
التركية الرقمية: تراث الشعر العثماني في عصر التكنولوجيا الحديثة
تخيل أنك تتجول في قلب إسطنبول في القرن السادس عشر، حيث تتسلل روائح القهوة المحمصة من آنية نحاسية مزخرفة بفنون الطبخ العثماني، بينما تبهرك قباب المساجد المزينة بخطوط ذهبية، وتتردد أصداء مطرقة تشكل المنمنمات الدقيقة على مخطوطة تضيء ركنًا من سوق مزدحم.
في تلك اللحظة، كان الوقف العثماني ينسج لوحةً حية من المعمار الشامخ والفنون المتعددة -من المدارس التي تعلم الخط إلى السبل التي تروي العطشى- في إمبراطورية تمتد كأجنحة نسر من فيينا إلى بغداد.. لم يكن أولئك الحرفيون والواقفون يعلمون أن هذا الإبداع الثقافي، المزروع في تربة الأصالة والثقافة المحلية، سيحلق يومًا عبر شبكات رقمية، يعيد إحياء التراث في عصر تضيء فيه الشاشات دروب الإلهام.
بعد رحلة عبر السلسلة، استكشفت الهوية والقيم والتراث كجسور ثقافية، نصل إلى محطتنا الأخيرة: كيف تحيي الثقافة العثمانية أصالتها بأدوات التكنولوجيا الحديثة؟ هنا يتجلى السؤال: كيف تصبح هذه الفنون نقطة إلهام تحرر الثقافة المحلية نحو العالمية؟
ملحمة "كتاب دده قورقود" -وهي من أوائل الأعمال الأدبية في التراث التركي الذي تبناه العثمانيون- تروي قصص أبطال يقاتلون التنانين والأعداء، كقول دده قورقود: "السيف في يد الرجل كالروح في جسده"
حكاية تاريخية: الشعر كمرآة للإمبراطورية
الجماليات العثمانية كانت مزيجًا فريدًا يجمع بين التصوف العميق، وروح المحارب الباسل، وثقافة الوقف الإسلامي، وهي ثلاثية شكلت هوية الإمبراطورية متعددة الأوجه.
في جانب التصوف، كان الشعر مرآةً للروح، متأثرًا بالطرق الصوفية مثل المولوية والنقشبندية. يونس إمري كتب: "أنا لست أنا، أنا الحقيقة التي تسكنني"، معبرًا عن فناء الذات في الحب الإلهي، بينما جسد رمز "العين والدمعة" عند باقي رحلة العاشق الصوفي نحو الوحدة الكونية، حيث العين هي الحبيب الإلهي والدمعة هي دموع التوق.. فضولي -حتى في غزلياته- كان يخفي معاني تصوفية، كأن الحبيب الأرضي ظل للجمال الأعلى.
وفي جانب المحارب، كان الشعر العثماني يرن بصدى السيوف والفتوحات، معبرًا عن ثقافة قتالية شكلت جوهر الإمبراطورية. ملحمة "كتاب دده قورقود" -وهي من أوائل الأعمال الأدبية في التراث التركي الذي تبناه العثمانيون- تروي قصص أبطال يقاتلون التنانين والأعداء، كقول دده قورقود: "السيف في يد الرجل كالروح في جسده". و"ملحمة كوروغلو" تمجد المحارب الثائر، الذي يرفع راية العدالة ضد الظلم، بأبيات تتغنى بالشجاعة والتضحية. حتى في قصائد الديوان، كان الشعراء يُدخلون رموز الحرب، كالسيف والحصان، ليمتزج القتال بالروحانية، كما في قول نفي: "قلبي ميدان، والحب سيف يقطعني".
أما الوقف الإسلامي، فكان سمةً ثقافية مميزة للعثمانيين، حيث دعم الأوقاف للمدارس، والمستشفيات، ومجالس الشعر، كما في وقف "والدة عتيق" بإسكودار الذي شمل تدريس الأدب والفنون. هذه الثقافة العطائية لم تتلاش، بل تتجلى في الفضاء الرقمي كجزء من الذاكرة الثقافية. منصة "وقفي" السعودية، المستلهمة من التراث الإسلامي الذي ازدهر في العصر العثماني، تشجع على إنشاء أوقاف رقمية لدعم التعليم والمجتمع، معيدةً إحياء فكرة الوقف التي كانت تغذي المدارس والفنون في إسطنبول القديمة. بينما يعيد مشروع "مكتبة السليمانية الإلكترونية" تقديم وثائق الأوقاف مع شروحات تفاعلية، كأن روح الوقف تعود لتحيي المعرفة كما فعلت في مجالس السلاطين. حتى على منصة X، تعاد مشاركة قصص أوقاف مثل "وقف المكفوفين" -الذي كان يعيّن قارئًا لكل ضرير-، كتعبير عن التكافل الذي يتردد صداه في الشبكات الاجتماعية.
