
ترامب يجدد مطالبته بإلغاء محاكمة نتنياهو ويلوح بتعليق المساعدات لإسرائيل
انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الادعاء العام الإسرائيلي بشأن محاكمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الجارية بتهم الفساد، قائلا إنها تُعيق قدرته على إجراء محادثات مع كل من حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) وإيران.
وفي منشور على موقع "تروث سوشيال"، لوّح ترامب بتعليق المساعدات الأميركية لإسرائيل على خلفية الاستمرار في محاكمة نتنياهو، قائلا: "تنفق الولايات المتحدة الأميركية مليارات الدولارات سنويا، أكثر بكثير من أي دولة أخرى، على حماية إسرائيل ودعمها. لن نتسامح مع هذا".
وحسب وكالة رويترز، فقد وجه الادعاء الإسرائيلي إلى نتنياهو في عام 2019 اتهامات بالرشوة والفساد وخيانة الأمانة لكنه ينفيها جميعا. وبدأت محاكمته في عام 2020 في 3 قضايا جنائية.
وقال ترامب في منشوره إن "ما يفعله ممثلو الادعاء الخارجون عن السيطرة مع بيبي نتنياهو ضرب من الجنون"، مضيفا أن الإجراءات القضائية ستؤثر في قدرة نتنياهو على إجراء محادثات مع كل من حماس وإيران.
أميركا ستنقذه
وأضاف الرئيس الأميركي أن نتنياهو "حاليا" في طور التفاوض على اتفاق مع حماس، دون أن يذكر أي تفاصيل، علما بأنه كان قد قال الجمعة الماضي إنه يعتقد أن وقف إطلاق النار في غزة بات وشيكا.
جدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها ترامب إلى إلغاء محاكمة نتنياهو المطلوب أيضا ل لمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة ، حيث قال الخميس الماضي إن "الولايات المتحدة ستنقذه كما أنقذت إسرائيل"، وإنه "يجب إلغاء محاكمة نتنياهو على الفور أو منحه عفوا".
وفي اليوم التالي علقت صحيفة هآرتس الإسرائيلية على منشور ترامب ناقلة عن نقيب المحامين الإسرائيليين قوله إن الخطوة إذا كانت منسقة أو جاءت بطلب من نتنياهو فإن ذلك يعد سلوكا مخالفا للقانون.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 28 دقائق
- الجزيرة
إبراهيم البيومي غانم: تجديد الفكر لتشريح أزمة التبعية الثقافية والانسداد الحضاري
في لحظة تاريخية تسقط فيها الأقنعة الغربية بدعمها الصريح للإبادة في غزة، وتتصدع صورتها الأخلاقية أمام العالم، يظل العقل العربي أسيرًا لجاذبيتها، عاجزًا عن فك ارتباطه الفكري والثقافي بها. ما الذي يشلّ إرادتنا الحضارية؟ ولماذا، في ذروة الأزمة، يبدو الانقسام بين نخبنا أعمق من أي وقت مضى؟ وهذه ليست مجرد أسئلة سياسية عابرة، بل هي جوهر المأزق الوجودي الذي تعيشه الأمة اليوم. وللغوص في أعماق هذا الانسداد الحضاري، وتشريح أسباب التبعية المستدامة، تحاور "الجزيرة نت" المفكر المصري الدكتور إبراهيم البيومي غانم، في حوار يتجاوز توصيف الأعراض إلى محاولة كشف جذور الأزمة. بصفته أستاذًا للعلوم السياسية، وعضوًا في مركز دراسات مقاصد الشريعة، ومستشارًا سابقًا لبرامج الأمم المتحدة، يمتلك الدكتور غانم رؤية مركبة تجمع بين صلابة التحليل الأكاديمي وعمق البصيرة الفقهية والخبرة الميدانية. ومن خلال مساره الفكري المتنوع، يقدم لنا أدوات لفهم غياب الفكر الاستراتيجي، ومآلات المشاريع الإصلاحية، وجدوى الحديث عن "تجديد الخطاب" في ظل واقع لا يزال محكومًا بشروط الهيمنة. في هذا الحوار، الذي هو أشبه بجلسة تشريح فكري للحظة استثنائية من تاريخنا، نبحث مع الدكتور البيومي غانم عن إجابات لأسئلة مصيرية: كيف يمكن لأمة أن تتحرر وهي لا تزال تفكر بعقل مستعمِرها؟ وما السبيل للخروج من دائرة التبعية التي تلتهم حاضرنا ومستقبلنا؟ ويجيب خلال هذا الحوار، عن غياب الفكر الإستراتيجي، ومآلات المشروع الإصلاحي، وجدوى "تجديد الخطاب"، ومكانة العلوم الاجتماعية في مجتمعاتنا، في محاولة للكشف عن جوهر الأزمة الحضارية التي نعيشها، لا توصيف أعراضها فقط. فإلى الحوار: رغم ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من إبادة للإنسان والحجر بدعم غربي، فإننا لم نر انزياحا في العالم العربي عن المركزية الغربية فكريا وثقافيا على الأقل، لماذا في رأيكم؟ العدو الإسرائيلي، على مستوى ما يمارسه من أعمال الإبادة والتوحش، لا يمثل نفسه فقط، وإنما يمثل المنظومة الفكرية الغربية الأوروبية الأميركية، التي هي من تداعيات ما بعد الحداثة في جوهرها المعرفي، والتي تمثل "الشر المطلق" -حسب طه عبد الرحمن- في التاريخ العالمي المعاصر. وقيام هذا العدو بدور الإبادة يعبر عن عمق الرداءة التي يمكن أن ينحدر إليها نموذج الدولة الوظيفية (إسرائيل في هذه الحالة). ليست إسرائيل أول من يبيد العرب والمسلمين، فقد سبقتها دول الاستعمار القديم، ولا تزال تمارس هذه الإبادة بكل ما لديها من وسائل ناعمة وخشنة، مباشرة وغير مباشرة، على مدى قرنين من الزمن وربما أكثر. ولو كان فعل الإبادة سببا كافيا للانزياح عن المركزية الغربية فكريا وثقافيا، لحدث ذلك قبل قرن من الزمان على الأقل. إذن، ما سبب عدم الانزياح في الظروف الراهنة؟ في رأيي، أن السبب الأكبر هو الانقسام النخبوي الحاصل في بلادنا بين مرجعيتين معرفيتين: الأولى المرجعية الأصيلة الموروثة، والثانية المرجعية الوافدة المقتحمة. الأولى تتبناها النخبة (الإسلامية والقومية)، والثانية تتبناها النخبة العلمانية والمستغربة. هذا هو الانقسام الأشرس الذي يفتك بقوى أمتنا منذ أكثر من مئة سنة. وقد نجحت مدارس الاستشراق ومذاهب العلوم الاجتماعية المقتحمة لبلاد أمتنا في ترسيخه وتغذيته وتحديثه كلما تآكل من هنا أو من هناك. هذا الانقسام ليس انقساما سطحيا أو عابرا بحيث يمكن ردم الفجوات التي يحدثها في صفوف أمتنا، أو تجاوزه تحت وقع أحداث وأهوال الإبادة؛ بل هذه الأهوال تغذيه باستمرار، وتجعل النخبة العلمانية المتغربة أكثر شراسة في التشبث بالمرجعية المعرفية الاحتلالية الوافدة من المركزية الغربية، وتجعل النخبة الإسلامية والقومية أكثر تشبثا بمرجعيتها الموروثة الأصيلة المعبرة عن هوية أمتنا. لا يحدث الانزياح الثقافي والمعنوي دفعة واحدة، ولا تحت تأثير حدث واحد، ولو كان هائلا كالذي تمر به أمتنا ويشاهده العالم صباح مساء من مجازر مروعة وفظائع غير مسبوقة في تاريخ الحروب والصراعات المسلحة. ومع كل هذا، فإن الانزياح حاصل على مستويات مختلفة وبمعدلات متزايدة. هو حاصل على نطاقات أوسع من ضحايا هذه الفظائع. الانزياح يحدث