
مستقبل اليسار الفلسطيني ، نحو مشروع وحدوي بديل دون تحالفات موسمية ، بقلم : المهندس غسان جابر
مستقبل اليسار الفلسطيني ، نحو مشروع وحدوي بديل دون تحالفات موسمية ، بقلم : المهندس غسان جابر
في خضم التحولات السياسية المتسارعة، ومع تراجع ثقة الشارع الفلسطيني بالقوى التقليدية، يبرز سؤال جوهري: هل يستطيع اليسار الفلسطيني أن يستعيد مكانته، وأن يكون قوة حقيقية في أي انتخابات قادمة؟
لقد أظهرت نتائج انتخابات نقابة المهندسين، والعديد من النقابات الأخرى، أن المزاج الشعبي بات أكثر ميلًا نحو من يملك خطابًا واقعيًا وتجربة نضالية صادقة. لكن غياب مشروع يساري موحد، وتوزع القوى اليسارية بين تحالفات متناقضة، جعل حضورها خافتًا رغم الطاقات الكبيرة التي تملكها.
من التجزئة إلى الوحدة : ضرورة استراتيجية
تتوزع قوى اليسار الفلسطيني اليوم بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حزب الشعب، المبادرة الوطنية الفلسطينية، الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا)، وجبهة النضال الشعبي وغيرها. ورغم اشتراكها في المبادئ العامة، إلا أن غياب رؤية وحدوية، واستمرارها في خوض الانتخابات بشكل مجزأ أو ضمن تحالفات تكتيكية، أضعف قدرتها على التأثير.
تجربة 'تحالف القوى التقدمية' في بعض الانتخابات الطلابية أعطت مؤشرات إيجابية، لكنها بقيت محدودة الأثر بسبب غياب الغطاء السياسي الجامع، والضبابية في الموقف من التحالف مع الإسلاميين، خصوصًا حركتي 'حماس' و'الجهاد الإسلامي'.
لا تحالفات متناقضة… بل بديل تقدمي مستقل
أثبتت التجربة أن التحالفات بين قوى اليسار والإسلاميين، كما حصل في انتخابات بيرزيت أو بعض الانتخابات المحلية، غالبًا ما كانت قائمة على العداء لفتح، لا على مشروع مشترك. وهذا ما أفقد اليسار هويته السياسية، وأربك جمهوره الطبيعي من الطبقة الوسطى، والعمال، والمثقفين.
ما يحتاجه اليسار اليوم ليس 'تكتيك الانتخابات'، بل استراتيجية استعادة الثقة. وهذا لا يتم إلا بالتموضع كقوة ثالثة، لا تتماهى مع الإسلام السياسي، ولا تذوب في السلطة، بل تطرح بديلاً تقدمياً ديمقراطياً يعيد ربط النضال الوطني بالنضال الاجتماعي.
دور المبادرة الوطنية: نموذج يمكن البناء عليه
تُعد حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية حالة متميزة داخل الجسم اليساري، إذ استطاعت الحفاظ على استقلاليتها، وطرحت خطابًا وطنيًا تقدميًا واضحًا، وحققت حضورًا ملموسًا في العمل النقابي والاجتماعي دون الانخراط في تحالفات عشوائية. تجربة المبادرة في دعم الحراكات الشبابية، والمشاركة في حملات الدفاع عن الأسرى، والنضال من أجل العدالة الاجتماعية، تقدم نموذجًا يمكن تعميمه على بقية القوى اليسارية إذا ما توحدت حول برنامج حقيقي.
القدس وغزة: اختبار المصداقية والوطنية
لا يمكن لأي مشروع يساري أن يستعيد ثقة الناس دون أن يكون حاضرًا بقوة في معارك القدس وغزة. في القدس، حيث التهويد اليومي، وهدم البيوت، وتفتيت النسيج الاجتماعي، غاب الصوت اليساري بشكل مؤلم عن الشارع، في وقت كانت فيه الحاجة ماسة لقوى تقدمية تدافع عن السكان لا من منطلق شعارات، بل من خلال مبادرات نضالية وخدمية حقيقية.
أما في غزة، حيث الحصار والانقسام والبطالة، فإن دور اليسار يجب ألا يختزل في النقد الخطابي فقط، بل يتطلب تواجدًا ميدانيًا، ودعمًا مباشرًا للفئات المهمشة، ووقوفًا واضحًا مع الحريات والديمقراطية في وجه القمع أياً كان مصدره.
