logo
التخادم بين رجال الدين والسلطة

التخادم بين رجال الدين والسلطة

جريدة الاياممنذ 3 أيام

لفهم العلاقة بين النظم السياسية ورجال الدين (تاريخياً)، ينبغي الرجوع إلى التاريخ القديم، وتحديداً إلى مرحلة ما قبل نشوء الأديان؛ فقد كانت آنذاك طبقة الشاهنامة (السحرة والعرافون) هي المكافئ الموضوعي لطبقة رجال الدين، ففي تلك المجتمعات البدائية نشأ التحالف التاريخي بين الحكم السياسي والحكم الروحي وتوطدت العلاقة الجدلية بينهما على أساس تبادل الأدوار وتبادل المصالح، حين كان الشاهنامة والسحرة يتلاعبون بعقول العامّة، بالتعاويذ والقرابين، مقابل العيش دون عمل، وكان دورهم الوظيفي منح زعيم القبيلة القداسة التي تجعله بمثابة الرب، أو ممثلاً عنه، وبالتالي تسهيل عملية إخضاع العامة لحكمه، وتسهيل اقتيادهم، ودفعهم للحروب، وقبولهم لاستغلالهم ونهب مواردهم وجهودهم وأرواحهم والتحكم في حيواتهم.
بعد نشوء الأديان الأرضية، ومن بعدها السماوية تطورت تلك العلاقة، ولكن أُضيف لرجال الدين دور وظيفي جديد، تجاوز تقديس الحاكم، إلى تقديس كل أفعاله، وتبرير سياساته وإضفاء البعد الديني والروحي عليها، لتكون مقبولة من الشعب. ومع تطور المجتمعات والنظم السياسية تطورت الأديان أيضا، ولكن بقي الدور الوظيفي لطبقة رجال الدين في الإطار ذاته، لكن العلاقة كانت متبادلة، فبالقدر الذي تستفيد منه السلطة من رجال الدين، فإن الدين نفسه سيستفيد، فمن وجهة نظر المتدينين فإن الحق (أو الدين) بمفرده لن يدوم، ولن يكسب، بل ربما يُسحق، وبالتالي يتوجب تسليحه بالقوة؛ أي بالسلطة السياسية.
في اليهودية مثلا وظفت طبقة السنهندرين نفسها لخدمة المستعمر اليوناني، ثم الفارسي، ثم الروماني فقط لتأمين حكم المحمية اليهودية (دويلة الحشمونائيم)، والتي لم يكن لها أن تدوم ثمانية عقود دون هذا التحالف.
في المسيحية القصة متشابهة، فالمسيحية ذاتها انتشرت وصارت ديانة عالمية فقط حين اعتنقها الإمبراطور قسطنطين، بهدف توحيد الإمبراطورية تحت إله واحد ودين واحد وإمبراطور واحد.. والمفارقة أن المسيحية نفسها كانت سبب انقسامها إلى غربية كاثوليكية وشرقية أرثوذوكسية (بيزنطة)، وطوال العصور الوسطى ظلت الكنيسة متحالفة مع الطبقات الحاكمة في عموم القارة الأوروبية، أحيانا تكون هي الحاكم الفعلي وبقوة تفوق قوة الدولة، وأحياناً بتحالف الطرفين، ربما المرة الوحيدة التي كانت فيها الكنيسة خاضعة للدولة حين دخلت المسيحية السويد في القرن العاشر، وحينها بنى الملك «غوستاف فازا» كنيسة ضخمة في أوبسالا، ونصب فوق تلة تبعد عنها مئات الأمتار مدفعاً عملاقاً وقال للكنيسة: ستبقون تحت أمري وسلطاني، وإذا خالفتم أمري فإن المدفع جاهز لدك الكنيسة وتسويتها بالتراب.
