
الصحراء في وثائق المخابرات الأمريكية #32: حين راهنت موريتانيا على إقامة دولة في الصحراء لعزلها عن المغرب
تكتسي قضية الصحراء أهمية مركزية في الوثائق الصادرة عن المخابرات الأمريكية حول منطقة المغرب العربي خلال سبعينيات القرن الماضي، وذلك بالنظر إلى تداخل مصالح ثلاث دول رئيسية هي: المغرب، الجزائر، وموريتانيا، إلى جانب قوة الاحتلال آنذاك، إسبانيا.
وجاء في وثيقة تعود ليوليوز 1974 رفعت عنها السرية يوم 22 مارس 2006، أن خطة مدريد لإضفاء طابع من الحكم الذاتي على "الصحراء الإسبانية" أعادت إشعال النزاع حول الإقليم، والذي ظلت إسبانيا متورطة فيه منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين، في مواجهة مطالب متنافسة من دول شمال أفريقيا.
ووصفت الوثيقة المغرب بأنه الطرف "الأكثر نشاطًا" في المطالبة بالسيادة على الإقليم، مشيرة إلى أن الرباط ردت على الخطوة الإسبانية "بحدة"، وربما كانت تفكر في اللجوء إلى "قوة محدودة" لتأكيد موقفها.
وكانت مدريد قد قررت آنذاك استبدال المجلس التشريعي الذي أنشأته سنة 1967 في الصحراء، بجمعية جديدة أكثر تأثيرًا، على أن يتم انتخاب ثلثي أعضائها مباشرة من قبل السكان. كما تضمنت الخطة إجراء استفتاء حول تقرير المصير، مع الاحتفاظ ببعض الروابط مع الإقليم، بهدف الحفاظ على المصالح الاقتصادية الإسبانية، خصوصًا المتعلقة بالفوسفاط.
تؤكد الوثيقة أن الملك الحسن الثاني، فور علمه بخطط إسبانيا، بعث برسالة إلى الجنرال فرانكو، محذرا من أن المضي قدمًا في هذا المسار سيؤدي إلى تدهور العلاقات الثنائية، ثم أتبع ذلك برسالة أخرى أبرز فيها تاريخ الجهود المغربية لاستعادة "أراضيه المستولى عليها".
وشدد العاهل المغربي الراحل على أنه لن يقبل بإقامة "دولة عميلة" في الصحراء، في إشارة إلى مخاوف الرباط من تحركات مدريد، ولوح، في حال فشل الحوار، بإمكانية اللجوء إلى وسائل أخرى للدفاع عن الموقف المغربي.
وترى الوثيقة أن المغرب كان يعتقد أن التطورات السياسية في البرتغال، وانسحابها من مستعمراتها في أفريقيا، ستسهم في تسريع إنهاء الاستعمار في الصحراء. وقد باشرت الرباط حملة دبلوماسية واسعة لكسب الدعم الدولي لمطالبها.
موريتانيا.. بين الحسابات الجيوسياسية والمخاوف الأمنية
في هذا السياق، دعت موريتانيا إلى عقد اجتماع ثلاثي في نواكشوط يوم 20 يوليوز 1974، بحضور وزيري خارجية المغرب والجزائر، لمناقشة مستقبل الصحراء الإسبانية. وتوضح الوثيقة أن نواكشوط كانت ما تزال ترفع رسميًا مطالب بالمنطقة، لكنها أبدت استعدادًا لدعم خيار تقرير المصير.
وأوردت الوثيقة أن وزير الخارجية الموريتاني صرح بأن بلاده ستدعم، في حال اختار الصحراويون الاستقلال، استمرار الوجود العسكري الإسباني في الإقليم "لعدة سنوات"، حفاظًا على استقرار الدولة الوليدة، وهو ما يشير إلى قلق نواكشوط من فراغ أمني قد يفتح المجال لتدخلات عسكرية من المغرب أو الجزائر.
