
الموريتاني محمد فال الدين يتقمّصُ الإمام الغزالي في "دانشمند"
تأهّلت رواية "دانشمند" للكاتب الموريتاني أحمد فال الدين إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية. وهي رواية تاريخية وسيرة غيرية تتناول حياة العلاّمة الإمام أبي حامد الغزالي الذي عاش في حقبة حاسمة من التاريخ الإسلامي، شهدت تحوّلاتٍ سياسية كبرى تمثّلت في تراجع نفوذ الخلافة العباسية وصعود السلاجقة إلى الحكم، إضافةً إلى صراعات مذهبية حادّة بين الشافعية والحنفية حول الأحكام الفقهية، بخاصة في ما يتعلّق بالأوقاف والثروات والتقرب من السلاطين، والانحياز إليهم وفقاً لمذاهبهم.
فقد كان السلطان السلجوقي ملكشاه، على سبيل المثال، حنفياً بينما كان وزيرهُ نظام الملك شافعياً. إلى جانب ذلك، عايش الغزالي أحداثًا بارزة بينها بداية الحروب الصليبية، وانتشار الدعوة الباطنية بقيادة حسن الصباح الذي تحصّن لسنوات في القلعة الشهيرة "آلموت".
نحنُ إذاً أمام شخصيةٍ مؤثّرة خاضت تحوّلات فكرية وروحية عميقة، وتفاعلت مع شخصيات بارزة غيّرت ملامح عصرها، مثل الوزير نظام الملك الذي عرِف بدعمهِ للعلمِ وإنشاء مدارس نظامية، في المدن الإيرانية القديمة وفي بغداد، والسلطان ملكشاه الذي تميّز بتوسيع الفتوحات الإسلامية. لذا فإنّ هذه الرواية لا تقتصر على سرد سيرةِ الإمام الغزالي فحسب، بل تنسج صورة تاريخية متكاملة لمرحلة تاريخية حافلة بالأحداثِ والتحوّلات.
اليتيم
استهلّ فأل الدين روايته الصادرة عن "دار مسكلياني" بمشهدٍ مأخوذ من منتصفِ أحداثِها، قبل أن ينقلنا إلى الفصل الأوّل المعنون "اليتيم"، وأوّل ما نقرأه في "دانشمند"، هو عن بداية رحلة الإمام الغزالي، حينما قرّر اعتزال التدريس والزهد بالدنيا، بحثًا عن ذاته. يصوّر الكاتب لحظات وداعِ الغزالي أسرته، في عبارة مؤثرة: "لم يعرف أكان الدمع ينسكبُ على وجنتيها أم وجنتيه"، ويضيف: "كأنّ المرء يظل مشدوداً بخيط خفي إلى الرحم التي خرج منها وإن تناءت الدار وانفسحت الأيام فأنت إنما ولدت الآن وما أثقل أن يولد الإنسانُ متأخرًا". هذه الافتتاحية تمنح الرواية مدخلاً فلسفياً يشدّ القارئ بعمق الأفكار الوجودية المطروحة، بخاصة أنّ لغتها جمعت بين الفصاحة والبساطة، ما أضفى عليها نفساً روحانياً متناغماً مع أجواء الرواية.
بعد الصفحات الأولى، يعودُ فأل الدين إلى الفصل الأوّل بدءاً بفترةِ طفولةِ الغزالي، بكل ما تحمله من مصاعب، يتقاسمها مع شقيقه في كنفِ أمٍ فقيرة نفذت وصية والدهما بأنّ التعليم هو طوق النجاة الوحيد لهما، فترسلهما إلى مدرسة نظامية داخلية، حيثُ يلاحظ تفوّق الغزالي اللافت في الحفظ وقدرته على استيعاب مسائل تفوق عمره بكثير. تتقدّم الرواية إلى مراحل نبوغه في شبابهِ، إذ تتجلى فصاحته اللغوية وذكاؤه في تحليل المسائل الفقهية إلى جانب براعته في المناظرات، بخاصة في حضور الوزير نظام الملك، ما يكسبه ثقة الناس واحترام السلاطين، ويمنحه في المقابل امتيازات خاصة، ومكانة اجتماعية مرموقة. يظهر الغزالي في صورةِ العالِم الأنيق، الذي يرتدي أفخر الثياب، ويعيش في منزلٍ جميل وتهدى إليه جارية فاتنة تدعى خلوب، تصبح لاحقاً زوجته وأمّ بناته. وكأنّ المئتي صفحة الأولى ما هي سوى تمهيد يأخذ بيدك إلى قلب الرواية ويعرفك إلى ملامح ذلك العصر وظروفه. قبل أن تغوص في مواضيع أكثر عمقاً وجرأة، تُطرحُ من زاوية مختلفة عمّا اعتدنا عليه.