حين أتى الإسلام تكاملت السلطتان الزمنية والمكانية في شخص النبي الكريم، وبالتالي يصعب القياس على تلك الفترة، ولكن بمجرد وفاته انقسم الأنصار والمهاجرون على السلطة، وطوال فترات الخلافة الإسلامية منذ الراشدة وحتى العثمانية كانت السلطة السياسية تتكئ وتعتمد على رجال الدين في تمرير سياساتها، وتبرير تجاوزات الحكام والولاة، وفي إخضاع العامة، وبالمثل كانت كل من السلطة وطبقة رجال الدين تمد إحداهما الأخرى بأسباب الحياة والبقاء والتمدد.
وحتى في إطار الدين نفسه، فقد نشأت الفرق والمذاهب والطوائف، وتصارعت فيما بينها، وكانت كل فئة تستخدم فقهاءها وخطابها الديني وفتاواها وتأويلها الخاص للآيات القرآنية والنص الديني كقوة إعلامية وحجة دينية في مواجهة خصومها، وكان هذا أيضاً مسوغاً لنشوء التيارات والأحزاب الإسلامية التي حددت هدفها بوضوح «الوصول إلى السلطة وسدة الحكم»، أو تقاسم السلطة مع الدولة في حالات معينة.
قد يعترض البعض على هذا الطرح، بذريعة أنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، ولا يوجد «رجال دين».. لكن هذا غير دقيق، فقد كان في كل مراحل التاريخ وحتى الآن أشخاص متفرغون لقضايا الدين، لديهم زيهم الخاص والمميز، وقد تلقوا علومهم من المعاهد والكليات الدينية، ويتقاضون أجرهم مقابل ذلك.. وحتى لو تجاوزنا هذه الشكليات، فإن العقل الإسلاموي يقر ويصرح بأن لا يجوز الفتوى والتحدث باسم الدين أو عنه إلا من قبل هؤلاء. سواء من يتبعون المؤسسات الرسمية، أو يتبعون أحزاباً إسلامية، أو يمثلون طائفة ما، أو حتى متطوعون؛ وهذا بحد ذاته كهنوت من ناحية فعلية.
في واقع الأمر كل الأنظمة العربية تحالفت مع رجال الدين، ووظفت الخطاب الديني لأغراضها السياسية، وفي المقابل استفاد هؤلاء من وجودهم في كنف السلطة، وفي حالات أخرى عديدة قد يتحارب طرف إسلامي مع آخر أو مع السلطة ضمن صراع سياسي أو على السلطة، أو للهيمنة على المجتمع، مستخدماً الخطاب الديني لأدلجة وتسويغ وتسويق نفسه أمام الجماهير.
في الحالات التي يعترض فيها أي حزب إسلامي على السلطة الحاكمة فإنه بداية يخوض حرباً إعلامية على رجال الدين المحيطين بالسلطة، ويتهمهم بأنهم وعاظ السلاطين.
وأيضاً في الحالات التي ينتقد فيها رجل الدين أي حزب إسلامي، أو لا يمشي على هواهم، فتهمته جاهزة: «وعاظ السلاطين»، مع إنه يستخدم الخطاب الديني، وأدواته ومرجعياته الفقهية.
وفي المقابل، إذا شكّلت أي جماعة دينية تهديداً للسلطة، أو أضرت بمصالحها فإنها ستحاربها بلا هوادة، وستستخدم رجال الدين لتلك المهمة، وستكون التهم جاهزة: «فئة ضالة»، «جماعة مارقة»، «خارجون عن الدين».
انظر مثلاً كيف استخدمت السعودية «هيئة الأمر بالمعروف»، وانظر تقلبات معظم المشايخ هناك.. وانظر أيضا الخلافات الحادة حول شخصيات دينية مثل سيد قطب، الذهبي، القرضاوي، البوطي، العريفي.. وعشرات المشايخ المقربين من السلطات ونظرائهم من منظري الأحزاب والمعارضة، وربما آخر خلاف ظهر كان حول تصريحات الشيخ عثمان الخميس.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