تحليل عميق: الجماليات والرمزية في زمن الشبكات
الجماليات العثمانية، التي نُسجت قديمًا من خيوط التصوف وخفقات المحارب، تتجلى اليوم في الفضاء الرقمي كمرآة تعكس تنوع الإمبراطورية بألوان جديدة. في عالم الشبكات، تتحول الروحانية الصوفية إلى تجارب بصرية وسمعية تحاكي الرقصات الدائرية للدراويش، حيث تصبح الأبيات أكثر من مجرد كلمات مكتوبة، تصبح لحنًا يتردد في مقاطع فيديو تعيد تشكيل التأمل بإيقاعات معاصرة.
على الجانب الآخر، تحيي روح المحارب الباسل عبر عوالم افتراضية، تعيد إحياء المعارك بتقنيات ثلاثية الأبعاد، حيث تتحول السيوف إلى أيقونات رقمية تلهم الجماهير لتعيد كتابة البطولة بلغة التفاعل السريع. هذا التكامل يتجسد في منصات تحول النصوص إلى "شعر بصري" يمزج بالصور المتحركة، أو صفحات اجتماعية تطلق هتافات رقمية تعيد إحياء رموز الشجاعة كالخيول الجامحة.
لكن التحدي يظل قائمًا: كيف تحافظ الروحانية على عمقها في زمن يطالب بالتأمل بينما تتسارع الخوارزميات؟ وكيف تبقي البطولة على حماسها دون أن تتحول إلى مجرد لعبة عابرة؟ في هذا التوتر بين التأمل والسرعة، تكمن فرصة الثقافة العثمانية لتعيد صياغة جمالياتها، مثبتةً أن الرمزية يمكن أن تتكيف دون أن تفقد جذورها.
دراسة حالة: "Osmanlı Tarihi".. البطولة العثمانية في الفضاء الرقمي
في أوائل عام 2023، أطلقت لعبة "Osmanlı Tarihi" كسيف رقمي يقطع ظلام النسيان، معيدًا إحياء الملاحم العثمانية في عالم يعج بالشاشات. لم تكن مجرد لعبة إلكترونية، بل تجربة تفاعلية استلهمت "كوروغلو" و"دده قورقود" لتعيد بناء المعارك التاريخية بتقنيات ثلاثية الأبعاد، تحاكي أصوات السيوف وضربات الخيول على أرض الأناضول.
بحلول نهاية العام، سجلت اللعبة أكثر من 2 مليون تحميل عبر منصات مثل Steam وGoogle Play، وفق تقارير المطورين، حيث اجتذبت 65% من اللاعبين من تركيا و15% من جمهور عالمي مفتون بالتاريخ العثماني، بينما شكل الشباب تحت 30 عامًا 70% من قاعدتها. اللعبة، التي صممت بميزانية تجاوزت 3 ملايين دولار، حققت تفاعلاً هائلاً على X، حيث بلغت مشاركات #OsmanlıTarihi نحو 300 ألف تغريدة خلال الأشهر الستة الأولى، مع تعليقات مثل "أشعر بأنني كوروغلو يقاتل من جديد".
لكن التحدي ظهر جليًّا: دراسة حديثة من جامعة بوغازيتشي (2024) كشفت أن 70% من اللاعبين يفضلون التجربة الرقمية دون العودة إلى النصوص الشعرية الأصلية التي ألهمت اللعبة، ما يظهر كيف تحلق البطولة العثمانية في الفضاء الرقمي، لكنها تواجه مخاطر فقدان العمق الأدبي. "Osmanlı Tarihi" دليل على أن الثقافة المحلية، عندما تُحتضَن بالتكنولوجيا، تصبح بوابةً للتواصل العالمي.
أفكار عملية مبدعة: إحياء الشعر العثماني رقميًّا
تخيل أنك تجلس على ضفاف البوسفور الرقمي، تفتح تطبيق "ديوان العصر" الذي يهمس لك بأبيات تترنح على إيقاعات باقي وفضولي، يقترحها ذكاء اصطناعي يعرف أنفاسك الشعرية، ثم يدعوك لتطلقها كمقاطع صوتية تعانق الأثير، أو صور متلألئة تضيء الشاشات. بعدها، تبحر إلى ميتافيرس البوسفور الشعري، عالم يعيد خلق إسطنبول العثمانية بأزقتها وقصورها، تجلس في مجلس شعري مع نفي تحييه تقنية الذكاء الاصطناعي، وتمتلك أبياتًا نادرة كتحف رقمية عبر NFTs تحمل عبق الماضي. ثم تغامر في لعبة "ملحمة الشعر"، تجوب الأناضول لتجمع أبيات "كوروغلو" المتناثرة كنجوم في سماء رقمية، بتعاون مع متحف طوبكابي الذي يفتح أبوابه لمخطوطات تضيء الرحلة.
وفي لحظة حالمة، تطلق منصة "الأبيات الحية" عروضًا بتقنية الواقع المعزز، فترى كلمات يونس إمري تتراقص كأمواج البوسفور فوق شاشتك. تتخيل بعدها هاكاثونًا يجمع مبرمجين وشعراء يتنافسون لابتكار تطبيق يحول النصوص العثمانية إلى تركية حديثة، محافظًا على إيقاعاتها كأنفاس تتردد عبر الزمن، ثم تطلق دراسة تحلل تغريدات #الشعر_العثماني لتكشف الرموز التي تحرك القلوب – العشق، الحرية – كمرآة لتحولاتنا.
