logo
ذوو الشهيدين "العريس والمغترب" يروون تفاصيل جريمة المزرعة الشرقية بالضفة

ذوو الشهيدين "العريس والمغترب" يروون تفاصيل جريمة المزرعة الشرقية بالضفة

الجزيرةمنذ 5 ساعات
رام الله- حالة من الصدمة عاشتها قرية المزرعة الشرقية شمال مدينة رام الله ب الضفة الغربية بعد استشهاد اثنين من أبنائها، يوم الجمعة الماضي، على يد المستوطنين الذين اعتدوا على أهالي القرية خلال اقتحامهم لأراضيهم.
محمد الشلبي وسيف الله مصلط كانا مع أهالي قريتهما وقرية سنجل المجاورة في منطقة جبل الباطن، حيث اتفق أهالي القريتين على البقاء فيها خلال أيام الجمعة، لفلاحة الأرض وحمايتها من أطماع المستوطنين الذين بدؤوا منذ شهرين بالتجمع فيها والانطلاق بهجمات عدائية ضد القرية والقرى المجاورة.
وعندها هاجم عشرات المستوطنين المنطقة بحماية من جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي أغلق طريق العودة على الأهالي وحشر الشبان العزل في مواجهة المستوطنين.
ضرب ورصاص
وبينما تعرّض سيف لضرب مبرح أدى لاستشهاده خلال نقله للمستشفى، ضرب محمد وأطلق الرصاص عليه من مسافة صفر وأصيب في قلبه، حسب والدته جيهان شلبي.
وتحدثت الوالدة لوسائل الإعلام في بيت العزاء، قائلة إنها كانت تشعر منذ البداية أنه استشهد، حيث فُقدت آثاره عقب الاعتداء مباشرة، وبعد ساعات من البحث عنه في المستشفيات وبين الجرحى بفعل هجوم المستوطنين والتأكد من عدم اعتقال الاحتلال له، عاد الشبان إلى المكان مرة أخرى ليجدوه مستشهدا تحت شجرة زيتون.
وقال التقرير الطبي الصادر عن معاينة جثمان محمد، إن الوفاة كانت نتيجة "تعرضه لإطلاق الرصاص من مسافة صفر باتجاه قلبه ثم خرج من ظهره، إضافة لضرب مبرح، حيث كانت الكدمات واضحة على جسده".
وفي قريتهما، المزرعة الشرقية، خرج آلاف الفلسطينيين من أهالي القرية والقرى المجاورة في مسيرة تشييع حاشدة حمل خلالها الشبان الجثمانين من مسجد القرية إلى المقبرة، وسط هتافات تطالب بالثأر لدمائهم وتحرك رسمي فلسطيني لوقف هذه الاعتداءات.
كانت ملامح الحزن والقهر بادية على كل المشيعين، وخيَّم الحزن على القرية التي أعلنت الحداد على فقدان اثنين من شبانها، فقط لأنهما كانا يحميان أرضهما بالبقاء فيها.
العريس والمغترب
كان الشهيد محمد الشلبي (23 عاما) يعمل في شركة تنظيفات في البلدة، وكان يعد نفسه للخطوبة، وتقول والدته "طلب مني أن أبحث له عن عروس، ثم خرج من البيت ولم يعد".
وعاشت الوالدة فقدان ابنها مرتين، الأولى خلال عملية البحث عنه طوال 6 ساعات، والثانية عندما علمت عبر مواقع التواصل إنه وجد مستشهدا، لكن ما برَّد قلبها قليلا هيئته التي وجد عليها ضاحكا مبتسما.
ورغم أن الشهيدين لا تربطهما صلة دم، فإنهما استشهدا معا، وكان قرار عائلة الشلبي عدم تشييع جثمان ابنها حتى الأحد، انتظارا لعودة والده وأقارب الشهيد سيف مصلط من الولايات المتحدة.
ولسيف قصته أيضا، فقد ولد في الولايات المتحدة لأبوين ينحدران من المزرعة الشرقية، وبعد سنوات من الغربة عادت العائلة لتستقر في القرية، وبقي الوالد ثم لحقه سيف بعد أن كبُر للعمل في أميركا، وكانا يتناوبان على العودة وقضاء الوقت مع العائلة في فلسطين.
كانت عودته الأخيرة في عطلة عيد الأضحى ، ويوم الجمعة، كما كل أبناء القرية الذين يملكون أراضي زراعية في منطقة جبل الباطن -وهي منطقة مشتركة بين قريتي المزرعة وسنجل القريبة- توجه إلى هناك بعد صلاة الجمعة، ولم تشفع له الجنسية الأميركية التي يحملها أمام بطش المستوطنين، فعاد شهيدا محمولا على الأكتاف.
يقول والد سيف في تصريحات للصحفيين بعد تشييع جثمان ابنه "كل إنسان لديه الحق بأن يكون في أرضه، وابني كان بأرضه في جبل الباطن، والمستوطنون ضربوه وتركوه 3 ساعات، ولم يسمحوا لأحد بالوصول إليه لتقديم العلاج له".
وتابع "نطالب الحكومة الأميركية بالعدالة لابننا، دائما يتحدثون عن العدالة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين لا يعترفون بذلك"، مذكرا أنه خلال العامين الماضيين قتل 8 فلسطينيين يحملون الجنسية الأميركية على يد المستوطنين والجيش الإسرائيلي "ولم يتم مقاضاة أحد على ذلك".
عدالة مفقودة
ولا يقتصر هذا الرأي على والد الشهيد، فالمواطنون في القرية التي يصل عدد سكانها لنحو 5 آلاف فلسطيني، وثلثهم يحملون الجنسية الأميركية، لديهم القناعة ذاتها بأن "العدالة التي تطلبها أميركا لحملة جنسيتها تتعطل عند الفلسطينيين" حسب قولهم.
يقول حافظ عبد الجليل، وهو من أقارب الشهيد ويحمل الجنسية الأميركية أيضا، للجزيرة نت إن "العائلة تتجه لمقاضاة إسرائيل على قتل ابنها الذي كان على أرضه ولم يعتد على أحد، على العكس فقد تعرض للضرب المبرح حتى الموت".
وأضاف أن العائلة تسعى لتحميل دولة الاحتلال مسؤولية قتل ابنها ومقاضاة المستوطنين المتورطين في القتل، إلا أنه غير متأكد من جدوى ذلك رغم حمل الشهيد الجنسية الأميركية، مردفا "كل ما نتمناه ألا يتم تغيير الحقيقة".
