؟ ثالثاً، ينبغي توسيع أدوات الاشتباك السياسي والدبلوماسي لتشمل الرأي العام العالمي، وليس فقط الحكومات. فالصورة الخارقة القادمة من غزة، لجثث الأطفال وأشلاء النساء، أعادت إحياء الذاكرة الأوروبية المثقلة بعار الإبادة والتطهير. هنا يكمن كنز إستراتيجي لم يُستثمر بعد: الضمير الإنساني العالمي. فرصة ماكرون قد لا تتكرر. وإذا كنا عاجزين عن تحويل هذه اللحظة إلى رافعة نحو الاستقلال الحقيقي، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق العالم وحده، بل علينا أولاً، كقيادة ونخب ومجتمع. الاعترافات الدولية ليست نهاية الطريق، بل بدايته. لكن الطريق لا يُفتح إلا لمن يمتلك الإرادة، والرؤية، والقدرة على تحويل اللحظة إلى مسار، والقرار إلى مصير.