
سليمان العبيد.. "بيليه فلسطين" هدفه الأخير كان كسرة خبز
في مجاعةٍ صار الخبز فيها أغلى من الكؤوس، خرج سليمان العبيد ليس للبحث عن هدف في شباك الخصم، بل عن كسرة خبز يطعم بها أطفاله، فساقته خطواته لمركز المساعدات المعروف باسم "الطينة" بمحافظة خان يونس جنوب القطاع، لكن رصاص الآليات والقناصة كان يطارد المجوعين، فاحتمى خلف تلة ترابية، لعلها تحفظه من الموت، فإذا بقنبلة تسقط من طائرة إسرائيلية مسيّرة (كواد كابتر) ليسقط هذه المرة ليس على عشب الملعب الأخضر أثناء المباريات، بل على تراب مدينته، لتحتضنه الأرض وتطفئ تلك القنبلة ضحكة الملاعب التي رسمها "الغزال الأسمر" أو كما كان يلقب "بيليه فلسطين" على وجوه الجماهير، التي لطالما حملته على الأكتاف بعد كل فوز، شهيدًا، لكنهم اليوم عادوا به لأطفاله الذين كانوا ينتظرونه ملفوفًا في كفنٍ.
في خيمة نزوحٍ خرج منها صبيحة السادس من آب/ أغسطس 2025، نحو مركز المساعدات، تجلس زوجته وأبناؤه الخمسة بجانب الخيمة، لا زالوا يعيشون صدمة الرحيل، وبين إطار صورة تذكارية مطبوعة على باب الخيمة، يبتسم سليمان أمام الزائرين.
تجلس زوجته في صمت يختبئ فيه وجع امرأة فقدت سند البيت، واسمًا رياضيًا لامعًا، لم يبق لها منه سوى صورة تذكارية مطبوعة وضعتها بجانبها، وصوت صغيرتها "آسيا" ذات العامين والنصف، التي تكلم والدها، وتقبل وجهه، ولا تجد سوى ابتسامة صامتة، لا تفهم الطفلة التي لا تجد ذراعين يحتضنانها، أين والدها، كل ما تعرفه وتفهمه، أنه يجلس بقربهم في داخل الصورة التي لا تفارقها الطفلة الصغيرة، ما ينكأ جراح قلب أمها.
شغف ولقمة عيش
كانت نبرة صوتها تحمل حزنًا عميقًا، وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" لحظاته الأخيرة قائلة: "استيقظ مبكرًا، فاستمع إلى سورة "الكهف" مرتين، واستغفر، وصلى الفجر، وغادر. وقفت على باب الخيمة قلت له: "دير بالك على حالك. ارجع بدناش مساعدات"، رغم تردده أكمل طريقه ورد علي: "عشان خاطر أولادي بدي أروح"، ثم جاءني شهيدًا، محمولاً على الاكتاف"، بنبرة فخر مليئة بالألم أضافت: "دائمًا مرفوع الرأس".
عايشت زوجته شغفه في الملاعب، حبه للمنافسة، ولعه بكرة القدم، طيبته كزوج وأب، اهتمامه بأبنائه وسعيه لتعليمهم وتحسين حياتهم. يتقلب الوجع في صوتها: "كل أحلامه تدمرت، ورحلت. كانت أمنيته بسبب الحرب والمجاعة، أن يسافر ليكمل مسيرته في الملاعب ويخرج أطفاله من براثن الحرب".
دفعت حالة المجاعة الشديدة في غزة، سليمان كغيره من أرباب البيوت، للذهاب لمراكز المساعدات بهدف الحصول على طعام، وقبل ذلك مر بمحنة كبيرة بدأت بهدم منزله. تحكي زوجته المكلومة: "عندما تدمر بيتنا، لم يخرج سوى بقميص نادي الشاطئ الذي يحمل رقم 10، وهو رقمه المفضل، وقميص ناديه الذي نشأ وترعرع فيه. ما جعله يذهب للمساعدات، بسبب حالة المجاعة وصعوبة السيولة، فأصبحت الأوضاع صعبة، وسليمان لا يحب الحديث لأحد. ذهب لأجل جلب لقمة العيش لأبنائه".