ومن الأسباب الأساسية لهذا التخوف، بحسب الوثيقة، أن موريتانيا التي كانت في بدايات بناء مؤسساتها بعد الاستقلال، كانت لا تزال تخشى من وجود حدود مشتركة مع المغرب، لكون أن الرباط لم تعترف رسميًا باستقلال موريتانيا إلا سنة 1970، أي بعد ثماني سنوات من استقلالها، ما جعل الثقة بين الطرفين ضعيفة، وهو ما جعل نواكشوط تفضل خيار إنشاء كيان مستقل في الصحراء الغربية ليكون "منطقة عازلة" تمنع الاحتكاك المباشر مع المغرب.
كما كانت موريتانيا تتخوف من أن انسحاب إسبانيا دون توافق إقليمي قد يؤدي إلى اندلاع صراع مباشر بين المغرب والجزائر، على غرار ما حدث في حرب الرمال سنة 1963.
و تشير الوثيقة أيضًا إلى أن اللقاءات الثلاثية بين المغرب والجزائر وموريتانيا، والتي بدأت منذ عام 1970، لم تؤد إلى أي نتائج ملموسة، بسبب تضارب المصالح بين الدول الثلاث. فالمغرب كان يطالب بضم الصحراء، بينما كانت موريتانيا تسعى لتأسيس دولة عازلة، في حين كانت الجزائر ترفض بشدة أي توسع مغربي في المنطقة، وتصر على أن تكون طرفًا أساسيًا في أي تسوية.
وتخلص الوثيقة إلى أن لا الجزائر ولا موريتانيا ترغبان في رؤية السيادة المغربية تمتد إلى الصحراء، مشيرة إلى أن الجزائر على وجه الخصوص "ستعارض بقوة أي إجراء أحادي الجانب من قبل المغرب" لفرض سيطرته على الإقليم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الأيام
منذ يوم واحد
- الأيام
صابون تازة
صابون تازة نشر في 22 مايو 2025 الساعة 11 و 00 دقيقة لا يمكن فصل النقاش في المغرب عما يجري في عالم متحول بشكل مذهل. إن الدعوة إلى الحمائية والتقوقع على الذات، وربما رفع شعار «المغرب ولا شيء غيره» ليست نزعة تستدعي المواجهة بالتخوين، ولكنها رد فعل على تحديات داخلية مفهومة وخصوصا في ما يتعلق بتوازن القوى الإقليمي، وتحديات الوحدة الترابية والحاجة إلى تحالفات دولية […] نور الدين مفتاح لا يمكن فصل النقاش في المغرب عما يجري في عالم متحول بشكل مذهل. إن الدعوة إلى الحمائية والتقوقع على الذات، وربما رفع شعار «المغرب ولا شيء غيره» ليست نزعة تستدعي المواجهة بالتخوين، ولكنها رد فعل على تحديات داخلية مفهومة وخصوصا في ما يتعلق بتوازن القوى الإقليمي، وتحديات الوحدة الترابية والحاجة إلى تحالفات دولية بعينها لمواصلة الصمود في مناخ دولي لا يرحم. أنا أعتقد أن هذا التفهم لا يعني الاتفاق على المقاربة، فموقع المغرب أصلا جعله بدون اختيار في ما يتعلق بالانفتاح، أو ما يمكن أن نسميه قدر العيش في ملتقى التيارات. والانفتاح لا يعني الانتقائية التعسفيّة، فإما أننا داخل العصر أو خارجه. إننا تلك الشجرة التي تحدث عنها الراحل الحسن الثاني حيث إن جذورها في إفريقيا وأوراقها في العالم، وبالطبع هناك دائما قانون قرب، وعلاقاتنا كما في العالم كله تندرج ضمن هذا القرب من المغرب إلى المغرب