
كيمياء الشجاعة: ما الذي يجعل الإنسان يقاتل حتى الرمق الأخير؟
عند الساعة 'س'، ومع إنطلاق الرصاص وسقوط القذائف، يتوقف الزمن المدني وتتجه كل الحواس نحو العدو، لحظة الإنفصال عن الذات والإندماج الكلي مع الموت المحتمل، السعي للقتل، للبقاء.
الجندي الذي يدخل المعركة لا يعود هو ذاته، فهناك عملية تحوّل عصبي – نفسي – جسدي تجري بداخله، أشبه بإعادة برمجة شاملة لكينونته، إنه انفصال عن العالم الخارجي، لا إرادي في كثير من الأحيان… انفصال عن العائلة، والأصدقاء والذكريات، وحتى اللغة التي يفكر بها، ويولد بداخله نظام بقاء بدائي – متقدّم في آنٍ معًا، ويبدأ الجهاز العصبي بإفراز موجات من الهرمونات، فالمعركة الحقيقية لا تبدأ عند احتكاك الجيوش، بل عند أول ارتباك عصبي داخلي، ومن لا يستطيع تكييف دماغه مع واقع المعركة، ومن لا ينجح في إعادة تشكيل 'ذاته البيولوجية'، وقيادة كيميائه الداخلية نحو الشجاعة، قد يفقد فرصة الحياة أمام موجات الموت القادم.
ما نتحدث عنه هو مقاربة مختلفة كلياً لمعنى المعركة، وهذه المقاربة قد لا يفهمها إلا من عاش صدمة القتال وسابق الموت في ساحة الوغي، فما الذي يجعل جنديًا يستمر بالقتال رغم الأهوال؟ هل هو الإيمان؟ الوطن؟ أم أن في داخله مادة تُفرز، تجعله ينسى الخوف ويواجه الموت بعينين مفتوحتين؟ ففي ساحة المعركة، لا وقت للتفكير… بل هناك شيء آخر، شيء ينفجر داخل الجسد… ويحرّك المقاتل، هو الإيمان والقضية؟ نعم، لكن هناك أيضاً شيئاً آخر: كيمياء معركة.
⸻
كيمياء القتال – ما الذي يحدث داخل الجسد؟
عند لحظة الخطر، يفرز الجسم مواد تؤثّر مباشرة على الأداء القتالي:
الأدرينالين (Adrenaline): يزيد دقّات القلب، يوسّع الشعب الهوائية، ويعطي طاقة مفاجئة يحتاجها المقاتل ليتحرك بقوة ومهارة. النورأدرينالين (Noradrenaline): يرفع مستوى التركيز والإنتباه، ويساعد على اتخاذ قرارات سريعة وتنفيذ ردات فعل خاطفة. الدوبامين (Dopamine): يعطي شعورًا بالإنجاز، ما يرفع من معنويات المقاتل ويعطيه ثقة تجعله يستمر بالقتال. التستوستيرون: يزيد من العدوانية والقدرة على المواجهة والعنف، وهذا ما تحتاجه المعركة. الإندورفينات: مسكّنات طبيعية، تجعل الجرح أقل تأثيرًا نفسيًا وجسديًا، فلا يشعر المقاتل بالألم عند الإصابة، ويمكن أن يتابع القتال. الأوكسيتوسين (Hormone of bonding): يعزز من الشعور بالانتماء، وله دور في القتال لأجل المجموعة، حينها ينخرط المقاتل في كل متطلبات العمل الجماعي في أرض المعركة.
مع هذه المقاربة العلمية التي كشفت عن اسرار الشجاعة والإقدام والقدرة على التحمل في المعركة، كيف يمكن الدمج بين العقيدة وهذه المواد الحيوية لإنتاج مقاتل خارق؟ فالعقائدي لا يفرز فقط الأدرينالين عند الخطر… بل يحرّك كامل جهازه العصبي لأن هدفه أسمى وأهم من النجاة. مثلًا: الانتحاري أو المقاتل الذي يعلم أنه سيموت لكنه على الرغم من ذلك يتقدّم… وما يحدث هنا هو دمج بيولوجي – فكري لا مثيل له إلا عند القتال الحقيقي.