"منذ شهر كان يرى الطحين وسلع أخرى ولا يستطيع شرائها أو توفيرها لنا. وهذا ما دفعه للذهاب نحو المساعدات" من هذا الواقع المرير، تستذكر العبيد، كيف كان زوجه يفرّح الجماهير، وتسانده في كل مرة يخرج فيها من بيته، وعندما يعود منتصرًا في المباريات، يركض ويحتضن أبنائه ليشاركهم فرحته، في الفترة الأخيرة عاش نفس الفرحة عندما كان يعود من مركز المساعدات بالطعام لهم، فكان فوزًا آخرًا يسجله، وهو يرسم الفرح على وجوه عائلته.
تبكي بحرقة مارة على آخر اللحظات، وهي تحاول التماسك أمام قسوة الفقد: "آخر فترة كان يرفع اللقمة من فمه ويطعمها لطفلته الصغيرة، امتنع عن الأكل في آخر أيامه حتى يطعم أطفاله، جاع لأجل إشباع أطفاله. الله يرحمه".
لم يكن ما عاشه سليمان واقعًا عاشه بمفرده، بل ظروف طحنت الجميع ولم تستثنِ أحد بغزة، فجاع الجميع بمختلف المهن والتخصصات، ما دفع بالكثيرين للتوجه لمراكز المساعدات التي قتلت أكثر من 1400 فلسطيني.
تمسك طفلته آسيا (سنتان ونصف) كسرة خبز هي ما تبقى من آخر دقيق جلبه والدها، وبجوار أمها تقف شقيقتها دينا (5 سنوات ونصف)، ويجلس على فرشة بجوار صورة والدهم شقيقها حمادة (11 سنة) وإيناس (16 سنة) وشقيقهم الأكبر نسيم (17 سنة).
تطل صورته وأيامه الجميلة على حديث زوجته، وبالرغم من قسوة الواقع كان لا يبخل على من يطرق باب خيمته، طالبا بعض الطعام، فيقاسمه اللقمة ويطلب منه الدعاء له بالعودة سالمًا، وتعلق: "من شهر بدأ بالذهاب لمراكز المساعدات، في آخر أسبوع كان يسيطر عليه شعور الخوف، وكان يقول لي، الرصاص يمر من فوق رأسي، طلبت منه عدم الذهاب، لكنه أخبرني أنه يتريث كثيرًا، وينتظر فتح نقطة المساعدات من ثم الدخول، ولم يدرِ أن الموت سيأتيه من قنبلة تسقط عليه".
تأثر سليمان بتوقف النشاط الرياضي في القطاع وتدمير الملاعب في غزة، لكنه بين فينة وأخرى كان يجمع أصدقائه أو يذهب مع نجله نسيم للعب الكرة، رافضًا قطع العلاقة مع "الساحرة المستديرة".
رافق طراد العبيد، شقيقه الأصغر سليمان إلى نقطة المساعدات، وعاش معه لحظات عصيبة، وأصيب بجروح صعبة، يلف رقبته شاش أبيض إثر شظية كادت أن تلحقه بشقيقه، ويسند يده المصابة جالسا على كرسي بلاستيكي، قائلاً: "كنا بالصفوف الخلفية، وأمامنا المئات يتدافعون نحو مركز التوزيع، احتمينا خلف تلة كبيرة من رصاص الآليات، وكنت مع أخي سليمان وأبناء عمنا وبعض أبناء الجيران. فجأة جاءت المسيّرة وألقت القنبلة علينا، استشهد سليمان على الفور، ومعه استشهد ابن عمي وابن جيراننا من عائلة أبو رحمة، وشاب آخر، وأصيب ثلاثة منا".
يضع يده على رقبته، وهو يستحضر مشهد الدماء الذي غرق فيه: "جاءت الشظية برقبتي، فقمت بنزعها، ومن ثم خلع قميصي وربطت به رقبتي لإيقاف النزيف، وبدأت بمساعدة شباب تواجدوا بالمكان بنقل المصابين والشهداء وحملهم إلى المشفى. خرجنا لأجل لقمة العيش، حاولنا توفير شيء لأولادنا. سليمان صحيح أنه نجم رياضي لكنه إنسان مجوع ولديه مسؤوليات خرج للبحث عن لقمة عيشه".