إن بناء مشروع يساري وطني يعني أن تكون القدس وغزة في صلب أولوياته، لا كقضيتين رمزيتين، بل كجبهتين يوميتين للصراع، تحتاجان إلى رؤية نضالية متكاملة، تستند إلى الميدان لا إلى البيانات فقط.
اليسار والناس: العودة إلى الميدان
المطلوب من اليسار اليوم هو العودة إلى الناس، لا إلى غرف التحالف. أن يكون في مخيمات اللاجئين، في ساحات العمل، في قضايا الصحة والتعليم، في هموم العمال والطلبة. أن يكون صوته هو صوت من لا صوت لهم، لا مجرد رقم في لعبة المحاصصة الانتخابية.
نؤكد أن مستقبل اليسار الفلسطيني رهن بقدرته على التوحد، واستعادة المبادرة، وتقديم نفسه كبديل حقيقي لا كظل لغيره. لن يصنع التغيير من خلال الشعارات فقط، بل من خلال مشروع متجذر، مستقل، عادل، وجريء. آن أوان أن يخرج اليسار من عباءة التحالفات الموسمية، ويعيد تشكيل ذاته كقوة تاريخية قادرة على خوض معركة التحرر والديمقراطية بكرامة وثقة.
م. غسان جابر (القيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية)

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الايام
منذ 41 دقائق
- جريدة الايام
قادة فصائل فلسطينية يغادرون دمشق بعد تضييقات من السلطات السورية
دمشق - أ ف ب: غادر قادة فصائل فلسطينية كانت مقربة من الحكم السابق في سورية وتتلقى دعماً من طهران، دمشق، وفق ما أكدت مصادر فلسطينية لوكالة فرانس برس، بعد تضييق السلطات عليهم وتسليم الفصائل سلاحها. وكانت واشنطن طلبت من السلطات السورية قبيل رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية ترحيل المنظمات الفلسطينية المتعاونة مع طهران. وأكّد قيادي في فصيل فلسطيني، رفض الكشف عن هويته وأصبح خارج دمشق، أن "معظم قادة الفصائل الفلسطينية التي تلقت دعماً من طهران غادروا دمشق" إلى دول عدة بينها لبنان. وعدّد من بين هؤلاء خالد جبريل، نجل مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة، وخالد عبد المجيد، الأمين العام لجبهة النضال الشعبي في سورية، وزياد الصغير، الأمين العام لحركة "فتح الانتفاضة". وتنضوي تلك الفصائل مع مجموعات أخرى من لبنان والعراق واليمن في إطار ما يعرف بـ"محور المقاومة" الذي تقوده طهران، التي كانت أبرز داعمي الأسد. وأوضح القيادي الفلسطيني أن قادة الفصائل المعنية "لم يتلقّوا أي طلب رسمي من السلطات بمغادرة الأراضي السورية، لكنهم تعرّضوا لمحاولات تضييق، وتمّت مصادرة ممتلكات تابعة لفصائلهم ومقدراتها، عدا اعتقال زملائهم"، مضيفاً: "باتت تلك الفصائل ممنوعة من العمل بحكم الأمر الواقع". ولم ترد السلطات السورية على طلب فرانس برس التعليق. وبدأت سورية تستضيف فلسطينيين منذ العام 1948، أي بعد ما يُعرف بالنكبة، واستقرّت قيادة بعض الفصائل الفلسطينية في سورية منذ منتصف الستينيات. واتُهمت دمشق خلال السنوات التالية بتغذية الانقسامات داخل الفصائل، واستخدام الورقة الفلسطينية لمصالحها السياسية. قبل اندلاع النزاع في سورية في العام 2011، شكّلت دمشق قاعدة رئيسية لحركة "حماس"، لكن هذه الأخيرة أقفلت معظم مقراتها في سورية في العام اللاحق وغادرت البلاد على خلفية تدهور علاقتها مع الحكم السابق