logo
فال كيلمر.. نجم باتمان الذي رحل صامتا

فال كيلمر.. نجم باتمان الذي رحل صامتا

الجزيرة٠٥-٠٤-٢٠٢٥

جاء رحيله، كما لو كان كذبة أبريل/نيسان الشهيرة، فقد أعاد مشهد الموت الغامض والمفاجئ للمثل الأميركي فال كيلمر إلى الذاكرة صخب حياته، التي كانت أكثر غموضا، لممثل صعد بسرعة الصاروخ إلى قمة الشهرة والنجاح، ومن ثم انطفأ نجمه بالسرعة نفسها.
وقد عرف كيلمر كأحد أكثر شخصيات هوليود غموضًا وجاذبية، إذ كان ممثلا من الطراز الأرفع، وتمتع بمظهرٍ أنيق وروح متمردة، وسعيٍ دؤوبٍ نحو الأصالة. من بداياته المسرحية الواعدة إلى فترة ارتدائه زي باتمان، وصولا إلى التجارب الشخصية والمهنية العميقة التي أعادت صياغة حياته ومسيرته المهنية.
ولد فال إدوارد كيلمر في 31 ديسمبر/كانون الأول عام 1959 في لوس أنجلوس بكاليفورنيا، وانجذب إلى عالم التمثيل منذ صغره، وساعده على ذلك نشأته في عائلة تقدر الإبداع، لكنها اتسمت أيضا بعدم الاستقرار. كان والده، يوجين كيلمر، موزعا لمعدات الطيران ومطورا عقاريا، بينما كانت والدته، غلاديس سوانيت، متدينة للغاية ومن أصل سويدي.
انفصل الزوجان عندما كان فال في التاسعة من عمره فقط – وهو حدثٌ شكّل حياته وترك أثرًا لا يُمحى، وشكّل العديد من الشخصيات الكئيبة والمحطمة عاطفيًا التي سيجسدها لاحقًا. كان لدى كيلمر شقيقان: ويسلي ومارك. توفي ويسلي في سن الخامسة عشرة بسبب مضاعفات الصرع، وهي خسارة أثرت بشدة على فال وعززت حساسيته تجاه هشاشة الحياة، وهو موضوعٌ يتجلى بوضوح في جميع عروضه.
التحق فال بمدرسة هوليود الاحترافية قبل أن يصبح أصغر طالب يقبل في قسم الدراما بمدرسة جوليارد المرموقة في سن السابعة عشرة، حيث صقل موهبته بتفانٍ شديد، مُظهرًا موهبة مبكرة تبشر بمسيرة مهنية جادة في عالم المسرح. عكست أعماله الأولى هذا الطموح، إذ شارك في كتابة مسرحية "كيف بدأ كل شيء" (How It All Began)، وقام ببطولتها في المسرح، وشارك في إنتاجات خارج برودواي وأعمال تجريبية، ورغم خلفيته الكلاسيكية، لم يمضِ وقت طويل حتى تهافتت عليه هوليود.
سري للغاية
ظهر كيلمر لأول مرة في السينما عام 1984 في الفيلم الكوميدي الساخر "سري للغاية!" (Top Secret!)، حيث فاجأ الجمهور بحسه الكوميدي ومواهبه الموسيقية. لكن فيلم "توب غان" (Top Gun) عام 1986 هو ما دفعه نحو النجومية. وعبر شخصية الطيار المقاتل "آيس مان" المتغطرس والبارد، أصبح كيلمر رمزًا للثقافة الشعبية، إذ لم تقل جاذبيته في كل لفته بالعمل عن النجم توم كروز.