وتابع "أكثر من ثلث أبناء هذه القرية يحملون الجنسية الأميركية، يفترض أنهم محميون بموجبها أينما كانوا، ولكن هذه الحماية تنتهي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، يمكن أن نرى اهتماما مؤقتا بعدها ينتهي كل شيء".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بيان نويهض الحوت "أيقونة الذاكرة الفلسطينية"
بيان نويهض الحوت "أيقونة الذاكرة الفلسطينية"

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

بيان نويهض الحوت "أيقونة الذاكرة الفلسطينية"

مؤرخة ومفكرة لبنانية الأصل فلسطينية المولد والنشأة، سليلة أسرة مناضلة جمعت بين العمل الوطني والاهتمام بالثقافة والمعرفة ، وهذا أسهم في تكوين شخصيتها الفكرية في سن مبكرة. عايشت النكبة عام 1948 بكل ما خلفته من فقد وتشرد، لتغادر مع أسرتها إلى لبنان ف الأردن ثم سوريا قبل العودة للاستقرار في بيروت حيث بدأت مسيرتها العلمية والصحفية والسياسية. عرفت بيان بالتزامها العميق بالقضية الفلسطينية، فجمعت بين العمل الأكاديمي والبحث التاريخي والنشاط الإعلامي والسياسي، وقدّمت أثناء مسيرتها مؤلفات توثيقية مهمة أرخت لتاريخ فلسطين الحديث، وظلت صوتا بارزا في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني وحفظ ذاكرته، حتى رحيلها في 12 يوليو/تموز 2025. المولد والنشأة والحياة الأسرية ولدت بيان عجاج نويهض عام 1937 في مدينة القدس لعائلة من أصول لبنانية، إذ ينحدر والدها المؤرخ والمناضل القومي عجاج نويهض (1897-1982) من رأس المتن، بينما ترجع أصول والدتها الشاعرة جمال سليم إلى منطقة جباع الشوف. عاش والداها اللبنانيان في سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، حين كانت بلاد الشام أرضا واحدة لا حدود بينها آنذاك. ونشأت في بيت أسرتها بحي "البقعة الفوقا" بالقدس الغربية رفقة أخيها خلدون وأخواتها الثلاث: نورا وسوسن وجنان. تزوجت عام 1962 من الصحفي الفلسطيني شفيق الحوت أحد مؤسسي جبهة التحرير الفلسطينية الذي كان ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بين عامي 1964 و1993، ورزقا بـ3 أبناء؛ حنين وسيرين وهادر. علاوة على تأثرها البليغ بوالديها في مراحل نشأتها الأولى، كان لخالها المجاهد فؤاد سليم وابنة خالتها الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي بصمة بارزة في تشكل وعيها في سن مبكرة. الدراسة والتكوين العلمي بدأت تعليمها في مدرسة "شميدت" الألمانية للراهبات في حي باب الساهرة على مقربة من البلدة القديمة للقدس. اضطرت بعد النكبة عام 1948 للانتقال مع عائلتها إلى لبنان ثم الأردن، فتابعت دراستها بمدرسة "الملكة زين الشرف"، قبل أن تنال شهادة المعلمات في رام الله عام 1956. واصلت لفترة قصيرة دراستها الجامعية في كلية التربية بجامعة دمشق ، قبل أن تلتحق بكلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية تزامنا مع عودة أسرتها بشكل نهائي للاستقرار في لبنان عام 1959. حصلت على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1963، وشهادة عليا في القانون العام وأخرى في العلوم السياسية أوائل سبعينيات القرن الـ20، لتتوج بعد ذلك مسارها الأكاديمي بنيلها شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية عام 1978 بأطروحة تحت عنوان: "القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948" التي أشرف عليها الدكتور أنيس صايغ. الفكر والتوجه الأيديولوجي تميز فكر بيان نويهض الحوت بالتزام قومي عربي واضح، وتمحوّر اهتمامها خاصة حول القضية الفلسطينية باعتبارها قلب الصراع العربي‑الإسرائيلي. التحقت بـ" حزب البعث العربي الاشتراكي" ذي التوجه القومي انطلاقا من إيمانها بضرورة الوحدة العربية، واستقالت منه بعدما شعرت بـ"عدم التوافق مع مواقف قياداته"، لا سيما بعد انفصال الوحدة السورية-المصرية عام 1961. وظّفت بيان التاريخ أداة مقاومة للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، وجمعت في رؤيتها بين الانتماء الوطني والموضوعية التي يستوجبها البحث التاريخي الأكاديمي. المسار السياسي انخرطت بيان نويهض الحوت في العمل السياسي مبكرا متأثرة بوالدها عجاج نويهض الذي كان من مؤسسي "حزب الاستقلال العربي". وبعد انتقالها إلى عمان في خمسينيات القرن الـ20، انضمت إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي"، وتولت في بيروت قيادة "شعبة الشياح" التي كانت تضم عشرات الأعضاء معظمهم من العمال، قبل أن تنتقل فيما بعد إلى "شعبة فلسطين" تحت قيادة توفيق الصفدي. وشكلّت أحداث الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961 محطة مفصلية في مسيرتها، إذ اعتبرت أن موقف القيادة القومية للحزب لم يكن حاسما بما يكفي لمواجهة الانفصال، وقدمت مذكرة توضح موقفها وقرار الاستقالة من هياكل الحزب. ومع بدايات ستينيات القرن الـ20، التحقت بهيئة سياسية جديدة أكثر تخصصا في الشأن الفلسطيني، وهي "جبهة تحرير فلسطين-طريق العودة"، وجاورت في هذا التنظيم شخصيات فكرية ومناضلين فلسطينيين، أبرزهم زوجها شفيق الحوت، وإبراهيم أبو لغد ونقولا الدر والكاتبة سميرة عزام التي أدارت القسم النسائي في الجبهة. عملت الجبهة على توعية اللاجئين ودعم فكرة العودة إلى فلسطين عبر النشاط السياسي والثقافي والإعلامي، لكنها حلت لاحقا عام 1968 في سياق إعادة ترتيب الفصائل الفلسطينية بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة. إلى جانب العمل الحزبي، نشطت بيان نويهض الحوت في العمل النسائي الفلسطيني، إذ انخرطت في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وأسهمت في التثقيف والتوعية السياسية والاجتماعية بين النساء الفلسطينيات في لبنان وخارجه. وبعد توقف عملها الحزبي المباشر، ركزت على العمل الفكري والبحث الأكاديمي واستخدمت التأريخ والتوثيق أداة للدفاع عن القضية الفلسطينية. إعلان كما كانت عضوا في المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي، ومجلس إدارة مؤسسة القدس، وشاركت في مؤتمرات وندوات عربية ودولية طرحت خلالها القضية الفلسطينية من منظور تاريخي وسياسي شامل، وأكدت على مركزية القدس وحقوق الشعب الفلسطيني. الوظائف والمسؤوليات امتد المسار المهني لبيان نويهض الحوت بين التدريس الجامعي والصحافة والبحث الأكاديمي والتوثيق التاريخي، واتسم بالتنوع والاستمرارية على مدى عقود. ومن أبرز المناصب التي تقلدتها: عملت معلمة في مدرسة سكينة بنت الحسين في عمّان بعد تخرجها من دار المعلمات عام 1956. بدأت العمل الصحفي في بيروت من بوابة مجلة "دنيا المرأة" تحت إدارة إدفيك شيبوب في مطلع الستينيات. عملت محررة وكاتبة سياسية في مجلة الصياد (1960-1966)؛ وأجرت مقابلات مع شخصيات عربية بارزة ونشرت مقالات عديدة عن الثورة الجزائرية. ترأست قسم التوثيق في مركز الأبحاث الفلسطيني-بيروت (1977–1987). عملت أستاذة في كلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية-الفرع الأول، ودرّست مواد القضية الفلسطينية وقضايا الشرق الأوسط (1979-2001). عينت في منصب مديرة قسم التوثيق في مركز دراسات الوحدة العربية عام 1979، وانضمت عضوا في هيئة تحرير مجلة المستقبل العربي. عقب عام 2001 عملت باحثة متفرغة في الصراع العربي-الإسرائيلي، وكتبت أبحاثا ومؤلفات تاريخية وتوثيقية. كما سبق لها أن شاركت في العديد من المؤتمرات العلمية والتاريخية منذ 1981، من أهمها: مؤتمر "حقوق الشعب الفلسطيني" المنعقد في هافانا-كوبا عام 1981. ندوة "الجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني" المنعقدة في بون-ألمانيا الاتحادية عام 1985. ندوة "الاتجاهات الحديثة في العالم العربي" المنعقدة في شيكاغو- الولايات المتحدة عام 1985. ندوة "الفلسطينيون في الأراضي المحتلة والمنافي" المنعقدة في نيوجيرسي-الولايات المتحدة عام 1986. شغلت بيان كذلك عضويات بارزة في منظمات عدة: عضو في المؤتمر القومي العربي في الفترة (1992-2025). عضو في الاتحاد العام للكتاب اللبنانيين في الفترة (1995-2025). عضو في المؤتمر القومي الإسلامي في الفترة (1996-2025). عضو في مجلس إدارة مؤسسة القدس في الفترة (2000-2025). عضو في الجمعية الدولية للمترجمين العرب (واتا) في الفترة (2004-2025). المؤلفات فضلا عن العديد من المقالات، ألفت بيان نويهض مجموعة من الكتب، أبرزها: "القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948" عام 1981. "الشيخ المجاهد عز الدين القسام في تاريخ فلسطين" عام 1987. "فلسطين: القضية، الشعب، الحضارة: التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن العشرين" عام 1991. "مذكرات عجاج نويهض: ستون عاما مع القافلة العربية" عام 1993. كتاب " صبرا وشاتيلا: أيلول 1982″ عام 2003، وهو دراسة توثيقية ردت عبرها على تقرير لجنة كاهانا مثبتة بأن ما حدث مجزرة عنصرية. الجوائز والتكريمات حصلت عام 1964على الجائزة الأولى في مسابقة للقصة القصيرة نظمتها مجلة "الحوادث" اللبنانية، عن قصتها: "كانوا أربعة..". كرمها النادي الثقافي العربي في بيروت عام 2013. كرمتها سفارة فلسطين بلبنان عام 2014 تقديرا لعطائها الوطني والثقافي. حصلت عام 2015 على "جائزة القدس للثقافة والإبداع" لإنجازاتها في الدفاع عن القضية الفلسطينية وتوثيق تاريخها. رحلت بيان نويهض الحوت في 12 يوليو/تموز 2025 في بيروت بعد مسيرة طويلة حافلة بالعطاء الفكري والنضالي دفاعا عن القضية الفلسطينية.