حتى داخل النخب الغربية والأميركية، والأدلة والوقائع كثيرة ومتلاحقة، منها: زيادة معدلات التحول إلى الإسلام في المجتمعات الغربية، والمظاهرات ضد العدوان وضد السياسة الأميركية والأوروبية في عواصم بلادهم، وصعود أصوات وازنة من المفكرين والفلاسفة والساسة الغربيين ينتقدون أسس المركزية الأوروبية، ويتحدثون عن فقدانها للحس الإنساني وعدائها للحياة. يحدث هذا ويتراكم يوما بعد يوم داخل أوروبا وأميركا، وفي أنحاء مختلفة حول العالم، ونحن في قلب هذه التحولات كلها. ما التأثيرات المتوقعة للمركزية الغربية بعد دعمها جرائم إنسانية وإبادة جماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ أول تلك التأثيرات وأوضحها: استمرار حالة الانقسام المرجعي المزمن في أوساط النخب الفكرية والثقافية والعلمائية في بلاد أمتنا. لدينا طابور فكري خامس لا يزال متشبثا بمقولات ورؤى هذه المركزية، وهذا الانقسام هو أقوى الجيوش التي تهدم قوى أمتنا من الداخل. والسماح ببقاء الفريق العلماني المستغرب يعني السماح بطابور خامس وسادس وعاشر من العملاء العاملين في خدمة المركزية الغربية وتيسير ممارسة سيطرتها على مجتمعاتنا، وقهرها، وقمع أي محاولة لنهضتها. وطالع بنفسك مواقف هؤلاء من حملات الإبادة التي تتقدمها إسرائيل، ومن ورائها، وربما من أمامها، قوى الغرب الإمبريالي الأميركي الأوروبي، وستجد الصورة واضحة، وستجد سبب عدم انزياحهم عن ثقافة المركز الأوروبي المهيمن أكثر وضوحا. هنا لب الإشكال، ومن هنا يبدأ الحل. والحل هو وجوب إزالة هذا الانقسام بإزاحة فريق العملاء الحضاريين بمرجعيتهم المعرفية الوافدة، وتوجيه النقد الصارم لها، وفضح مخاطرها، وكشف وظيفيتها في خدمة السيطرة الغربية على أمتنا. هذا بعض المتوقع على مستوى أمتنا. أما على مستوى المركزية الغربية ذاتها؛ فأهم ما أتوقعه هو تعميق تيار النقد الإنساني داخل المنظومات الفكرية والفلسفية الغربية، وتعزيز تيارات التمرد الفلسفي، والأدبي، والمدني ضد تلك الممارسات، وضد الأفكار التي تنبعث منها وتستند إليها. ومثل هذه التحولات تؤكد ما كررنا القول فيه مرارا في مناسبات سابقة، وهو: أن أزمة الحداثة الغربية لم تعد قابلة للحل من داخلها، ولا بد من اقتحامها من خارجها، وفي عقر دارها، وحيثما وجدت. وهذا هو السبيل المفتوح لإنقاذ البشرية من سوء المصير الذي تقودها إليه هذه المركزية الإقصائية اللا إنسانية. كيف تنظرون إلى عودة الشعبوية في البلدان الغربية وحتى العربية؟ هل تمثل فرصة للانكشاف أم مرحلة للانكفاء؟ الشعبوية في البلدان الغربية باتت عنوان السياسة في عديد من البلدان الأوروبية منذ بدايات هذا القرن الحادي والعشرين مع صعود اليمين المتطرف، وها هي ذي تبلغ ذروتها المقززة مع ترامب في الولايات المتحدة. هي، من جهة، لحظة تاريخية كاشفة لزيف "التمدن الغربي"، وفاضحة لثبات معاييره ووحدة مكاييله، وليس ازدواجيتها. بعكس ما هو شائع في الخطاب السياسي والإعلامي؛ لم تكن الدول الغربية الأوروبية الأميركية مزدوجة المعايير أو المكاييل تجاه أمتنا أو تجاه أمم الجنوب في يوم من الأيام، بل كان معيارها ومكيالها واحدا وثابتا على طول الزمن، وعلى عرض جغرافيا ما هو غير غربي. هذا المعيار الواحد والمكيال الواحد هو: إنكار إنسانية غير الأوروبي والأميركي من أساسها، واستباحة كل ما يملكه "الغير" من ثروات وهوية وثقافة وحضارة، وحاضر، ومستقبل. وهل نحن بحاجة لأدلة اليوم أوضح من تصريحات قادة العدو الإسرائيلي إبان عدوانهم الهمجي على غزة؟ أو أوضح مما فعله ترامب ويفعله، أو قاله ويقوله؟ إن أصول هذا المكيال راسخة في فلسفة "عصر الأنوار" كما يسمونه، وهي مستمرة في مختلف موجات التقدم الغربي. وترسخت فلسفتها في القرن التاسع عشر، حيث وضعت فيه كل منظومات الاستعلاء "الغربي الحديث" المبنية على الإقصاء والإبادة الفكرية والمعنوية والجسدية، كلما لزم الأمر. آرثر جوبينو قالها في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وأسس لها في أكثر من كتاب، وفوشيه دي لابوج قالها في مطلع القرن العشرين، وذهب إلى أن القتال في مطالع القرن الحادي والعشرين سيكون على أساس لون العينين، وملمس الشعر، وحجم الجمجمة!! وكانت لحظة انفجار هذه العقيدة الإبادية في أوروبا إبان الحربين الأولى والثانية، لكي يتم انتخاب الأقوى الذي يستحق القيام بمهمة إبادة الآخر خارج القارة العجوز. ثم إن هذه الوحشية قد مارستها قوى الاستعمار، وافترست بلادنا وبلاد الجنوب على مدى القرنين الأخيرين، ولا تزال آلتها الإبادية تحصد الأرواح، وتنهب الثروات، وترتكب الفظائع دون حسيب أو رقيب. وهم، وأكبر وهم: أن نستمر في ترديد القول بأن معايير الغرب "مزدوجة" أو أن مكاييله مختلة. غير صحيح. بل معاييره واحدة، ومكاييله ثابتة لا يعدلها ولا يغيرها؛ معاييره ثابتة وواحدة في داخله باعتبار أن مواطنيه هم "الإنسان"، وثابتة وواحدة خارجه باعتبار الآخرين وأمتنا في مقدمتهم مجرد "كائنات حية" أقل من مستوى الإنسان. سؤال التجديد ملتبس طوال الوقت في مجتمعات أمتنا ونخبتها الإصلاحية. لماذا؟ لأنه مفتقر إلى الشرط الضروري والكافي لانطلاقه، وهو: التطبيق. الشرط الوجودي للتجديد هو أن تكون المنظومة الفكرية التي يسعى للتجديد فيها قيد العمل والتطبيق، وليست مركونة في هوامش النظم والممارسات والمعاملات والتفاعلات المجتمعية بمختلف مستوياتها بدأ الحديث عن تجديد العلوم بما فيها علم الكلام من منظورين عامين، منظور يعتمد على العلوم الإنسانية الحديثة، ومنظور يحيي العلوم الإسلامية الخاصة، أيهما يقود طريق التجديد الصحيح؟ إعلان سؤال التجديد ملتبس طوال الوقت في مجتمعات أمتنا ونخبتها الإصلاحية. لماذا؟ لأنه مفتقر إلى الشرط الضروري والكافي لانطلاقه، وهو: التطبيق. خذ مثلا ما أُثير ولا يزال يثار بشأن "تجديد الخطاب الديني"؛ أي معنى للتجديد هنا؟ ومن الذي يضعه أو يحدده؟ ومن المسؤول عنه؟ وهل حقا يمكن إرساء مناقصة تجديدية للخطاب الديني تطرحها سلطة حاكمة هنا أو هناك على جهة أو مجموعة من "العلماء" أو من المثقفين؟ إن لم يكن هذا عبثا ولهوا، فما هو العبث واللهو إذن؟!! الشرط الوجودي للتجديد هو أن تكون المنظومة الفكرية التي يسعى للتجديد فيها قيد العمل والتطبيق، وليست مركونة في هوامش النظم والممارسات والمعاملات والتفاعلات المجتمعية بمختلف مستوياتها. والسؤال ليس عن أي المنظورات أوفق للتجديد في علم الكلام أو في غيره من العلوم، السؤال الأسبق منه هو: هل ما يوصي به هذا العلم أو ذاك قيد التطبيق والتنفيذ أم لا؟ هل هو حاضر في الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والقضائية العدلية ومن ثم يواجه مشكلات ونوازل غير مسبوقة؟ إن كانت الإجابة نعم؛ فهنا تبدأ الخطوة الأولى للتجديد المثمر المنتج المفيد النافع. أما إن كانت المرجعية العليا التي يستند إليها علم الكلام أو الفقه أو التفسير مقصاة عن مكانها؛ فلا يرجع إليها حاكم أو قاض، ولا اقتصادي أو تاجر، ولا فنان أو شاعر أو أديب، فكل حديث عن التجديد هو مضيعة للوقت، وملهاة في قلب المأساة. ما قلته حتى الآن ينطبق على مختلف العلوم. أما بخصوص "علم الكلام" وتجديده تحديدا؛ فهو ليس استثناء مما قلته. ولو كانت المسألة متوقفة على إنتاج نص فكري جديد يخاطب الواقع وأبناء العصر، إذن لكانت مشكلة تجديد علم الكلام قد حلت منذ أصدر الإمام محمد عبده "رسالة التوحيد" في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ مطلع القرن العشرين الميلادي، أو "رسالة العقائد" للشيخ البنا. فهذه أو تلك وافية، ولا أفضل منها حتى اليوم في تجديد النظر في علم الكلام، ولكنها بقيت حبيسة دفتيها للسبب الذي شرحته. ومن التراث القديم، ألا يكفي افتتاح صاحب "الكشاف": "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله بحسب المصالح منجما، وجعله بالتحميد مفتتحا، وبالاستعانة مختتما، وأوحاه على قسمين: متشابها ومحكما، وفصله سورا، وسوره آيات، وميز بينهن بفصول وغايات"؟!! على الجانب الآخر، أقول: إن مجرد طرح فكرة تجديد علم الكلام الإسلامي انطلاقا من منظور العلوم الإنسانية الحديثة يعني إضافة فصل "حديث" من العبث الفكري والتخريب المعرفي المرجعي. وأقصى ما يمكن الإفادة به من تلك العلوم هو: استخدامها في بيان الفروق المعرفية بين المرجعية الإسلامية الإنسانية، والمرجعية الحداثية اللاإنسانية في مجملها طبعا، مع اعترافنا بوجود أصوات هنا أو هناك في المدارس الغربية ترفض هذا التوجه المتوحش معرفيا وسياسيا في عمق المركزية الغربية. رغم مرور قرن على الحركة الإصلاحية الحديثة وظهور مفكرين عرب ومسلمين كبار في حقول وعلوم متعددة، فإننا لم نلمس ثمرات تلك الجهود، لماذا في رأيكم؟ عمر الإصلاحية الفكرية الحديثة في تاريخ أمتنا الحديث بلغ أكثر من قرن ونصف قرن تقريبا. هذه الحركة بدأت حول منتصف القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. ودعني هنا أشير إلى وجوب الإحالة إلى الزمن الهجري والتنسيب إليه؛ ليس لأنه مرجع "تاريخ" أمتنا ومقياسها الزمني فقط، ولكن أيضا لأنه الوعاء المعياري بعدد السنين والحساب، الذي تفاعلت فيه كل مقدرات الأمة في الماضي، ولا تزال تتفاعل فيه في الحاضر، وستتفاعل فيه في المستقبل. وأعداء الأمة يتعمدون تغييب هذا الحس الزمني الخاص بنا، وعلينا أن نحييه وألا نشارك في هذا التغييب. لم تتوقف إسهامات تلك الإصلاحية الحديثة منذ ظهورها، وقد تراكمت اجتهادات عشرات من كبار أعلامها وعلمائها. وقد أسهمت، مع فريق من كبار العلماء، في إعادة تحقيق ونشر خمسين كتابا من أعمال أولئك العلماء على مدى القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وأصدرتها مكتبة الإسكندرية قبل عشر سنوات. وهي اجتهادات مقدرة ومعتبرة في كثير من جوانبها، ولم تذهب سدى. وإذا نظرنا إليها في سياق أوسع وممتد لحركة التاريخ وعملية التداول الحضاري، فسنتأكد أنها لم تذهب سدى، كما سيتبين لنا أنها أثمرت بعض الثمار، وأنجزت إنجازات كبيرة في بعض المجالات. ومن ثمراتها: تعزيز الإدراك الذاتي لعموم الأمة، وترسيخ أصول الهوية الخاصة لشعوب أمتنا، بدليل صمودها إلى اليوم في وجه موجات عاتية من الغزو الفكري والثقافي. أمم أخرى ذابت أو كادت تذوب في ذلك التيار العاتي من الغزو الثقافي والاغتصاب المعنوي الغربي الأميركي. بفضل جهود رواد الإصلاحية الفكرية العربية الإسلامية، ظهرت وصمدت حركات الجهاد المسلح ضد الغزاة والمستعمرين على امتداد بلدان أمتنا، وليس آخرها الصمود الأسطوري لإيران في مواجهة الاستكبار الغربي، ومن قبلها المقاومة الفلسطينية في غزة بقيادة كتائب عز الدين القسام، وسرايا القدس، وغيرهما من كتائب المجاهدين داخل فلسطين وخارجها. وبفضل جهود، واجتهادات، ومجاهدات كثيرة، ترى "الخط العام" لحركة النهضة الإسلامية في صعود؛ نعم، في صعود. انظر إلى هذا الخط بمنظور تاريخي أوسع من اللحظة الراهنة، تجده في تقدم مستمر. مثلا: في الثلث الأخير من القرن الرابع عشر الهجري/ منتصف القرن العشرين، كيف كانت أحوال المواجهة مع العدو الصهيوني؟ وإلام صارت اليوم؟ كيف كانت مؤسسته السياسية والعسكرية بمنأى عن الخطر، واليوم هي في قلب الخطر، وتنال منها أمتنا نيلا حسنا ومتزايدا قوة وتركيزا وبسالة، رغم صعوبة الظروف المحيطة بأمتنا، ورغم تكالب قوى الغرب الصليبي الصهيوني ضدنا صراحة وعلنا. في رأيي، أن مقياس نجاح اجتهادات رواد الإصلاحية الإسلامية هو، أولا وقبل أي شيء آخر، يكمن في الإجابة عن السؤال: هل دعمت اجتهاداتهم روح الجهاد وأيقظتها في الأمة أم لا؟ ذلك لأن قضيتنا الكبرى كانت، ولا تزال منذ ثلاثة قرون، هي: التحرر من الاستعمار والانعتاق من هيمنة الغرب المتوحش، والتخلص من عقدة النقص اتجاه الحداثة وما بعدها، لأنها ضد الفطرة، وضد الإنسانية بإجمال، وتسلبنا إنسانيتنا إذا خضعنا لها. وإسهامات رواد الإصلاحية الإسلامية لها حضور وازن على هذا المستوى. صحيح أننا لم نصل بعد إلى مرفأ الأمان الجماعي لأمتنا، ولكن هكذا هي حركة التاريخ، وعلينا أن ننظر إليها وفق قوانينها. بعد الإنترنت انتقلنا إلى عصر الذكاء الاصطناعي، فهل الوسائل الجديدة تعزز الفكر الإبداعي أم تقضمه؟ إنجازات العلوم والتكنولوجيا في مختلف مجالاتها هي مكتسبات العقل الإنساني، وحصيلة تراكمات عميقة وطبقات متتابعة ومترتبة من الإنجازات والابتكارات، وهي "إرث إنساني مشترك" لا يمكن لكائن من كان أن ينسبه لنفسه وحده دون غيره، ولا أن ينفرد بوضع دليل إرشادي لكيفية الإفادة منه، ولا احتكاره بالمطلق. نعم، انتقل العالم من الإنترنت إلى الذكاء الاصطناعي، ولا تنس أنه ينتقل أيضا وبقوة من "إنترنت الأشياء" إلى "إنترنت الأجسام البشرية" بكل ما تحمله من منافع ومضار. هذه الوسائل المستحدثة شأنها شأن أي اختراع عرفته البشرية منذ فجر تاريخها: يمكنك أن تحسن استخدامها وتوظفها في ترقية الوعي، وإذكاء الفكر، وفتح آفاق جديدة للإبداع، ويمكنك أن تسيء توظيفها وتشغلها في الاتجاه المعاكس، فيكون ضررها أكثر من نفعها. وفي جميع الأحوال، يختلط الأمران: الإساءة والإحسان. هذا من حيث القانون العام الذي يحكم أثر الابتكارات على الفكر الإبداعي. وعلى المستوى الخاص لأثر هذه الابتكارات المذهلة، نجد أن الأصل فيها أنها وليدة الفكر الإبداعي، وعليه فهي تعزز مسار هذا الفكر، ليس على طول الخط أو لكل من هب ودب؛ وإنما في دوائر البحث، ومراكز التفكير، وأوساط النخب العلمية والأدبية الجادة. في البلدان الصناعية (ولا أقول المتقدمة لأن معيار التقدم ليس متفقا عليه): تعكف مراكز بحثية إستراتيجية أوروبية وأميركية منذ عشر سنوات على الأقل، على دراسة التأثيرات المستقبلية المحتملة لما يسمونه "التكنولوجيا الناشئة، وإنترنت الأجسام" (Internet of Bodies – IoB)، تمييزا له عن "إنترنت الأشياء" (Internet of Things – IoT). وخطورة "إنترنت الأجسام" وتكنولوجياته الناشئة أنه يجعل من الممكن جمع معلومات شخصية حساسة عن الذين يستخدمونه عموما، وبخاصة عن "القادة العسكريين" والسياسيين وكبار رجال الأعمال، ويمكن أن تستغل هذه المعلومات لأغراض التجسس والتدخل في تغيير القيم والاتجاهات لديهم، الأمر الذي ينذر -وما أكثر ما ينذر به- بوجوب تجاوز مفاهيم وسياسات الأمن القومي التقليدية، والتعامل مع هذه الديناميكيات المستحدثة باستخدام "إنترنت الأجسام"، الذي يقولون إنه سيدخل في بعض الأدوية والعقاقير والأجهزة التعويضية الطبية، ويمكن استقبال رسائله من داخل أجسام الذين يتعاطونها وتخزينها وتحليلها في مراكز عالية التقنية. ولا تحسبن هذا "خيالا علميا"، لا؛ لقد بات حقيقة، ووزارة التجارة الأميركية مثلا تقوم بحجب شركات الأدوية غير الأميركية التي تستخدم تقنية "إنترنت الأجسام"، من أجل منعها من دخول السوق الأميركي. وخبراء تلك المراكز يتوقعون أن تزيد تهديدات الأمن القومي مع الانتقال خلال أقل من عشر سنوات إلى تقنيات G5 وG6 من شبكات الاتصال اللاسلكي. وسيكون الأمر بالغ الخطورة عندما تتمكن شركات الكمبيوتر من تطوير ما يسمونه "الكمبيوترات الكمومية"؛ أي: كمبيوترات تكون قادرة على فك أنظمة التشفير الرقمي التي تعتمد عليها (حاليا) البنية التحتية للمعلومات والاتصالات عبر العالم. وحينئذ تستطيع هذه "الكمبيوترات الكمومية" أن تقرأ الاتصالات العسكرية والمعاملات المالية والأمنية المشفرة، وهو ما يعرضها لمخاطر جسيمة، تصل إلى درجة التوظيف العكسي الذي يصيب منتجها وليس المستهدف منها. هل بدأ تطبيق هذه التكنولوجيات في الحرب الدائرة بين العدو الصهيوني وإيران، ومن قبلها بينه وبين المقاومة الباسلة في فلسطين المحتلة؟!! الأمر واضح بما فيه الكفاية، والمطلوب عمله واضح بما فيه الكفاية. ما تقصده بـ"العلوم الاجتماعية" أسميه أنا باسمه الصحيح في بلادنا، وهو: "علوم التبعية المستدامة". هي جملة العلوم التي اقتحمت مجتمعاتنا وجامعاتنا منذ أكثر من مئة سنة. وإذا قمت بعمل كشف حساب لهذه العلوم وما أنتجته في مجتمعات أمتنا بطولها وعرضها، تستطيع أن تلخصه في كلمات قليلة ومعبرة وصادقة، منها أنها: علوم اللاوظيفية، أو هي علوم الفشل الوظيفي من جهة التطور الاجتماعي والاقتصادي العام. هي فاقدة الوظيفية البنائية بالمعنى النظمي لدى علماء التنمية السياسية ونظم الحكم والإدارة العامة. لماذا تغيب في العلوم الاجتماعية نظريات من بيئة وإبداع وفكري عربي؟ ما تقصده بـ"العلوم الاجتماعية" أسميه أنا باسمه الصحيح في بلادنا، وهو: "علوم التبعية المستدامة". هي جملة العلوم التي اقتحمت مجتمعاتنا وجامعاتنا منذ أكثر من مئة سنة. وإذا قمت بعمل كشف حساب لهذه العلوم وما أنتجته في مجتمعات أمتنا بطولها وعرضها، تستطيع أن تلخصه في كلمات قليلة ومعبرة وصادقة، منها أنها: علوم اللاوظيفية، أو هي علوم الفشل الوظيفي من جهة التطور الاجتماعي والاقتصادي العام. هي فاقدة الوظيفية البنائية بالمعنى النظمي لدى علماء التنمية السياسية ونظم الحكم والإدارة العامة. أتصور أنه إذا ألغيت جميع كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وجرى إغلاقها وتسريح أساتذتها بعيدا عن أي موقع تعليمي أو تثقيفي في جامعات أمتنا اليوم، فلن يختلف شيء في المجتمع في عمومه، ولن يحس بما حدث سوى مجموعات الأساتذة والموظفين الإداريين في تلك الكليات. هذا ما يغلب على ظن أي متأمل في فعالية هذه المؤسسات التعليمية وما في حكمها. هي أيضا "علوم تخيفنا من أنفسنا" منذ اقتحامها وحتى اليوم، فهي تفتت لبنات الثقة الحضارية الذاتية في مجتمعاتنا، لبنة لبنة، وبنفس طويل، وأساليب بالغة النعومة في ظاهرها، شديدة القسوة في جوهرها. العلوم الاجتماعية هي أيضا "علوم تخيفنا من أنفسنا" منذ اقتحامها وحتى اليوم، فهي تفتت لبنات الثقة الحضارية الذاتية في مجتمعاتنا، لبنة لبنة، وبنفس طويل، وأساليب بالغة النعومة في ظاهرها، شديدة القسوة في جوهرها. هي تنتج شعورا بالنقص، وتعيد إنتاجه باستمرار في صورة تيارات فكرية وثقافية دائمة التدفق في أوساط النخب المدرسية والجامعية في مؤسسات التعليم المستحدث، وفيما حولها من نخب أخرى أدبية وفنية وثقافية مسؤولة عن قيادة الرأي العام وتشكيل الوعي، ومن المفترض أنها أمينة على القيم الكبرى والمثل العليا لمجتمعات أمتنا. وهي علوم تنتج التوحش والتعجيز. فهي متوحشة لأن مجتمعاتنا لم تأنس بها، ولم يأنس بها أغلب أساتذتها أنفسهم، ولم يقتنع طلابنا في أغلبهم بها إلى اليوم، لخلوها من المنفعة مع امتلائها بالهموم والغموم. ومنطقي جدا أنها خلفت خواء، وخوفتنا، وأفقدتنا الثقة بأنفسنا. وإذا سألت عن منفعتها، تجد أن مجتمعات أمتنا "أوحشت" منها. ثم هي تعجيزية ومحبطة للهمم، ولا تبعث على النهوض والإبداع الذي تدعيه، وإلا قل لي: لماذا لم ندرك ركب التقدم بعد اشتغالنا بها أكثر من مئة سنة، إن كانت هي شرطا للحاق به؟ أو قل لي: كم أستاذا من حملة تلك العلوم في جامعاتنا منذ نشأتها حفزته معرفته بها فنهض وأنجز نظرية أصيلة من بنات أفكاره يمكن نسبتها إليه بالأصالة عن نفسه، دون شبهة تقليد أو ترجمة؟ كيف وهو ما برح يردد نظرياتهم، ويقتفي خطواتهم، التي يصرخ واقع مجتمعاتنا بأنها لا تجدي عندنا نفعا، وأنه "موحش" منها؟ العلوم الاجتماعية تنتج شعورا بالنقص، وتعيد إنتاجه باستمرار في صورة تيارات فكرية وثقافية دائمة التدفق في أوساط النخب المدرسية والجامعية في مؤسسات التعليم المستحدث، وفيما حولها من نخب أخرى أدبية وفنية وثقافية مسؤولة عن قيادة الرأي العام وتشكيل الوعي، ومن المفترض أنها أمينة على القيم الكبرى والمثل العليا لمجتمعات أمتنا. وهي علوم تنتج التوحش والتعجيز. فهي متوحشة لأن مجتمعاتنا لم تأنس بها، ولم يأنس بها أغلب أساتذتها أنفسهم، ولم يقتنع طلابنا في أغلبهم بها إلى اليوم، لخلوها من المنفعة مع امتلائها بالهموم والغموم. ومنطقي جدا أنها خلفت خواء، وخوفتنا، وأفقدتنا الثقة بأنفسنا. وإذا سألت عن منفعتها، تجد أن مجتمعات أمتنا "أوحشت" منها. وهنا نصل إلى أسباب عدم وجود نظريات على أيدي أساتذة هذه العلوم وتكون نابعة من البيئة الاجتماعية لمجتمعاتنا. وفي نظري أن أهمها ثلاثة: أولها: أن العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعاتنا لا تزال تحمل صفتين رئيسيتين التصقتا بها منذ نشأتها قبل نحو قرن تقريبا. الصفة الأولى هي: التبعية للمدارس الغربية في مناهجها وأدواتها وأطرها النظرية. والصفة الثانية هي الانفصال عن مصادر الثقافة العربية والإسلامية التي تشكل هوية مجتمعاتنا. ثانيها: أن أغلب الذين يشتغلون بهذه العلوم من أساتذة ومؤسسات أكاديمية يفتقدون الهدف العام لهذا العلم. هناك أزمة عميقة تتمثل في الانفصال بين ما يسمى "العلوم الشرعية" وما يسمى "العلوم الاجتماعية والإنسانية". وكما قلت، فإن هذه الأزمة يرجع تاريخها إلى بدايات نشوء مؤسسات التعليم العالي الحديث في بلدان أمتنا في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ مطالع القرن العشرين الماضي. وثالثها: أن كثيرين من أساتذة هذه العلوم في جامعاتنا، باتوا -وخاصة منذ مطلع الألفية الثالثة- يدركون أنهم منخرطون في عملية تبعية كاملة، ويعترفون بذلك بأنفسهم، وبكلمات واضحة لا لبس فيها. وبالمثال يتضح واقع الحال. والمثال هو من كلام الدكتور عبد الباسط عبد المعطي (رحمه الله)، وقد كان أستاذا لعلم الاجتماع بجامعة عين شمس لعقود طويلة، حيث صنف ما هو موجود في علم الاجتماع العربي من كتابات إلى خمسة أصناف: أ- تأليفات مترجمة. ب- ترجمة مؤلفة. ج- بحوث محاكية لمواضيع البحوث الغربية. د- التأليف من أجل التدريس: ويتضمن نقل التراث الأنجلو أميركي، وهو جهد فردي لم يظهر فيه أي إبداعات. هـ- الترجمة من أجل التدريس: وهنا قد تكون محاولة هروب من الواقع، وخشية الصدام مع السلطة القائمة لغياب جو الحرية الأكاديمية أو السياسية. (أ.هـ) لماذا يغيب الفكر الإستراتيجي في المنطقة العربية؟ السؤال عن غياب الفكر الإستراتيجي العربي يبدو غريبا في زحمة الأسئلة الكبرى والصغرى التي يعج بها العقل العربي والإسلامي. هو سؤال غريب في طرحه، وليس في وجوب طرحه. منذ أكثر من عشر سنوات، تحدينا في أكثر من مناسبة علمية، في أكثر الجامعات العربية عراقة، أن يأتيني أحدهم بكتاب واحد -واحد فقط لا غير- يحمل في عنوانه كلمة "إستراتيجية" بما تعنيه هذه الكلمة في العلوم السياسية والعسكرية. لم يظهر أحد، وإلى اليوم لم يظهر أحد ليقول لي: هذا كتاب فلان أو علان يشرح الإستراتيجية العربية، أو المغاربية، أو المصرية، أو الخليجية، أو في بلاد الهلال الخصيب، أو أي تكوين جغرافي سياسي على امتداد عالمنا الإسلامي من المحيط إلى المحيط، وليس العربي وحده من المحيط إلى الخليج. تسأل عن سبب "غياب الفكر الإستراتيجي" في المنطقة العربية؟! إذا أخذنا معنى "الإستراتيجية" باعتبارها رؤية لما هو أساسي وجوهري بمنظور مستقبلي واضح الأولويات والخطوات والوسائل والمقاصد والغايات الكبرى؛ فهذا يعني أولا وقبل أي شيء آخر: القوة… القوة الخشنة، التي تغلفها القوة الناعمة بمختلف مستوياتها، ويعني أيضا وأساسا: التوسع والغزو المباشر وغير المباشر تبعا. هذا هو معنى الإستراتيجية على الأرض، ودعك مما قد تقرؤه على صفحات كتب السياسة والعسكرية وموسوعاتها في معاهد الغرب ومراكز أبحاثه. الشرط الأول لظهور "الفكر الإستراتيجي" هو وجود مشروع توسعي إمبراطوري عابر للحدود القطرية الضيقة. ما سوى ذلك ليس إلا نوعا من العبث الطفولي، ولو حمل في عناوينه كلمة "إستراتيجية". الشرط الأول لظهور "الفكر الإستراتيجي" هو وجود مشروع توسعي إمبراطوري عابر للحدود القطرية الضيقة. ما سوى ذلك ليس إلا نوعا من العبث الطفولي، ولو حمل في عناوينه كلمة "إستراتيجية". هذا ليس مزاحا؛ بل ربما تقرؤه يوميا في صحيفة عربية أو مؤلف جامعي عربي عن: "إستراتيجية مكافحة الفساد!"، أو " إستراتيجية السيطرة على غلاء الأسعار"، أو " إستراتيجية النهوض بكرة القدم"، أو بالمسرح، أو بفن الباليه، أو بتوفير رغيف الخبز!!!…إلخ. أين تجد الفكر الإستراتيجي اليوم؟ تجده في دول الإمبراطوريات التوسعية: أميركا، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين… وأين تجده أمس؟ تجده في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا… وأين تجده في التاريخ؟ تجده في الدولة العثمانية، ومن قبلها في الدولة العباسية، فالأموية من قبلها، وتجده قبل ذلك كله في الدولة الرومانية، وفي الإمبراطورية الفارسية، وهلم جرا. قلب الفكر الإستراتيجي، وعقله، وجهازه العصبي هو "التوسع" بالقوة، بمختلف معانيها ومستوياتها. وإذا اتفقنا على هذه النقطة، فيمكنك أن تستعرض نظريا جميع حالات "الدولة" القائمة في جميع أرجاء أمتنا الإسلامية: أيها لديها مشروع إقليمي على الأقل، ناهيك عن مشروع أوسع نطاقا على مستوى عربي أو إسلامي أو عالمي؟ أي فكر إستراتيجي تحتاجه إمارة، أو دويلة، أو دولة متوسطة الحجم أو كبيرة في إقليمها، صغيرة أو مصغرة في قيادتها، لسبب أو لآخر؟ وكيف لمن هو جزء من إستراتيجية الهيمنة الغربية أن يفكر إستراتيجيا؟ أليست هذه استحالة منطقية؟ المفاجأة أنه منذ إلغاء الخلافة العثمانية؛ كلما تطور الفكر الإستراتيجي عالميا في مراكز الهيمنة الأوروبية والأميركية، تلاشت إمكانات هذا النمط من الفكر في مختلف أرجاء بلدان أمتنا الإسلامية إلى حد الانعدام. والعلة واضحة، والعلاج ممكن. وأخيرا: اعلم أنه لا معنى لمراكز "إستراتيجية" في ظل نظم مغلقة لا يتوافر فيها مناخ ملائم لتربية كوادر أو خبراء إستراتيجيين، ولا تتوافر لهم فرصة لتنمية مهاراتهم، ولا تطوير خبراتهم، ولا اختبار أفكارهم، ولا حرية التعبير عن آرائهم المتنوعة.