اليسار يحذر من "تزايد رهاب الإسلام" ماكرون يأمر بالتحرّك ضد جماعة الإخوان المسلمين: تهدد التماسك الوطني
اليسار يحذر من "تزايد رهاب الإسلام" ماكرون يأمر بالتحرّك ضد جماعة الإخوان المسلمين: تهدد التماسك الوطني

جريدة الايام

timeمنذ 2 أيام

  • جريدة الايام

اليسار يحذر من "تزايد رهاب الإسلام" ماكرون يأمر بالتحرّك ضد جماعة الإخوان المسلمين: تهدد التماسك الوطني

باريس - أ ف ب: أمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الحكومة بوضع مقترحات للتعامل مع تأثير جماعة الإخوان المسلمين وانتشار "الإسلام السياسي" في فرنسا، بحسب ما أفاد الإليزيه. جاء إعلان الرئاسة الفرنسية بعدما ترأس ماكرون اجتماعا أمنيا لدراسة تقرير يحذّر من الإخوان المسلمين ويقول إن الجماعة تشكّل "تهديدا للتماسك الوطني" في فرنسا. وأفاد قصر الإليزيه "نظرا إلى أهمية المسألة وخطورة الوقائع التي تم التحقق منها، طلب من الحكومة وضع مقترحات ستجري دراستها في اجتماع مجلس الدفاع المقبل مطلع حزيران". وفي خطوة نادرة، قرر ماكرون أيضا نشر التقرير علنا بحلول نهاية الأسبوع. وحصلت فرانس برس على نسخة من التقرير الثلاثاء. وقال قصر الإليزيه إنه سيتم الإعلان عن بعض الإجراءات بينما ستبقى أخرى سريّة. وأعد التقرير بشأن الجماعة التي تأسست في مصر العام 1928 موظفان رسميان رفيعان بتكليف من الحكومة. وقال الإليزيه قبيل الاجتماع إن التقرير "يحدد بوضوح الطبيعة المناهضة للجمهورية والتخريبية لـ(الإخوان المسلمين)" ويقترح "طرقا للتعامل مع هذا التهديد". وتضم كل من فرنسا وألمانيا أكبر نسبة من المسلمين مقارنة مع باقي بلدان الاتحاد الأوروبي. تسعى السلطات الفرنسية لمنع أي انتشار للفكر الإسلامي المتشدد في بلد هزّته سلسلة هجمات جهادية دموية. باتت مسألة التطرف الديني قضية جدلية في ظل تحوّل المشهد السياسي في فرنسا وازدياد شعبية اليمين المتشدد. وأثار التقرير ردود فعل حادة إذ اتّهمت زعيمة اليمين المتشدد مارين لوبن الحكومة بعدم التحرك، قائلة على منصة "إكس" إنها لطالما اقترحت إجراءات "للقضاء على الأصولية الإسلامية". من جانبه، قال رئيس حزبها "التجمع الوطني" جوردان بارديلا عبر إذاعة "فرانس إنتر": "إذا وصلنا إلى السلطة غدا، فسنحظر (الإخوان المسلمين)". لكن البعض دانوا ما يقولون إنه تزايد رهاب الإسلام في فرنسا. وقال اليساري المتشدد جان لوك ميلانشون على منصة "إكس" إن "رهاب الإسلام تجاوز الحد". واتهم المسؤولين بدعم "النظريات الوهمية" للوبن ووزير الداخلية الفرنسي المتشدد برونو روتايو. وأشار التقرير إلى تفشي الإسلام السياسي "من الأسفل إلى الأعلى"، مضيفاً إن الظاهرة تمثّل "تهديداً على الأمدين القصير إلى المتوسط". وأكدت الرئاسة الفرنسية في الوقت ذاته "نحن متفقون تماماً في قولنا إن علينا ألا نعمم في التعامل مع المسلمين". وأضافت: "نقاتل ضد الإسلام السياسي وتجاوزاته المتطرفة". وركّز التقرير على دور "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" والذي وصفه بأنه "الفرع الوطني لـ(الأخوان المسلمين) في فرنسا". من جانبه، ندد "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" بـ"الاتهامات التي لا أساس لها" وحذّر من الخلط "الخطير" بين الإسلام والتطرف. وقال: "نرفض بشدة أي اتهامات تحاول ربطنا بمشروع سياسي خارجي"، محذّراً من "وصم الإسلام والمسلمين". وتابع أن "الاتهام الدائم يشكّل العقول ويثير المخاوف وبكل أسف، يساهم في أعمال العنف"، مشيراً إلى حادثة مقتل المالي أبو بكر سيسيه (22 عاما) بطعنه عشرات المرات بينما كان يصلي داخل مسجد في جنوب فرنسا. وذكرت صحيفة "لوفيغارو" المحافظة التي كانت أول وسيلة إعلامية تنشر مقتطفات من التقرير "الصادم" الثلاثاء أن جماعة الإخوان المسلمين "تسعى إلى إدخال الشريعة إلى فرنسا". لكن التقرير أفاد بأن "أي وثيقة لم تظهر مؤخرا رغبة المسلمين في فرنسا بتأسيس دولة إسلامية في فرنسا أو تطبيق قوانين الشريعة هناك"، لافتا مع ذلك إلى أن التهديد حقيقي. وقال التقرير: "لا نتعامل مع حالة انفصالية عدائية" بل مع "هدف خفي.. ولكنه تخريبي للمؤسسات". واقترح حزب ماكرون منع القاصرات دون الخامسة عشرة من ارتداء الحجاب الذي اعتبر أنه "يقوّض بشكل خطير المساواة بين الجنسين وحماية الأطفال". كما يسعى الحزب إلى "تجريم أولياء الأمور الذين يجبرون بناتهم دون السن القانونية على وضع الحجاب، بتهمة الإكراه". والعام 2023، منعت فرنسا طالبات المدارس الحكومية من ارتداء العباءة.