تجدر الإشارة إلى أن تدريب المجموعات العقائدية يختلف تماماً عن تدريب الجيوش التقليدية، فالجيوش العقائدية تركِّز على محفزات الجهاز العصبي والعامل النفسي، كأن تُدرّب على تحويل الخوف عند المقاتل إلى شراسة ليكون قادراً على القتل، ويتم ذلك عن طريق زرع أفكار مثل الإنتقام، التفوق المعنوي، تحقيق الذات بالتضحية، التميُّز ضمن المجموعة. وهذا يشبه إلى حدٍ بعيد التدريب المتقدم للقوات الخاصة أو وحدات النخبة، فتدريبها القاسي يُعيد برمجة الجهاز العصبي، إضافةً إلى ذلك، فهناك تقنيات يتم تدريسها مثل التنفس القتالي (Combat breathing)، التصوّر العقلي (Mental visualization)، ضبط النفس (Self-control)، وكلها تقنيات وعوامل قد تكون غير محسوبة وغير مقدَّرة في الوحدات التقليدية.
أسئلة هامة جداً تُطرح في هذا الإطار، هل هناك جيوش تعتمد مُحفزات الشجاعة ضمن وجبات مقاتليها؟ وهل هناك فيتامينات وبروتينات قتال تدخل ضمن الدعم اللوجستي المقدم في المعركة؟ وهل شركات الدواء أصبحت جزءًا من ترسانة الأسلحة النفسية الضرورية في تعزيز قدرات الجيوش؟
لا يوجد دليل ملموس أو إجابة دقيقة على هذه الأسئلة لغاية الآن، ولكن المؤكد أن هناك الكثير من المجموعات العسكرية غير الحكومية 'Non-state military actors' تعتمد بعض أنواع المخدرات لتحفيز روح القتال والشجاعة عند مقاتليها، وهذا تم توثيقه في عدة أحداث، مع العلم أن هذا النوع من 'المنشطات القتالية' قد تدفع إلى عنف غير محسوب وإرتكاب إنتهاكات للقانون الدولي الإنساني مثل المجازر وقتل الأسرى والمدنيين، وفي نهاية القتال، تؤدي هذه الحبوب إلى ردود فعل سلبية وإحباط يصيب المقاتلين الذين تعاطوها، فتكثر حوادث الإنتحار والإصابات النفسية الناتجة عن الفارق الشاسع بين 'تحقيق الذات' و'اكتساب التقدير' في المعركة عبر القتال، والإحساس بالذنب وبالفشل الإجتماعي وعدم التقدير بعد نهاية الحرب.
في الختام، يجب إدراك أن الشجاعة ليست فقط قيمة وجدانية، إنها أيضاً مركّب كيميائي، والإيمان لا يعيش فقط في القلب، بل أيضًا في الجهاز العصبي المركزي. والمقاتل الحقيقي هو من ينجح في دمج فكره، جسده، وروحه في منظومة واحدة تتكيف مع متطلبات القتال للتفوق على العدو، ففي لحظة إطلاق النار، هناك من ينهار، وهناك من يتحوّل إلى ذئب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ ساعة واحدة
- صدى البلد
مشكلات صحية سببها خمول الغدة الدرقية؟
في بعض الحالات، قد يؤدي قصور الغدد الدرقية إلى مشاكل صحية أخرى، وغالبًا ما يساعد علاج الحالة على التخلّص من هذه الأعراض أو تحسينها، ومن هذه المشكلات: المشكلات الصحية التي قد يُسببها خمول الغدة الدرقية.. 1. ضعف الانتصاب: يمكن أن يؤدي قصور الغدة الدرقية إلى صعوبة في حدوث أو استمرار الانتصاب، وذلك لأن بعض حالات القصور ناتجة عن خلل في الغدة النخامية ، مما يؤدي أيضًا إلى انخفاض مستويات هرمون التستوستيرون، وعند علاج هذا الخلل الهرموني، قد يتحسّن ضعف الانتصاب. 2. ضعف التبويض: قد تعاني بعض المصابات بقصور الغدة الدرقية من انقطاع أو اضطراب في التبويض، مما يؤثر على الخصوبة لدى من يحاولون الإنجاب. 