الكبير ـ رغم كل مشاكله ـ إلى العالم العربي فإفريقيا فأوروبا ثم الولايات المتحدة والقوى المؤثرة في العالم. من هنا يمكن أن ندخل إلى النقاش المثار حول شعار «تازة قبل غزة» بلا تشنج. فهذا الشعار والسياق الذي أطلق فيه لم يكن يعني بالضرورة الحرب الهمجية التي تتعرض لها غزة اليوم. لقد أطلق في عقد سابق كردّ على التبرم من قيادات عربية متشرذمة في قمم عقيمة، تحدث عنها الملك محمد السادس بكل وضوح. لقد كان الأمر اختياراً للعهد الجديد لاختلاف في الأسلوب مع توجه الحسن الثاني الذي كان منخرطا بشكل كامل في الشؤون العربية، والدليل هو عدد القمم التي انعقدت في المغرب وعدد القرارات التي تحمل اسم هذه القمم. لقد اختلف الأسلوب ومنسوب الانخراط ولكن لا يمكن لأي بلد أن يقطع مع هذا الجزء من انتمائه، إنه المستحيل! إذن، إسقاط معادلة قديمة على واقع جديد هو إسقاط تعسفي يؤدي في النهاية إلى نتائج مخالفة أصلا للواقع. فتازة بالطبع لها الأولوية على نيويورك وبانكوك وهونولولو، ولكن ليس هناك مكان في العالم حاليا يتعرض لما تتعرض له غزّة. لقد كان رد الفعل على «طوفان الأقصى» من طرف حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة عبارة عن جرائم حرب متتالية لم تنته لحد الآن، بل إنها اليوم وصلت إلى حد استعمال التجويع كسلاح حرب وهو محرم بالقانون الدولي. إسرائيل تعيش عزلة وآخرها التبرم النسبي لإدارة ترامب منها، وفتح مفاوضات أمريكية إيرانية دون رضاها، وعقد اتفاق مع الحوثيين دون أن يكون أصلا في علمها، وعقد صفقة مباشرة مع حماس تم على إثرها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الحامل للجنسية الأمريكية عيدان ألكسندر. إضافة إلى أننا ونحن نكتب هذه السطور يوجد ترامب في الرياض مع وفد ضخم ومنها سيمر إلى الدوحة فأبوظبي دون زيارة تل أبيب! تازة اليوم تعيش على إيقاعها المعتاد في مملكة مستقرة، وغزة لا يمكن إلا أن توقظ أهل الكهف بفظاعاتها وهمجية مستهدفيها الذين لا يخفون رسميا رفضهم لحل الدولتين بين النهر والبحر، وإصرارهم على تهجير أهل القطاع. بل إن ما يقومون به في الضفة الغربية شنيع وما أقدموا عليه لأول مرة من اقتحام للمسجد الأقصى بزعامة وزير «الحرب» ـ وليس الأمن ـ القومي إيتمار بن غفير، والتنكيل بالمقدسيين وتعبيد الطريق لمحو ثالث الحرمين الشريفين، ما هو إلا تأكيد على أن الواجب الإنساني سيرفض التفاضل في التضامن بين ما هو محلي وما هو خارجي، فما بالك إذا كان هذ الخارجي يعتبر من المقدسات بالنسبة لمليارين من المسلمين ومليار ونصف المليار من الكاثوليكيين. وقد أدان البابا الجديد ليو 14 في أول خطاب له ما يجري من فظاعات في غزة ودعا إلى وقفها. أنا واثق أن الذين يقولون بـ«تازة قبل غزة» لا يعنون أنهم متحللون من القضية الفلسطينية ولا أنهم بدون إنسانية، اللهم إلا بعض الأمازيغاويين