ميناء غزة.. واجهة بحرية تحولت إلى أنقاض تحت القصف الإسرائيلي
ميناء غزة.. واجهة بحرية تحولت إلى أنقاض تحت القصف الإسرائيلي

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

ميناء غزة.. واجهة بحرية تحولت إلى أنقاض تحت القصف الإسرائيلي

ميناء يطل على البحر الأبيض المتوسط ، دمرته إسرائيل كليا أثناء عدوانها على قطاع غزة الذي اندلع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحولته إلى كومة من الحجارة. وتحولت منطقة الميناء إلى بقعة خيام عشوائية للنازحين، وتتعرض بين الفينة والأخرى إلى القصف من الغواصات البحرية و الطائرات المسيرة الإسرائيلية. وتقدر مساحة هذا الميناء بنحو كيلومتر مربع، ويغطي الجزء الشمالي الغربي من مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، ويرتفع ما بين 17 و20 مترا عن مستوى سطح البحر. الميناء قديما يحتضن قطاع غزة منذ القدم، أحد أبرز الموانئ المطلة على البحر الأبيض المتوسط، والشريان الرئيس الذي يربطه بدول أوروبا، ففي عام 800 قبل الميلاد احتضن القطاع ميناء "أنثيدون"، الذي ظل سنوات طويلة محطة مهمة للتجارة في القطاع. وفي فترة العصر الروماني في فلسطين ، الذي بدأ سنة 63 قبل الميلاد، أنشئ شمال غربي مدينة غزة ميناء "مايوماس" وهي كلمة مصرية تعني "المكان البحري". وفي هذه الفترة، كانت تُصدر من ميناء غزة التوابل والأعشاب العطرية والبخور والأقمشة والزجاج والمواد الغذائية التي كانت تصل إليه على ظهور الجمال من جنوب شبه الجزيرة العربية عبر البتراء ، ومن ثم وادي عربة عبورا بصحراء النقب ثم إلى غزة. تعطيل إسرائيلي أصبح الميناء مدينة ساحلية مزدهرة، ومحطة مهمة للتجار حتى عام 1967 حينما احتلت إسرائيل قطاع غزة، فعطلت الميناء وحولت بحر غزة إلى منطقة عسكرية مغلقة يمنع الاقتراب منها. وأثناء مفاوضات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، طُرحت مسألة بناء ميناء بحري في غزة، وقتها ووعدت الدول الأوروبية ببنائه شمال القطاع. وفي سبتمبر/أيلول سنة 1999، طرحت الفكرة مرة أخرى أثناء اتفاق شرم الشيخ بين المنظمة وإسرائيل، لتوافق الأخيرة على عملية البناء. حلم وئد في مهده عام 1999 أنشأت السلطة الوطنية الفلسطينية"سلطة الموانئ البحرية" التي تتمثل مهامها في توفير نظام نقل بحري في فلسطين ذي كفاءة وإمكانيات عالية عبر إنشاء وإدارة وتشغيل المرافق البحرية بما في ذلك الموانئ البحرية التجارية والسياحية والصيد. إعلان وأُصدر الرئيس الفلسطيني حينئذ ياسر عرفات المرسوم الرئاسي رقم (1) بتاريخ 30 أبريل/نيسان 2000، ونص على إنشاء ميناء في غزة يتبع لسلطة الموانئ البحرية. وفي منتصف عام 2000، باشرت السلطة الفلسطينية في بناء الميناء وسط مدينة غزة بميزانية تبلغ نحو 83 مليون دولار. وخُصصت أراضي حكومية قُدرت بحوالي ألفي دونم (الدونم= 100 متر مربع) لاستخدامات الميناء، بينما قُيّد استخدام حوالي 2500 دونم لتكون حرم الميناء. وقد أشرفت شركة "بالاست نيدم" الهولندية على المشروع الذي وضع حجر أساسه الرئيس عرفات ورئيس فرنسا آنذاك جاك شيراك. لم تدم فرحة الفلسطينيين كثيرا، فبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر/أيلول 2000 بأيام قصفت إسرائيل الميناء ودمرته. استأنفت السلطة الفلسطينية بناء الميناء بعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة عام 2005، وذلك بعدما حصلت على تعهد إسرائيلي بعدم تدميره مرة أخرى، على إثر اتفاقية المعابر بين الجانبين. وعقب فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، فرض الاحتلال الإسرائيلي حصارا مشددا على القطاع وأدى ذلك إلى توقف عمل ميناء غزة. وتصدر طلب إنشاء ميناء لغزة مطالب المقاومة الفلسطينية خلال مفاوضات وقف إطلاق النار غير مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي أثناء الحروب المختلفة على القطاع، غير أن الاحتلال كان يرفض في كل مرة مناقشة الفكرة بشكل قاطع. خطط عدة في فبراير/شباط 2014، كشف وزير النقل الفلسطيني حينئذ نبيل ضميدي أن السلطة الفلسطينية ومصر تعملان على خطط لبناء ميناء بحري في قطاع غزة، لكن المخطط لم ير النور. وفي مارس/آذار 2017، اقترح وزير الاتصالات والاستخبارات في إسرائيل حينئذ يسرائيل كاتس إنشاء جزيرة تضم ميناء في ساحل القطاع، بحجة أن هذا المشروع "كفيل بإعفاء إسرائيل من المسؤولية عن غزة ويوفر للقطاع حلولا اقتصادية، كما أنه يدحض شكوى الفلسطينيين من الحصار المفروض". ونص الاقتراح على إنشاء جزيرة مساحتها 8 كيلومترات مربعة، على أن تضم في مرحلة أولى ميناء للمسافرين يخضع لرقابة أمنية دولية ومطارا مستقبليا لكن حكومة بنيامين نتنياهو -المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية – رفضت المقترح. وفي21 يونيو/حزيران 2018، أعادت الحكومة الإسرائيلية مناقشة فكرة الميناء، بعد أن طرحها وزير الدفاع الإسرائيلي حينئذ، أفيغدور ليبرمان ، في زيارته إلى قبرص. خطوة رمزية في يناير/كانون الثاني 2017، اتخذت الهيئة الوطنية لكسر الحصار وإعادة الإعمار واللجنة الحكومية لكسر الحصار في غزة خطوة رمزية عندما أعلنت البدء في أعمال تأهيل ميناء غزة الدولي، استعدادا لانطلاق أول سفينة تقل مرضى وجرحى إلى أحد الموانئ الأوروبية. ووضعت في ميناء غزة لافتات كُتب عليها "مكان الوصول" وأخرى "مكان المغادرة"، وفي مكان آخر "مكتب التسجيل للسفر وختم الجوازات"، للضغط على الأطراف المحاصرة. إعلان وقالت الهيئة الوطنية لكسر الحصار، إنها اتفقت مع مقاولين على "تنفيذ أعمال بناء بهدف البدء الفعلي لإنشاء الميناء الدولي الذي سيكون نافذة غزة إلى العالم في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي على القطاع". وأوضحت الهيئة أنها تواصلت مع العديد من الموانئ الأوروبية التي أبدت موافقتها على إنشاء الميناء البحري في غزة والتعامل معه؛ لكن هذا الأمر لم ير النور. تدمير كامل وتعرض ميناء غزة القديم إلى تدمير كامل أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ قصف طيران الاحتلال البنية التحتية له بشكل مباشر، مخلفا دمارا هائلا في أرصفته ومرافقه الحيوية. ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو)، فإنه أثناء العدوان على القطاع، تعمدت إسرائيل تدمير بقايا ميناء غزة القديم "أنثيدون" التي تشمل الجزء الشمالي الغربي من مخيم الشاطئ للاجئين ومنطقة المشتل. وقالت اليونسكو إن منطقة الميناء كانت مؤهلة للانضمام إلى قائمتها التمهيدية للتراث العالمي، إثر طلب تقدم به الوفد الدائم لفلسطين لدى المنظمة في أبريل/نيسان 2012. وقد اضطر آلاف النازحين من شمال القطاع للجوء إلى الميناء، الذي تحول إلى بقعة خيام عشوائية تتعرض بين الفينة والأخرى إلى قصف الغواصات البحرية والطائرات المسيرة الإسرائيلية.