وخلال السنوات التالية، أثبت كيلمر وجوده كواحدٍ من أكثر الممثلين تنوعًا في أدوارهم في التسعينيات. فمن تجسيده لشخصية جيم موريسون في فيلم "الأبواب" 1991 (The Doors) وهو دور استعد له بشغف شديد، ثم انتقل إلى تجسيد دور تاجر السلاح دوك هوليداي في فيلم "تومبستون" 1993 (Tombstone)، وأشاد النقاد بأدائه لدور موريسون وتصويره لشخصية هوليداي.
ومع بداية عام 1995 انتقل فال كيلمر إلى مرحلة جديدة تماما في حياته المهنية، حيث دخل كيلمر عالم الأبطال الخارقين، مرتديا العباءة والقلنسوة في فيلم "باتمان للأبد" (Batman Forever)، الذي أخرجه جويل شوماخر، وشكل انطلاقة من عالم الأبطال الخارقين المظلم الذي بناه تيم بيرتون مع مايكل كيتون. كان باتمان كيلمر كئيبًا ولكنه أنيق، معقد نفسيًا ولكنه رزين.
وجاء اختيار فال كيلمر لدور باتمان بمثابة انتصار ونقطة تحول في مسيرته الفنية، وخلفًا لمايكل كيتون، قدّم كيلمر أحد أشهر أدوار هوليوود في ذروة شهرته، بفكه المنحوت، وعينيه الحادتين، وحضوره الهادئ والغامض، بدا كيلمر مُناسبًا للدور، وأضفى على شخصية بروس واين تعقيدًا نفسيًا وهدوءا وتأملًا يفوق سابقيه.
اعتمد فيلم "باتمان للأبد" على المؤثرات البصرية والمشاهد المُصممة إلا أن كيلمر قدّم الدور برؤية جادة، تكاد تكون مأساوية، مُركزًا على الصراع الداخلي لرجل يعيش حياة مزدوجة. لم يكن بروس واين مجرد ملياردير لعوب، بل كان يتيمًا مُطاردًا لا يزال يصارع الحزن. كان باتمان أنيقا وصامدًا، يظهر القوة ويخفي ضعفًا عاطفيًا. درس كيلمر ازدواجية الشخصية بعمق حقيقي، مضيفا عليها دلالات دقيقة في الحوارات والصمت على حد سواء.
لكن على الرغم من النجاح التجاري للفيلم، وجد كيلمر التجربة مُحبطة. فبدلة باتمان، كما كشف لاحقًا، كانت تقيده، لدرجة أنها جعلت من الصعب عليه السماع أو التواصل مع زملائه الممثلين. يتذكر قائلًا: "لا تسمع، لا تتحرك. إنها مُنعزلة للغاية".
كان كيلمر يعتقد أن الدور يقيد قدرته على التفاعل العاطفي والأداء الحي، لذلك عندما عُرضت عليه فرصة العودة إلى باتمان وروبن، رفض، ليس رفضا للشخصية، بل رغبةً منه في التركيز على أدوار أكثر تعبيرًا وتحديًا، وكشف المخرج جويل شوماخر- في تصريحات صحفية- أنه وجد كيلمر صعبا في العمل، وهي سمعة بدأت تطارده في تلك الفترة.
ظلال باتمان
ورغم استمراره في أداء أدوار بارزة في أفلام مثل "الحرارة" 1995(Heat)، مع آل باتشينو وروبرت دي نيرو، و"القديس" 1997(The Saint)، إلا أن أخبار سلوكياته الصعبة في موقع التصوير بدأت تطغى على مسيرته المهنية، وعرف بصعوبة أسلوبه، وصرامة قراراته، وعدم استعداده للتنازل عن قراراته الإبداعية، لذلك بدأ المخرجون والاستوديوهات ينظرون إليه على أنه مصدر خطر، مما أدى إلى تراجع عروض الأفلام الكبرى.