صدى عالمي
أما نسيم الذي يحمل نفس ملامح وأحلام والده، فهذا الفتى ترعرع بين الملاعب، مرافقًا والده في كل مبارياته، كان يهتف باسمه بين الجماهير التي تنادي عليه، أو يركض ليعانقه بعد كل هدف يسجله في أرضية الملعب، بعيون دامعة ينظر لصورة والده قائلاً: "كنت أرافقه حتى في التمارين الرياضية، كان يدربني لأسير على دربه، وأصبح مثله. استشهاده صدمة، أشعر أنني أعيش في حلم".
يعد العبيد من أبرز المواهب الفلسطينية في كرة القدم، لعب لنادي خدمات الشاطئ وهو ناديه الأم، ثم انتقل لنادي الأمعري بين عامي 2009 – 2013 وتوج معه بلقب أول نسخة لدوري المحترفين بالضفة الغربية، وبسبب مهارته انضم لصفوف المنتخب الوطني ولعب معه 24 مباراة وسجل هدفين أشهرها هدفه بشباك المنتخب اليمني ببطولة غرب آسيا عام 2010.
وفي إحدى المباريات الودية منعته سلطات الاحتلال من السفر متذرعين بـ "أسباب أمنية"، وعلق العبيد يومها: "عندما علمت بمنعنا من السفر، شعرت بضيق شديد، لأن أي رياضي يحلم بارتداء قميص منتخبه في المحافل الدولية. نريد أن نسافر بحرية مع عائلاتنا مثل أي رياضي في أي مكان آخر".
وعاد لقطاع غزة ليكمل مسيرته بنادي غزة الرياضي وحصل على لقب هداف الدوري موسم 2015-2016 برصيد 17 هدفا، لكن الابن البار لناديه عاد لخدمات الشاطئ مرة أخرى وحقق بطولات عديدة وأحرز لقب هداف الدوري موسم 2016 -2017 برصيد 15 هدفا، وهو من الذين تجاوزوا عتبة 100 هدف ليصبح من أساطير اللعبة في فلسطين.
ونشر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (ويفا) تدوينة على منصة "إكس" وصف فيها العبيد بأنه "موهبة أعادت الأمل إلى قلوب عدد لا يحصى من الأطفال حتى في أحلك الظروف"، لكن نجم ليفربول المصري محمد صلاح الذي شارك تدوينة الاتحاد الأوروبي بعد نعيه للاعب العبيد طالب بالإجابة عن "كيف مات وأين ولماذا؟".
فيما طالبت زوجة العبيد الاتحادات الرياضية لكرة القدم بطرد الفرق والمنتخبات الإسرائيلية من المباريات، لأنها دولة عنصرية قتلت أحد أشهر اللاعبين الفلسطينيين، وأن يقف الرياضيين والصحفيين العرب والدوليين مع قضية قتل سليمان.
وبعد تغريدة صلاح، ذكر النجم المصري محمد أبو تريكة الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" بأعداد الرياضيين الفلسطينيين الشهداء، وعددهم 762 رياضيا بينهم 422 لاعب كرة قدم، إضافة لتدمير 267 منشأة رياضية، وقال موجها خطابه لرئيس "الفيفا" السيد انفانتينو متسائلا: "أوقفتم روسيا، متى هتوقفوا الاحتلال الصهيوني؟".
فيما دعت المفوضية الأممية في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز، الاتحاد الأوروبي لطرد منتخب الاحتلال ولاعبيه من المسابقات الأوروبية، مؤكدةً، "حان الوقت لطرد قتلته من المسابقات. لنجعل الرياضة خالية من الفصل العنصري".