محمد الضيف.. سيرة الظل الذي كسر الدرع
محمد الضيف.. سيرة الظل الذي كسر الدرع

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

محمد الضيف.. سيرة الظل الذي كسر الدرع

افترَّ ثغر محمد الضيف عن بسمة وضاءة، حينما ركضت إليه -قبيل مغادرته- كبرى بناته، حليمة، التي ورثت عنه مزيج الحنان والقوة، فاحتضنته قائلة: "محلاك يابا!" في تلك الجمعة، كانت يداه الحانيتان تلتفان حول صغاره، فتهِبان لهم كل ما حمل أبوهم من دفء وحب في قلبه المتعلق بالسماء. أما صغاره الخمسة (حليمة أكبرهم، ثم التوائم خالد وبهاء وخديجة، ثم عمر الأصغر)، فيرون أن يد أبيهم ليست تفيض حنانا فحسب، بل كانت يدا تشد أزرهم وتتابع أدق تفاصيل رحلة دراستهم، لكن أحدا منهم لم يعلم أن هذه اليد التي لطالما خطت لهم على لوح أبيض الدروسَ في العلوم والرياضيات، كانت قبل لقاء الجمعة ذاك خطت قرارا سيقلب موازين العالم، الذي أقفل على أهل غزة في سجن كبير منذ قرابة 20 عاما. وهكذا غابت شمس السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على بيت ذي شأن عظيم، لتشرق في اليوم التالي خارج حدود الزمن ويذهل عند طلوعها العالم بأسره من صنيع الضيف وجنده، غير أن هذه لم تكن البداية. في أحد أيام أغسطس/آب 1965، بدا البحر والسماء لـ"حليمة" واسعين عميقين على نحو غير الذي ألفته طوال سنوات سكنها في مخيم خان يونس للاجئين (جنوب قطاع غزة)، وكان قلبها يحدثها -وهي في آخر أيام حملها- بأنهما التحما ليكونا واحدا، حتى كأنها بذلك أبصرت أن طفلها القادم سيكون شبيها بهما، إلى أن جاءتها بشراه حين تناهى إلى سمعها بعد المخاض صوت زوجها دياب المصري يردد كلمات الأذان على سمع وليدهما الجديد. ملتمسين بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- سمى الوالدان نجلهما "محمدا"، وأتت بعد ذلك اليوم أيامٌ تجلت فيها معاني ذلك الاسم في سيرة صاحبه. في مخيم خان يونس للاجئين، كان بيت عائلة المصري بسيطا، يكافح فيه الأب وأبناؤه -كما هي حال كل أهل المخيم- لينالوا قوت يومهم، لكن ما تميز به هذا البيت كانت حليمة، امرأة بعينين صافيتين تفضيان حنانا يرتوي منه أبناؤها، فكان أثره جليا على تماسك عائلتها وتراحمها، وستكون هذه السمة أبرز ما ورثه محمد عن أمه، يلمسها كل من يخالطه في مختلف محطات حياته. كان ضيق المخيم وتلاصق بيوته يستحثان بصر الفتى محمد نحو السماء والبحر فيثريان خياله، وهو ما جعله في سن مبكرة يهتدي للاغتناء بخياله وسعته الجوانية، وهو اغتناء انعتقت به روحه باكرًا من سجن القهر، الذي أرادته إسرائيل للفلسطينيين بتهجيرهم وتعقيد حياتهم وبطشها بهم، خصوصا بعدما احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، حيث تفتح وعي الفتى محمد على تفاصيل المواجهة اليومية مع الاحتلال تحديًا لمحاولات المحو. سيكون هذا الاغتناء أحد الخيوط الناظمة لنهج حياة محمد وإستراتيجيته في بناء مشروعه وتأثيره في من حوله. باكرا، سيكون محمد مع أبيه كتفا بكتف في عمله بتنجيد المفروشات، للمساعدة في إعالة الأسرة، وستقوده خطاه إلى مسجد الشافعي أحد أكبر مساجد خان يونس. على قدرٍ سِيق الفتى -غض القلب متقد الذكاء- إلى ذلك المسجد، حيث التقى أهم رفاق دربه: حسن سلامة، ويحيى السنوار، وجميل وادي، الذين سيرافقونه في مشواره الطويل مؤسسين أحد أقوى وأشجع ظواهر مقاومة الاستعمار في العصر الحديث. اجتمعت في الضيف ورفاقه ملكة القيادة، وسعة الخيال وحدة البصيرة، التي استطاعوا بها أن يصقلوا رؤيتهم لمشروعهم النضالي بعقلية الندّية. في بواكير التحاقه بالجامعة الإسلامية في غزة دارسا الأحياء، وقع الفتى في حب الفنون والمسرح، وعلى خشبة المسرح ستلتصق به كنية سيشتهر بها، إذ أصبح الفتى "أبا خالد" بعد تمثيله شخصية تحمل هذه الكنية في إحدى مسرحيات محمد الماغوط. أسس محمد مع زملائه "فرقة العائدون للفن الإسلامي" في خان يونس، التي نشطت في تقديم فنون المسرح والإنشاد، إلى جانب نشاطه في صفوف الكتلة الإسلامية في الجامعة، التي كان كوادرها من أوائل المنخرطين في المقاومة، تزامنا مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987. في مسجد الشافعي، بين المصلين أومأ جميل وادي -الشاب ذو السمرة الحنطية والعينين الناطقتين إيمانا وجسارة- إلى محمد بإشارة عنت بدء عملهم في المجموعة ذاتها في العمل العسكري التابع لحركة حماس تزامنا مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، التي ستحمل منذ عام 1991 اسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام". عام 1989، ستعتقل إسرائيل محمد دياب المصري لأول وآخر مرة، على إثر نشاطه العسكري، وبعد 16 شهرا من الاعتقال الإداري، سيفتح جندي الباب لمحمد من دون أن يدري أنه يطلق سراح المارد الذي سيحطم قبضة إسرائيل الحديدية أمنيا وعسكريا. فقه السنبلة فور خروجه من السجن، استأنف محمد عمله النضالي، والتقى في النصف الأول من التسعينيات بالمطلوب الأول لإسرائيل: يحيى عياش. اتسم رفيقا القتال بالهدوء والصبر والقدرة العالية على التواري عن الأنظار لفترات طويلة، مما أتاح لهما العمل لأوقات طويلة لتطوير مجالي التصنيع العسكري والتخطيط في الكتائب، وصعّب على إسرائيل مهمة مطاردتهما، منذ برز اسماهما كونهما مطلوبين عقب الإعلان الرسمي عن تشكيل الكتائب عام 1992. اشتدت القبضة الأمنية على المطلوبين في قطاع غزة، وكان لمحدودية المساحة الجغرافية للقطاع بالغ الأثر في هذا الأمر، مما دفع كتائب القسام إلى اتباع خطط تحركٍ للمطلوبين تضلل بها قوات الاحتلال، فانتقل عدد من مطلوبي غزة إلى الضفة الغربية، مقابل انتقال آخرين من الضفة إلى غزة، وهو ما شكَّل فرصة لنقل الخبرات العسكرية التي لدى كل