من استكشاف هوياتنا الرقمية في بداية السلسلة، مرورًا بالعواطف والقيم الدينية كجسور للتضامن، إلى التراث الشعري والبطولي الذي يحلق عبر التكنولوجيا، اختزلت هذه الرحلة هدفًا واحدًا: الثقافة المحلية، عندما تحتضن بأدوات العصر، تتحرر من أنماطها لتصبح صوتًا عالميًّا، نقطة إلهام تزهر من جذورها الأصيلة.
كما رأينا في "الدين الرقمي" قيمًا تتجاوز الحواجز، وفي "شرق آسيا" تراثًا يعانق الحداثة، وفي "الفارسية الرقمية" شعرًا يحلق كفراشات، فإن "التركية الرقمية" تظهر أن التكنولوجيا حامل للأصالة لا نقيض لها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
عزف بالسيارات.. تركيا تطلق أول طريق موسيقي يجمع بين القيادة والأنغام
في تجربة غير مسبوقة على مستوى تركيا، افتتحت السلطات المحلية أول "طريق موسيقي" وسط البلاد، لتحول تجربة القيادة إلى مزيج فريد من الأمان والترفيه والموسيقى. وأعلن وزير النقل والبنية التحتية عبد القادر أورال أوغلو أن هذا الابتكار -المعروف بـ"الطريق اللحني"- تم تطبيقه لأول مرة على الطريق الحكومي الواصل بين ناليهان وبيبازاري في العاصمة أنقرة. وحول آلية عمل هذا الطريق، أوضح أورال أوغلو أن الفكرة تقوم على إنتاج نغمات موسيقية عندما تمر المركبات فوق علامات أو أخاديد خاصة محفورة في سطح الطريق، مما يولد أصواتا متناغمة تُسمع بوضوح عند القيادة بسرعة معينة. وأوضح الوزير أورال أوغلو أن التنفيذ تم الانتهاء منه في قرية إيمير على الكيلومتر 21 من طريق ناليهان- بيبازاري الحكومي، الذي يقع تحت مسؤولية المديرية الإقليمية الرابعة للطرق السريعة (أنقرة). شروط لنجاح "الطريق الموسيقي" أوضح أورال أوغلو أن الأخاديد أو العلامات على الطريق صُممت خصيصًا لإنتاج لحن موسيقي عند مرور المركبات بسرعة معينة، حيث تُوزع هذه الأخاديد بترددات مختلفة لتوليد ألحان متناغمة، وعند قيادة السيارة بسرعة ثابتة، تتشكل اهتزازات وأصوات تنتج عنها مقطوعة موسيقية يمكن سماعها بوضوح. ولتحقيق أفضل تجربة لهذا النوع من الطرق، يُفضل تنفيذ طبقة اللحن على مسارات تسير فيها المركبات بسرعة ثابتة تبلغ 100 كيلومتر في الساعة، بشرط أن يكون الطريق مستويا، وذا سطح ناعم وخالٍ من العيوب الهيكلية. كما يوصى بتطبيق هذه التقنية على الطرق ذات الكثافة المرورية المنخفضة، خصوصًا التي تشهد حركة محدودة للمركبات الثقيلة، وذلك لضمان الحفاظ على جودة الأخاديد ومنع تآكلها السريع، مما يساعد على بقاء اللحن واضحًا ومسموعًا لفترة أطول. ولاقت الفكرة ترحيبا واسعا من السكان والسياح على حد سواء، خاصة أنها تمثل توازنا ذكيا بين التوعية والمتعة، وتسهم في جعل الطريق أكثر أمانا وجاذبية. تأمل السلطات في تعميم الفكرة على ولايات أخرى، ودمج الثقافة والفن في المرافق العامة، بما يعزز وعي السائقين ويضيف لمسة حضارية إلى البنية التحتية للطرق في تركيا.