المصدر / فلسطين أون لاين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة أنباء شفا
منذ 3 أيام
- شبكة أنباء شفا
من ديوان مقاوم ، لوحة الشهيد حين تنهض الألوان ، لوحة محمد الدغليس ، بقلم : وليد العريض
من ديوان مقاوم ، لوحة الشهيد حين تنهض الألوان ، لوحة محمد الدغليس ، بقلم : وليد العريض لا تحسبن أن شهيد الحق غابفالشهداء لا يغيبون.يغيب الجسد في التراب لكن الروح تظلّ ترفرف على البيوت على الميادين على وجه الوطن. لا تحسبن أن اللوحة جامدةفالذي ينظر مليًّا يرى الألوان تتنفسويرى الخطوط تهمس ويرى الوجوه تنهض من سكونها لتسير نحوه. في اللوحةيمشي الشهيد وسط النارلكن النار تنحني كي لا تلمسه.عيناه مثبتتان على أفقٍ لا نراهكأنهما نافذتان على الجنّة التي وعده الله بها.كل خطوة منه توقظ الأرض وكل قطرة دمٍّ منه تنبت قمحًا وزهرًا وأغنية. في اللوحة لا وجع في الملامحبل نور يفيض من الجراح.هم يمشون على جسر من ضوءيمدونه لنا لنعبر وأرواحهم تظلّلنا كالأجنحة. أرض الكرامة خلفهمخضراء رغم القيودحرة رغم الحصارتفتح ذراعيها لهم ولنا كأنها تقول: أنتم الذين تعيدون لي اسمي. لا تحسبن أن اللون الأحمر هنا طلاءإنه دم الفدائيلا يجفلا يخون ولا يبهت مع الزمن. أسمعهم من بين الألوان يهمسون:امضوافالنصر ينتظركم عند آخر الطريق.امضوا فالموت في سبيل الوطن حياة. ثم تخفت الألوانوتعود اللوحة إلى هدوئهالكنني أعلمأن من ينهض مرة من بين الألوانيبقى حيًا في قلب من يراهيبقى يمشي بيننايدلّنا على الطريقويضع أيدينا على الجسرويعبر بنا إلى الضفة الأخرى حيث لا احتلال ولا قيد ولا انكسار.


فلسطين أون لاين
منذ 4 أيام
- فلسطين أون لاين
سليمان العبيد.. "بيليه فلسطين" هدفه الأخير كان كسرة خبز
غزة/ يحيى اليعقوبي في مجاعةٍ صار الخبز فيها أغلى من الكؤوس، خرج سليمان العبيد ليس للبحث عن هدف في شباك الخصم، بل عن كسرة خبز يطعم بها أطفاله، فساقته خطواته لمركز المساعدات المعروف باسم "الطينة" بمحافظة خان يونس جنوب القطاع، لكن رصاص الآليات والقناصة كان يطارد المجوعين، فاحتمى خلف تلة ترابية، لعلها تحفظه من الموت، فإذا بقنبلة تسقط من طائرة إسرائيلية مسيّرة (كواد كابتر) ليسقط هذه المرة ليس على عشب الملعب الأخضر أثناء المباريات، بل على تراب مدينته، لتحتضنه الأرض وتطفئ تلك القنبلة ضحكة الملاعب التي رسمها "الغزال الأسمر" أو كما كان يلقب "بيليه فلسطين" على وجوه الجماهير، التي لطالما حملته على الأكتاف بعد كل فوز، شهيدًا، لكنهم اليوم عادوا به لأطفاله الذين كانوا ينتظرونه ملفوفًا في كفنٍ. في خيمة نزوحٍ خرج منها صبيحة السادس من آب/ أغسطس 2025، نحو مركز المساعدات، تجلس زوجته وأبناؤه الخمسة بجانب الخيمة، لا زالوا يعيشون صدمة الرحيل، وبين إطار صورة تذكارية مطبوعة على باب الخيمة، يبتسم سليمان أمام الزائرين. تجلس زوجته في صمت يختبئ فيه وجع امرأة فقدت سند البيت، واسمًا رياضيًا لامعًا، لم يبق لها منه سوى صورة تذكارية مطبوعة وضعتها بجانبها، وصوت صغيرتها "آسيا" ذات العامين والنصف، التي تكلم والدها، وتقبل وجهه، ولا تجد سوى ابتسامة صامتة، لا تفهم الطفلة التي لا تجد ذراعين يحتضنانها، أين والدها، كل ما تعرفه وتفهمه، أنه يجلس