ودعمها معارضي الأسد. وانقسم الفلسطينيون على الأرض، خصوصاً في مخيم اليرموك في جنوب دمشق، بين مؤيد للمعارضة ومؤيد للسلطات، وقاتلوا إلى جانب الطرفين. اليوم، تغيب رايات الفصائل الفلسطينية عن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين حيث يشهد الدمار على ضراوة المعارك خلال سنوات النزاع الأولى، وتبدو مقرّات الفصائل مقفلة ولا وجود لمسلحين قربها. ويتكرّر المشهد قرب مقار معروفة لفصائل عدّة في عدد من أحياء دمشق، وفق مصوري فرانس برس. ويقول علي ناصر، ستيني من سكان المخيم: "لم يبق أحد من الفصائل، جميعها خرجت، وحتى سياسياً لم يعد لها دور". ويؤكد القيادي الفلسطيني أن السلطات السورية الجديدة "صادرت ممتلكات معظم الفصائل من منازل شخصية ومقرات وسيارات، ومعسكرات تدريب في ريف دمشق ومحافظات أخرى". ويوضح أن الفصائل "سلّمت السلاح الموجود في مقراتها أو لدى كوادرها بالكامل" إلى السلطات التي تسلمّت كذلك "قوائم بأسماء من لديه قطع فردية من عناصر الفصائل وطالبت بها". وحضّت واشنطن، التي تصنّف فصائل فلسطينية عدة منظمات "إرهابية"، السلطات الجديدة في دمشق على "منع إيران ووكلائها من استغلال الأراضي السورية". وطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب نظيره السوري أحمد الشرع خلال لقائهما في الرياض بـ"ترحيل الإرهابيين الفلسطينيين"، وفق البيت الأبيض. وقال مصدر فلسطيني في دمشق: إنه بعد الإطاحة بالأسد "جمعنا أسلحة عناصرنا بأنفسنا وسلمناها.. لكننا أبقينا على سلاح فردي خفيف للحماية وليس للقتال، وذلك بموافقة" السلطات. وقال مصدر فلسطيني آخر في دمشق: "لا يوجد أي تعاون بين معظم الفصائل الفلسطينية والإدارة السورية" حالياً، مضيفاً: "غالباً ما يكون الردّ على تواصلنا معها بارداً أو متأخراً، ونشعر أننا ضيوف غير مرحب بنا". وأعلنت حركة الجهاد الإسلامي في 22 نيسان أن السلطات السورية اعتقلت اثنين من قادتها، هما: مسؤول الساحة السورية خالد خالد، ومسؤول اللجنة التنظيمية ياسر الزفري. وقال القيادي في الحركة هيثم أبو الغزلان لفرانس برس: إنهما ما زالا معتقلين "من دون أسباب مقنعة"، لافتاً إلى "جهود تبذل على أكثر من صعيد لتأمين الإفراج" عنهما. وفي الثالث من أيار، أوقفت السلطات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة طلال ناجي لساعات، وفق ما أفاد مسؤولون في الفصيل حينها. وتبقى حركة "فتح"، والتي لا وجود نافذاً لها في سورية، بمنأى عن التضييق، وفق المصادر الفلسطينية. وكان الرئيس الفلسطيني زار دمشق والتقى الشرع في 18 نيسان. قبل اندلاع النزاع عام 2011، ناهز عدد اللاجئين الفلسطينيين في سورية 560 ألف شخص، وفق وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ومنحتهم سورية كل حقوق المواطنة، باستثناء الانتخاب والترشيح. وانخفض عددهم خلال سنوات النزاع إلى 438 ألفاً. في مخيم اليرموك شبه المقفر، يقول مروان النوار: "الفصائل التي وقفت مع النظام البائد، حُسم أمرها تقريباً وغادرت". ويضيف الموظف المتقاعد: "يبحث الناس اليوم عن حياة كريمة فقط" بعدما "تعبوا من الفصائل الفلسطينية المتناحرة مع النظام السابق وضده".