فأل الدين يعيد إحياء الإمام الغزالي
على رغم اعتمادِ الكاتب الموريتاني بشكل أساسي على صوتِ الراوي العليم في سردِ أحداث الرواية، برعَ في تقمّص شخصية الغزالي، وهو أمرٌ نادرُ الحدوث عند استخدامِ هذهِ التقنية. فعادةً ما يكون تقمص الشخصيات ونقل تفاصيلها النفسية أكثر نجاحاً عند الكتابةِ بضمير المتكلّم، ومع ذلك استطاع فأل الدين النفاذ إلى عمق شخصيةِ الغزالي والتعبير عن صوتهِ الداخلي وهواجسه النفسية مستخدماً الراوي العليم فحسب، ولم يقتصِر الأمر على وصفِ الملامح الخارجية، فهو لم يكتفِ بوصفِ هيئته وصوتهِ ولغة جسده، بل تجاوز ذلك إلى التعبير عن صراعاته الداخلية، وشكوكه، ومعاناته، وهذا تحدٍ كبير، بخاصة أنّ الشخصية ليست متخيّلة بل حقيقية لها مكانتها في التاريخ، ما يجعلنا نشعر كأنّه حيٌ أمامنا، بل كأنّ الزمن عاد بنا بمئات السنين إلى الوراء لنعيش ذلك العصر كما لو أنّنا ننتمي إليه.
إضافة إلى براعة الكاتب في تقمّص شخصية الغزالي، فقد وظّف مفردات مستوحاة من ذلك العصر، مثل كلمة تعليقة التي تعني الملزمة الدراسية، كما لم يكتفِ بذكر أسماءِ المدنِ، بل أضفى على الوصفِ بُعداً بصرياً حياً كأنّه عاش بنفسه في ذلك الزمنِ، على سبيل المثال عند حديثه عن مدينةِ نيسابور، إحدى مدن خراسان القديمة، لم يكتفِ بالإشارةِ إليها بل وصف بدقة شوارعها، وأسواقها وساحاتها، كما لو كان ينقل الصورة من ذاكرته البصرية، فهو يصفُ طريقًا يبدأ من شارع العطارين غرباً في سكة معقد وصولاً إلى ساحة الطاق التي يطل عليها المسجد من الشمال. وهذا أصعب ما في كتابةِ الروايةِ التاريخية، أن ينجح الكاتب في استحضار العصر بكل تفاصيله.
الغزالي ورحلة بحثهِ عن الذات
في منتصفِ الرواية، وبعد أن تتجاوز ثلاثمئة صفحة، قد تتساءل: "وماذا بعد؟ كيف سيتمكّن فأل الدين من الحفاظ على قوّة السرد؟" ثم في الفصل الخامس والأربعين، تبدأ مرحلةً جديدةً لعلّها الأهم من حياةِ الإمام الغزالي، فبعد أن حقّق طموحه وذاع صيته، وعرف بلقبِ "حجّة الإسلام" وألّفَ العديد من الكتب، يجد نفسه محاصراً بإحساس الخواء واللاجدوى، يتسلّل إليه الشك حتى يطاول كل ما بناه، تلك الشكوك التي قد تراود أي إنسان طبيعي عن إيمانهِ ومعتقداتهِ ولكنّ الأمر يختلف حتماً.عندما تصيبُ عالماً في الفقه، يُفتي ويقود، ويعتمدُ مريدوه على حكمته، تتجلى هذه الحيرة في تساؤله: "هل لهذه الصلاة التي كنت أصليها فائدة؟ ما أدراني أنّ هذا دين ورثته كما ورث النصراني دينه واليهودي ملّته؟" ثم يمضي في شكوكهِ قائلاً: "ما أدراني أنّ هذا كذب؟ كيف أعرف أنّ هذه العقيدة التي أدين بها صحيحة؟ وكيف أعرف أنّني أعرف؟".