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
'ديانة الماء'.. صراع الخرافة والعلم على سواحل قرية عمانية
ظلت السينما العمانية وفيّة لتراثها وهويتها، ولم تتخل أو تنسلخ يوما عن هذه العناصر والمكونات المتجذرة في المجتمع، بل سعت دائما إلى ترسيخ كثير من المظاهر سينمائيا وتوثيقها، مسلطة الضوء على علاقة الإنسان العماني بالبحر والمعتقدات الشعبية المتوارثة. يتطلب هذا الاهتمام فهما عميقا لخصوصية هذه المجتمعات والمواضيع التي تهتم بها، فتناقشها فكريا، وتطرحها أدبيا وسينمائيا، وهنا يختلف تفاعل الجمهور العماني والخليجي معها، مقارنة بالجماهير العالمية، التي قد تجهل كثيرا من عادات المجتمع العماني وتقاليده الغنية. سعى المخرج العماني هيثم سليمان في تجربته السينمائية الجديدة، لتقديم صورة جديدة عن البدو، الذين يراهم أشد الناس ارتباطا بالطبيعة والأرض، مقارنة بسكان المدينة، بعيدا عن النظرة النمطية التي تظهرهم أناسا فاقدين للرغبة في تطوير الذات. في فيلم 'ديانة الماء'، يقدم لنا المخرج وكاتب القصة شخصيات استثنائية، منها عيسى، وهو شاب كفيف متبصر بحكمته وإيمانه، حافظ لكتاب الله، وصديقته زهرة الفتاة القوية التي لها منظور خاص للحياة، وتسعى لتجاوز التقاليد المجتمعية، وقد وُلد عيسى وزهرة في يوم واحد، ولكن القدر أخذ أحدهما وأبقى الآخر. تشكل هذه الشخصيات وأخرى جوهر فيلم 'ديانة الماء'، الذي تدور أحداثه في قرية ساحلية بسلطنة عمان، حيث يعيش عيسى الذي يراوده حلم إيجاد أبيه، وتتملكه رغبة قوية في البحث عنه في عرض البحر، لكن والدته تعترض على هذه الفكرة، مع أن كثيرا من الناس يشجعونه عليها، وقليل منهم يقنعه بعدم جدواها من الأساس. ثنائية البحر والثقافة الشعبية الملهمة مع أن الفيلم يدعم ويعزز فكرة الإيمان بالحلم لبلوغه، فإنه يكشف أيضا عن مدى تأثير الماء في الثقافة العمانية، فالبحر عادة ما يجمع بين الهدوء والاسترزاق، ولكنه يظهر بغموضه وقوته في 'ديانة الماء'، من خلال الحكايات المتداولة، ويحتفظ بأسراره لنفسه، مثلما يحتفظ بالأجساد التي يلتهمها في أوج هيجانه. في مشهد الفيلم الافتتاحي، يعمد المخرج إلى إثارة التشويق، وجعل الجمهور يتأمل وينتظر ثواني، ويضعهم في تواصل مباشر مع البطل، الذي يظهر أنه كفيف بمجرد تغير وضعية الكاميرا، مع أنه ظهر في بداية المشهد مفتوح العيون كأنها تبصر. إنها لقطة يراد منها شد انتباه الجمهور، وإشراكه في تفاصيل القصة منذ بدايتها، ثم يظهر لاحقا أن عيسى يرى العالم رؤية مختلفة تماما عن الآخرين، كما يُبرز تطابق لون بشرته مع الباب خلفه مدى ارتباطه العميق ببيئته وانتمائه إليها، وفي ذلك تماهٍ وتماسك مع الجذور والأصول. يتابع المخرج هيثم سليمان أحاديث الصيادين الجانبية، الذين تشغلهم قضية فتح القبور وإخراج من فيها، ويلمح في مشهد إلى تصادم القناعات والأجيال والرؤى، حين يصطدم عيسى بأحد الشيوخ الذين يقصدون الشاطئ. وبالمقابل يعرض المخرج فكرة التكامل بين الناس، من خلال شخصية عيسى، الذي يرى العالم بعيون زهرة المقعدة، وتسير هي بقدمي عيسى الذي تتوكأ عليه، فهي تجد فيه السند والدعم، وهو يستلهم منها الأمل والإرشاد. قرابين الجمارية.. ظلال المعتقدات الشعبية على حياة الناس تظهر زهرة وعيسى في مكان مرتفع، يريهما محيطهما بوضوح وعمق أكبر، ويسمو بأفكارهما، ثم تأتي اللحظة الحاسمة حين يقفز عيسى، وهي قفزة تعكس تحوله الداخلي، واستعداده لتحقيق الحلم الذي لطالما راوده سنين عددا. ففي 'ديانة الماء' تتداخل قصص كثيرة، لعل قصة الشاب عيسى كانت أبرزها، وما حركه نحو حلمه أكثر، وعزز فيه رحلة البحث هذه، هو رحيل زهرة التي نذرت روحها للجمارية. تُنسب إلى الجمارية أشياء كثيرة يصعب على البعض تفسيرها، وهي معتقد شعبي منتشر في بعض المناطق العمانية، ويظن الناس أنها كائنات أو قوى ذات تأثير قوي على حياة الناس ومصيرهم، فيقدمون لها نذورا أو تضحيات لضمان حمايتهم وسلامتهم، ومن يمتنع عن ذلك يواجه انعكاسات سلبية، قد تنهي حياته. موقف أو واقع لم ينتصر له المخرج ولم ينفِه، لأنه موجود في عمان ومتداول في مجتمعات أخرى، وعودة السينما العمانية لطرق مواضيع متعلقة بهذه الخرافات، يدعونا للتساؤل عن مدى اعتقادهم بهذه الطقوس اليوم وتقديسهم لها، فهل ما زالوا يؤمنون بها كما كانوا، أم أن الأمر أصبح متفاوتا بسبب التحولات الاجتماعية والدينية والعلمية؟ مع هذا نرى في فيلم 'ديانة الماء' تجسيدا لهذه الطقوس التي يؤديها أتباع الجمارية، سواء كانوا رجالا أو نساء، فهم يلبسون أزياء تقليدية، تتراوح ألوانها بين الأحمر والأبيض للرجال، والأسود للنساء، وينثرون التراب أو الرمال على شاطئ البحر، وهو فعل يرمز للتبرك وتعزيز التواصل الروحي، وربما أيضا لنيل الرضا من القوى التي يؤمنون بها، سواء سكنت البحار أو الصحاري. هذا المعتقد المتجذر في الثقافة العمانية يحضر بقوة في الأحداث والمراحل التي يمر بها العمل، فحتى زهرة أيقنت بأن الموت قد أدركها، بعدما قُدمت قربانا للجمارية في أحد الأيام. لقاء مع عجوز مريب يدّعي العلم بعد أن فقد زهرة، سار عيسى وحيدا في تلك القرية الساحلية، حتى التقى وجالس شيخا كبيرا، كان يعمل في أحد المستشفيات وفُصل منه، وقد اعترف له بأنه يكتم سرا منذ دخوله القرية، فهو ليس بصياد، لكنه يتردد باستمرار على الشاطئ حاملا دلوه الأحمر، ليغسل قطعة قماش بيضاء، محاولا تطهيرها من دمائها، التي تزيلها الأمواج تدريجيا. يدّعي هذا الشيخ العلم، ويتناول بعض المسائل الوجودية، ويُخضع الموت والحياة لأسئلة فلسفية، تتعارض مع إيمان عيسى العميق، فهذا الشيخ يؤمن أن جميع البشر يأتون من الماء، ويجب أن يعودوا إليه، بحجة أن المياه على كوكب الأرض تمثل 71%. أما عيسى فيؤمن أن الإنسان خُلق من تراب، وسيعود إليه مرة أخرى، مستشهدا بالآية الكريمة ﴿مِنْهَا خَلَقْنَٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾، وهنا يدرك العجوز أن بصيرة عيسى تتجاوز تلك المعتقدات، ولم يسلّم بها يوما، ولم تتغلب عليه بعد. جريمة تحت جنح الظلام تغضب الجمارية في أحد الأيام، يأخذ العجوز (حفار القبور) عيسى إلى أرض لم تحفظها أرجله، وكان قد اعتاد على السير بعيون زهرة، حتى حفظ كل الأماكن التي كانت تقوده إليها، وكان هذا المكان أشبه بمختبر أو غرفة تشريح، يدرس فيها ذلك الشيخ علاقة الجسد بالروح، محاولا إنقاذ الجثث من الأرض التي يزعم أنها تحرقها، ويبحث لها عن خلاص في البحر. يعترض عيسى على معتقد الشيخ، ويسأله عن الفرق بينه وبين الجمارية، ما دام يؤمن بهذه المسائل، فيرد الشيخ قائلا: هل تقارن العلم بالخرافات؟ لم يغير الجدل شيئا من قناعات الشيخ، ولم يحرك ضميره، بل نبش قبر زهرة في ظلمة الليل، ونقل جثتها إلى مختبره، ليخلصها من جحيم الأرض، ويعيدها صباحا إلى الماء. أثار ذلك غضب عيسى وأتباع الجمارية، الذين نذروا حياة زهرة ذات يوم، فقرروا قتله أو حرقه بعدما اكتشفوا فعلته، وأنه المسؤول عن سرقة الجثث من القبور، لكنه فرّ إلى البحر، الذي يراه ملاذا أخيرا للإنسان. تمسك بالأمل واحتمال اقتراب من الحقيقة يستعيد عيسى ذكرياته مع زهرة، ويقرر دخول البحر بحثا عن والده الذي اختفى منذ سنوات، فيركض بسرعة وإصرار على الشاطئ، حتى يصطدم بعمود خشبي وضعه أحد الصيادين ذات يوم. إنه حاجز آخر يعكس العقبات التي قد تعترض طريقه، لكنه لا يتراجع، بل يواصل السعي والتقدم نحو البحر الذي قد يأتيه باليقين ويعيد إليه الغائب، ثم يخرج من الماء وهو ينظر إلى يديه، في لحظة تأمل توهمنا بعودة بصره إليه، أو تعبير عن اكتشافه فهما جديدا لحلم راوده منذ سنين، حلم كانت تمنعه عنه والدته، وتشجعه عليه زهرة. يضيف المخرج هيثم سليمان في المشاهد الأخيرة جماليات فنية، ويزيد التشويق، حين يظهر صيادا على قاربه، يربط الحبل بإحكام ويزيد عقده، ويستخدم مشهدا علويا يظهر فيه البحر في حالة هدوء وقاربين متباعدين، ليقدم رؤية شاملة