بقربهم في داخل الصورة التي لا تفارقها الطفلة الصغيرة، ما ينكأ جراح قلب أمها. شغف ولقمة عيش كانت نبرة صوتها تحمل حزنًا عميقًا، وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" لحظاته الأخيرة قائلة: "استيقظ مبكرًا، فاستمع إلى سورة "الكهف" مرتين، واستغفر، وصلى الفجر، وغادر. وقفت على باب الخيمة قلت له: "دير بالك على حالك. ارجع بدناش مساعدات"، رغم تردده أكمل طريقه ورد علي: "عشان خاطر أولادي بدي أروح"، ثم جاءني شهيدًا، محمولاً على الاكتاف"، بنبرة فخر مليئة بالألم أضافت: "دائمًا مرفوع الرأس". عايشت زوجته شغفه في الملاعب، حبه للمنافسة، ولعه بكرة القدم، طيبته كزوج وأب، اهتمامه بأبنائه وسعيه لتعليمهم وتحسين حياتهم. يتقلب الوجع في صوتها: "كل أحلامه تدمرت، ورحلت. كانت أمنيته بسبب الحرب والمجاعة، أن يسافر ليكمل مسيرته في الملاعب ويخرج أطفاله من براثن الحرب". دفعت حالة المجاعة الشديدة في غزة، سليمان كغيره من أرباب البيوت، للذهاب لمراكز المساعدات بهدف الحصول على طعام، وقبل ذلك مر بمحنة كبيرة بدأت بهدم منزله. تحكي زوجته المكلومة: "عندما تدمر بيتنا، لم يخرج سوى بقميص نادي الشاطئ الذي يحمل رقم 10، وهو رقمه المفضل، وقميص ناديه الذي نشأ وترعرع فيه. ما جعله يذهب للمساعدات، بسبب حالة المجاعة وصعوبة السيولة، فأصبحت الأوضاع صعبة، وسليمان لا يحب الحديث لأحد. ذهب لأجل جلب لقمة العيش لأبنائه". "منذ شهر كان يرى الطحين وسلع أخرى ولا يستطيع شرائها أو توفيرها لنا. وهذا ما دفعه للذهاب نحو المساعدات" من هذا الواقع المرير، تستذكر العبيد، كيف كان زوجه يفرّح الجماهير، وتسانده في كل مرة يخرج فيها من بيته، وعندما يعود منتصرًا في المباريات، يركض ويحتضن أبنائه ليشاركهم فرحته، في الفترة الأخيرة عاش نفس الفرحة عندما كان يعود من مركز المساعدات بالطعام لهم، فكان فوزًا آخرًا يسجله، وهو يرسم الفرح على وجوه عائلته. تبكي بحرقة مارة على آخر اللحظات، وهي تحاول التماسك أمام قسوة الفقد: "آخر فترة كان يرفع اللقمة من فمه ويطعمها لطفلته الصغيرة، امتنع عن الأكل في آخر أيامه حتى يطعم أطفاله، جاع لأجل إشباع أطفاله. الله يرحمه". لم يكن ما عاشه سليمان واقعًا عاشه بمفرده، بل ظروف طحنت الجميع ولم تستثنِ أحد بغزة، فجاع الجميع بمختلف المهن والتخصصات، ما دفع بالكثيرين للتوجه لمراكز المساعدات التي قتلت أكثر من 1400 فلسطيني. تمسك طفلته آسيا (سنتان ونصف) كسرة خبز هي ما تبقى من آخر دقيق جلبه والدها، وبجوار أمها تقف شقيقتها دينا (5 سنوات ونصف)، ويجلس على فرشة بجوار صورة والدهم شقيقها حمادة (11 سنة) وإيناس (16 سنة) وشقيقهم الأكبر نسيم (17 سنة). تطل صورته وأيامه الجميلة على حديث زوجته، وبالرغم من قسوة الواقع كان لا يبخل على من يطرق باب خيمته، طالبا بعض الطعام، فيقاسمه اللقمة ويطلب منه الدعاء له بالعودة سالمًا، وتعلق: "من شهر بدأ بالذهاب لمراكز المساعدات، في آخر أسبوع كان يسيطر عليه شعور الخوف، وكان يقول لي، الرصاص يمر من فوق رأسي، طلبت منه عدم الذهاب، لكنه أخبرني أنه يتريث كثيرًا، وينتظر فتح نقطة المساعدات من ثم الدخول، ولم يدرِ أن الموت سيأتيه من قنبلة تسقط عليه". تأثر سليمان بتوقف النشاط