مطلوب إلى من يلتقيهم من مقاتلي الكتائب. كان من بين مطلوبي غزة الذين غادروا إلى الضفة الغربية، محمد دياب المصري، الذي حل ضيفا على بيوت كثيرة في الضفة الغربية، مما أكسبه لقب "محمد الضيف" الذي سيطغى على اسمه الأصلي، محمد المصري. وفي تنقله بين المخابئ والبيوت في الضفة الغربية، لم يكن الضيف يكلف مضيفيه والمسؤولين عن تأمين تحركاته بشيء سوى الكتب في شتى مجالات المعرفة، إذ كان يستعين بها على قضاء ساعات الاختباء الطويلة، ويذكر تيسير سليمان -أحد أفراد كتائب القسام الذين كانوا مسؤولين عن تأمين تحركات الضيف في الضفة الغربية- أنه كان دائما يحمل كتابا في حقيبته بينما يتنقل من مخبأ إلى آخر، الأمر الذي منحه ثقافة استثنائية واسعة ظل يتميز بها حتى استشهاده. نهاية عام 1993، عاد الضيف إلى قطاع غزة مستأنفا العمل من هناك، وبالتزامن مع عودته، استلمت السلطة الفلسطينية ومؤسساتها الأمنية زمام الأمور في القطاع، لتزداد بذلك تعقيدات وأعباء رحلة المطاردة. كان فجر 25 فبراير/شباط 1994 في فلسطين داميا إثر مجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل، التي ارتكبها المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين بحق المصلين خلال شهر رمضان المبارك. لم يمض وقت طويل، حتى استيقظ الفلسطينيون على وعد موقَّع باسم "غرفة عمليات القسام" ينص على تعهد الكتائب بالرد على تلك المجزرة. كان يحيى عياش ومحمد الضيف قد تقاسما التخطيط لـ5 عمليات، انتقاما للدماء التي سالت في محراب الفجر. ضمن سلسلة العمليات تلك، خطط الضيف وعياش لأسر جندي إسرائيلي، وكان ذلك الجندي نخشون مردخاي الذي أُسر يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1994، وعلى إثر تلك العملية، سيظهر الضيف للمرة الأولى من أصل 3 مرات أمام الكاميرا، مضللا بذلك عمليات البحث عن الجندي، إذ أوهم ظهوره أجهزة الأمن الإسرائيلية أن الجندي المأسور في قطاع غزة، في حين كان مقاتلو القسام يحتفظون به في بيت في بلدة بيرنبالا شمال غربي القدس. ضاق الخناق على مقاتلي القسام في قطاع غزة، فخطط الضيف وعياش لنقل العمل العسكري بأدوات أكثر تطورا إلى الضفة الغربية، محاولين تحدي خطط أجهزة الأمن الفلسطينية لخنق العمل المقاوم. يشير تاريخ كتائب القسام إلى أن الضيف وعياش كانا أبرز مقاتلي الكتائب في مجال التصنيع العسكري الذي دشناه عام 1993، والذي استمر في التطور حتى يومنا هذا. أتم الرفيقان خطط نقل العمل إلى الضفة الغربية، وقبيل تنفيذها، فُجع الضيف -أسوة بالفلسطينيين- بخبر اغتيال عياش مطلع عام 1996. حول الجثمان المسجى، تحلق مطاردو القسام في وداع رفيقهم، في حزن عميق، وصمت مطبق، وحول النعش، عقد رجلان منهم العزم أن يرثيا صاحبهما بطريقة مختلفة. قبيل بدء التشييع، توارى الضيف وحسن سلامة عن الأنظار تماما، وباشرا العمل على مخطط عمليات الثأر المقدس، انتقاما لاغتيال عياش. أسفرت هذه العمليات عن مقتل 46 إسرائيليا وإصابة العشرات، واعتقل على إثرها حسن سلامة وحكم بالسجن المؤبد 48 مرة. السجّان تحت لواء السجين في الربع الأول من العام نفسه، وجهت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية ضربات عنيفة لحركة حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، وزجت بأكثر من 2000 فلسطيني من كوادر الحركة في سجونها. كانت تلك أحلك السنوات في تاريخ كتائب القسام، وبدا فيها الضيف طريدا غريبا، لقي كل واحد من صحبه مصيره: بين شهيد وأسير وتارك للسلاح باختياره أو تحت وطأة الظروف. كلما ضاقت الجغرافيا، اتسعت القلوب المؤمنة ملهمة أصحابها الثبات. كان ذلك حال الضيف في مواجهة كل المحاولات والعروض لتسليم سلاحه، رغم كل الضغط الذي وقع عليه في سبيل هذا، واستمر ملاحَقا إلى أن حاصره جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني في بيت من بيوت قطاع غزة واعتُقل عام 2000. في سجون الأمن الوقائي في غزة، كان اعتقال الضيف كدرا ثقيلا، لكنه لم يغيِّب ثنائية السماء والبحر التي حملها الضيف منذ نعومة أظفاره، حيث كانت تنعكس في كل مرة يحتك فيها سجانه معه. فبالنسبة إلى يحيى أبو بكرة، أحد السجانين الثلاثة الذين كانوا مكلفين بحراسة الضيف في سجنه، كان ثمة ما يشده إلى الرجل؛ شيء أشبه بنبوءة تحمل قدره مع السجين الذي سيصبح قائده! كان الضيف يعامل أبو بكرة بصفاء طوية وحنو متصل بالمدينة التي تربيا فيها: خان يونس، كأنهما ابنان لأم واحدة. وكلما وقف السجان والسجين وبينهما باب الزنزانة، راحت ذكريات المدينة وناسها تتدفق في حديث الرجلين، حتى لمس الضيف بذكائه القيادي أن في أبو بكرة بذرة إيمان بنهج المقاومة، لا ينقصها إلا الري فتنبت، فصار يستحضر سِيرًا وآمالا وموازين تستحث أي منصت له نحو الرغبة في مشاركته الطريق. كان أبو بكرة يصغي، ثم حين يختلي بنفسه يؤرقه أن يظل الرجل في السجن وأن يحمل اسم "أبو بكرة" في قادم الزمن لقب سجانه، وقد كانت تدور بينهما أحاديث طويلة يكشف له فيها الضيف -بقدر الحاجة- عما يجعله يدرك فداحة الخطأ في أن يبقى هذا المقاتل في هذا السجن، حتى جاءت اللحظة الحاسمة في انكشافها بين الرجلين. كانت انتفاضة الأقصى قد اندلعت قبل شهر، والوضع في غليان متصاعد، والحالة في الخارج في غاية الحساسية، في ظل تخوفات كثيرة على صعيد سلامة المطاردين، فما كان من أبو بكرة إلا أن تمثل القول: "لا بد مما لا بد منه". تعاون أبو بكرة مع سجانين آخرين، واتفقوا جميعا على أن يسهلوا للضيف هروبه. عاد الضيف ليأخذ موقعه في صفوف القسام، تزامنا مع اشتداد الانتفاضة الثانية، في حين آل مسار يحيى أبو بكرة للاستقالة من جهاز الأمن الوقائي بعد ما لاقاه من تضييق وتنكيل على إثر مساعدته الضيف في