المصرحين علانية بإسرائيلتهم، والذين زاروا الكيان الصهيوني مؤخرا بدعوى التضامن معه، هؤلاء لا كلام معهم أصلا. إن مساحة الاتفاق الوطني على أن القضية الفلسطينية قضية محورية في الوجدان المغربي لا يمكن الاختلاف عليها، ولكن الذي يُحدث الخلط هو هذا التفاضل المطروح في الشعار الذي أخرج من سياقه. وككل شيء ينتزع من سياقه فإنه يصبح سامّاً، ولهذا نرى هذا التشويش على موقف مغربي إنساني تاريخي عربي إسلامي لا غبار عليه. بل إن القناة الإسرائيلية 12 اعتبرت أن التيار في المغرب غير المعادي لهذه الإسرائيل التي تقود حرب الإبادة هو قطرة في بحر! وأنا أعي أن الذي يختفي وراء هذا الانقسام المستغرب من خلال شعار «تازة قبل غزة» هو حرج التطبيع مع إسرائيل في وقت لم يكن أحد يتصور أن يصل بنيامين نتنياهو إلى ما وصل إليه من وحشية خلفت أكثر من 50 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف جريح والمأساة مستمرة. ولا أعتقد أن هذا النقاش يجب أن يكون من المحرمات أو من دواعي التصنيفات، فالتطبيع كان قرارا سياسيا وسياديا للدولة في مرحلة معينة، ولما تغيرت الظروف بشكل حاد، كان طبيعيا أن تخرج دعوات للعدول عن هذه العلاقات المفتوحة، وهذه مواقف طبيعية في الديموقراطية، وقد كان التطبيع بيننا في نهاية التسعينيات وقطعناه في بداية العهد الجديد، ويمكن في أي وقت أن يقطع اليوم لأنه يدخل في إطار التحولات، وأما الثابت فهو التزام مغربي راسخ بالاصطفاف مع الشعب الفلسطيني المحتل، ومع شرعية مقاومته لهذا الاحتلال، ومع دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي 1967 وعاصمتها القدس، ولنكون واقعيين أكثر نقول القدس الشرقية. المشكل عند العبد الضعيف لله ليس التطبيع الذي أتمنى في هذه الظروف لو أنه جمّد على الأقل مع هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، ولكن مشكلتي مع من يذهبون أبعد من قرار سياسي حول علاقة مع دولة في الخارج، إلى بناء علاقة غرامية مع الكيان الصهيوني، والتماهي مع أطروحته والانبهار بخوارق مفترضة له، ومحاولة التطبيع الشعبي معه والاحتفاء برموزه ومعانقة رايته وبسطها في الفضاء العام، ومحاولة التنصل من القضية الفلسطينية والتشنيع بها عن طريق تصرفات بعض قادتها. مثل هؤلاء هم من يزيدون في العلم ويقدمون أنفسهم حماة لاختيارات الدولة في حين أن الدولة للجميع وهي تقرر والقرار سارٍ والرأي حر. عيب أن نختلق خلافات كانت في السابق جزءً من قوتنا. لقد اختارت الدولة أن ترسل جنوداً إلى الخليج ضد صدام وخرجت أكبر مسيرة شعبية مليونية في الرباط تضامنا مع العراق! ماذا وقع؟ لا شيء. اليوم محمد السادس هو ملك المغرب وفيه تازة وهو في نفس الوقت رئيس لجنة القدس والقدس عاصمة لفلسطين بما فيها غزة، وأتذكر أنه سبق وأن أقام حفل عشاء على شرف الراحل إسماعيل هنية رئيــــس المكتب السياسي لحركة حماس حيـــنها، ترأسه رئيس الحكومة آنئذ الدكتور سعد الدين العثماني. بل لقد خرج مئات الآلاف من المــــواطنين في مسيرتين متتابعتين بالرباط نصرة لفلسطين، فلـــماذا إذن نبحث عن «صابون تازة»؟