للمكان، ويشعرنا بالعزلة والتباعد بين الشخصيات والحقائق، بدل الاقتراب من الحقيقة، وهو ما يتوقعه أي مشاهد في نهاية الفيلم، ثم يخرج عيسى من عمق البحر، ويتشبث بالقارب بيديه. مشهد يدل على تمسك عيسى الشديد بالأمل، برغم عدم تحقيق الهدف، ويعزز رحلة السعي المستمر، ويفند الادعاءات الموحية بوجود قوى معينة ذات قدرة على المنع أو العطاء، وأن بيدها الخير والشر. ثم تأتي الكاميرا من الخلف لتظهر الصياد، ويأخذ وقتا كافيا للاستدارة، وهو ينظر بعيدا، محاولا معرفة ما يحدث في عرض البحر، مثل أي صياد يترقب ما قد يصادفه في غمرة المياه، وما يحيط به. إنها مشاهد ولحظات حاسمة في سرد القصة وتتبع نهايتها، فرحلة عيسى لم تأته بالجواب أو الحقيقة، وفيلم 'ديانة الماء' إنما جاء ليطرح بعض التساؤلات عن ما تعنيه المياه في نفوس البشر. حكاية 'أعمى الرويس' التي اختمرت أعواما أبان الفيلم تحكم الفريق الذي اختاره المخرج في الصورة، ويتقدمهم مدير التصوير محمد علي البلوشي، فقد بدا المخرج وطاقمه حريصين على إظهار الهوية العمانية في كل مشهد، سواء ما تعلق بالأزياء والأغاني، أو اللقطات الثابتة التي غلبت على معظم المشاهد، مع توظيف اللقطات العلوية التي كانت تعود كل مرة، لتروي الأحداث من منظور آخر. وتلك مكاسب تحسب للسينما العمانية، التي كانت تستعين بخبرات هندية وإيرانية لتنفيذ أفلامها، وحاجتها اليوم كبيرة لإنشاء معاهد وأكاديميات متخصصة. وعلى مستوى الصورة، جعل المخرج هيثم سليمان البيوت بسيطة ومتصدعة، كأنها أماكن لم تعد تتحمل مزيدا من الفقد، ولا تستوعب ذلك الكم الهائل من حكايات الماضي، وفي رصيدها قصص لم ترو بعد، ولم يتجاوزها الزمن، وقد تبعث من جديد. فجدرانها المهجورة الباردة توحي بحاحة ماسة إلى ترميم عميق أو إعادة تشييد، تماما مثل النفوس التي تسكنها، والتي تحتاج إلى الفرح والأمل والتعافي، بعد كل الحزن الذي سلب روح الحياة ومرحها منها. كما يلاحظ أن الأزياء العمانية والموسيقى التقليدية والأهازيج تكمل قصة الفيلم، والموضوع الذي يعكس مدى ارتباط الفرد العماني بالبحر والحكايات الشعبية، وبعض الخرافات والغيبيات أيضا. وقد قال هيثم سليمان مخرج الفيلم إن كل قرية في عمان لها حصتها من القصص الشعبية المتوارثة، وإن للحكومة مساعيَ ومحاولات جادة لتوثيق هذا التراث المحكي، ولم يستبعد فكرة إعداد ملف خاص لمنظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو)، لتصنيفه تراثا إنسانيا غير مادي. وقد دفعت بعض الهواجس والتساؤلات الشخصية هيثم سليمان إلى كتابة الفيلم القصير 'أعمى الرويس' عام 2015، وقدم نصه لإحدى المسابقات الوطنية، فتُوج بالجائزة الأولى، واستغرق تحويل القصة إلى سيناريو ثلاث سنوات كاملة. وبعد كتابة السيناريو والحوار وتطويره، أصبح فيلم 'ديانة الماء' جاهزا للعرض في عام 2023، ونفذ بدعم من صندوق الإنتاج التابع للجمعية العمانية للسينما والمسرح، وحظي بجوائز مهمة، منها جائزة أحسن سيناريو بمهرجان السعيدية بالمغرب. وقد خرج من مهرجان مسقط السينمائي الدولي في دورته الـ11 بثلاث جوائز؛ جائزة أحسن فيلم، وجائزتي أفضل ممثل وممثلة، لبطليه حمزة الهاشمي ودليلة الدرعية، كما نال جائزة لجنة التحكيم بالمهرجان السينمائي للجامعة الأمريكية بالكويت. نهضة السينما.. تراكم يؤسس غد الصناعة الفنية لطالما كان للشعر والأدب مكانة راسخة بين العمانيين، وانفتاحهم على السينما والمسرح والفنون الأدائية الحديثة بات لافتا في السنوات الماضية، كما أن تأسيس مهرجان مسقط السينمائي الدولي الذي استقطب أسماء وأفلاما مهمة، دفع سينمائيي عمان للتفكير في دعم صناع الأفلام المحليين، وإنجاز أفلام تعكس أفكارهم. ومن هنا ولد مهرجان مسقط للأفلام الوثائقية والقصيرة، الذي مهد الطريق لإنتاج أفلام عمانية، بدعم من الجمعية العمانية للسينما، ثم عُممت الفكرة على مؤسسات أخرى، بدأت تتبنى أفكار الشباب العماني في شكل مهرجانات وورشات ومسابقات