وتزامنت هذه الفترة أيضًا مع تراجع في ايرادات شباك التذاكر لبعض أعماله، ومنها فيلم "جزيرة الدكتور مورو" 1996(The Island of Dr. Moreau)، الذي عانى من فوضى إنتاجية، وقد تحولت خلافاته مع المخرج جون فرانكنهايمرحديث الصحافة، وانعكس الأمر على الصورة المحاطة بالشكوك لنجم صعب المراس.
في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كاد كيلمر أن يختفي عن الأضواء، ولم يعلم محبوه إلا لاحقًا بمعركته مع سرطان الحنجرة، الذي أبقاه سرًا في البداية. تسبب المرض في تغيير صوته بشكل كبير نتيجة عملية ثقب القصبة الهوائية، وتأثرت قدرة فال كيلمر على الكلام، وظنّ الكثيرون أن مسيرته الفنية قد انتهت.
توب ما فريك.. الحنين
خالف كيلمر كل التوقعات، وذلك حين أصدر الفيلم الوثائقي "فال" (Val) في عام 2021، والذي احتوى على لقطات منزلية صوّرها على مدار عقود طوال حياته ومسيرته الفنية. قدّم الفيلم صورة مؤثرة وحميمة لفنان عاش حياته بشروطه الخاصة، بعيوبه، وعبقرتيه، وعمق إنسانيته، فتأثر النقاد والجمهور على حد سواء بصدق الفيلم وهشاشته.
وكان الممثل الهوليودي قد رزق بطفلين، هما جاك ومرسيدس من الممثلة جوان والي، التي التقى بها في موقع تصوير فيلم "ويلو" 1988(Willow)، وطلقا عام 1996، لكن كيلمر ظلّ قريبا من أبنائه. في السنوات الأخيرة، انخرط كلاهما في مجالات إبداعية: جاك كممثل، ومرسيدس كممثلة وعارضة أزياء.
ولعب جاك ومرسيدس أدوارا محورية في الفيلم الوثائقي "فال"، حيث كانا سندا عاطفيا لوالدهما ضد وحش السرطان الذي التهم جسده وسعادته.
ثم جاء فيلم "توب غان: مافريك" 2022 (Top Gun: Maverick)، حيث أعاد كيلمر تمثيل دور "آيس مان" في مشهد مؤثر أمام توم كروز. ورغم قدرته المحدودة على الكلام، إلا أن الجاذبية العاطفية لحضوره جعلت المشاهدين يذرفون الدموع، حيث كان الفيلم تذكيرًا قويًا بفنان لم يكف عن النضال من أجل صوته، حتى عندما سُلب منه.
لم تكن رحلة فال كيلمر مجرد مشوار لنجم هوليودي، بل كانت نضالا لروح لا تعرف اليأس، وتسعى وراء الفن بشغف لا نظير له، ويمثل كيلمر اليوم رمزا للنجاح الخاطف، ودرسا عن الثمن الباهظ للهوس الإبداعي. ومع ذلك، ورغم المرض، ورفض الوسط الفني، والتحول الشخصي، بقي كما كان دائمًا، ممثلًا لا يخشى المخاطرة، ولا يهاب الحقيقة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