الجزيرة
منذ 28 دقائق
- الجزيرة
21 شهيدا في غزة والاحتلال يمهد لمجازر جديدة شمالا
استشهد 21 فلسطينيا، بينهم 5 من منتظري المساعدات، وأصيب عدد آخر اليوم الأحد في مناطق متفرقة من قطاع غزة بقصف جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي "أمر" بإخلاء أجزاء من شمال القطاع. وسقط شهداء منتظري المساعدات شمالي مدينة رفح أثناء انتظارهم للحصول على طرود الإغاثة. وأفادت مصادر طبية في مستشفى المعمداني باستشهاد 5 فلسطينيين في قصف إسرائيلي استهدف منزلا ف ي حي التفاح شرقي مدينة غزة، كما أدى قصف مسيرة إسرائيلية على سوق الزاوية بحي الدرج شرقي المدينة إلى سقوط شهيد وجرح عدد آخر. وفي وقت سابق اليوم، قال مستشفى المعمداني إن طفلين شهيدين (عامان و3 أعوام) وعددا من المصابين وصلوا المستشفى بفعل قصف من الطيران الحربي الإسرائيلي على منزل يعود لعائلة عزام في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة فجر اليوم. وقالت مصادر "مجمع ناصر الطبي" إن 5 فلسطينيين، بينهم طفلان وامرأتان، استشهدوا في قصف من مسيرة إسرائيلية استهدف خيمة نازحين غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. وفي مدينة غزة أيضا، أصيب عدد من الفلسطينيين جراء استهداف مسيرة إسرائيلية خيمة تؤوي نازحين قرب مفترق السامر وسط المدينة، وفق المصدر نفسه. وشهدت بلدة جباليا ومحيطها وحي التفاح شرقي مدينة غزة ليلة عنيفة، إذ نسف الجيش الإسرائيلي عدة مبان وقصف ودمر مباني أخرى، مع تواصل القصف المدفعي في المنطقتين، وفق مصادر محلية وشهود عيان. وبالتزامن مع تلك الاعتداءات، ارتكب جيش الاحتلال المزيد من المجازر ووجه اليوم الأحد إنذارا لإخلاء شمالي قطاع غزة، محذرا الفلسطينيين في أجزاء من مدينة غزة والمناطق القريبة من تحرك وشيك. ودعا المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي ، في بيان نشر على منصة "إكس" إلى جانب خارطة لشمالي القطاع، سكان منطقة مدينة غزة وجباليا وغيرهما إلى "التوجه جنوبا فورا إلى منطقة المواصي". وقال في منشورة إن القوات الإسرائيلية"تعمل بقوة شديدة جدا في هذه المناطق المذكورة، وهذه الأعمال العسكرية سوف تتصاعد وستشتد وستمتد.. لتدمير قدرات المنظمات الإرهابية". ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تواصل إسرائيل -بدعم أميركي- شن حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، أسفرت حتى الآن عن سقوط أكثر من 186 ألف شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب أكثر من 11 ألف مفقود تحت الأنقاض. وتتواصل الاعتداءات الإسرائيلية على كامل أنحاء قطاع غزة الذي دمرته الحرب التي دفعت بسكانه البالغ تعدادهم 2.4 مليون نسمة إلى النزوح مرارا وسط ظروف إنسانية صعبة جعلته على حافة المجاعة.


الجزيرة
منذ 41 دقائق
- الجزيرة
جنرال التغريدات.. كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي الذي وعد بحرق طهران
هناك الكثير من التناقضات بين تل أبيب وطهران ربما تفوق في وضوحها الخلافات التي تشغل الصراع بين إسرائيل وإيران. فتل أبيب هي مدينة مستحدثة طرأت على التاريخ مطلع القرن الماضي، حيث بدأ تأسيسها في زمان الانتداب البريطاني فوق أرض فلسطين المحتلة على أطراف مدينة يافا، قبل أن تتوسع على حساب المدينة الأصلية والقرى الفلسطينية التي هُجِّر أهلها، لتصبح أول مدينة لليهود في العصر الحديث، وعاصمتهم الأولى. وفي المقابل فإن طهران مدينة عريقة تعود جذورها إلى عدة قرون مضت (رغم أنها لم تتطور إلى مركز إداري وسياسي إلا في القرن الثامن عشر)، في حين أنها تنتمي إلى محيط جغرافي أكثر عراقة تعاقبت عليه الدول والإمبراطوريات المتوارثة على مدار آلاف السنين منذ ممالك عيلام القديمة، مرورا بالساسانيين والأخمينيين وصولا إلى العصر الحديث. وبينما تنبسط جغرافيا تل أبيب أمام البحر الذي ترتفع عن مستواه خمسة أمتار بتعداد سكاني لا يتجاوز نصف مليون شخص، تتحصن طهران بسلسلة جبال شاهقة الارتفاع، متربعةً على سفوحٍ يصل ارتفاعها إلى 1900 متر فوق سطح البحر، وتزدحم بأكثر من 14 مليون نسمة. في وسط مباني تل أبيب الحديثة، وفي مخبأ مُحصَّن تحت الأرض، تُوهِم الشاشات المكتظة الجالسين أمامها أن الآلة قادرةٌ على حسم الحرب إلى حدٍّ نسي فيه هؤلاء أنَّ الأرض التي يختبئون في باطنها هي التي تمتلك كلمة الحسم. وعبر شاشة صغيرة بين تلك الشاشات، انفلتت تغريدة حربية شديدة اللهجة، يتوعد فيها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بحرق طهران، في الوقت الذي انطلقت فيه الطائرات الإسرائيلية لتصب حمولاتها المتفجرة فوق عشرات المواقع في العاصمة الإيرانية. ولكن بعد 12 يوما من السجال الناري، لم تحترق طهران كما توعد كاتس، ونزل سكانها إلى الشوارع للاحتفال عقب إعلان وقف إطلاق النار، وبينهم كان يمشي رجلٌ أشيب، يعتمرُ قبعة "بيسبول" سوداء، يصافح الجموع بابتهاج، كان ذلك إسماعيل قآني قائد فيلق القدس، الذي نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خبر مقتله في ضربة إسرائيلية قبل أيام. في المقابل، شاهد العالم الصواريخ الإيرانية وهي تضيء سماء تل أبيب كاسرة الكثير من الأساطير حول "أرض إسرائيل" الآمنة وسمائها المنيعة. هذه هي الحرب الأولى التي يكون فيها يسرائيل كاتس في موقع عسكري رفيع المستوى منذ بداية تاريخه السياسي، وهي حرب تليق مجرياتها ونتائجها برصيده "الفقير" تماما، فالرجل يشترك مع رئيس وزرائه في ضآلة تاريخهما العسكري مقارنةً مع مَن سبقهما في قيادة الحروب التي خاضتها إسرائيل. وبينما ينحدر الرجلان من منبت شرق أوروبي، ويعتنقان معا النمط نفسه في ممارسة الحرب، يبدو أنهما يشتركان فيما هو أكثر من ذلك بكثير. التغريدات بديلا عن مواجهة الموت وُلد يسرائيل