جريدة الايام
منذ 2 أيام
- جريدة الايام
اليسار يحذر من "تزايد رهاب الإسلام" ماكرون يأمر بالتحرّك ضد جماعة الإخوان المسلمين: تهدد التماسك الوطني
باريس - أ ف ب: أمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الحكومة بوضع مقترحات للتعامل مع تأثير جماعة الإخوان المسلمين وانتشار "الإسلام السياسي" في فرنسا، بحسب ما أفاد الإليزيه. جاء إعلان الرئاسة الفرنسية بعدما ترأس ماكرون اجتماعا أمنيا لدراسة تقرير يحذّر من الإخوان المسلمين ويقول إن الجماعة تشكّل "تهديدا للتماسك الوطني" في فرنسا. وأفاد قصر الإليزيه "نظرا إلى أهمية المسألة وخطورة الوقائع التي تم التحقق منها، طلب من الحكومة وضع مقترحات ستجري دراستها في اجتماع مجلس الدفاع المقبل مطلع حزيران". وفي خطوة نادرة، قرر ماكرون أيضا نشر التقرير علنا بحلول نهاية الأسبوع. وحصلت فرانس برس على نسخة من التقرير الثلاثاء. وقال قصر الإليزيه إنه سيتم الإعلان عن بعض الإجراءات بينما ستبقى أخرى سريّة. وأعد التقرير بشأن الجماعة التي تأسست في مصر العام 1928 موظفان رسميان رفيعان بتكليف من الحكومة. وقال الإليزيه قبيل الاجتماع إن التقرير "يحدد بوضوح الطبيعة المناهضة للجمهورية والتخريبية لـ(الإخوان المسلمين)" ويقترح "طرقا للتعامل مع هذا التهديد". وتضم كل من فرنسا وألمانيا أكبر نسبة من المسلمين مقارنة مع باقي بلدان الاتحاد الأوروبي. تسعى السلطات الفرنسية لمنع أي انتشار للفكر الإسلامي المتشدد في بلد هزّته سلسلة هجمات جهادية دموية. باتت مسألة التطرف الديني قضية جدلية في ظل تحوّل المشهد السياسي في فرنسا وازدياد شعبية اليمين المتشدد. وأثار التقرير ردود فعل حادة إذ اتّهمت زعيمة اليمين المتشدد مارين لوبن الحكومة بعدم التحرك، قائلة على منصة "إكس" إنها لطالما اقترحت إجراءات "للقضاء على الأصولية الإسلامية". من جانبه، قال رئيس حزبها "التجمع الوطني" جوردان بارديلا عبر إذاعة "فرانس إنتر": "إذا وصلنا إلى السلطة غدا، فسنحظر (الإخوان المسلمين)". لكن البعض دانوا ما يقولون إنه تزايد رهاب الإسلام في فرنسا. وقال اليساري المتشدد جان لوك ميلانشون على منصة "إكس" إن "رهاب الإسلام تجاوز الحد". واتهم المسؤولين بدعم "النظريات الوهمية" للوبن ووزير الداخلية الفرنسي المتشدد برونو روتايو. وأشار التقرير إلى تفشي الإسلام السياسي "من الأسفل إلى الأعلى"، مضيفاً إن الظاهرة تمثّل "تهديداً على الأمدين القصير إلى المتوسط". وأكدت الرئاسة الفرنسية في الوقت ذاته "نحن متفقون تماماً في قولنا إن علينا ألا نعمم في التعامل مع المسلمين". وأضافت: "نقاتل ضد الإسلام السياسي وتجاوزاته المتطرفة". وركّز التقرير على دور "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" والذي وصفه بأنه "الفرع الوطني لـ(الأخوان المسلمين) في فرنسا". من جانبه، ندد "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" بـ"الاتهامات التي لا أساس لها" وحذّر من الخلط "الخطير" بين الإسلام والتطرف. وقال: "نرفض بشدة أي اتهامات تحاول ربطنا بمشروع سياسي خارجي"، محذّراً من "وصم الإسلام والمسلمين". وتابع أن "الاتهام الدائم يشكّل العقول ويثير المخاوف وبكل أسف، يساهم في أعمال العنف"، مشيراً إلى حادثة مقتل المالي أبو بكر سيسيه (22 عاما) بطعنه عشرات المرات بينما كان يصلي داخل مسجد في جنوب فرنسا. وذكرت صحيفة "لوفيغارو" المحافظة التي كانت أول وسيلة إعلامية تنشر مقتطفات من التقرير "الصادم" الثلاثاء أن جماعة الإخوان المسلمين "تسعى إلى إدخال الشريعة إلى فرنسا". لكن التقرير أفاد بأن "أي وثيقة لم تظهر مؤخرا رغبة المسلمين في فرنسا بتأسيس دولة إسلامية في فرنسا أو تطبيق قوانين الشريعة هناك"، لافتا مع ذلك إلى أن التهديد حقيقي. وقال التقرير: "لا نتعامل مع حالة انفصالية عدائية" بل مع "هدف خفي.. ولكنه تخريبي للمؤسسات". واقترح حزب ماكرون منع القاصرات دون الخامسة عشرة من ارتداء الحجاب الذي اعتبر أنه "يقوّض بشكل خطير المساواة بين الجنسين وحماية الأطفال". كما يسعى الحزب إلى "تجريم أولياء الأمور الذين يجبرون بناتهم دون السن القانونية على وضع الحجاب، بتهمة الإكراه". والعام 2023، منعت فرنسا طالبات المدارس الحكومية من ارتداء العباءة.