'Top Gun: المنشق' تاريخ الإصدار دفعت إلى 2021 وسط المخاوف كورونا
'Top Gun: المنشق' تاريخ الإصدار دفعت إلى 2021 وسط المخاوف كورونا

أخبار قطر

time٠٩-٠٥-٢٠٢٥

  • أخبار قطر

'Top Gun: المنشق' تاريخ الإصدار دفعت إلى 2021 وسط المخاوف كورونا

closeVideo فوكس نيوز فلاش أعلى عناوين الترفيه لمدة 24 تموز / فوكس نيوز فلاش أعلى الترفيه والمشاهير العناوين هنا. تحقق من ما هو النقر اليوم في الترفيه. المشجعين سوف تضطر إلى الانتظار لفترة أطول للحصول على تتمة 1986 الكلاسيكية 'توب غان' إلى انخفاض في المسارح بفضل COVID-19 الوباء. قصوى أعلنت يوم الخميس أنها مرة أخرى دفع موعد الافراج عن كل من 'توب غان: مافريك' و 'مكان هادئ الجزء 2' في محاولة لضمان الجماهير قادرة على البقاء آمنة في حين لا تزال تعاني من الأفلام في دور العرض وليس في المنزل على الفيديو حسب الطلب (VOD). ووفقا متنوعة, 'توب غان: مافريك' تم تغيير الموعد من ديسمبر. 23 ، عام 2020 ، الإصدار إلى 2 يوليو 2021. في نيسان / أبريل ، الاستوديو أعلن أن الفيلم سيكون دفعت من يونيو 24 تاريخ الإصدار إلى أواخر كانون الأول / ديسمبر. ومع ذلك ، كما COVID-19 الحالات تستمر في الارتفاع في جميع أنحاء الولايات المتحدة ، الاستوديو عن قلقها إزاء الإفراج عن التخبط. 'توب غان' النجم ريك ROSSOVICH تشير إلى العمل مع توم كروز ، فال كيلمر: نحن كنا مثل الإخوة' 'Top Gun: المنشق' تم تأجيله حتى عام 2021. (بارامونت بيكتشرز ، Skydance و جيري بروكهايمر الأفلام) 'نحن نؤمن أنه لا يوجد فيلم-تجربة المشاهدة كالتي يتمتع بها في المسارح' باراماونت رئيس التوزيع المحلية كريس Aronson ورئيس الدولي المسرحي توزيع مارك Viane وقال المخرج في بيان. 'نحن ملتزمون التجربة المسرحية و المعرض وشركاء أريد أن أؤكد أننا على ثقة أنه عندما يحين الوقت الجماهير في كل مكان مرة أخرى تتمتع المفرد فرحة رؤية قصوى الأفلام على الشاشة الكبيرة.' الأخبار تأتي جنبا إلى جنب مع عدد كبير من الإعلانات الأخرى من الأهمية عن لائحة الأفلام في السنوات القادمة. بالإضافة إلى 'Top Gun: مافريك' يتم دفعها, 'مكان هادئ' تم نقله من سبتمبر. 6, عام 2020 إلى 23 أبريل 2021. وفي الوقت نفسه ، 'القنفذ سونيك 2' المقرر افتتاحه في 8 أبريل 2022 ، جديد 'Jacka–' الفيلم تم دفعه من يوليو 2021 إلى أيلول / سبتمبر 2021 'تحت الممر' أعلن في تموز / يوليه عام 2022 و 'النمر المتدرب' تم نقله من فبراير. 11, 2022, فبراير 10, 2023. 'TOP GUN: المنشق' TRAILER يعطي المشجعين أفضل تنظر الآن في تتمة القادمة إعلان من الاستوديو يأتي في نفس اليوم الذي AMC في العالم أكبر مسرح الدائرة ، وتأخر المخطط لها فتح من نهاية يوليو إلى منتصف إلى أواخر آب / أغسطس في خطوة إشارات مشاكل صناعة المسرح. وفي الوقت نفسه, الموعد النهائي التقارير التي ديزني 'مولان' التي تم سحبها من الافراج عن الجدول الزمني تماما ، ويقال النظر في الإفراج عن تدفق منصة ديزني+. في بداية الوباء 'المتصيدون جولة حول العالم' كان من بين أول من تخطي لها الافراج عن مسرحية لصالح VOD تدفق الإصدار. الخطوة عملت الفيلم انتهى المالية قصة نجاح. ومع ذلك ، فقد دفعت حالة من الذعر بين صناعة المسرح ، التي اضطرت إلى إغلاق أبوابها أمام الجمهور خوفا من المساهمة في انتشار COVID-19. انقر هنا للحصول على فوكس نيوز التطبيق اعتبارا من صباح اليوم الخميس ، بفيروس كورونا المستجد أصاب أكثر من 15,247,848 الناس عبر 188 بلدا وإقليما ، مما أدى إلى على الأقل 623,863 الوفيات. في الولايات المتحدة 50 ولاية بالإضافة إلى مقاطعة كولومبيا أبلغت عن حالات مؤكدة COVID-19, فرز أكثر من 3,970,908 الأمراض على الأقل 143,190 الوفيات. أسوشيتد برس ساهم في هذا التقرير.