وإنتاجات أيضا. وبدأت المهرجانات تتبع بعضها، فمنها مهرجان السينما والصحراء، ومهرجان الظاهرة للأفلام الوثائقية، ومهرجان المرأة والطفل، فعاليات يعمل السينمائيون على استمرارها وخلق جمهور دائم لها، جمهور لا يراد لثقافته السينمائية أن تنقضي بمجرد انقضاء عمر هذه المهرجانات وأخرى. بناء على جسور التميز وحصد الجوائز يقر كثير من السينمائيين بدور الجمعية العمانية للسينما، التي أخذت زمام المبادرة منذ تأسيسها سنة 2002، ووفرت بيئة ملهمة ومساندة لصناع الأفلام، فلم تكتفِ بالدعم والإنتاج ورعاية المسابقات فحسب، بل حرصت على تنظيم قوافل سينمائية وملتقيات خارج العاصمة مسقط، وعملت على تحسين تقبل الجمهور العماني للسينما، بما يتماشى مع الطبيعة المحافظة للمجتمع، الذي لا يتجاوز تعداد سكانه 6 ملايين نسمة. هذا ويتطلع السينمائيون إلى مزيد من المكاسب بعد كل ما تحقق لهم، والأشواط المهمة التي قطعوها، وتطوير القطاع يعني التحول من الاستهلاك إلى استثمار متكامل، تدعمه مؤسسات الدولة، ويسنده الجمهور. كما أن تميز الأفلام العمانية وتتويجها في مهرجانات مهمة زاد انتشارها إقليميا ودوليا، وقد أتاحت هذه الإنجازات للجماهير تعميق فهم ثقافة المجتمع العماني وتقاليده، مما شكل دعما قويا لصناع السينما من الأجيال كافة، الشباب والمؤسسين، أمثال الدكتور خالد الزدجالي، وهو رائد السينما العمانية، وصانع أول فيلم سينمائي طويل في تاريخها، ألا وهو فيلم 'البوم' (2006). جدير بالذكر أن د. خالد الزدجالي تخرج من معهد السينما بالقاهرة عام 1989، وبدأ مسيرته الفنية ممثلا، ثم حول تركيزه إلى الإخراج التلفزيوني والسينمائي، وله بصمات واضحة في تنظيم كثير من المهرجانات السينمائية والمبادرات المبدعة.


الجزيرة
منذ 6 أيام
- الجزيرة
عند بوابة الخلود
يعدّ فيلم "عند بوابة الخلود" للمخرج "جوليان شنابل" الذي يحكي سيرة الفنان العالميّ "فينسنت كوخ" من أروع ما يمكن مشاهدته!. تكمن روعته في بصمات المخرج الواضحة، والذي جزمت أنّه هو نفسه مؤلّف الفيلم، حتى قبل أن أتأكّد من ذلك عن طريق محرّك البحث، وهو ما كان فعلًا. تتبدى لمسات المخرج، ووضوح تشرّبه لفنّ وسيكولوجيا "فان كوخ" ودوافعه النفسيّة على السواء، من خلال كادرات الفيلم، وحركة الممثلين، وزوايا الضوء المبهرة المستخدمة في التصوير؛ كما يتبدى علمه الدقيق بخفايا لوحاته وضربات فرشته، ولا سيما هوسه باللونين: الأزرق والأصفر، وظلال الشمس والخطوط والمساحات المفتوحة. مأخذي الوحيد على الفيلم هو عمر الممثل "وليام دافو"، الذي جسد شخصية الفنان، حيث بدا كبيرًا.. "فان كوخ" مات في ريعان شبابه، في السابعة والثلاثين من عمره، قبل أن يحصد أدنى أثر مادي أو معنوي معقول جراء عبقريته الاستثنائيّة. هذا الفيلم؛ لا يقلّ فرادة ولا عبقرية عن الفيلم البريطاني البولندي "فينسنت المحب"، للمخرجين: "دوروتا كوبيلا"، وهيوويلشمان"، الذي يعد هو الآخر تحفة فنية سينمائية لا تقل إبداعًا عن لوحات "كوخ" ذاته، كما يعد أول فيلم يصور بتقنية اللوحات التشكيلية، وبنفس طريقة رسوماته وأدواته وآلياته، ما يتطلب عمل أكثر من مئة وخمسين فنانًا لمدة خمس سنوات كاملة، من أجل استكمال المشاهد السينمائية في المزج ما بين الفنَّين: التشكيلي والسينمائي، ما يعكس أيضًا فرادة طاقم العمل والمخرج، وتمكّنه من أدواته الفنية والثقافية على السواء، وهو أمر يدعو لرثاء حال الواقع السينمائي العربي المتكلّس، والفقير إلى كوادر على ذات المستوى. ثنائية الجنون والعبقرية في فيلم "عند بوابة الخلود"، يطرح المخرج والمؤلف في تضاعيف الفيلم ثنائية الجنون والعبقرية، المتماسة في أحيان كثيرة مع البؤس المادي، المصير الذي وقع فيه غالبًا منتسبو ورواد الفن التشكيلي، بينما نجا منه فنانون آخرون، مثل "سلفادور دالي" "وبابلو بيكاسو" اللذين شهدا نجاحهما – سواء المادي أو المعنوي- في حياتيهما. ومهما قلنا عن زهد الفنان والمبدع في آثارهما