3. مضاعفات أثناء الحمل: قد يُسبب قصور الغدة الدرقية غير المعالج أثناء الحمل مضاعفات، إذ تنتقل هرمونات الغدة الدرقية من الأم إلى الجنين، وعند انخفاض هذه الهرمونات، فقد يتأثر نمو الدماغ لدى الجنين، مما يزيد من احتمالية حدوث تأخر في النمو بعد الولادة. كما ترتفع احتمالية التعرض للإجهاض أو الولادة المبكرة عند الحوامل المصابات بقصور غير معالج. 4. تضخم الغدة الدرقية: عندما لا تنتج الغدة الدرقية ما يكفي من الهرمونات، تستمر الغدة النخامية في إفراز هرمون التحفيز الدرقي (TSH)، مما يؤدي إلى تضخم الغدة، وغالبًا ما يكون هذا التضخم غير ضار، لكنه قد يسبب صعوبة في البلع أو التنفس إذا كان كبير الحجم. 5. أمراض القلب: يمكن أن يؤدي قصور الغدة الدرقية إلى ارتفاع مستويات الكوليسترول، مما يزيد من خطر الإصابة بـأمراض القلب أو فشل القلب. 6. الاكتئاب: يُعد الاكتئاب أو انخفاض المزاج من الأعراض الشائعة لقصور الغدة الدرقية، وقد يزداد سوءًا مع الوقت. ومع ذلك، نادرًا ما يكون الاكتئاب هو العرض الوحيد. 7. الوذمة المُخاطية: تُعد هذه الحالة نادرة وخطيرة، وتحدث عادةً عند استمرار القصور دون تشخيص أو علاج لفترة طويلة. وتشمل أعراضها انخفاض حرارة الجسم، والارتباك الذهني، وقد تصل إلى الغيبوبة،ولتفادي هذه الحالة، يُنصح بإجراء فحص لمستويات هرمونات الغدة الدرقية عند الشك في وجود مشكلة.


الديار
منذ 4 ساعات
- الديار
سكر الدماغ وتأثيره على الإدراك والتركيز... هل هو خطر حقيقي؟
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب في خضمّ الحديث عن التغذية والصحة العقلية، برز مفهوم "سكر الدماغ" كواحد من المصطلحات الحديثة، التي بدأت تُتداول بشكل متزايد في الأوساط الطبية والعلمية. يشير هذا المصطلح إلى التأثيرات السلبية للإفراط في تناول السكريات على صحة الدماغ ووظائفه الحيوية، وهو موضوع يستحق الوقوف عنده نظرا لعلاقته المباشرة بالتركيز، الذاكرة، الحالة النفسية، بل وحتى بالمستوى الإدراكي العام للفرد. يُعدّ الدماغ من أكثر أعضاء الجسم استهلاكا للطاقة، حيث يستخدم ما يقارب 20% من الطاقة التي يحصل عليها الجسم من الغذاء. وهذه الطاقة تأتي بشكل رئيسي من الجلوكوز، وهو الشكل الأبسط للسكّر. في الظروف الطبيعية، يُسهم الجلوكوز في تغذية الخلايا العصبية، ودعم عمليات التفكير واتخاذ القرار والحفظ. لكن، وعندما يتجاوز الإنسان الحد الطبيعي لاستهلاك السكر، خاصة السكريات الصناعية والمكررة، يبدأ هذا العنصر المفيد بالتحوّل إلى عامل مضر قد يقوّض وظائف الدماغ الأساسية. من أبرز التأثيرات السلبية لسكر الدماغ، هو إضعاف القدرة على التركيز والانتباه. فبعد استهلاك كميات كبيرة من السكر، يشعر الكثيرون بنوع من "الضبابية الذهنية"، وهي حالة من التشتت الذهني وعدم الوضوح في التفكير. يعود ذلك إلى التقلبات السريعة في مستويات الجلوكوز في الدم، مما يؤدي إلى استجابة عشوائية من الدماغ بين النشاط الزائد والانخفاض الحاد في الطاقة، وهو ما يضعف الأداء المعرفي. كما أظهرت الدراسات أن الإفراط في تناول السكر يمكن أن يؤثر سلبا على الذاكرة، خصوصا الذاكرة قصيرة المدى. فقد بيّنت بعض الأبحاث أن الأنظمة الغذائية الغنية بالسكريات قد تُحدث التهابات في الدماغ، وتُضعف الروابط العصبية في منطقة الحُصين، وهي المنطقة المسؤولة عن تكوين الذكريات وتنظيم المشاعر. على المستوى النفسي، هناك رابط متزايد بين السكر واضطرابات المزاج. فبينما قد يمنح السكر شعورا مؤقتًا بالسعادة والنشاط نتيجة ارتفاع هرمونات مثل الدوبامين، إلا أن هذا الأثر لا يدوم طويلا. سرعان ما يتبعه هبوط حاد في الطاقة والحالة المزاجية، مما قد يعرّض الإنسان لنوبات من القلق أو الاكتئاب على المدى الطويل. بل إن بعض الباحثين شبّهوا تأثير السكر على الدماغ بتأثير بعض المواد المُسبّبة للإدمان، حيث يُحفّز نفس مناطق المكافأة في الدماغ، مما يدفع البعض إلى الإفراط في تناوله بشكل قهري. من جهة أخرى، فإن ارتفاع السكر المزمن قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ"مقاومة الإنسولين الدماغية"، وهي حالة يصبح فيها الدماغ أقل استجابة للإنسولين، ما يؤثر على قدرة الخلايا العصبية في امتصاص الغلوكوز بشكل فعّال. وقد تم ربط هذه الحالة بزيادة خطر الإصابة بأمراض عصبية مزمنة مثل الزهايمر والخرف. لا يمكن إغفال تأثير سكر الدماغ على جودة النوم كذلك. فقد يؤدي الإفراط في استهلاك السكر إلى اضطرابات في نمط النوم، كالاستيقاظ المتكرر أو صعوبة النوم، ما يُضعف قدرة الدماغ على الراحة وإعادة التوازن الكيميائي والعصبي، وهو ما ينعكس مباشرة على الأداء العقلي والنفسي في اليوم التالي. في ضوء كل ما سبق، من الضروري أن يُعيد الإنسان تقييم علاقته بالسكر، لا سيما في ظل الانتشار الواسع للمنتجات الغذائية المصنعة والمشروبات المحلاة. ليس الهدف هو الامتناع التام عن السكر فهو لا يزال مكوّنًا ضروريا في النظام الغذائي، وإنما الاعتدال في استهلاكه، والاعتماد على مصادر طبيعية كالفواكه والخضروات، التي تمنح الجسم طاقة متوازنة دون الإضرار بالدماغ.


ليبانون 24
منذ 16 ساعات
- ليبانون 24
نحن" ضد "هم".. هكذا يحوّل خطاب الكراهية الكلمات إلى جبهات
لم يعد السلاح اليوم مجرد بندقية أو أداة حادة؛ بل أصبح الخطاب أحد أخطر الأسلحة. في لبنان ، لا يُعد الكلام مجرّد تعبير، بل يتحوّل إلى أداة انقسام، حيث تنتشر "خطابات الكراهية" على نطاق واسع. يهيمن منطق "نحن" ضد "هم"، وتُردَّد عبارات مثل "ما بيشبهونا"، ما يُكرّس مزيداً من الشرخ داخل المجتمع. فما سبب هذه الخطابات وانتشارها، وما الذي قد تقود إليه في النهاية؟ تشرح الأخصائية النفسية منال بو كروم لـ" لبنان 24" أن لخطاب الكراهية جذوراً عصبية في الدماغ. فالبشر يمتلكون مراكز عصبية تعزز الشعور بالانتماء وتكوين الهوية الاجتماعية، حيث ينشط نظام المكافأة عند الإحساس بالتقدير والقبول، ما يؤدي إلى إفراز هرموني الدوبامين والأوكسيتوسين، ويولّد شعوراً بالثقة والأمان. في المقابل، أوضحت أن اللوزة الدماغية (Amygdala)، المسؤولة عن معالجة الخوف والتمييز بين "نحن" و"هم"، تنشط عند مواجهة شخص مختلف، مما يعزز التحيز للجماعة ويؤسس لمفاهيم الانقسام. وهنا يبدأ خطاب الكراهية بالتشكل على أسس عصبية. أضافت بو كروم أن القشرة الجبهية الأمامية (PFC)، المسؤولة عن اتخاذ القرارات الأخلاقية، قادرة على التدخل لضبط هذا التحيز، وتحقيق توازن بين الولاء للجماعة والانفتاح على الآخر. لكن في حالات الانغلاق أو التعصب الشديد، غالباً ما تتعطل هذه الوظيفة، مما يحدّ من القدرة على التقبل. الانتماء كآلية للبقاء أكملت أن التطور الإنساني