الأيام
منذ يوم واحد
- الأيام
يوم قال الملك الحسن الثاني لفتح الله ولعلو: 'ستفقد شعبيتك'
تعززت الخزانة الوطنية بمولود جديد عبارة عن مذكرات أصدرها الوزير والقيادي الاتحادي السابق فتح الله ولعلو، طافحة بالعديد من الأحداث التي عاشها خلال مساره السياسي والأكاديمي على عهد ملكين، الملك الراحل الحسن الثاني ووارث عرشه الملك محمد السادس. هي مذكرات رجل استثنائي، كان لعقود واجهة الاتحاد الاشتراكي البرلمانية، التي ظلت تهز الرأي العام المتعطش للديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان فتح الله ولعلو خطيبا مفوها شاء القدر أن تتطابق قدراته البرلمانية مع الوزن السياسي لحزب القوات الشعبية. هذه هي الصورة التي يحفظها جيلان على الأقل عن هذا الرباطي ذي الملامح الطفولية، وهي مغايرة نسبيا للصورة التي خلفها الرجل نفسه وهو أول وزير للمالية في حكومة التناوب سنة 1998. وإضافة إلى أنه اقتصادي بارز وثاني مغربي يحصل على الدكتوراه من باريس في هذا التخصص بعد الراحل عزيز بلال، فإن من سيقرأ مذكراته التي نزلت يوم الخميس 24 أبريل 2025 في المعرض الدولي للكتاب بالرباط، سيكتشف رجلا آخر، وسيخلق بالتأكيد حميمية مع رجل لا يمكن أن تميز في سيرته بين ما هو خاص وما هو عام، بين حياته ونضاله. وربما لهذا أعطى هذه المذكرات عنوان «زمن مغربي» وهو يرجح العام على الخاص وهذا مفهوم عموما، ولكنه سيفهم أكثر عندما يبحر القارئ في الصفحات الطويلة والغنية في مجلدين بالتمام والكمال. يبدأ ولعلو مذكراته منذ الولادة حين تزوج والده بنعيسى ولعلو بنت خاله غيثة الجزولي، وسكن دار أبيها بالسويقة في المدينة القديمة بالرباط، ليفتح عينيه في أسرة ليست أرستقراطية ولكنها أسرة «عمل وكد واجتهاد» كما يصفها. وأما عن جده من والده، فيقول إنه كان بائع خضر صغيرا قرب زنقة القناصل، ولكن من بيت جده لأمه مصطفى الجزولي سيبني ولعلو كل عالمه في بيت كبير سيتحول إلى قبلة للوطنيين إلى أن يقرر والده الرحيل إلى حي العكاري ويواصل الفتى دراسته وينخرط في العمل النضالي. المذكرات طويلة جدا، ونحن هنا سنقوم بانتقاء، هو على أية حال تعسفي، وما نتمناه أن يكون هذا التعسف مهنيا نابها. وأن نقرب القارئ من حياة هذه الشخصية المغربية الوازنة وهي تقدم روايتها للتاريخ بمرافقة الزميل لحسن العسيبي، الذي أعد المذكرات للنشر، وخصنا بهذا السبق، فشكرا على ثقة الرجلين. إليكم الجزء الثالث عشر من الصفحات الساخنة التي ارتأت 'الأيام 24' نشرها: عندما قال لي الملك: ستفقد شعبيتك التقيت جلالته أيضا بالقصر الملكي بالرباط (قبل ذلك بمدة)، في