التخادم بين رجال الدين والسلطة
التخادم بين رجال الدين والسلطة

جريدة الايام

timeمنذ 3 أيام

  • جريدة الايام

التخادم بين رجال الدين والسلطة

لفهم العلاقة بين النظم السياسية ورجال الدين (تاريخياً)، ينبغي الرجوع إلى التاريخ القديم، وتحديداً إلى مرحلة ما قبل نشوء الأديان؛ فقد كانت آنذاك طبقة الشاهنامة (السحرة والعرافون) هي المكافئ الموضوعي لطبقة رجال الدين، ففي تلك المجتمعات البدائية نشأ التحالف التاريخي بين الحكم السياسي والحكم الروحي وتوطدت العلاقة الجدلية بينهما على أساس تبادل الأدوار وتبادل المصالح، حين كان الشاهنامة والسحرة يتلاعبون بعقول العامّة، بالتعاويذ والقرابين، مقابل العيش دون عمل، وكان دورهم الوظيفي منح زعيم القبيلة القداسة التي تجعله بمثابة الرب، أو ممثلاً عنه، وبالتالي تسهيل عملية إخضاع العامة لحكمه، وتسهيل اقتيادهم، ودفعهم للحروب، وقبولهم لاستغلالهم ونهب مواردهم وجهودهم وأرواحهم والتحكم في حيواتهم. بعد نشوء الأديان الأرضية، ومن بعدها السماوية تطورت تلك العلاقة، ولكن أُضيف لرجال الدين دور وظيفي جديد، تجاوز تقديس الحاكم، إلى تقديس كل أفعاله، وتبرير سياساته وإضفاء البعد الديني والروحي عليها، لتكون مقبولة من الشعب. ومع تطور المجتمعات والنظم السياسية تطورت الأديان أيضا، ولكن بقي الدور الوظيفي لطبقة رجال الدين في الإطار ذاته، لكن العلاقة كانت متبادلة، فبالقدر الذي تستفيد منه السلطة من رجال الدين، فإن الدين نفسه سيستفيد، فمن وجهة نظر المتدينين فإن الحق (أو الدين) بمفرده لن يدوم، ولن يكسب، بل ربما يُسحق، وبالتالي يتوجب تسليحه بالقوة؛ أي بالسلطة السياسية. في اليهودية مثلا وظفت طبقة السنهندرين نفسها لخدمة المستعمر اليوناني، ثم الفارسي، ثم الروماني فقط لتأمين حكم المحمية اليهودية (دويلة الحشمونائيم)، والتي لم يكن لها أن تدوم ثمانية عقود دون هذا التحالف. في المسيحية القصة متشابهة، فالمسيحية ذاتها انتشرت وصارت ديانة عالمية فقط حين اعتنقها الإمبراطور قسطنطين، بهدف توحيد الإمبراطورية تحت إله واحد ودين واحد وإمبراطور واحد.. والمفارقة أن المسيحية نفسها كانت سبب انقسامها إلى غربية كاثوليكية وشرقية أرثوذوكسية (بيزنطة)، وطوال العصور الوسطى ظلت الكنيسة متحالفة مع الطبقات الحاكمة في عموم القارة الأوروبية، أحيانا تكون هي الحاكم الفعلي وبقوة تفوق قوة الدولة، وأحياناً بتحالف الطرفين، ربما المرة الوحيدة التي كانت فيها الكنيسة خاضعة للدولة حين دخلت المسيحية السويد في القرن العاشر، وحينها بنى الملك «غوستاف فازا» كنيسة ضخمة في أوبسالا، ونصب فوق تلة تبعد عنها مئات الأمتار مدفعاً عملاقاً وقال للكنيسة: ستبقون تحت أمري وسلطاني، وإذا خالفتم أمري فإن المدفع جاهز لدك الكنيسة وتسويتها بالتراب. حين أتى الإسلام تكاملت السلطتان الزمنية والمكانية في شخص النبي الكريم، وبالتالي يصعب القياس