لم يستطع الغزالي أن يسامح نفسه على شكوكه، بل صار ناقماً على أسلوب حياتهِ وفخره بكل ما حقّقه، ما يجعله يفكّر جدّياً في التوقف عن التدريس والرحيل بحثًا عن ذاته، متأثراً بحواره مع درويش متصوّف نصحه: "أوّلا تحرّك إلى ربك، فإنّ الجسد الساكن جسدٌ ميت". يتأثر بكلماته ويميل إلى الزهد، ليس في مباهج الحياةِ وملذاتها فحسب، بل حتى في تعلقه بالأهل والأبناء، يزهد في الطعامِ فلا يتناول إلاّ لقيمات تكفيه للبقاء، ويستبدل باللبن البارد الماء كي لا يتلذذ بهِ بعد رحلة مضنية أدمت قدميه. لكن بعد سنواتٍ من التيه والبحث، يصبحُ رجل دينٍ وسطياً يجمع بين الزهدِ والإيمان، ينفع الناس بعلمه ولكن هذه المرة بعيدًا عن الملوك والسلاطين.
ارتباك السرد في الفصول الأخيرة
في الفصول الأخيرة من الرواية، تهيمنُ الحروب الصليبية على مسار الأحداث. فيستعرض الكاتب بداياتها وتقدّم الجيوش نحو أنطاكية وصولاً إلى القدس، مع وصف مفصّل للفظائع والمجازر التي تعرض لها المسلمون، غير أنّ أكثر ما تمكن ملاحظته بوضوح هو أنّ الرواية تفتقر إلى استعراض موقف الإمام الغزالي من هذه الحروب، فلا نجد لهُ رأياً واضحاً وصريحاً، أو حتى تأملات داخلية بشأنها طوال الفصول، إلى أن يفاجئنا الكاتبُ متأخراً، بتأثر الغزالي الشديد عند سماعه نبأ مقتل الشيخة الشيرازية داخل المسجد. يبقى غياب هذا الموقف المهم موضع تساؤلٍ: هل إهماله له مبرّر بسبب تأخر وصول الأخبار إليه بسبب ظروفِ التواصل في ذلك الزمن؟ أم أنّه تعمّد ذلك، محاكاة منه لعزلةِ الإمام وانشغاله بتدريس طلابه؟ أم أنّ الأمر لا يعدو هفوة سردية من الكاتب فأل الدين؟ يختمُ الأخيرُ الروايةَ بوفاةِ العلاّمة، ولا يمكن تجاهل أنّ الفصول الأخيرة قد تبدو باهتة وأقل قوّة مقارنةً بالبداية المتماسكة، فهل تتمكّن "دانشمند" من الفوز بالجائزة العالمية للرواية؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- النهار
"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا تفوز بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية"
في لحظةٍ انتظرها عشّاق الأدب العربي، انتزعت رواية "صلاة القلق" للكاتب المصري محمد سمير ندا صدارة المشهد الروائي العربي مساء الخميس، متوّجة بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" لعام 2025، في دورتها الثامنة عشرة، بعد منافسة حادّة ضمّت 124 رواية من مختلف أرجاء العالم العربي. وصفت رئيسة لجنة التحكيم الناقدة المصرية منى بيكر الرواية بأنّها عملٌ استثنائي "يوقظ أسئلة وجودية دفينة في نفس القارئ، ويمنح فعل القراءة أبعاداً حسّية وإنسانية، تتجاوز الحدود الجغرافية إلى المشترك الإنساني العميق". كلماتٌ تلخّص جوهر الرواية التي قادت محمد سمير ندا إلى هذه اللحظة المفصلية في مسيرته الأدبية. "صلاة القلق"، الصادرة عن "دار مسكلياني" في 2024، لم تصل إلى القمة صدفة، فقد تقدّمت الرواية من بين ستّ روايات وصلت إلى القائمة القصيرة، من بينها "ميثاق النساء" للبنانية حنين الصايغ، و"دانشمند" للموريتاني أحمد فال