رسّخ فكرة أن الانتماء ضروري للبقاء، إذ توفّر الجماعة الحماية. ومن هنا نشأت معادلة في الدماغ تربط الانتماء بالأمان، وتحفّز الولاء وتنبذ العزلة. وعليه، يُنظر إلى "الآخر" كتهديد، ويُستخدم التحيز كآلية دفاعية، تُترجم بخطاب كراهية. الهوية الاجتماعية وتأثير البيئة رغم الطابع البيولوجي للانتماء، أكدت بو كروم أن الهوية الاجتماعية، كالدينية أو السياسية، تُبنى من التجارب الفردية والبيئة المحيطة، من الأسرة إلى الإعلام والتعليم والوضع الاقتصادي. هذه الهوية تتفاعل بقوة في مواقف التوتر، حيث يدافع الفرد عنها كما لو كان يدافع عن نفسه. وكلما زاد ارتباطه بالجماعة، زادت حدة الدفاع، وتحول النقاش إلى صراع "نحن" ضد "هم". أشارت إلى أن الصراعات اليوم لا تُحسم بالمنطق، لأن المواقف الأخلاقية التي يتبناها الأفراد ترتبط بهويتهم العاطفية، لا العقلانية. لذا، فإن الحوار غالباً لا يُقنع، بل يعزز التعصب، لأن كل طرف يرى رأيه امتداداً لهويته، لا فكرة قابلة للنقاش. خطاب الكراهية كسلوك نفسي دفاعي استناداً إلى علم النفس الأخلاقي، وصفت بو كروم خطاب الكراهية بأنه ليس مجرد موقف سياسي أو اجتماعي، بل سلوك نفسي دفاعي ناتج عن شعور بالخطر. ويهدف هذا السلوك إلى حماية الهوية الاجتماعية، لا مهاجمة الآخر فقط. رغم الاتفاق العام على القيم الأخلاقية مثل العدالة والحرية والرعاية، إلا أن الأفراد يختلفون في ترتيب أولويات هذه القيم. فبينما يعطي أحدهم الأولوية للحرية، يفضل آخر الانضباط أو الرعاية، مما ينعكس على مواقفه السياسية وتحالفاته. آليات تغذية الانقسام بيّنت بو كروم أن هناك ثلاث آليات نفسية-اجتماعية تعزز الانقسام وخطابات الكراهية: أوّلاً، شيطنة الآخر: حين يُقدَّم المختلف كخطر وجودي، ما يبرر التهجم عليه. ثانيًا، احتكار الصواب الأخلاقي: حيث تؤمن كل جماعة بأنها تملك الحقيقة الأخلاقية المطلقة. ثالثًا، التعصب وغياب المرونة: المتمثل في رفض الآخر وعدم تقبّل وجهة نظره. بهذه الآليات، يتحول خطاب الكراهية إلى سلوك لا واعٍ، لكنه فعّال ومبرّر في نظر الفرد وجماعته. من الدفاع إلى الهجوم وحذّرت بو كروم من أن شيطنة طرف لآخر تؤدي إلى رد فعل طبيعي من الطرف المقابل، الذي يرى نفسه بدوره مهدداً. وهكذا، ينتقل خطاب الكراهية من سلوك دفاعي إلى سلوك هجومي، قد يتطور إلى عنف أو سلوكيات تدميرية يصعب التنبؤ بنتائجها، حيث تفرض الغريزة نفسها تحت شعار: "أدافع عن نفسي أو أهاجم لأبقى". سبل الخروج من الأزمة وتابعت بو كروم بتأكيد أهمية إعادة النظر في القناعات والانفصال عن الانغلاق داخل الجماعة. واعتبرت أن البداية تكمن في "أنسنة الآخر" وفهم نواياه الأخلاقية، لا شيطنته، وهو ما يتطلب وعياً عميقاً وتقبلاً للاختلاف. كما شددت على أهمية تربية الأطفال على هذه القيم منذ الصغر، لتجنّب إعادة إنتاج التاريخ نفسه. ودعت إلى خلق تواصل حقيقي بين الجماعات، لا بهدف تغيير الآخر أو محاكمته، بل لفهمه. ورأت أن إيجاد قواسم مشتركة تتجاوز حدود الانتماء الضيق، كالمواطنة والمصلحة العامة، هو مفتاح الخروج من عزلة الجماعة والانفتاح على المجتمع الأوسع. في النهاية، لا يتبنّى جميع اللبنانيين خطابات الكراهية، لكن الخطر الأكبر يكمن في مَن ينقلها ويضخّمها، وعلى رأسهم بعض وسائل الإعلام