على تلك الفترة، ولكن بمجرد وفاته انقسم الأنصار والمهاجرون على السلطة، وطوال فترات الخلافة الإسلامية منذ الراشدة وحتى العثمانية كانت السلطة السياسية تتكئ وتعتمد على رجال الدين في تمرير سياساتها، وتبرير تجاوزات الحكام والولاة، وفي إخضاع العامة، وبالمثل كانت كل من السلطة وطبقة رجال الدين تمد إحداهما الأخرى بأسباب الحياة والبقاء والتمدد. وحتى في إطار الدين نفسه، فقد نشأت الفرق والمذاهب والطوائف، وتصارعت فيما بينها، وكانت كل فئة تستخدم فقهاءها وخطابها الديني وفتاواها وتأويلها الخاص للآيات القرآنية والنص الديني كقوة إعلامية وحجة دينية في مواجهة خصومها، وكان هذا أيضاً مسوغاً لنشوء التيارات والأحزاب الإسلامية التي حددت هدفها بوضوح «الوصول إلى السلطة وسدة الحكم»، أو تقاسم السلطة مع الدولة في حالات معينة. قد يعترض البعض على هذا الطرح، بذريعة أنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، ولا يوجد «رجال دين».. لكن هذا غير دقيق، فقد كان في كل مراحل التاريخ وحتى الآن أشخاص متفرغون لقضايا الدين، لديهم زيهم الخاص والمميز، وقد تلقوا علومهم من المعاهد والكليات الدينية، ويتقاضون أجرهم مقابل ذلك.. وحتى لو تجاوزنا هذه الشكليات، فإن العقل الإسلاموي يقر ويصرح بأن لا يجوز الفتوى والتحدث باسم الدين أو عنه إلا من قبل هؤلاء. سواء من يتبعون المؤسسات الرسمية، أو يتبعون أحزاباً إسلامية، أو يمثلون طائفة ما، أو حتى متطوعون؛ وهذا بحد ذاته كهنوت من ناحية فعلية. في واقع الأمر كل الأنظمة العربية تحالفت مع رجال الدين، ووظفت الخطاب الديني لأغراضها السياسية، وفي المقابل استفاد هؤلاء من وجودهم في كنف السلطة، وفي حالات أخرى عديدة قد يتحارب طرف إسلامي مع آخر أو مع السلطة ضمن صراع سياسي أو على السلطة، أو للهيمنة على المجتمع، مستخدماً الخطاب الديني لأدلجة وتسويغ وتسويق نفسه أمام الجماهير. في الحالات التي يعترض فيها أي حزب إسلامي على السلطة الحاكمة فإنه بداية يخوض حرباً إعلامية على رجال الدين المحيطين بالسلطة، ويتهمهم بأنهم وعاظ السلاطين. وأيضاً في الحالات التي ينتقد فيها رجل الدين أي حزب إسلامي، أو لا يمشي على هواهم، فتهمته جاهزة: «وعاظ السلاطين»، مع إنه يستخدم الخطاب الديني، وأدواته ومرجعياته الفقهية. وفي المقابل، إذا شكّلت أي جماعة دينية تهديداً للسلطة، أو أضرت بمصالحها فإنها ستحاربها بلا هوادة، وستستخدم رجال الدين لتلك المهمة، وستكون التهم جاهزة: «فئة ضالة»، «جماعة مارقة»، «خارجون عن الدين». انظر مثلاً كيف استخدمت السعودية «هيئة الأمر بالمعروف»، وانظر تقلبات معظم المشايخ هناك.. وانظر أيضا الخلافات الحادة حول شخصيات دينية مثل سيد قطب، الذهبي، القرضاوي، البوطي، العريفي.. وعشرات المشايخ المقربين من السلطات ونظرائهم من منظري الأحزاب والمعارضة، وربما آخر خلاف ظهر كان حول تصريحات الشيخ عثمان الخميس.

الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ
الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ

فلسطين أون لاين

timeمنذ 4 أيام

  • فلسطين أون لاين

الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ

المهدي مبروك تعدّدت، في الأسابيع القليلة الفارطة في بلدان غربية مختلفة، الأصوات المندّدة بما يجري في غزّة من حرب إبادة تطاول الأطفال والنساء والشيوخ، وتنسف مقوّمات الحياة بمعناها البيولوجي الصرف. يجري ذلك في برلمانات ومجالس شيوخ، وكذلك في مؤسّسات اقتصادية وشركات كبرى (بنوك وشركات تصنيع السلاح...) متهمة بتمويل الكيان الإسرائيلي، أو دعمه على الأقلّ. رأينا برلمانيين وإعلاميّين وجامعيين يحتجّون على رؤساء حكوماتهم لتواطئهم وجبنهم ولامبالاتهم. تقدّم فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة نماذجَ من هذه الموجات المتتالية، تساندها بين حين وآخر (وبأشكال متفاوتة) مظاهرات شعبية، يقودها سياسيون في جلّهم من اليسار، بالمعنى الثقافي والإنساني الواسع، وطلاب الجامعات والفنّانين. وذهبت بلدان أخرى إلى ما هو أبعد، حين عبّرت بصريح العبارة عن أن ما يجري في فلسطين حقيقةً حرب إبادة، فأصدر قادة سبع بلدان أوروبية: إسبانيا ولوكسمبورغ والنرويج وأيسلندا وأيرلندا ومالطا وسلوفينيا، بياناً صارماً أعربوا فيه عن رفضهم المطلق سياسة الصمت الدولي تجاه ما يجري، واعتبار ذلك كارثةً إنسانيةً تحتاج إلى إدانة، مطالبين برفع الحصار الفوري وكفّ اعتداءات المستوطنين على الضفة الغربية، في حين اتّخذت بلدان أخرى قراراتٍ ديبلوماسيةً جريئةً: قطع العلاقات أو التهديد به أو استدعاء السفير... إلخ. يجري ذلك كلّه تزامناً مع حدثَين بالغَي الأهمية. الأول، زيارة ترامب إلى المنطقة وسط احتفاء غير مسبوق به، والحال أنه شريك في كلّ ما يجري لغزّة، ولا يزال يصرّ على رؤيته المارقة لها، أرضاً صالحةً لـ"البناء"، واحتضان المنتجعات الفخمة، حتى لو على جثث أبنائها، ملح التراب وعشبها الذي لا ينقطع. الحدث الثاني، انعقاد قمّة عربية باهتة تعمّق الشروخ العميقة بين البلدان العربية. ردّات الفعل الغربية المشار إليها، من صنع نُخب الحكم أو المعارضة، دالّة بشكل عميق، ويمكن أن يكون لها بالغ الأثر مستقبلاً لو أفلحنا في قراءة هذه المواقف ورسملتها، فهي تبرهن مرّة أخرى أن الغرب ليس "دار حرب أزلية"، بل مجتمعات وأنظمة تتنازعها اختلافات عديدة عادة، تعبّر عن مواقف ومواقع وعقائد ومصالح يعتريها، بين حين وآخر، تحوّلات وتبدّلات، وأنه رغم انحسار دوائر الحرّية تحت ضغط اللوبيات الصهيومسيحية