الدين، و"وادي الفراشات" للعراقي أزهر جرجيس، و"المسيح الأندلسي" للسوري تيسير خلف، و"ملمس الضوء" للإماراتية نادية النجار. لجنة التحكيم لهذه الدورة ضمّت أسماءً أدبية وفكرية من خلفيات متعددة: الأكاديمي اللبناني بلال الأرفه لي، المترجم الفنلندي وسامبسا بلتونن، الناقد المغربي سعيد بنكراد، والأكاديمية الإماراتية مريم الهاشمي، إلى جانب منسقة الجائزة فلور مونتانارو، وتحت إشراف رئيس مجلس الأمناء، الأكاديمي ياسر سليمان. محمد سمير ندا، المولود في بغداد عام 1978، عاش طفولته بين العراق ومصر وليبيا، قبل أن يستقرّ في الكتابة الروائية. يحمل شهادة في التجارة، إلا أن الأدب كان خياره الوجودي. "صلاة القلق" هي روايته الثالثة بعد "مملكة مليكة" (2016) و"بوح الجدران" (2021). وهو ابن الكاتب المصري الراحل سمير ندا (1938–2013)، ما يضيف لرحلته بعداً عائلياً من إرثٍ إبداعي متجذّر. بفوزه، لا يكتفي ندا بإضافة اسمه إلى لائحة المتوّجين بجائزة هي من الأبرز في العالم العربي، بل يقدّم رواية تتحدى القارئ وتحرّضه، تُصغي إلى قلقه وتجاوره. "صلاة القلق" ليست فقط عنواناً لرواية فائزة، بل شهادة على تحوّل القلق الإنساني إلى طاقة إبداعية نابضة بالحياة. تبلغ القيمة المالية للجائزة التي يرعاها مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي 50 ألف دولار. وترشحت للجائزة هذا العام 124 رواية من 20 دولة وصلت 16 منها للقائمة الطويلة في كانون الثاني/يناير.


النهار
٠٨-٠٤-٢٠٢٥
- النهار
رشيد الخيون يحصد جائزة الشيخ زايد لتحقيقه مخطوط "أخبار النساء" النادر
فاز الباحث العراقي البريطاني رشيد الخيون، من كتّاب "النهار"، بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025 - فرع تحقيق المخطوطات عن تحقيقه كتاب "أخبار النساء" لمؤلفه الأمير أسامة بن منقذ (المتوفى عام 584 هجرية). تُعدّ نسخة المخطوط المحقق نادرة وفريدة في العالم، وأصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وهو المركز المالك للمخطوط والمُكلَّف بتحقيقه، ويقول عنه إنّه "كتاب صاغه مؤلّفه بأسلوب أدبي رشيق، ذكر فيه النّساء وأوصافهن وفضائلهنَّ ونوادر حكاياتهنّ، من معارفه الموسوعية ما جعله قطعةً أدبيةً بديعة". صنّف الأمير الأديب أسامة بن منقذ، مؤرخ الحروب الصليبية والشاعر والمحارب، كتاب "أخبار النساء" مخطوطاً فريداً في العالم، اقتناه مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية بالرياض، وكلّف الخيون بتحقيقه ودراسته قبل نحو ثلاث سنوات. ويقول الخيون إنّ "الكتاب فريد بعنوانه، وبموضوعاته، جمع سيَراً وأدباً وشعراً، الأمهات منهن والأخوات والبنات، بعد أن اعتُبر من الكتب المفقودة". ويروي في منشور سابق على "فايسبوك" أنّه "لولا الصّدفة التي شاءت أن يعرضه أحد باعة الأوراق القديمة، على مالكه الأول، لربّما راح مستعملاً مِن قِبل البقالين، وكمْ مِن كتب تلفت في الدكاكين للجهل بها، فكان يُصيب الكتب، التي ضمّتها خزائن مكتبات الملوك والوزراء الأقدمين، ما يصيبهم مِن عوادي الزمان".