جريدة الايام
منذ 3 أيام
- جريدة الايام
التخادم بين رجال الدين والسلطة
لفهم العلاقة بين النظم السياسية ورجال الدين (تاريخياً)، ينبغي الرجوع إلى التاريخ القديم، وتحديداً إلى مرحلة ما قبل نشوء الأديان؛ فقد كانت آنذاك طبقة الشاهنامة (السحرة والعرافون) هي المكافئ الموضوعي لطبقة رجال الدين، ففي تلك المجتمعات البدائية نشأ التحالف التاريخي بين الحكم السياسي والحكم الروحي وتوطدت العلاقة الجدلية بينهما على أساس تبادل الأدوار وتبادل المصالح، حين كان الشاهنامة والسحرة يتلاعبون بعقول العامّة، بالتعاويذ والقرابين، مقابل العيش دون عمل، وكان دورهم الوظيفي منح زعيم القبيلة القداسة التي تجعله بمثابة الرب، أو ممثلاً عنه، وبالتالي تسهيل عملية إخضاع العامة لحكمه، وتسهيل اقتيادهم، ودفعهم للحروب، وقبولهم لاستغلالهم ونهب مواردهم وجهودهم وأرواحهم والتحكم في حيواتهم. بعد نشوء الأديان الأرضية، ومن بعدها السماوية تطورت تلك العلاقة، ولكن أُضيف لرجال الدين دور وظيفي جديد، تجاوز تقديس الحاكم، إلى تقديس كل أفعاله، وتبرير سياساته وإضفاء البعد الديني والروحي عليها، لتكون مقبولة من الشعب. ومع تطور المجتمعات والنظم السياسية تطورت الأديان أيضا، ولكن بقي الدور الوظيفي لطبقة رجال الدين في الإطار ذاته، لكن العلاقة كانت متبادلة، فبالقدر الذي تستفيد منه السلطة من رجال الدين، فإن الدين نفسه سيستفيد، فمن وجهة نظر المتدينين فإن الحق (أو الدين) بمفرده لن يدوم، ولن يكسب، بل ربما يُسحق، وبالتالي يتوجب تسليحه بالقوة؛ أي بالسلطة السياسية. في اليهودية مثلا وظفت طبقة السنهندرين نفسها لخدمة المستعمر اليوناني، ثم الفارسي، ثم الروماني فقط لتأمين حكم المحمية اليهودية (دويلة الحشمونائيم)، والتي لم يكن لها أن تدوم ثمانية عقود دون هذا التحالف. في المسيحية القصة متشابهة، فالمسيحية ذاتها انتشرت وصارت ديانة عالمية فقط حين اعتنقها الإمبراطور قسطنطين، بهدف توحيد الإمبراطورية تحت إله واحد ودين واحد وإمبراطور واحد.. والمفارقة أن المسيحية نفسها كانت سبب انقسامها إلى غربية كاثوليكية وشرقية أرثوذوكسية (بيزنطة)، وطوال العصور الوسطى ظلت الكنيسة متحالفة مع الطبقات الحاكمة في عموم القارة الأوروبية، أحيانا تكون هي الحاكم الفعلي وبقوة تفوق قوة الدولة، وأحياناً بتحالف الطرفين، ربما المرة الوحيدة التي كانت فيها الكنيسة خاضعة للدولة حين دخلت المسيحية السويد في القرن العاشر، وحينها بنى الملك «غوستاف فازا» كنيسة ضخمة في أوبسالا، ونصب فوق تلة تبعد عنها مئات الأمتار مدفعاً عملاقاً وقال للكنيسة: ستبقون تحت أمري وسلطاني، وإذا خالفتم أمري فإن المدفع جاهز لدك الكنيسة وتسويتها بالتراب. حين أتى الإسلام تكاملت السلطتان الزمنية والمكانية في شخص النبي الكريم، وبالتالي يصعب القياس على تلك الفترة، ولكن بمجرد وفاته انقسم