
مهرجان عامل.. محاولة لاستعادة الحياة في كفررمان الجنوبية
لمهرجان "عامل" في بلدة كفررمان قضاء النبطية طعم مختلف هذا العام، فهو يأتي بعد حرب إسرائيلية قاسية على لبنان، إذ نالت البلدة حصة كبيرة من الاعتداءات الإسرائيلية، وقد دمرت الغارات عدة مبان سكنية، وسقط فيها عدد من القتلى والجرحى.
وقد اختارت كشافة التربية الوطنية -الجهة المنظمة لهذا المهرجان- اسم "عامل" لأمرين، الأول تحية للعمال في عيدهم، وأما الثاني فتيمّنًا بجبل عامل، وهو المنطقة الجنوبية من لبنان.
سوق بأكشاك متنوعة
المهرجان عبارة عن سوق شعبي وتراثي أقيم في ملعب مدرسة كفررمان الرسمية، حيث ضم أكشاكا متنوعة، قدمت الأكل التراثي، وكذلك المنتوجات المصنوعة محليا وكل ما له علاقة بثقافة وتاريخ لبنان والجنوب اللبناني.
إليان العزة وقفت داخل كشكها المخصص لبيع الأواني الفخارية، فقد اشتهر لبنان بصناعة الفخار منذ زمن بعيد، إلا أنه تراجع بفعل الصناعات المعدنية، ومن خلال هذا الكشك تبيع إليان أواني فخارية متنوعة، وتشير -في حديثها للجزيرة نت- إلى أن الطهي بالفخار صحي أكثر من الطهي بالأواني المعدنية، موضحة أن عرض المصنوعات الفخارية يهدف لتشجيع الناس على العودة إلى استعمالها حفاظا على صحتهم.
وعن المهرجان تقول إليان العزة:
"أحببنا أن نغير النشاط التقليدي المعتاد الذي يدعم العمال في كل عام، وقررنا أن ننظم فعالية جميلة نرسم فيها البسمة على وجوه الجميع ومنهم الأطفال، وأن نحسن من مزاجية الناس بعد الحرب، ولهذا اخترنا السوق الشعبي والتراثي الذي لاقى استحسانا كبيرا من الناس".
نور غزال المختصة بصناعة الشوكولاتة منزليا، حضرت مع منتجاتها إلى السوق، وتتحدث للجزيرة نت عن عملها قائلة "أقوم بكل شيء في المنزل، من صناعة الشوكولاتة البلجيكية الخالية من السكر، إلى تحضير التيراميسو والتشيز كيك والليزي كيك، وكل أنواع الحلويات للمناسبات والأعراس".
ومشاركة غزال في هذا المهرجان ليست للربح المادي المباشر فقط، وإنما للترويج لمنتجاتها وتعريف الناس بطبيعة هذه المنتجات من خلال التواصل مع شرائح جديدة من المجتمع تحضر إلى السوق، حسب تعبيرها.
بدورها، تعمل فرح حسونة في مجال الأشغال اليديوية من أساور وزينة، تنوه بهذا المهرجان وبمشاركة الناس الكبيرة فيه، وتؤكد للجزيرة نت أن الناس بحاجة إلى هذه المساحة من الفرح بعد كل الضغوط التي مروا بها خلال العامين الماضيين.
أفراح أبو زيد تملك متجرا لبيع مستلزمات الصناعات اليدوية وقد حضرت إلى السوق لتعرض هذه المستلزمات وتعرف الناس على تجارتها، وتشير في حديثها للجزيرة نت إلى أن المهرجان مميز، خاصة أنه يحمل كل التحايا للعمال الذين يكدّون ويتعبون للاستمرار في هذه الحياة الصعبة، وتلفت أفراح إلى أن أهمية هذا النشاط هو إعادة الحياة إلى المنطقة بعد الحرب القاسية، وبعد الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي سبقتها، وتقول "حبنا لكفررمان وللجنوب وصمودنا هو ما دفعنا للاستمرار، واليوم نعيد الحياة إليها من جديد رغم كل ما حصل".
وتقف فاطمة صمادي إلى جانب ابنتها التي تخبز "المناقيش" على فرن الصاج، وتتحدث للجزيرة نت عن الصاج الذي ارتبط بتاريخ المنطقة، حيث كان موجودا في كل بيت، وكانت ربة المنزل تخبز عليه الخبز اليومي والمناقيش، إلا أن استخدامه بدأ ينحسر مع التطور الذي طرأ على الحياة، وتؤكد على ضرورة العودة للجذور والتمسك بالأرض والبيوت والحياة التقليدية.
زوار من داخل وخارج البلدة
حشود كبيرة من البلدة وخارجها حضرت منذ اللحظات الأولى لافتتاح السوق ومن جميع الفئات العمرية، ومن ضمن فعاليات السوق الشعبي والتراثي جناح خاص بالأطفال، حيث رسموا ولعبوا وغنوا بإشراف المنظمين.
إعلان
علي شعشوع من بلدة كفررمان حضر مع أسرته ليشاهد الفعاليات، ويؤكد على ضرورتها في التخفيف عن جميع أفراد المجتمع الذين عانوا ما عانوه خلال الحرب. وخلال حديثه للجزيرة نت، يشدد شعشوع على ضرورة أن كل النشاطات التي تقام للأطفال، لأنهم عاشوا ذكريات سيئة خلال الحرب، ويجب أن ينسوها بمثل هذه النشاطات المتنوعة، معربا عن أمنيته بأن يعود الجنوب أفضل مما كان عليه قبل الحرب.