النهار
٣١-٠٣-٢٠٢٥
- النهار
الموريتاني محمد فال الدين يتقمّصُ الإمام الغزالي في "دانشمند"
تأهّلت رواية "دانشمند" للكاتب الموريتاني أحمد فال الدين إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية. وهي رواية تاريخية وسيرة غيرية تتناول حياة العلاّمة الإمام أبي حامد الغزالي الذي عاش في حقبة حاسمة من التاريخ الإسلامي، شهدت تحوّلاتٍ سياسية كبرى تمثّلت في تراجع نفوذ الخلافة العباسية وصعود السلاجقة إلى الحكم، إضافةً إلى صراعات مذهبية حادّة بين الشافعية والحنفية حول الأحكام الفقهية، بخاصة في ما يتعلّق بالأوقاف والثروات والتقرب من السلاطين، والانحياز إليهم وفقاً لمذاهبهم. فقد كان السلطان السلجوقي ملكشاه، على سبيل المثال، حنفياً بينما كان وزيرهُ نظام الملك شافعياً. إلى جانب ذلك، عايش الغزالي أحداثًا بارزة بينها بداية الحروب الصليبية، وانتشار الدعوة الباطنية بقيادة حسن الصباح الذي تحصّن لسنوات في القلعة الشهيرة "آلموت". نحنُ إذاً أمام شخصيةٍ مؤثّرة خاضت تحوّلات فكرية وروحية عميقة، وتفاعلت مع شخصيات بارزة غيّرت ملامح عصرها، مثل الوزير نظام الملك الذي عرِف بدعمهِ للعلمِ وإنشاء مدارس نظامية، في المدن الإيرانية القديمة وفي بغداد، والسلطان ملكشاه الذي تميّز بتوسيع الفتوحات الإسلامية. لذا فإنّ هذه الرواية لا تقتصر على سرد سيرةِ الإمام الغزالي فحسب، بل تنسج صورة تاريخية متكاملة لمرحلة تاريخية حافلة بالأحداثِ والتحوّلات. اليتيم استهلّ فأل الدين روايته الصادرة عن "دار مسكلياني" بمشهدٍ مأخوذ من منتصفِ أحداثِها، قبل أن ينقلنا إلى الفصل الأوّل المعنون "اليتيم"، وأوّل ما نقرأه في "دانشمند"، هو عن بداية رحلة الإمام الغزالي، حينما قرّر اعتزال التدريس والزهد بالدنيا، بحثًا عن ذاته. يصوّر الكاتب لحظات وداعِ الغزالي أسرته، في عبارة مؤثرة: "لم يعرف أكان الدمع ينسكبُ على وجنتيها أم وجنتيه"، ويضيف: "كأنّ المرء يظل مشدوداً بخيط خفي إلى الرحم التي خرج منها وإن تناءت الدار وانفسحت الأيام فأنت إنما ولدت الآن وما أثقل أن يولد الإنسانُ متأخرًا". هذه الافتتاحية تمنح الرواية مدخلاً فلسفياً يشدّ القارئ بعمق الأفكار الوجودية المطروحة، بخاصة أنّ لغتها جمعت بين الفصاحة والبساطة، ما أضفى عليها نفساً روحانياً متناغماً مع أجواء الرواية. بعد الصفحات الأولى، يعودُ فأل الدين إلى الفصل الأوّل بدءاً بفترةِ طفولةِ الغزالي، بكل ما تحمله من مصاعب، يتقاسمها مع شقيقه في كنفِ أمٍ فقيرة نفذت وصية والدهما بأنّ التعليم هو طوق النجاة الوحيد لهما، فترسلهما إلى مدرسة نظامية داخلية، حيثُ يلاحظ تفوّق