فذلك يخالف الحقيقة، فالتحقق المادي والمعنوي مهم ولا شك؛ فجزء من تأكيد نجاح الفرد يتحقق عبر كينونته في محيطه الاجتماعي، وكل توتر في فضاء هذه العلاقة يؤدي إلى خلل نفسي، سواء أكان شديدًا أم يسيرًا. في مثل هذه الحالات يتمترس المبدع حول خيار هجاء المجتمع، ناعتًا إياه بقيم التخلف واللافهم والرجعية، أو الانسحاب واللامبالاة وعدم العبء بالأنساق الاجتماعية السائدة. لذلك؛ فإن من أقسى مشاهد الفيلم المرتبطة بهذا السياق مشهدَ رجل الدين الذي أتى إليه في مصحّه النفسي لتقييم حالته، وبدلًا من تقييمه لحالته النفسية قيّمه فنيًّا! في هدر مزر لقيمته كفنان، أمسك بلوحة "الغربان في حقل القمح" في مواجهته: "هذا ليس رسمًا يا بني، أنت متوهم"! وتلك هي اللوحة الموجودة الآن في متحف "فان كوخ" بأمستردام، والتي يقدر سعرها حاليًا بعشرات الملايين من الدولارات. ربما كان القصد الذي أراده المخرج من هذا المشهد هو إظهار الثأر المبطن للمؤسسات الدينية، التي انتسب إليها "فينسنت" لفترة طويلة، حيث كان يعد نفسه لكي يصبح واعظًا منخرطًا ضمن المشهد الأكليركي، وذلك قبل أن ينقلب على هذه المؤسسات انقلابًا حادًا وهو في السابعة والعشرين من عمره، ويتّجه إلى دراسة وممارسة الفن، أي إن هذه العظمة والغزارة الفنية عمرها فقط عشر سنوات، ما يعد معجزة فنية حقيقية. لهذا، يرجح البعض من المحللين النفسيين أن مرد أزماته هو هذا الهدر لقيمته كفنان، سواء مجتمعيًا -وهذا الذي بلغ بسكان إحدى القرى النائية التي نزل بها في فرنسا أن وُقِّعت عريضة جماعية تطالب السلطات باعتقاله صحيًا- أو فنيًا؛ فالدوائر الفنية المهمة في باريس لم تنتبه للوحاته أول الأمر، رغم اندراجه فنيًا كانطباعي، بينما كان أخوه "ثيو" -الذي كان له دور مهم جدًا في حياته- هو من يدعمه فنيًا وماليًا، ومع ذلك فشل في تسويق لوحاته (في حياته، بيعت لوحة واحدة فقط من لوحاته التي بلغ عددها ألفًا وخمسمئة). ليلة النجوم تكشف الرسائل المتبادلة بينه وبين أخيه -والتي نشرت فيما بعد- جانبًا من هذا الصراع؛ كما توضح أن علاقاته الاجتماعية لم تتعدّ أخاه وأسرته، وتكشف أيضًا فشله في إقامة أي علاقة اجتماعية ناجحة خارج هذا الإطار، سواء عاطفية أو حتى صداقة حقيقية من الوسط التشكيلي. أما علاقته ببول جوجان، فلم تكن سوى صداقة مدفوعة الأجر من قِبل أخيه، توّجها بقطع جزء من أذنه حزنًا لرحيل "جوجان" لعدم تأقلمه مع طباعه، ورغم عدم انقطاع الرسائل بينهما فإنهما لم يلتقيا أبدًا بعد ذلك. هذا الفشل الاجتماعي فاقم من حدة الأزمة الضاغطة على وعيه، وعلى اللاوعي لديه؛ فجابه هذه الحالة من التنكر باللامبالاة العميقة، والنقمة على محيطه، لكن بطريقته الخاصة.. العمل الدائم بلا كلل ولا ملل ودون انتظار أثر، على عكس كثير من المبدعين؛ لذا بلغت لوحاته وإسكتشاته في السنوات الخمس الأخيرة من عمره ثمانمئة لوحة، وهو رقم هائل يدل على مدى جديته وتفانيه. من بين اللوحات الأخيرة لوحةُ "ليلة النجوم"؛ وهي الأعلى سعرًا بين لوحاته، والمستقرة الآن بمتحف الفنون الحديثة بنيويورك، والتي تجلت فيها عظمة ضربات فرشته، واستخدامه للأزرق والأبيض والأصفر المتداخل، رغم أنها رُسمت بشكل تام نهارًا؛ إذ أنجزها في محطته الأخيرة داخل المصحة النفسية بفرنسا، حيث لم يكن مسموحًا له بالخروج ليلًا. وقد أثارت هذه اللوحة سيلًا من التأويلات، لعل أكثرها غرابة هو أنها إسكتش كامل لمجرة الزوبعة، أو لنجم "وحيد القرن" المكتشف في العام ألفين وأربعة. موت كوخ بعد إبداعه لها بأشهر قليلة، وفي الثامن والعشرين من يوليو/ تموز عام 1890، أطلق الرصاص على صدره، ولم يمت من فوره، إذ مات في اليوم التالي رفقة أخيه، وهما اللذان لم يفترقا أبدًا، فقد مات "ثيو" بعده بستة أشهر فقط، متأثرًا بمرض الزهري. ولا يزال قبر كوخ موجودًا بباريس، تنبت عليه الأعشاب التي طالما أحبها في حياته. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.