هل تبتلع جبال اليمن سمعة أميركا؟
هل تبتلع جبال اليمن سمعة أميركا؟

الجزيرة

time١٢-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

هل تبتلع جبال اليمن سمعة أميركا؟

بدا للأميركيين واضحًا، مع بيرسترويكا/ إصلاحات غورباتشوف التي دشنها في العام 1985، أن الاتحاد السوفياتي ذاهب إلى التفكّك، وأن أميركا سترث فضاء القوة والتأثير الذي سينشأ، أي ستصبح القطب الأوحد. دخل العالم رسميًّا في الباكس أميركانا، أو حقبة السلام والقواعد الأميركية. في الوقت ذاك كانت صورة القوة الأميركية لا تزال تعاني من الأثر الفيتنامي، ولا بدّ من معالجة تلك الصورة داخليًا وخارجيًّا. في العام التالي لإطلاق البيرسترويكا، أي 1986، أطلقت هوليود فيلمها الشهير Top Gun، برعاية لوجيستية سخية من قبل الجيش الأميركي. تدخل الجيش في كتابة النص، اشتركت طائراته في مشاهد الفيلم، وبرز الشاب توم كروز ليقدم صورة الأميركي الشجاع الذي لا تعرف المهابة إلى قلبه سبيلًا. طار مافريك -توم كروز- بالمقاتلة واقترب على نحو خطر من العدو، وبدلًا عن الخوف كان الشاب الأميركي الخارق يضحك. قاتل الجيش الأميركي في الفيلم ضد عدو غير محدد الهُوية، غير أن هُوية الطائرات المعادية "ميغ" سهّلت على المشاهدين معرفة العدو الذي دحره مافريك ورفاقه. مشاهد القتال في الجو أخذت الأنفاس، وتقول البيانات القادمة من تلك الأيام، إن الشباب الأميركي، بتأثير مباشر من الفيلم، أقبل على الالتحاق بقوات بلاده على نحو غير مسبوق تاريخيًا. رمّم الفيلم جروح فيتنام وصار إلى واحدة من أنجح العمليات الدعائية في التاريخ. جاءت عاصفة الصحراء بعد الفيلم بأربعة أعوام وكان العراق ميدانًا سهلًا لاستعراض القوة، وليرى العالم مدى القوة اللامحدودة التي يملكها الوارث الوحيد للعالم. فهِم العالم أن القوة الأميركية ليست فيلمًا من إنتاج هوليود، بل شيئًا أكثر بطشًا وضراوة. عادت هوليود إلى الأجواء ذاتها في العام 2022، لتقدم النسخة الثانية من Top Gun مع بطل الدعاية نفسه: توم كروز. اللحظة صعبة بالنسبة للهيمنة الأميركية، والحقائق تقول إن الباكس أميركانا صارت من الماضي. هذه المرّة سيتدرب الطيارون على مهاجمة منشأة نووية تحت الأرض. يبدو مافريك في النسخة الثانية من الفيلم خارقًا مجدّدًا، ولكنه أيضًا قد امتلأ بالخبرة الأخلاقية والعملياتية كما ينبغي لرجل قضى وقتًا طويلًا في الجيش الأميركي. تقع المنشأة في مكان حصين بين الجبال، تضاريس شرق أوسطية لا تخطئها العين. المنشأة محمية بشبكة من الصواريخ، وثمّة مقاتلات روسية من فصيلة "ميغ" قريبة من المكان، وسوف تشتبك مع المقاتلات الأميركية أثناء الفيلم. ينجح الطيارون الأميركيون، لما يمتازون به من فرادة وتفانٍ، في إصابة الهدف ومحو الخطر. يمكن لأي مشاهد أن يخمّن طبيعة العدو "الشرق أوسطي" الذي يخسر منشأته النووية. أرى أنه لا بدّ من هذا التفصيل السينمائي إذا أردنا أن نلقي ما يكفي من الضوء على الهجوم الأميركي الراهن على اليمن. داخل تضاريس جبلية معقدة يحتفظ الحوثيون بأسلحتهم النوعية وبمنشآت التصنيع التي يُعتقد أنها أنجزت بمساعدة إيرانية. إذا عجزت أميركا عن الوصول إلى المخابئ الإستراتيجية الحوثية، فمن المحتمل أن تفشل في إيران، حيث التعقيدات العملياتية لا يمكن مقارنتها بالتحدي الحوثي. في ميدان التدريب السهل، الذي توفره اليمن، يمكن لمافريك