الهرب، وقد ظل الضيف يحفظ له فضله وشجاعته ويوصي من حوله بأبو بكرة وأهله خيرا. التحق أبو بكرة خلال الانتفاضة الثانية بصفوف كتائب القسام، وقاتل تحت قيادة الضيف إلى أن استشهد خلال اشتباك مع قوات الاحتلال في خان يونس عام 2004. في فترة الانتفاضة الثانية، كان الشهيد صلاح شحادة، القائد العام لكتائب القسام، قد بدأ ترميم هيكلية الكتائب على إثر الضربات التي تعرضت لها على يد أجهزة أمن السلطة الفلسطينية لتفكيكها ضمن مستحقات اتفاقية أوسلو. كان شحادة لدى خروجه من السجن في مايو/أيار 2000 -بعد ما يقارب 12 عاما في السجن- قد طور في ذهنه تصورا لبِنية جديدة للقسام، مستفيدا في ذلك من خلاصات تجارب الكتائب خلال عقد التسعينيات، وساعيا بهذه البِنية للعمل بنمط أكثر قوة وقدرة على الاستمرار من نمط الخلايا. كانت الخلايا تعمل على نحو منفرد، ويشكل شحادة مرجعية لها، لكنه أدرك أن الوقت قد حان لمأسسة العمل العسكري، وتحويل القسام إلى جيش شعبي، وهي المرحلة التي شهد عليها الضيف كونه الذراع اليمنى لشحادة. ويوم 22 يوليو/تموز 2002، اغتالت إسرائيل صلاح شحادة، فتولى الضيف القيادة العامة للقسام، وواصل مشوار شحادة في بناء جيش شعبي، كمؤسسة ذات قطاعات، من دون أن تهز خطواتِه تهديداتُ إسرائيل له ومحاولاتها المستمرة لاغتياله بوصفه المطلوب الأول لها. الخلية، الخيال، الإيمان: استنبات الأمل من عايش طبيعة فلسطين، يعرف أن ثمة صنوفا من النبات تنمو في أرضها على نحو لافت، بحيث تتشابك جذورها من تحت الأرض بينما يظن الناظر إليها على سطح الأرض أنها وحدات منفصلة، ويتهيأ له أنه إن اقتلعها من جذورها فلن تعاود النمو، لكن الجذور من تحت الأرض سرعان ما تتمدد، وتعاود النبتة النمو من جديد. يسمى هذا النوع في علم النبات بالجذمور (Rhizome)، أي الساق الجذرية الزاحفة. ما بين دراسة الأحياء، والتفكر في خلق الله وسننه وصحبة القرآن خلال المكث الطويل بين جبال الضفة الغربية ثم سهول قطاع غزة، فوق الأرض وتحتها، نضجت في ذهن الضيف تصورات لبناء رصين للعمل العسكري للقسام، جامعا فيها أثر الخيال الحر والإيمان في روح الإنسان وعقله، كما أثر النبت يشق الأرض من تحت قدميه، والتجربة التي عاشها منذ كانت الكتائب تملك قطعة سلاح واحدة تتنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة. راكم الضيف كل هذا في نموذج بنية القسام التي طورها ورفاقه، إكمالا لمشوار قائدهم صلاح شحادة، بحيث تكون بنى الجهاز عالية التخصص، عميقة ومتجذرة وقادرة على التجدد، فلا تنال منها الضربات الإسرائيلية، ولا يفتك بها الحصار من فوق الأرض ولا من تحتها. قيل: "تبدأ الثورة من القدرة على التخيل"، وبالنظر في سيرة الضيف ومن حوله، وفي تطور أداء القسام عسكريا وخطابيا في عهده، يمكننا أن نلمس اجتماع الإيمان بالخيال لدى الرجل منذ كان غريبا طريدا، إذ آمن وصحبه -وهم لا يملكون إلا قطع سلاح معدودة- بأنهم قادرون على قتال إسرائيل وإيلامها وصولا إلى هزيمتها. وكان الرجل في ضوء هذا يدخر لنفسه توقا بأن يصلي بالناس في الأقصى محررا. تستذكر إيمان مصطفى (شقيقته زوجته وداد) خلق الضيف وسجيته فتقول: "أبو خالد الضـيف والله كان خلقه القرآن؛ رجل من زمن الصحابة، كأنك تقرأ في سير الصالحين". فكان -كما تقول- كلما عرض له أمر في حياته اليومية أو القتالية يستحضر من القرآن وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يتسق مع الموقف، وكان لهذا بالغ الأثر في حضوره وتأثيره، وكونه منبعا أخلاقيا ينهل من معينه مقاتلو القسام وينعكس على إستراتيجية عمل الكتائب وفلسفة الخطاب الذي تقدمه بأدق تفاصيله. عمد الضيف -بناء على هذا- إلى استلهام مدرسة عسكرية رصينة لا تنسلخ فيها مادة القتال عن روحه سواء في زمن الإعداد أو الالتحام، متحررا من هيمنة النماذج العسكرية التي أنتجتها الحداثة وما جرته من ويلات على مقاتليها ومجتمعاتها. في سبيل هذا، أقر الضيف على كل جندي من القسام دراسة تفسير القرآن الكريم، إيمانا منه بأن الفهم العميق للقرآن الكريم هو الأساس المتين للعلم والعمل. قبيل حرب طوفان الأقصى، نشرت كتائب القسام مقطعا مصورا لـ"كتيبة الحفاظ" ضمن مشروع أطلقته الكتائب، يسرد فيه مقاتلوها القرآن الكريم في جلسة واحدة. في ذلك المقطع، يظهر تسلم كل مقاتل من مختلف أركان الكتائب شهادة موقعة بيد الضيف، فيها ثناء على صنيع المقاتل وتأكيد أن هذه العلاقة مع القرآن هي الأساس في المعركة مع المحتل. إن هذا النهج مع القرآن الكريم يدفع الإيمان والخيال معا إلى أقصاهما، مما يهب المقاتل رؤية مختلفة للعالم والوجود، يستطيع من خلالها استنفاد وسعه في بذل الممكن الكامن فيه. سيظهر تأثير هذا النهج جليا في سلوك مقاتلي القسام على الأرض خلال حرب طوفان الأقصى، فالدعاء الذي كان يردده الضيف في حياته وخطاباته: "باسمك اللهم نصول ونجول ونقاتل" سيحضر بصيغ مختلفة على ألسنة مقاتلي القسام في المعارك، وسيكون استحضار معية الله واليقين به ركيزة في كل ما نشر من مشاهد للمعارك خلال الطوفان، وقد رأى العالم معجزات سطرها المقاتلون، لا تفسير لها إلا أن إيمانهم قد سبق أطنان الحديد والنار التي صبتها إسرائيل خلال الحرب. بهذه الثنائية المتلازمة، بين الروحي والمادي، تطورت قدرات كتائب القسام العسكرية وأداؤها الخطابي المنسوج حول عملها العسكري في ما تمرره من رسائل للعالم، عربا وعجما. وبها أيضا نزعت الكتائب عن العالم شرطه المادي المهيمن على كل شيء، حتى تحول إلى مقدس طاغ لا يجرؤ أحد على فهم العالم إلا من خلاله. إن سيرة الضيف والكتائب في هذا بدت كأنها دالة ناطقة أن الفعل ليس فقط ما ظهر في ميدان المعركة، بل هو أيضا ما كان في ميدان القلب من قبل. وفي المسيرة الطويلة من التربية والإعداد، سيلخص الرجل عقلية الندّية والإيمان بالقدرة على المواجهة حينما أجاب عن سؤال بلال نزار ريان له: "كيف اتخذت قرار ضرب تل أبيب لأول مرة في التاريخ؟"