الرياضي في القطاع وتدمير الملاعب في غزة، لكنه بين فينة وأخرى كان يجمع أصدقائه أو يذهب مع نجله نسيم للعب الكرة، رافضًا قطع العلاقة مع "الساحرة المستديرة". رافق طراد العبيد، شقيقه الأصغر سليمان إلى نقطة المساعدات، وعاش معه لحظات عصيبة، وأصيب بجروح صعبة، يلف رقبته شاش أبيض إثر شظية كادت أن تلحقه بشقيقه، ويسند يده المصابة جالسا على كرسي بلاستيكي، قائلاً: "كنا بالصفوف الخلفية، وأمامنا المئات يتدافعون نحو مركز التوزيع، احتمينا خلف تلة كبيرة من رصاص الآليات، وكنت مع أخي سليمان وأبناء عمنا وبعض أبناء الجيران. فجأة جاءت المسيّرة وألقت القنبلة علينا، استشهد سليمان على الفور، ومعه استشهد ابن عمي وابن جيراننا من عائلة أبو رحمة، وشاب آخر، وأصيب ثلاثة منا". يضع يده على رقبته، وهو يستحضر مشهد الدماء الذي غرق فيه: "جاءت الشظية برقبتي، فقمت بنزعها، ومن ثم خلع قميصي وربطت به رقبتي لإيقاف النزيف، وبدأت بمساعدة شباب تواجدوا بالمكان بنقل المصابين والشهداء وحملهم إلى المشفى. خرجنا لأجل لقمة العيش، حاولنا توفير شيء لأولادنا. سليمان صحيح أنه نجم رياضي لكنه إنسان مجوع ولديه مسؤوليات خرج للبحث عن لقمة عيشه". صدى عالمي أما نسيم الذي يحمل نفس ملامح وأحلام والده، فهذا الفتى ترعرع بين الملاعب، مرافقًا والده في كل مبارياته، كان يهتف باسمه بين الجماهير التي تنادي عليه، أو يركض ليعانقه بعد كل هدف يسجله في أرضية الملعب، بعيون دامعة ينظر لصورة والده قائلاً: "كنت أرافقه حتى في التمارين الرياضية، كان يدربني لأسير على دربه، وأصبح مثله. استشهاده صدمة، أشعر أنني أعيش في حلم". يعد العبيد من أبرز المواهب الفلسطينية في كرة القدم، لعب لنادي خدمات الشاطئ وهو ناديه الأم، ثم انتقل لنادي الأمعري بين عامي 2009 – 2013 وتوج معه بلقب أول نسخة لدوري المحترفين بالضفة الغربية، وبسبب مهارته انضم لصفوف المنتخب الوطني ولعب معه 24 مباراة وسجل هدفين أشهرها هدفه بشباك المنتخب اليمني ببطولة غرب آسيا عام 2010. وفي إحدى المباريات الودية منعته سلطات الاحتلال من السفر متذرعين بـ "أسباب أمنية"، وعلق العبيد يومها: "عندما علمت بمنعنا من السفر، شعرت بضيق شديد، لأن أي رياضي يحلم بارتداء قميص منتخبه في المحافل الدولية. نريد أن نسافر بحرية مع عائلاتنا مثل أي رياضي في أي مكان آخر". وعاد لقطاع غزة ليكمل مسيرته بنادي غزة الرياضي وحصل على لقب هداف الدوري موسم 2015-2016 برصيد 17 هدفا، لكن الابن البار لناديه عاد لخدمات الشاطئ مرة أخرى وحقق بطولات عديدة وأحرز لقب هداف الدوري موسم 2016 -2017 برصيد 15 هدفا، وهو من الذين تجاوزوا عتبة 100 هدف ليصبح من أساطير اللعبة في فلسطين. ونشر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (ويفا) تدوينة على منصة "إكس" وصف فيها العبيد بأنه "موهبة أعادت الأمل إلى قلوب عدد لا يحصى من الأطفال حتى في أحلك الظروف"، لكن نجم ليفربول المصري محمد صلاح الذي شارك تدوينة الاتحاد الأوروبي بعد نعيه للاعب العبيد طالب بالإجابة عن "كيف مات وأين ولماذا؟". فيما طالبت زوجة العبيد الاتحادات الرياضية لكرة القدم بطرد الفرق والمنتخبات الإسرائيلية من المباريات، لأنها دولة عنصرية قتلت أحد