الأميركي أن يطير بين الجبال، كما فعل في النسخة الثانية من فيلم Top Gun ويصيب منشآت معقدة تحت الأرض أو في بطون الأودية. في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، طارت مقاتلات بي-2، القادرة على حمل قنابل نووية، من أميركا ووصلت إلى سماء اليمن، وهناك نفذت خمس ضربات ضد مواقع تخزين حصينة، بحسب بيان لوزارة الدفاع الأميركية آنذاك. في الأيام الماضية وصلت ستّ مقاتلات من نفس النوع إلى قاعدة دياغو غارسيا على المحيط الهندي، وربما تجري المزيد من المران على "الأهداف الحوثية الحصينة" قبل أن يتعيّن عليها أن تطير فوق سماء إيران. وربما ستكون مهمة هذه القاذفات أدنى من ذلك، أن تشعل نارًا في اليمن يراها الواقف في طهران. لا تزال إمكانية إخضاع إيران بلا حرب قائمة، غير أن ذلك لن يحدث إن رفض الحوثيون الخضوع. ليست إيران بالمهمة السهلة إذا ما قرر الجيش الأميركي الطيران خارج بلاتوه التصوير في هوليود. إيران بلاد مترامية الأطراف يشكّل الجزء الجبلي نصفها على الأقل. كما تفصلها عن الأراضي العربية سلسلة جبلية مثيرة، جبال زاغروس، التي تمتد من مضيق هرمز في الجنوب إلى الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا شمالًا. في بعض أجزائها ترتفع تلك السلسلة الجبلية في السماء إلى ما يزيد عن خمسة آلاف متر فوق سطح البحر، وقد شكّلت، في سياق تاريخي، حائطًا ضد الأعداء القادمين من الغرب. احتمى الفرس، وأسلافهم الميديون، بتلك الجبال لصد الأعداء كما فعلوا مع الآشوريين. كما جعلوا انتصار أعداء آخرين مسألة عالية الكلفة، حدث ذلك مع المقدونيين في القرن الرابع قبل الميلاد، ومع المسلمين في القرن الميلادي السابع. التضاريس الحوثية ليست أقل رحمة من الخارطة الإيرانية، حقيقة يدركها الجيش الأميركي أكثر من البيت الأبيض. يبدو ترامب في عجلة من أمره، فهو يعتقد أن بمقدوره إشعالَ الحروب وإطفاءَها في 24 ساعة زمن. مضت أسابيع منذ بداية الحرب على الحوثيين، والقائد بحاجة إلى صورة نصر يقدمها لمتابعيه على السوشيال ميديا قبل شعبه. الرجل الذي أرسل جيشه لتدمير مخابئ السلاح الإستراتيجي – أو العقل الإيراني كما يقول- لم يجد المخابئ، ولم يصل إلى العقل، حتى الآن. بدلًا من ذلك نشر صورة لحشد من اليمنيين تسقط قنبلة فوق رؤوسهم. ما إذا كان ذلك التجمع البشري هو "العقل الإيراني" الذي قال ترامب إنه سيدمره في اليمن؟ يتعيّن على الأميركان حسم السؤال الحوثي على طريقة هوليود قبل الذهاب إلى بلاد مساحتها تزيد عن مليون وسبعمائة ألف كيلومتر مربع. تلاعب الأميركيون بالمسألة الحوثية كثيرًا، ولم يتحمّسوا للجهود الرامية إلى احتواء تلك الظاهرة العنيفة قبل عقد من الزمان. تعاوِنُ أميركا حلفاءها، ولكن ليس إلى درجة احتواء الخطر بصورة نهائية. يتعيّن على الحليف أن يبقى، على مرّ الأيام، في مسيس الحاجة لليد الأميركية، وأن يرى خطرًا محيطًا به. في فبراير/ شباط 2021 ألغت إدارة بايدن قرار تصنيف جماعة الحوثيين منظمة إرهابية خارجية. لم يكن قد مضى على ذلك التصنيف الأميركي سوى بضعة أسابيع، اتخذته إدارة ترامب في أيامها الأخيرة. نَعِمَ ترامب بأربعة أعوام كاملة وكان بمقدوره، في ذروة الصراع في اليمن، أن يصنّف الحوثيين جماعة إرهابية لكنه لم يفعل. جاء ترامب مجدّدًا وبعد مضي يومين من وصوله إلى البيت الأبيض أعاد تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، ثم