الأنصار والمهاجرون على السلطة، وطوال فترات الخلافة الإسلامية منذ الراشدة وحتى العثمانية كانت السلطة السياسية تتكئ وتعتمد على رجال الدين في تمرير سياساتها، وتبرير تجاوزات الحكام والولاة، وفي إخضاع العامة، وبالمثل كانت كل من السلطة وطبقة رجال الدين تمد إحداهما الأخرى بأسباب الحياة والبقاء والتمدد. وحتى في إطار الدين نفسه، فقد نشأت الفرق والمذاهب والطوائف، وتصارعت فيما بينها، وكانت كل فئة تستخدم فقهاءها وخطابها الديني وفتاواها وتأويلها الخاص للآيات القرآنية والنص الديني كقوة إعلامية وحجة دينية في مواجهة خصومها، وكان هذا أيضاً مسوغاً لنشوء التيارات والأحزاب الإسلامية التي حددت هدفها بوضوح «الوصول إلى السلطة وسدة الحكم»، أو تقاسم السلطة مع الدولة في حالات معينة. قد يعترض البعض على هذا الطرح، بذريعة أنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، ولا يوجد «رجال دين».. لكن هذا غير دقيق، فقد كان في كل مراحل التاريخ وحتى الآن أشخاص متفرغون لقضايا الدين، لديهم زيهم الخاص والمميز، وقد تلقوا علومهم من المعاهد والكليات الدينية، ويتقاضون أجرهم مقابل ذلك.. وحتى لو تجاوزنا هذه الشكليات، فإن العقل الإسلاموي يقر ويصرح بأن لا يجوز الفتوى والتحدث باسم الدين أو عنه إلا من قبل هؤلاء. سواء من يتبعون المؤسسات الرسمية، أو يتبعون أحزاباً إسلامية، أو يمثلون طائفة ما، أو حتى متطوعون؛ وهذا بحد ذاته كهنوت من ناحية فعلية. في واقع الأمر كل الأنظمة العربية تحالفت مع رجال الدين، ووظفت الخطاب الديني لأغراضها السياسية، وفي المقابل استفاد هؤلاء من وجودهم في كنف السلطة، وفي حالات أخرى عديدة قد يتحارب طرف إسلامي مع آخر أو مع السلطة ضمن صراع سياسي أو على السلطة، أو للهيمنة على المجتمع، مستخدماً الخطاب الديني لأدلجة وتسويغ وتسويق نفسه أمام الجماهير. في الحالات التي يعترض فيها أي حزب إسلامي على السلطة الحاكمة فإنه بداية يخوض حرباً إعلامية على رجال الدين المحيطين بالسلطة، ويتهمهم بأنهم وعاظ السلاطين. وأيضاً في الحالات التي ينتقد فيها رجل الدين أي حزب إسلامي، أو لا يمشي على هواهم، فتهمته جاهزة: «وعاظ السلاطين»، مع إنه يستخدم الخطاب الديني، وأدواته ومرجعياته الفقهية. وفي المقابل، إذا شكّلت أي جماعة دينية تهديداً للسلطة، أو أضرت بمصالحها فإنها ستحاربها بلا هوادة، وستستخدم رجال الدين لتلك المهمة، وستكون التهم جاهزة: «فئة ضالة»، «جماعة مارقة»، «خارجون عن الدين». انظر مثلاً كيف استخدمت السعودية «هيئة الأمر بالمعروف»، وانظر تقلبات معظم المشايخ هناك.. وانظر أيضا الخلافات الحادة حول شخصيات دينية مثل سيد قطب، الذهبي، القرضاوي، البوطي، العريفي.. وعشرات المشايخ المقربين من السلطات ونظرائهم من منظري الأحزاب والمعارضة، وربما آخر خلاف ظهر كان حول تصريحات الشيخ عثمان الخميس.