إطار التهييئ للمناظرة الوطنية للجماعات المحلية. كنتُ رفقة وزير الداخلية إدريس البصري بصفته الجهة المنظمة للمناظرة، وكان لقاءً إخباريًّا فقط وقوفا، لم يدم سوى دقائق. التفتَ نحوي جلالة الملك الحسن الثاني وقال: – عليكما أن تعرفا أنه في كل دول العالم، يفقدُ وزيرا الداخلية والمالية شعبيتهما بسرعة عندما يقومان بمهامهما أحسن قيام. هذه ضريبة مسؤوليتهما. ابتسمنا وودعنا جلالته حيث التقيت مباشرة بعدها بالأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ووضعتُهُ في الصورة، مثلما أخبرتُهُ بجملة جلالة الملك، فرد علي ضاحكا: – لا تخف، شعبيتك أنت لن تتأثر. لكن أعرف أنها تأثرت فعلا، خاصة (وهذا مصدر التناقض) عندما تتخد إجراءات إيجابية لصالح البلد، لأنها في كثير من الأحيان لا تكون شعبية. ترأس جلالته عمليا ثلاثة مجالس وزارية في عهد حكومة اليوسفي، طلب منا في آخرها، (وكان في فصل الصيف)، أن لا نَحضُرَ مرة ثانية في حرارة مُماثلة باللباس الرسمي القاتم، بل اعتبر أن من حقنا الحضور بلباس خفيف. حيث قدمتُ في ذلك الإجتماع بصفتي وزيرا للإقتصاد والمالية قانون إصلاح قطاع التأمينات، الذي كان مُحضَّرًا من قبل، مع دعمٍ مُصاحبٍ لذلك الإصلاح في شكل قرضٍ من قبل البنك العالمي بقيمة 200 مليون دولار. كان عمليا يُصادقُ على ذلك القانون في مجلس الحكومة فقط، بعدها يقوم البنك العالمي بتنفيذ قرار الدعم المصاحب. بالتالي صادقنا عليه بداية في مجلس للحكومة قبل عرضه على المجلس الوزاري بغاية صدوره في الجريدة الرسمية، والمسؤول عن عرض التفاصيل كالعادة في كل نص قانون وإخبار الملك قبل المجلس الوزاري هو الأمين العام للحكومة. بعد انتهاء عرضي لمشروع قانون إصلاح قطاع التأمينات، سألني الملك الحسن الثاني إن كنا نحن من أعددنا النص. أجبته أنه قانون إصلاحٍ مُنجزٌ من قبل أطر الوزارة بالتنسيق مع المتدخلين في القطاع وأن البنك الدولي قرر تقديم دعم مصاحب لتنفيذ ذلك الإصلاح. فرد جلالته: – إن البنك الدولي هو البنك الدولي وإن المغرب له قراره السيادي، بالتالي فإنه لا أرى ضرورةً للإسراع بصدور هذا القانون الآن. كنا قد توصلنا عمليا بدعم البنك العالمي. لكن القانون لم يصدر في الجريدة الرسمية بسبب عدم مصادقة المجلس الوزاري عليه. فهمتُ حينها أن جلالة الملك يريد أن يمارس علينا كفريق حكومي جديد، نوعا من الإمتحان الذي يمارس على كل داخل جديد إلى مسؤولية مماثلة (بيزوتاج). بقيتُ بعدها، أتصلُ بالأمين العام للحكومة لتمرير نص قانون الإصلاح، خاصة أننا توصلنا ب 200 مليون دولار من البنك العالمي، لكنه ظَلَّ ينصحُني بالتريث والصبر، حتى توفي الملك الحسن الثاني رحمه الله، حيث قُدِّمَ ذلك القانون في أول مجلس وزاري ترأسه جلالة الملك محمد السادس، فصُودق عليه ونشر بالجريدة الرسمية ونُفِّذَ قانون إصلاح قطاع التأمينات.