أعلن الحرب عليها منتصف مارس/ آذار الماضي. تصنيف الحوثيين كحركة إرهابية أو إخراجهم من قائمة الإرهاب يحدث في الأيام الأولى أو الأخيرة من الدورة الرئاسية الأميركية. هذا التلاعب بمسألة خطرة على هذا النحو يفصح عن الكثير، ويشير إلى الأكثر. تطوّرت المسألة الحوثية، التي بدأت بشن حرب براغيث ضد الدولة اليمنية في العام 2004، وانتهت بسقوط الدولة في قبضتها خلال عشرة أعوام، إلى أن وجدت أميركا نفسها مضطرة للدخول في مواجهة مدروسة مع الجماعة. واجِهةُ الخطاب الرسمي الأميركي بشأن هذه الحرب لا تعطينا صورة واضحة عمّا يمكن عدّه إستراتيجية أميركية، سوى ما أشرنا إليه سابقًا. بمقدور الحوثيين عند مرحلة ما من الصراع إيقاف استهدافهم للملاحة البحرية، والدخول مع الأميركيين في عملية تفاوض. ولكن إلى أي مدى تبدو مسألة الملاحة حاسمة داخل الإستراتيجية الأميركية؟ حذّر جي دي فانس، نائب ترامب، في حوارات "سيغنال" المسرّبة من أن يؤدي الهجوم الأميركي على الحوثيين إلى حل معضلة الملاحة أمام أوروبا، وسأل زملاءه ما إذا كانت تلك النتيجة المحتملة واضحة في ذهن الرئيس. ماذا يريد الأميركيون من الهجوم على الحوثيين؟ ربما تكون الإجابة أبسط من كل الاحتمالات: ميدان تدريب قبل الهجوم على منشآت إيران. إعلان يرغب ترامب في إعادة أميركا إلى العظمة القديمة، تلك العودة بحاجة إلى صورة نصر على طريقة مافريك في فيلمَيه؛ الأول والثاني. الحوثيون هدفٌ سهل ولكنه ممتنع. فالجغرافيا الصعبة هي أيضًا جيش، كما يقول الكتاب الصيني الشهير "فن الحرب". حوارات سيغنال المسرّبة كشفت عن أمر مثير، فالقادة الذين اجتمعوا للاحتفال ببدء الهجوم على الحوثيين تفاجَؤُوا بالعملية، حتى إن نائب الرئيس تساءل ببراءة عمّا إذا كان الرئيس قد أحيط علمًا. في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، 2024، نقلت "تايمز أوف إسرائيل" عن مسؤولين أميركيين قولهم إنّ حوالي ثلث القدرة الهجومية للحوثيين جرى تدميرها. تلك العجلة في تقدير حجم النصر تردّ عليها الحقائق الراهنة. فبعد عام كامل من العمل في الحقل اليمني تجد أميركا نفسها عاجزة عن الوصول إلى قيادات الصف الأول لدى الجماعة. فهي تتمتع، فيما يبدو، بأمن عملياتي أفضل من حلفائها الآخرين في محور المقاومة، كما يذهب ناعوم رايدان، الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. لا تزال أميركا بعيدة عن الادعاء بأنها قد عطّلت القدرة الحوثية، حتى وإن نجحت في إضعاف قدرتهم على تهديد الملاحة عبر تدمير شبكة الرادار والكثير من الأصول البحرية. مرّت أسابيع، منذ الخامس عشر من مارس/ آذار، ولا تزال الحرب الأميركية على الحوثيين محافظة على زخمها. بيد أن الأمور قد ذهبت بعيدًا، فتجد أميركا نفسها عالقة في الحقل اليمني لزمن طويل. قاوم الحوثيون كل أشكال الضغط العسكري لربع قرن من الزمن، ولا يمكن التقليل من خبرتهم التي اكتسبوها خلال سلسلة من الحروب. بالنسبة لأميركا، التي بدأت تعاني من عجز في مخزون الذخيرة، كما تقول تقارير عديدة، فإن الورطة اليمنية ستبعدها عن الأجواء الإيرانية، أي عن الهدف النهائي من كل تلك المناورات والتدريبات. أما أفضل ما تصبو إليه السلطات في طهران فهو أن تبتلع جبال اليمن ذخيرة أميركا وسمعتها، وتشتّت انتباهها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store