، وقد كان قرار قصف تل أبيب اتخذ في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، بعدما اغتالت إسرائيل الرجل الثاني في القسام، أحمد الجعبري. فقال له: "هم بدؤوا من الآخر، فأخرجنا آخر ما عندنا". حفظ الفضل بين ثنايا أمتعة كثيرة، خُبّئت بعناية ورقة مخطوط عليها بخط اليد أبيات شعر كان قد سمعها الضيف من الشهيد نزار ريان في خطبة ألقاها عقب أحداث مسجد فلسطين عام 1994، فحفظها عنه منذ ذلك الوقت. سافرت الورقة قبل الطوفان بأعوام من غزة إلى إسطنبول، لتستقر بين يدي نجل الشهيد ريان الأكبر (بلال)، ومعها مصحف الضيف الشخصي موقّعا باسمه، حفظا منه للود والفضل الذي كان بينه وبين عائلة ريان التي آوته وأكرمته في بيتها أيام مطاردته. وقد كان -كما قال- احتفظ في ذاكرته بتلك الأبيات من الشعر، لحين أن تقال في موقف عظيم، وقد بقيت الأبيات طي الكتمان، حتى نشرتها كتائب القسام بصوت الضيف يلقيها في مقطع مصور في أثناء الإعداد لمعركة طوفان الأقصى، في تحقيق "ما خفي أعظم" الذي بثته الجزيرة، وحينها لما يكن قد أُعلن بعد استشهاد الضيف. يروي أهل بيته أنه كان يحب استعمال مجموعة من المتعلقات الشخصية أهديت إليه بمناسبة زواجه من سيدة بيت آوته في بيتها حين كان مطاردا، وكلما جاء ذكرها بين أهله كان يقول لهم: "إن لها فضلا علينا". ويروى عن الرجل أنه لما حوصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية قبيل انتفاضة الأقصى، اشترط ألا يسلم نفسه إلا بضمان ألا يمس العائلة التي آوته في بيتها أي أذى، وقد كان له هذا. ولما استطاع الهرب بمعاونة الشهيد يحيى أبو بكرة، ظل يتفقد أهله ويعينه بعدما ضُيق عليه ونُكل به على إثر مساعدته له في الهروب من السجن. وقد ظل الضيف على الدوام يحفظ لأهل البيوت التي آوته في مطاردته فضلهم. لا يزال أهل مدينة خان يونس -التي ولد ونشأ فيها الضيف- يذكرون جنازة 3 شهداء من القسام عام 2001، حين جاءهم صوت خطيب الجنائز أحمد نمر حمدان قائلا إن محمد الضيف يسير بينهم في الجنازة، في زمن كان فيه ظهور المقاتل بين الناس شديد الندرة. وفور أن أتم حمدان جملته، علا صوت الناس مكبرين تكبيرا فيه استبشار بطيف الرجل بينهم، رغم أن أحدا منهم لم يره أو يعرفه. في الأعوام التالية، ستخرج خان يونس لتشيع الحاجة "حليمة"، ثم بعدها بأعوام الحاج "دياب"، والدا محمد الضيف، فيقف في رثائهما وجنازتهما أهل المدينة وقيادات من حركة حماس ورفاق درب ابنهما، في حين يغيب هو عن الجنازتين أو لعله تخفى دون أن يحظى بنظرة أخيرة. وإذ إن مشواره في المقاومة قد استمر، فإنه كان يشرف على تصنيع وإطلاق الأسلحة التي حملت أسماء رفاق دربه في مشوار التصنيع العسكري والمشروع المقاوم ككل. فكان هو المشرف المباشر على إطلاق صاروخ عياش 250، أضخم صواريخ الكتائب الذي استهدف مطار رامون (أقصى جنوب صحراء النقب) خلال معركة سيف القدس عام 2021. جلال الرقة في بيت ناءٍ في منطقة "بير النعجة" غرب جباليا، سيؤمِّن الشهيد نزار ريان مأوى للضيف ورفاقه، ليكون من أكثر المحطات ثباتا وأمانا لهم، كما سيكون البيت أول عهد أطفال الشهيد ريان بمعرفة "العم أبو خالد" من دون أن يعرفوا في ذلك الوقت من يكون. كان الضيف شخصية محببة للأطفال، فخلال فترة إقامته في بيت الشهيد نزار ريان، سيكون وجوده مبعث فرح للصغار وقد امتلأت جعبته بالحكايات التي يرويها لهم. في ليلة من ليالي عام 1995، روى "أبو خالد" للصغار حكاية الرجل الذي قتل كلبه مظنة أنه افترس طفله، بينما كانت الحقيقة أن الكلب حمى الطفل من ثعبان كاد يلدغه، ثم ختم "أبو خالد" الحكاية بقوله: "فلذلك يقول الناس: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة!". ولما استأنس الأطفال برفقته وحكاياته صاروا يبنون المقارنات في خيالهم، بين صورة عمهم "أبو خالد" الذي يقص الحكايات، وعمهم عدنان الغول، الذي يمضي الوقت منشغلا بالاستماع للراديو أو الحديث مع والدهم. يستذكر هذه المشاهد براء (نجل الشهيد نزار ريان)، فيقول: "فقلنا له -أي للضيف (أبو خالد)- إن عمّنا أبو بلال الغول لا يحدثنا بشيء من هذه القصص، وهو إما أن ينصت للمذياع أو يحدث الوالد أو غيره من الكبار! وشكونا له صاحبه أيما شكوى". فأطرق الضيف هنيهة، ثم قال: "عمكم أبو بلال ليس مثلي؛ فإنه رجل أفعال، لا يتكلم كثيرا، لكنه يعمل كثيرا، وهو مجاهد كبير، وقد رمى الصهاينة بالقنابل وهو شاب صغير!". عام 2001، حين اشتدت المحنة على الكتائب، التقت طرق الضيف مع المناضلة فاطمة الحلبي، التي كانت قد نشطت في الكفاح المسلح في سبعينيات القرن الماضي. تقول غدير صيام (ابنة فاطمة) إن الضيف كان بالنسبة لأمها بمقام ابنها، بعدما استشهد نجلها بهاء. وهبت الحلبي للضيف ما أمكنها تأمينه من سلاح، وزوجته ابنتها غدير التي كانت آنذاك في الـ18 من عمرها، وتصف الضيف بقولها إنه كان لها الأب والأخ؛ آزر الضيف زوجته في إنهاء دراستها للحصول على شهادة الثانوية العامة، ثم البكالوريوس في أصول الدين. وإذ لم يرزقا بالأبناء، ظل الضيف حتى حين رافضا الزواج بأخرى، إلى أن أشار ثقات عليه بالزواج من وداد عصفورة عام 2007، التي قالت أمها في تزويجها له: "غبة من السبع، ولا النذل كله"، أي الظفر بلمحة من السبع أفضل من حضور النذل دوما. كانت وداد أما لـ3 أطفال استشهد والدهم خلال أدائه مهامه قائدا ميدانيا في كتائب القسام، وحينما تزوجها الضيف حرص على أن يبقى أولادها معها، وتعهدهم بالاهتمام والرعاية، وظل ينادي أمهم بـ"أم بكر" نبلا وإكراما. رزق الضيف