المغرب الآن
منذ 3 أيام
- المغرب الآن
المغرب يعيد تعريف دعم القضية الفلسطينية: من المزايدة إلى البراغماتية الهادئة
في ظرف إقليمي شديد التعقيد، اختارت المملكة المغربية أن تخاطب العالم من موقع مختلف، بعيدًا عن الانفعال والمزايدة، وأقرب إلى الواقعية السياسية والمسؤولية الدبلوماسية. ففي افتتاح الاجتماع الخامس للتحالف الدولي من أجل تنفيذ حل الدولتين، المنعقد في الرباط، قدّم وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، مقاربة سياسية تضع المغرب ضمن الفاعلين القادرين على التأثير الهادئ في مسار التسوية الفلسطينية. تحت موضوع "استدامة الزخم لعملية السلام: الدروس المستفادة، قصص النجاح، والخطوات القادمة"، انعقدت اليوم بالرباط أشغال الاجتماع الخامس للتحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين، بشراكة بين المملكة المغربية ومملكة الأراضي المنخفضة وبمشاركة وفود عن أكثر من خمسين بلدا ومنظمة دولية وإقليمية — الدبلوماسية المغربية 🇲🇦 (@MarocDiplo_AR) May 20, 2025 فحين أكد بوريطة أن 'حل الدولتين هو الحل الوحيد الذي لا خاسر فيه'، لم يكن يعيد تكرار خطاب كلاسيكي، بل يعيد تثبيت موقف مغربي راسخ: دعم حل سلمي دائم يضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وفي الآن ذاته يؤسس لأمن واستقرار إقليمي متوازن. إعادة تموضع دبلوماسي مغربي منذ عقود، تميزت الدبلوماسية المغربية بمسار مستقل عن المحاور الإقليمية المتصارعة. وها هي الرباط اليوم تستثمر في ما يمكن تسميته بـ'الدور الثالث' — أي دور الفاعل القادر على بناء جسور بين المتخاصمين، لا على الاصطفاف خلفهم. خطاب بوريطة لا يخرج عن هذا السياق: رفضٌ للتطرف من كل الأطراف، وتأكيدٌ على أن المزايدات لم تخدم القضية الفلسطينية بل ساهمت في تعقيدها، وأن من يعيشون في ظل الصراع ليسوا بالضرورة حلفاء للسلام. في هذا السياق، تبرز الإشارة الواضحة إلى من وصفهم الوزير بـ'الخاسرين الحقيقيين' و'المعارضين الكسالى'، في نقد مباشر للتيارات التي تتخذ من القضية الفلسطينية مجرد منصة للخطابة، دون أي التزام فعلي تجاه الشعب الفلسطيني، أو دعم ملموس لقضاياه العادلة. التحديات أمام حل الدولتين رغم أن المجتمع الدولي أقر منذ عقود بأن حل الدولتين يمثل الإطار الأنسب لتسوية النزاع، إلا أن الواقع الميداني والسياسي يسير في اتجاه مضاد. التوسع الاستيطاني، الانقسامات الفلسطينية، وازدواجية المعايير الدولية كلها عوامل تُبقي هذا الحل حبيس الشعارات. وفي هذا السياق، يأتي الاجتماع المنعقد في الرباط، بشراكة مع مملكة هولندا، تحت شعار: 'استدامة الزخم لعملية السلام'، ليعيد طرح السؤال الحقيقي: ما الذي يلزم لتحويل هذا الخيار من مفهوم نظري إلى مسار تنفيذي؟ المغرب كفاعل إقليمي مسؤول منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني، مرورًا بالملك محمد السادس، حافظت الرباط على موقف ثابت من القضية الفلسطينية، يقوم على دعم بناء دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع الالتزام برئاسة لجنة القدس، كآلية ميدانية لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية. وفي ضوء المستجدات الراهنة، يُمكن اعتبار المغرب من الدول القليلة التي لم تغيّر خطابها ولم تتخلّ عن دورها في تقريب وجهات النظر، حتى حين تتحرك في صمت. فهل تُترجم هذه البراغماتية الهادئة إلى نتائج سياسية ملموسة؟ أسئلة مفتوحة أمام المجتمع الدولي هل هناك استعداد دولي فعلي لإطلاق خريطة طريق واضحة لحل الدولتين؟ إلى أي مدى يمكن أن يشكّل المغرب نموذجًا لدبلوماسية عاقلة في منطقة يغلب عليها التشنج؟ وهل يستطيع التحالف الدولي الجديد تجاوز منطق إدارة الأزمة نحو تفكيك جذورها؟ الجواب عن هذه الأسئلة لا يقتصر على حسن النوايا، بل يتطلب إرادة سياسية، وتنسيقًا دوليًا شجاعًا، واستثمارًا في أدوات سلمية وفعالة، تنأى بالقضية الفلسطينية عن منطق الحرب بالوكالة، وتضعها في قلب التسوية العادلة التي طال انتظارها.