وجماعات النفوذ المالي والإعلامي في سياق الرهاب من الإسلام والمسلمين، ما زال هذا الغرب يتيح لمواطنيه ومثقّفيه الأحرار التعبير الحرّ عن مواقفهم، وأن هذا الضمير الحيّ لم يمت، بل إنه يستعيد رهافة حسّه وعدله وإنصافه تدريجياً. تحرص إسرائيل أن تظلّ "الجماعة" الوحيدة التي تحتكر صفة الضحية، وأنها الوحيدة أيضاً التي تعرّضت لإبادة خلال التاريخ المعاصر، وأن غيرها لا يستحقّ أن يكون محلّ تعاطف إنساني مهما نُكّل به. فما يزعج إسرائيل هو أن ينافسها على هذه "المنزلة" "طرف ثانٍ، لأنها بذلك تفقد رأسمالها الذي لا يخلو من أسطرة، والذي استثمرته (ولا تزال) في ترسيخ القبول بكل تجاوزاتها الراهنة. إنها الابن المدلّل الذي يُسمَح له بارتكاب الممنوعات كلّها، تعويضاً عن "الحرمان" و"الأذى" اللذين لحقا به. لذلك، تُخرس الجميع، وتلجمهم، لأن الغرب لم يتحرّر بشكل نقدي وعقلاني من خطيئة الإبادة، هذا ما تقوله جلّ الانتفاضات الجارية حالياً، وإنْ بشكل متلعثم ومربك، من فرط مشاعر الخطيئة تلك. غير أن هذا الأمر يحتاج منّا (نحن العرب) أن نلتقط صحوة هذا الضمير الإنساني وتعظيمه، خصوصاً أننا لم نشهد ما يضاهيه في ما يجرى بيننا من نقد لاذع تحت قباب البرلمان، أو في حرم جامعاتنا، لأن أنظمتنا، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره الأنظمة، وتعبّر عنه وفق إرادتها. هذه المواقف الغربية تظلّ قابلةً لأن تذهب بعيداً، فوراءها قيادات ومنظّمات وهيئات سياسية وحركات اجتماعية. ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى محدودية انتفاضات الضمير هذه، وقصورها الراهن عن صناعة وعي ورأي عامّين، وسياسات واضحة المعالم في هذه البلدان، وذلك لعدّة اعتبارات، لعلّ أكثرها أهمية أننا (عرباً) عجزنا عن "تسويق عدالة قضيتنا ونبلها". لقد أضرّ الإرهاب، وكل أشكال التطرّف الديني، ومزاعم "أسلمة" القضية الفلسطينية، بالقضية ذاتها، التي انحدرت أحياناً إلى قضية طائفية أو عرقية خالية تماماً من كلّ نفَس إنساني عميق. لقد عجزت النُّخب الفلسطينية عن الارتقاء بقضيتهم إلى مرتبة كونية إنسانية، تغدو فيها مشتركاً إنسانياً على قواعد كونية، بعد أن كانت القضية الفلسطينية في ستينيّات القرن الفارط تجلب تعاطفاً وانخراطاً. يقول الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون حرفياً: "إن الجرائم المخطّط لها من الغرب، والمسموح بارتكابها في غزّة، هي تواطؤ منه، وما يجري فيها غدا قوّةً إجراميةً يرتكبها الغرب ذاته". المصدر / العربي الجديد

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store