الغزالي اللافت في الحفظ وقدرته على استيعاب مسائل تفوق عمره بكثير. تتقدّم الرواية إلى مراحل نبوغه في شبابهِ، إذ تتجلى فصاحته اللغوية وذكاؤه في تحليل المسائل الفقهية إلى جانب براعته في المناظرات، بخاصة في حضور الوزير نظام الملك، ما يكسبه ثقة الناس واحترام السلاطين، ويمنحه في المقابل امتيازات خاصة، ومكانة اجتماعية مرموقة. يظهر الغزالي في صورةِ العالِم الأنيق، الذي يرتدي أفخر الثياب، ويعيش في منزلٍ جميل وتهدى إليه جارية فاتنة تدعى خلوب، تصبح لاحقاً زوجته وأمّ بناته. وكأنّ المئتي صفحة الأولى ما هي سوى تمهيد يأخذ بيدك إلى قلب الرواية ويعرفك إلى ملامح ذلك العصر وظروفه. قبل أن تغوص في مواضيع أكثر عمقاً وجرأة، تُطرحُ من زاوية مختلفة عمّا اعتدنا عليه. فأل الدين يعيد إحياء الإمام الغزالي على رغم اعتمادِ الكاتب الموريتاني بشكل أساسي على صوتِ الراوي العليم في سردِ أحداث الرواية، برعَ في تقمّص شخصية الغزالي، وهو أمرٌ نادرُ الحدوث عند استخدامِ هذهِ التقنية. فعادةً ما يكون تقمص الشخصيات ونقل تفاصيلها النفسية أكثر نجاحاً عند الكتابةِ بضمير المتكلّم، ومع ذلك استطاع فأل الدين النفاذ إلى عمق شخصيةِ الغزالي والتعبير عن صوتهِ الداخلي وهواجسه النفسية مستخدماً الراوي العليم فحسب، ولم يقتصِر الأمر على وصفِ الملامح الخارجية، فهو لم يكتفِ بوصفِ هيئته وصوتهِ ولغة جسده، بل تجاوز ذلك إلى التعبير عن صراعاته الداخلية، وشكوكه، ومعاناته، وهذا تحدٍ كبير، بخاصة أنّ الشخصية ليست متخيّلة بل حقيقية لها مكانتها في التاريخ، ما يجعلنا نشعر كأنّه حيٌ أمامنا، بل كأنّ الزمن عاد بنا بمئات السنين إلى الوراء لنعيش ذلك العصر كما لو أنّنا ننتمي إليه. إضافة إلى براعة الكاتب في تقمّص شخصية الغزالي، فقد وظّف مفردات مستوحاة من ذلك العصر، مثل كلمة تعليقة التي تعني الملزمة الدراسية، كما لم يكتفِ بذكر أسماءِ المدنِ، بل أضفى على الوصفِ بُعداً بصرياً حياً كأنّه عاش بنفسه في ذلك الزمنِ، على سبيل المثال عند حديثه عن مدينةِ نيسابور، إحدى مدن خراسان القديمة، لم يكتفِ بالإشارةِ إليها بل وصف بدقة شوارعها، وأسواقها وساحاتها، كما لو كان ينقل الصورة من ذاكرته البصرية، فهو يصفُ طريقًا يبدأ من شارع العطارين غرباً في سكة معقد وصولاً إلى ساحة الطاق التي يطل عليها المسجد من الشمال. وهذا أصعب ما في كتابةِ الروايةِ التاريخية، أن ينجح الكاتب في استحضار العصر بكل تفاصيله. الغزالي ورحلة بحثهِ عن الذات في منتصفِ الرواية، وبعد أن تتجاوز ثلاثمئة صفحة، قد تتساءل: "وماذا بعد؟ كيف سيتمكّن فأل الدين من الحفاظ على قوّة السرد؟" ثم في الفصل الخامس والأربعين، تبدأ مرحلةً جديدةً لعلّها الأهم من حياةِ الإمام الغزالي، فبعد أن حقّق طموحه وذاع صيته، وعرف بلقبِ "حجّة الإسلام" وألّفَ العديد من الكتب، يجد نفسه محاصراً بإحساس الخواء واللاجدوى، يتسلّل إليه الشك حتى يطاول كل ما بناه، تلك الشكوك التي قد تراود أي إنسان طبيعي عن إيمانهِ ومعتقداتهِ ولكنّ الأمر يختلف حتماً.عندما تصيبُ عالماً في الفقه، يُفتي ويقود، ويعتمدُ مريدوه على حكمته، تتجلى هذه الحيرة في تساؤله: "هل لهذه الصلاة التي كنت أصليها فائدة؟ ما أدراني أنّ هذا دين ورثته كما ورث النصراني دينه واليهودي ملّته؟" ثم يمضي في شكوكهِ قائلاً: "ما أدراني أنّ هذا كذب؟ كيف أعرف أنّ هذه العقيدة التي أدين بها صحيحة؟ وكيف أعرف أنّني أعرف؟". لم يستطع الغزالي أن يسامح نفسه على شكوكه، بل صار ناقماً على أسلوب حياتهِ وفخره بكل ما حقّقه، ما يجعله يفكّر جدّياً في التوقف عن التدريس والرحيل بحثًا عن ذاته، متأثراً بحواره مع درويش متصوّف نصحه: "أوّلا تحرّك إلى ربك، فإنّ الجسد الساكن جسدٌ ميت". يتأثر بكلماته ويميل إلى الزهد، ليس في مباهج الحياةِ وملذاتها فحسب، بل حتى في تعلقه بالأهل والأبناء، يزهد في الطعامِ فلا يتناول إلاّ لقيمات تكفيه للبقاء، ويستبدل باللبن البارد الماء كي لا يتلذذ بهِ بعد رحلة مضنية أدمت قدميه. لكن بعد سنواتٍ من التيه والبحث، يصبحُ رجل دينٍ وسطياً يجمع بين الزهدِ والإيمان، ينفع الناس بعلمه ولكن هذه المرة بعيدًا عن الملوك والسلاطين. ارتباك السرد في الفصول الأخيرة في الفصول الأخيرة من الرواية، تهيمنُ الحروب الصليبية على مسار الأحداث. فيستعرض الكاتب بداياتها وتقدّم الجيوش نحو أنطاكية وصولاً إلى القدس، مع وصف مفصّل للفظائع والمجازر التي تعرض لها المسلمون، غير أنّ أكثر ما تمكن ملاحظته بوضوح هو أنّ الرواية تفتقر إلى استعراض موقف الإمام الغزالي من هذه الحروب، فلا نجد لهُ رأياً واضحاً وصريحاً، أو حتى تأملات داخلية بشأنها طوال الفصول، إلى أن يفاجئنا الكاتبُ متأخراً، بتأثر الغزالي الشديد عند سماعه نبأ مقتل الشيخة الشيرازية داخل المسجد. يبقى غياب هذا الموقف المهم موضع تساؤلٍ: هل إهماله له مبرّر بسبب تأخر وصول الأخبار إليه بسبب ظروفِ التواصل في ذلك الزمن؟ أم أنّه تعمّد ذلك، محاكاة منه لعزلةِ الإمام وانشغاله بتدريس طلابه؟ أم أنّ الأمر لا يعدو هفوة سردية من الكاتب فأل الدين؟ يختمُ الأخيرُ الروايةَ بوفاةِ العلاّمة، ولا يمكن تجاهل أنّ الفصول الأخيرة قد تبدو باهتة وأقل قوّة مقارنةً بالبداية المتماسكة، فهل تتمكّن "دانشمند" من الفوز بالجائزة العالمية للرواية؟