أشهر اللاعبين الفلسطينيين، وأن يقف الرياضيين والصحفيين العرب والدوليين مع قضية قتل سليمان. وبعد تغريدة صلاح، ذكر النجم المصري محمد أبو تريكة الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" بأعداد الرياضيين الفلسطينيين الشهداء، وعددهم 762 رياضيا بينهم 422 لاعب كرة قدم، إضافة لتدمير 267 منشأة رياضية، وقال موجها خطابه لرئيس "الفيفا" السيد انفانتينو متسائلا: "أوقفتم روسيا، متى هتوقفوا الاحتلال الصهيوني؟". فيما دعت المفوضية الأممية في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز، الاتحاد الأوروبي لطرد منتخب الاحتلال ولاعبيه من المسابقات الأوروبية، مؤكدةً، "حان الوقت لطرد قتلته من المسابقات. لنجعل الرياضة خالية من الفصل العنصري". المصدر / فلسطين أون لاين


شبكة أنباء شفا
منذ 4 أيام
- شبكة أنباء شفا
نقد منمّق لنص ' سهمٌ من حنان ' للشاعر العراقي الكبير عادل جودة ، بقلم : رانية مرجية
نقد منمّق لنص ' سهمٌ من حنان ' للشاعر العراقي الكبير عادل جودة ، بقلم : رانية مرجية مدخل: حين يتحوّل الحنان إلى سهم في نصه 'سهمٌ من حنان'، يقدّم لنا الشاعر العراقي الكبير عادل جودة قصيدة نثرية تمزج بين البوح الحميمي والتأمل الوجودي. إنها رحلة من براءة الاطمئنان إلى هاوية الخذلان، نص يلتقط أدق التحولات النفسية التي يمر بها القلب حين يكتشف أن الأمان الذي احتمى به لم يكن سوى وهم مُتقن الصنعة. البنية السردية والانسياب العاطفي جاء النص في تدرج شعوري محسوب:• الافتتاحية: لحظة الانغماس في الأمان، صورة الطفل الذي وجد حضنه الأبدي.• الانعطافة: انكشاف الزيف، وسقوط السماء كرمز لانهيار الثقة.• المواجهة الداخلية: التساؤلات المريرة 'كيف لم أفهم؟'، 'كيف لم ألحظ؟' التي تضع القارئ أمام صراع بين العاطفة والبصيرة. • الخاتمة الدفاعية: إعادة ترتيب المسافات كاستراتيجية للبقاء، ونداء صادق إلى الله طلبًا للحب الخالي من الطعنات. هذا التصاعد يمنح النص إيقاعًا داخليًا يشبه الموجة التي تبدأ هادئة، ثم تتعالى حتى تنكسر على صخور الحقيقة. اللغة والصور البلاغية لغة عادل جودة هنا تتسم بالبساطة العاطفية المشبعة بالمجاز، وهي بساطة مخادعة، إذ تحمل خلفها عمقًا فلسفيًا.• 'سقوط السماء': استعارة ضخمة تُبرز حجم الصدمة.• 'قطع النور في ليل شتوي بارد': لوحة حسية تجمع بين البصر والبرد، لتكثيف شعور الفقد. • 'هنا ضُرب القلب مرة': جملة قصيرة لكنها مشحونة بتاريخ كامل من الألم. كل صورة في النص تؤدي وظيفتها بانضباط، فلا ترهق القارئ، بل تدفعه للتوغل أكثر في التجربة الشعورية. القيمة الإنسانية والفلسفية النص يطرح أسئلة أوسع من حدود تجربة فردية؛ إنه يقف عند مفترق طرق بين الثقة والخوف، بين الرغبة في الحب والحذر من تكرار الخيانة. في هذا، يتحول النص إلى خطاب إنساني، يخص كل من مرّ بتجربة مشابهة، ويترك أثرًا طويل المدى في وجدان القارئ. خاتمة 'سهمٌ من حنان' ليس مجرد نص عن الخيانة، بل عن هشاشة الأمان حين يُمنح بلا حذر، وعن القدرة على النهوض رغم الألم. الشاعر عادل جودة، بإيقاعه الهادئ وصوره الحية، يقدّم درسًا في كيف يمكن للقصيدة أن تكون مرآة صافية للروح الجريحة، ودليلًا لمن يبحث عن شجاعة الحب من جديد