من وداد بكبرى بناته وأكثر ذريته شبها به؛ سمية أمه حليمة، ثم سارة، ثم عمر وعلي، اللذين منحهما اسميهما تيمنا بأخويه وحفظا لأثرهما وفضلهما عليه. وبعدما رزق بحليمة، رزق من زوجته الأولى بـ3 توائم: خالد وبهاء وخديجة. ويذكر عنه أنه كان شديد الحرص على أطفاله، حتى أنه كان يلاحظ بدقة النوافذ حولهم إذا ما كانت مفتوحة، حتى لا تؤذيهم ولو نسمة هواء! في ساعات اجتماع الضيف بزوجته وأطفاله، كان يفرد وقتا يستغرق فيه باللعب مع نجله الأصغر علي، وفي حين رُوي أن ذكريات اللعب مع علي كانت من أكثر ما يدهش زوجته وداد حين تقف تتأمل "قائد الجيش" منهمكا في مداعبة طفل لم يتجاوز عمره بضعة أشهر. ومما يستذكره عنه أهل بيته، مواقفه مع ابنته سارة، التي عُرف عنها ذكاؤها وبديهتها، فكلما التقت أباها، مازحها تحببا بتأخير تلبية رغبة تطلبها منه، حتى يسمعها تعيد عليه الطلب، فتشاكسه بطفولة فياضة وذكاء موروث مدركة سر أبيها، فتقول له: "والله، بقول لمعلمة الروضة مين أنت"، فيضحك الرجل الذي تهدده أعتى منظومات المخابرات في العالم ولا تلين له قناة، ثم يبلغ أقصى اللين فينزل عند رغبات صغيرته لئلا تخبر عنه معلمة الروضة! في أغسطس/آب 2014، ستحاول إسرائيل اغتيال الضيف، فتقصف بيتا لآل الدلو لتستشهد في ذلك القصف زوجته وداد وابنته سارة ونجله علي، في حين تصاب حليمة بجروح لتنجو وشقيقها عمر. وما إن وصل خبر استشهاد وداد إلى أمها حتى قالت: "كلنا فدا شعرة من راسه"، قاصدة بذلك سلامة زوج ابنتها الذي سيظل يبرها كما تقول كأنها أمه. في اجتماعات العائلة حول المائدة، يدني الضيف منه نجله الأصغر عمر، الذي أخذ مكانه خاصة عند أبيه بعد استشهاد أمه، فكان يطعمه بيده، ويحكي له عن كل صنف من الطعام وفائدته، ويظل يشجعه: "بدّك تاكل عشان تكبر وتصير قوي". فقه التفاصيل لم تحل الأعباء الثقيلة على كاهل الضيف دون أن يتابع أدق تفاصيل عائلته وأبنائه، فكان لا يغفل عن أن يعرف على وجه الدقة دوائر أبنائه المقربة من الأصدقاء، ومتابعة تقدمهم في دروس القرآن الكريم تلاوة وحفظا وتفسيرا. إلى جانب ذلك، كان حريصا أشد الحرص على أن يغرس فيهم ثنائية كانت من أعجب ما يفعله أب مع أولاده -كما يصفها أهل بيته- إذ كان يربيهم على الجهوزية لاحتمالات الاستشهاد من نعومة أظفارهم. فإما أن يستشهدوا معا جميعا، أو يسبقوه أو يسبقهم في الشهادة، وكان كلما استحضر هذا الحديث مع أولاده يقرنه بالزهد -لا قولا فحسب، بل فعلا ممارسا في حياتهم- حتى يكونوا أقدر على التحرك والتأقلم مع الأماكن كيفما تقتضي ظروف والدهم واحتياطاته الأمنية. وكان كلما حدثهم في هذا يستحضر قول الله (عز وجل): "وما عند الله خير وأبقى" (سورة الشورى: 36)، ويرسخ في نفوسهم أن عليهم إكمال مسيرته إن سبقهم إلى الشهادة. وفي هذا يذكر أهل بيته عن حليمة -ابنته الكبرى- أنها حينما أصيبت في محاولة اغتيال والدها عام 2014، ظلت ترفض الكلام بعضا من الوقت في المستشفى، فلما نطقت، همست في حرص لخالتها: "يا خالتو، الحمد لله بابا بخير، ما كان معنا". لم تكن حليمة في ذلك الوقت قد تجاوزت من العمر 5 سنوات. لكنها منذ ذلك الوقت وعت تماما معنى أنها ابنة محمد الضيف، وحرصت في ما تلا ذلك اليوم من وقت أن تلازم أباها كلما اجتمع بها وإخوتها، فتشربت طباعه وحنانه حتى صارت كما يصفها أهلها: "تشعر وكأنك جالس مع أبو خالد حين تجلس مع حليمة". كان من اللافت اهتمام الضيف بأن يجيد أبناؤه الخط العربي، إيمانا منه بأن العلاقة باللغة هي ركن أساس في كل علم نافع ذي أثر. كما كان يتابع تقدمهم في دورات ركوب الخيل والسباحة واللغة الإنجليزية، ولم يكن حنانه المتدفق عليهم يلغي حزمه في إلزامهم بإنهاء ما يجب عليهم إنهاؤه من مهام بإتقان، وكان يبذل في هذا ما يتاح له من وقت في ملازمتهم ودعمهم. يستذكر نجلاه، خالد وبهاء، أنه كان يحضر لوحا للدراسة في فترات الامتحانات ويتابع معهم الدراسة، وكان شديد الحرص على أن يتابع بنفسه دروسهم الدينية، من الحديث والسيرة والفقه، مستيقنا أنهم حققوا الفهم والتطبيق في اليوم المعاش، غير مكتف بالحفظ فقط. كان الضيف في نهج تربيته لأولاده حريصا على ألا يكون في حياتهم أي من مظاهر الرفاهية المفرطة، فقد كان نهجه في ذلك أن يؤمن لهم حياة كريمة تكون مثل أوسط الناس معيشة، ولا يحتاجون فيها إلى أحد. الظل دليل الوجهة أخفقت إسرائيل في اغتيال الضيف 7 مرات، وظل ظله واسمه ركنا شديدا يستظل به الفلسطينيون كلما عصف بهم قهر إسرائيل وجبروتها، وظلت الجماهير في القدس والضفة الغربية فضلا عن غزة تهتف دوما: "حط السيف قبال السيف.. احنا رجال محمد ضيف" لرجل لم يعرف أحد وجهه، ولم يكن يسعى إلا نحو بناء قوة ضاربة قادرة على إتمام مشروع تحرير فلسطين. حلم الفلسطينيون كثيرا بلحظة تحرير القدس، ولطالما كان رجاؤهم أن يكون إمامهم في التحرير محمد الضيف، لكن قدر الرجل كان أن يلاقي أجله -كما تاقت نفسه- وهو يقاتل عدوه. ويوم 30 يناير/كانون الثاني 2025، أعلن أبو عبيدة -الناطق العسكري باسم كتائب القسام- استشهاد الضيف رفقة ثلة من قادة الصف الأول في كتائب القسام، ليعرف الناس محمد الضيف بوجهه لأول مرة. لقد كان الظل أقوى من الدرع، وسيظل خالدا بما حمل من نبل المسعى وشرف الغاية متخففا من شهوة أن يقول الفتى ها أنا ذا، في زمن يتقاتل فيه الناس لأجل أن يشار إليهم، لكنه كان متحررا من كل هذا، مبصرا بنور الله أن خلود الرجال بإخلاصها وصنيعها، لا بأي شيء آخر. في تتبع سيرة الضيف، يتضح أن الرجل لم يترك إرثا عسكريا فحسب، بل ترك بموازاته مدرسة أخلاقية في صناعة إرادة المقاتل يستظل بها في زمن طغت فيه المادة والآلة على كل شيء.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store