كاتس عام 1955 في مدينة عسقلان المحتلة لأبوين جاءا من منطقة ماراموريش برومانيا. وهكذا وجد كاتس نفسه جزءا من مجتمع اليهود المهاجرين من رومانيا إلى إسرائيل، والمحملين بتاريخٍ من الاضطهاد الذي مارسه عليهم النظام الشيوعي الروماني قبل الهجرة إلى "أرض الميعاد". يحمل مجتمع اليهود الرومانين في إسرائيل إرثا طويلا من الحكايات حول "المقايضة"، حيث قايض بهم النظام الحاكم في رومانيا إسرائيل مقابل المال والبرسيم وآليات الزراعة، وحتى الثيران والخنازير. وعلى مدار أربعة عقود فرضت فيهما الحكومتان تعتيما شاملا على جميع التفاصيل في تلك العلاقة الغريبة. كان النظام في رومانيا يقايض مواطنيه اليهود مع الحكومة الإسرائيلية مقابل 120 دولارا للشخص، وقد بلغت عوائد هذه العملية ما بين عام 1948-1952 قرابة 15 مليون دولار، حسبما أوردت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فضلا عن أولئك الذين تمت مقايضتهم مقابل صفقة خنازير أدارها رجل الأعمال اليهودي "هنري جاكوبير" (Henry Jacober). وفي الإجمال، يبلغ تعداد اليهود من أصول رومانية في إسرائيل قرابة 400 ألف نسمة، لا يزالون يرون في قوميتهم الرومانية سببا للزهو رغم كل شيء، وضمن هذا النسيج الاجتماعي المتفاخر بنخبويته، دفع الزوجان كاتس بابنهما إلى الجامعة العبرية التي تحمل رمزية "الطلائعية الصهيونية" كونها تأسست قبل إقامة الدولة الصهيونية بـ23 عاما وتُعد المهد الأول لصناعة "الهوية الوطنية الإسرائيلية" من خلال اعتماد اللغة العبرية لغةً للتدريس والمعاملات في الجامعة. لم تخلُ فتوة كاتس من أعمال متهورة ربما تفسر "عدوانيته" المتزايدة في شيخوخته، فقبل أكثر من أربعين عاما، احتجز كاتس رئيس الجامعة رافائيل مشولام في غرفته على خلفية احتجاجات عنيفة ضد إدارة الجامعة لسماحها بانتساب طلبة فلسطينيين من المدن المحتلة وظهورهم في حرمها، حينها أوقفته الجامعة عن ممارسة النشاط الطلابي لمدة عام كامل. كان دخول كاتس الأول إلى السياسة الإسرائيلية عام 1998 بديلا لإيهود أولمرت في عضوية الكنيست عن حزب الليكود ، حيث عمل في عدة لجان، منها الشؤون الخارجية والأمن، والمالية، والقانون والدستور والعدالة، والداخلية والبيئة. كما عمل في لجنة الالتماسات العامة، واللجنة المشتركة لميزانية الأمن، واللجنة الخاصة لمناقشة قانون جهاز الأمن، وشغل أيضا منصب رئيس مؤتمر حزب الليكود. وبحلول عام 2003، تولى حقيبته الوزارية الأولى في وزارة الزراعة ضمن حكومة أرييل شارون. وعقب تلك الولاية، بدأت تُوجَّه إلى كاتس اتهامات بالفساد لمحاباته أفرادا من عائلته بمنحهم مناصب حكومية وامتيازات، مستغلا موقعه الوزاري، وكما هو حال نتنياهو شريكه الحالي في الحرب، أفلت من تلك الاتهامات وواصل تقدمه في مناصبه الحكومية متوليا حقيبة المواصلات ثم وزارة الاستخبارات قبل أن يتولى منصب وزير الخارجية لأول مرة عام 2019. بعدها شغل كاتس حقائب المالية ثم الطاقة والبنية التحتية قبل أن يعود لوزارة الخارجية مجددا مطلع عام 2024. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، عُيَّن كاتس في منصب وزير الدفاع بعد إقالة نتنياهو لسلفه يوآف غالانت. في رحلته الحافلة بـ"التطرف السياسي"، لم يدّخر كاتس أي فرصة كان يمكنه من خلالها محاولة محو ما هو "عربي" وإثبات ما هو "عبري"، ففور استلامه حقيبة وزارة المواصلات في حكومة نتنياهو عام 2009، أصدر قرارا بتغيير اللافتات على الطرق لتحمل أسماء المناطق بالعبرية، وتكون الترجمة إلى الإنجليزية والعربية حرفيةً عن العبرية، دون كتابة الأسماء العربية الأصلية للمناطق. لكن هذا "العدوان الثقافي" لم يُجْدِ نفعا في منع المقاومين الفلسطينيين من تنفيذ هجمات على تلك الطرق ضد الإسرائيليين؛ جنودا ومستوطنين. حاول كاتس أيضا من خلال الكنيست تشريع قانون لترحيل عائلات المقاوِمين، عدا عمّا عُرف عنه من تشدد في رؤيته تجاه قطاع غزة بلغت حد الانسحاب من حكومة شارون عام 2004 لدى إعلان الأخير خطة فك الارتباط والانسحاب من القطاع، وحين دار الزمان دورته، عاد كاتس ليهدد بضم أجزاء من قطاع غزة إذا لم تطلق حماس سراح الأسرى في أعقاب السابع من أكتوبر. وبينما يطلق يديه في كتابة تغريدات التعازي بالجنود القتلى في كمائن المقاومة في قطاع غزة، يصمُّ كاتس أذنيه عن كل النداءات التي يوجهها الجنود ومن خلفهم المجتمع الإسرائيلي استجداءً لوقف الحرب، بدلا من المزيد من تغريدات التعازي التي تُذيل بالخاتمة ذاتها: لتكن ذكراهم مباركة! وإن بدا كاتس في كلماته متباهيا بصورة لا تتوقف بقوة إسرائيل، فإنه بدلا من مخاطبة مجتمعه المستنزف فيما يخص "قضية الرهائن" وما تبعها من أزمات ولّدتها المواجهة مع إيران، يتجه ليخاطب الفلسطينيين في غزَّة داعيا إياهم للخروج في الاحتجاج لطرد حماس من القطاع في الوقت ذاته الذي يقتل فيه جيشه أسراه ويفشل في استعادتهم، فيما يبدو أنه مستوى جديد من "الفقر الفكري" الذي تواجهه إسرائيل منذ بداية الحرب. وإمعانا في التردي السياسي، اختار كاتس أن ينسب مطالب إطلاق سراح أسرى الاحتلال إلى عشرات من أهالي بيت لاهيا، الذين ادّعى خروجهم في احتجاج للمطالبة بطرد حماس من غزة والإطلاق الفوري لسراح "الرهائن" الإسرائيليين. ساطعٌ على السفح.. معتمٌ على القمة يواجه كاتس في منصبه الجديد تحديات غير مسبوقة في مسيرته المهنية، أظهرت فقره ومحدوديته مقارنة بأسلافه. فما بين حرب لم تتوقف في غزة، وصراع داخلي مستمر منذ أزمة الإصلاحات القضائية، ثم تداعيات فشل السابع من أكتوبر، والسجال حول تجنيد الحريديم والتهديد بحل الكنيست وتحركات المستوطنين بضم الضفة الغربية، وصولا إلى الحرب مع إيران. هذه المائدة المزدحمة بالقضايا الصعبة لربما كانت تحتاج إلى وزير أكثر خبرة وتمرسا، لكن نتنياهو وحده لم يرَ ذلك. فكل ما يريده رئيس الوزراء الأطول خدمة في تاريخ إسرائيل هو وزير حربٍ يتناغم مع قراراته بما يُمكِّن نتنياهو من الحفاظ على حكومته، وتمرير القرارات التي يريدها في إدارة الحرب دون أن يواجه شخصيات عسكرية وازنة تعارضه كما كان الأمر في حالة غالانت الذي أُقيل من الحكومة على خلفية دعمه لتجنيد الحريديم. يُعد الولاء لنتنياهو إذن هو المؤهل الأكبر لكاتس في منصبه الجديد. وفيما يبدو فإن الرجل يعوّض فقره المهني بإطلاق المزيد من تصريحات التهديد والبطش والتخويف شديدة اللهجة، بخلاف تهديده بـ"حرق طهران"، فقد توعد أعداء إسرائيل بقوله: "إذا رفع الأعداء يدا ضد دولة إسرائيل مرة أخرى فسوف تُقْطَع تلك اليد"، فضلا عن استخدامه لغة متعجرفة يحاول من خلالها الإيحاء بأن بقاء الساسة والرموز في المنطقة مرهون بسماح إسرائيل بذلك، ومثال هذا ما قاله حول التهديد باغتيال المرشد الأعلى في إيران آية الله علي خامنئي، حيث قال: "رجل كهذا لا يمكن أن نسمح له بالبقاء". لم تمضِ أيام طويلة حتى أعلن كاتس نفسه أن إسرائيل لم تجد فرصة متاحة لاغتيال خامنئي. ولم يكن المرشد الإيراني وحده الحاضر على قائمة تهديدات كاتس، فقد وجَّه نيران كلماته الغاضبة ضد نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، بقوله: "إسرائيل فقدت صبرها تجاه الإرهابيين الذين يهددونها. إذا ارتكبت أفعال إرهابية، فلن يبقى حزب الله"، كما أطلق تهديدات مماثلة ضد قادة حركة حماس والمقاومة الفلسطينية. هذا الإسراف في التصريحات والتهديدات يُذكِّر بمَثَلٍ فرنسي يقول: "ساطعٌ على السفح، معتمٌ على القمة"، وهو مَثَل استخدمه المنظر الحربي كلاوزفيتز كنايةً عن أن أكثر القادة الحربيين إخفاقا على مدار التاريخ كانوا هم الأكثر تهوّرا في بداياتهم العسكرية. وهنا تكمن المفارقة التي يجسّدها كاتس باندفاعه في التصريحات، فهو يريد أن يحطم ويحرق ويفعل الأفاعيل بخصومه، بينما لم تتجاوز خدمته في الجيش ثلاثة أعوام هي مدة تجنيده ما بين عامي 1973-1977، التي لم يصل فيها إلى مواقع متقدمة وحساسة عسكريا تؤهله لامتلاك ذلك النوع من الخبرة الذي حازه جنرالات إسرائيليون سابقون ممن شغلوا منصب وزير الدفاع، وأقرب مثال هو سلفه يوآف غالانت الذي يمتلك خبرة عسكرية متقدمة تزيد على خمسة وثلاثين عاما، أي أكثر من عشرة أضعاف تجربة كاتس العسكرية. وبين ما تفرضه المعركة على الأرض من ظروف متغيرة، وبين التصريحات والتهديدات عالية السقف، يبدو وكأن كاتس يحاول أن يبني مجده العسكري في السبعين من عمره في أكثر مراحل تاريخ إسرائيل حرجا، وهو يفعل ذلك بينما يتلقى مفاجآت عسكرية متتالية ليس فقط على جبهة إيران، ولكن أيضا في قطاع غزة الذي تخوض فيه إسرائيل الحرب منذ أكثر من 20 شهرا دون أي أفق لتحقيق وعود كاتس ونتنياهو بإرجاع الرهائن عبر المزيد من الضغط العسكري. سيف من خشب وفي خضم لغة التهديد هذه، لم يفلح كاتس في اتخاذ قرارات على قدر الكلمات التي يطلقها بتمجيد مطلق لقوَّة إسرائيل، كما لا يزال عاجزا عن أن يغرس في جنوده الجرأة على المواجهة في ميدان المعركة بما يكفي لئلا يهربوا بآلية ثقيلة من مقاتل بسلاح بسيط يحاول بيده أن يفتحها، كما ظهر في الفيديو الذي نشرته كتائب القسام لاستهداف حافلة الجنود الصهاينة في خان يونس مؤخرا. وبدلا من ذلك اكتفى وزير الدفاع بتعزية عائلات هؤلاء الجنود عبر حسابه على منصة "إكس"، واصفا إياهم بالمقاتلين الشجعان الذين قُتلوا وهم يدافعون عن دولة إسرائيل ويسعون لتحرير الرهائن. يحب كاتس التعبير عن نفسه كثيرا عبر مواقع التواصل على ما يبدو، لكن تعليقات الإسرائيليين عليه كثيرا ما تكون صادمة لكبريائه. في تغريدة له عبر حسابه على منصة X حول المواجهة مع إيران، تلقى كاتس العديد من الردود الساخرة من الإسرائيليين، وأخرى كانت لاذعة كتلك التي وصفته بالخادم لمصالح حزبية ضيقة بدلا من أن يكون خادما لمصالح الدولة العليا. وتساءلت صاحبة التغريدة ذاتها متهكمة: "مَن أنت؟ معلق على الإنترنت؟ إنك وزير الدفاع بحق السماء!". لا تقتصر ردود الأفعال ضد كاتس على مواقع التواصل، لكنها تضرب صفوف الجيش الذي يقوده. ففي مطلع يونيو/حزيران الحالي، نشرت "الغارديان" البريطانية تقريرا قالت فيه إن أربعين ضابطا في الجيش أرسلوا رسالة إلى نتنياهو يرفضون فيها الاستمرار في الخدمة في الحرب الأبدية التي يخوضها ضد قطاع غزة، لأنهم يرون أنها لا تهدف إلا لاستمرار نتنياهو في الحكم، ولم يعلق كاتس على تلك الرسالة. يرى كاتس ويسمع ما يقوله ضباط وجنود جيشه الغاضبون، ومنهم أعضاء في وحدة 8200 الأكثر نخبوية في الجيش، حيث يقولون: "قد قُتل بالفعل العديد من الرهائن جراء تفجيرات جيش الدفاع الإسرائيلي.. فيما تواصل الحكومة التضحية بحياتهم"، لكنهم لا يملكون القدرة أو الصلاحية للإجابة عن مطالبتهم. بخلاف تبعيته المطلقة لنتنياهو شبرا بشبر وذراعا بذراع، فإن رجل الحروب في إسرائيل اليوم هو صاحب أيادٍ ناعمة اعتادت نعيم الحياة الدبلوماسية، حيث ربطات العنق والياقات المكوية بعناية، أكثر مما ألفت الإمساك بالسلاح في الميدان. بينما يتخذ من موقعه الوزاري أداة لتحقيق إملاءات نتنياهو لاستمرار القتال، يواصل الجيش تحت قيادة كاتس خسارة جنوده في جبهات القتال بينما تضربه الانقسامات والدعوات لوقف الحرب، ويتمزق من خلفها المجتمع الإسرائيلي بأسره. وعلى نحوٍ ما، فإن هذا يُذكِّر بما أورده "جايمس غليك" في كتابه "نظرية الفوضى"، مقتبسا أغنيةً فولكلوريةً أميركيةً تقول: "بسبب مسمارٍ سقطت حدوة حصانٍ، وبسبب حدوةٍ تعثّر حصانٌ، وبسبب حصانٍ سقط فارسٌ، وبسبب فارسٍ خُسِرت معركةٌ، وبسبب معركةٍ فُقِدت مملكةٌ"، مبرهنا أنه "في العلم، كما في الحياة، فالحوادث المُتسلسلة تصل إلى نقطةٍ حرجة، بحيث يتضخّم بعدها أثر الأشياء الصغيرة".