أما كمال حمزة فيصف الجو بالرائع، ويقول في حديثه للجزيرة نت:
"عادت الحياة إلى قريتنا كفررمان وعاد النبض إلى الجنوب بعد كل ما مررنا به من قصف ودمار وتهجير، ولا شك في أن الخراب كبير، لكن الناس لم تمت، بل بقيت على قيد الحياة، وهذا دليل على تمسكهم بأرضهم، والذين ينظمون هذا النشاط هم أولادنا، وهم الذين سيواصلون الحياة بكل أشكالها".
من مدينة بعلبك شمالي شرقي لبنان، حضر شوقي فارس مع أسرته إلى بلدة كفررمان، الذي أكد أن قدومهم رسالة تشجيع للقيمين على المهرجان وإحياء لبلدة كفررمان بعد كل ما تعرضت له من تدمير خلال الحرب، ويقول للجزيرة نت "الكل مسرور هنا، الأطفال والكبار، وأهم ما في الأمر أن الناس متمسكة بأرضها كما أشجار الزيتون، وهذا يدل على أن هذه الأرض فيها شعب حي يعود للنهوض من جديد، فحين تنظر من حولك ترى الفرحة تكبر أكثر فأكثر، وإن شاء الله ستعود هذه المنطقة للحياة ويصبح كل شيء أفضل".
سالي حرب أتت من عكار شمالي لبنان، المحافظة التي استقبلت مئات العائلات الجنوبية النازحة بسبب الحرب الإسرائيلية، وكانت سالي على تماس معهم وبنت معهم أفضل العلاقات، واليوم أتت لتقف على حالهم في هذا النشاط المميز حسب تعبيرها.
"عكار بطبيعتها منطقة مضيافة وكريمة، وقد احتضنت أهل الجنوب خلال الأزمة، رغم أن لا شيء يعوضهم عما مروا به من ضغوط وفقد، لكننا حاولنا أن نقف إلى جانبهم، وأقول لأهل الجنوب شكرا لأنكم رغم المسافة جعلتم منّا شعبا واحدا، وكما جئتم إلينا في وقتكم الصعب، اليوم نأتي إليكم في وقتكم الجميل، وبصراحة الإيجابية كبيرة، لأن الناس رغم كل ما عانوه، ما زالوا يحبون الحياة ومتمسكين بأرضهم".
الجهة المنظمة
يشير حسين شكرون، وهو أمين السر العام لكشافة التربية الوطنية، إلى أن هذا النشاط يأتي لتكريم العمال بعيدهم، حيث تقدم النساء والرجال منتجاتهم المصنوعة يدويا في السوق الشعبي والتراثي، والهدف من ذلك ليس فقط الوقوف إلى جانب العمال فحسب، بل إعادة الحياة إلى البلدة وإلى كل الجنوب، ونوّه بصمود الأهالي وتضحياتهم الكبيرة في سبيل الأرض والحفاظ عليها.
إعلان
وفي حديثه للجزيرة نت، أشاد شكرون بالمشاركة الكبيرة لأهالي البلدة وأهالي قرى قضاء النبطية وكل المناطق اللبنانية الذين حضروا لإنجاح هذا النشاط الذي سيستمر ليومين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 20 ساعات
- الجزيرة
مهرجان عامل.. محاولة لاستعادة الحياة في كفررمان الجنوبية
لمهرجان "عامل" في بلدة كفررمان قضاء النبطية طعم مختلف هذا العام، فهو يأتي بعد حرب إسرائيلية قاسية على لبنان، إذ نالت البلدة حصة كبيرة من الاعتداءات الإسرائيلية، وقد دمرت الغارات عدة مبان سكنية، وسقط فيها عدد من القتلى والجرحى. وقد اختارت كشافة التربية الوطنية -الجهة المنظمة لهذا المهرجان- اسم "عامل" لأمرين، الأول تحية للعمال في عيدهم، وأما الثاني فتيمّنًا بجبل عامل، وهو المنطقة الجنوبية من لبنان. سوق بأكشاك متنوعة المهرجان عبارة عن سوق شعبي وتراثي أقيم في ملعب مدرسة كفررمان الرسمية، حيث ضم أكشاكا متنوعة، قدمت الأكل التراثي، وكذلك المنتوجات المصنوعة محليا وكل ما له علاقة بثقافة وتاريخ لبنان والجنوب اللبناني. إليان العزة وقفت داخل كشكها المخصص لبيع الأواني الفخارية، فقد اشتهر لبنان بصناعة الفخار منذ زمن بعيد، إلا أنه تراجع بفعل الصناعات المعدنية، ومن خلال هذا الكشك تبيع إليان أواني فخارية متنوعة، وتشير -في حديثها للجزيرة نت- إلى أن الطهي بالفخار صحي أكثر من الطهي بالأواني المعدنية، موضحة أن عرض المصنوعات الفخارية يهدف لتشجيع الناس على العودة إلى استعمالها حفاظا على صحتهم. وعن المهرجان تقول إليان العزة: "أحببنا أن نغير النشاط التقليدي المعتاد الذي يدعم العمال في كل عام، وقررنا أن ننظم فعالية جميلة نرسم فيها البسمة على وجوه الجميع ومنهم الأطفال، وأن نحسن من مزاجية الناس بعد الحرب، ولهذا اخترنا السوق الشعبي والتراثي الذي لاقى استحسانا كبيرا من الناس". نور غزال المختصة بصناعة الشوكولاتة منزليا، حضرت مع منتجاتها إلى السوق، وتتحدث للجزيرة نت عن عملها قائلة "أقوم بكل شيء في المنزل، من صناعة الشوكولاتة البلجيكية الخالية من السكر، إلى تحضير التيراميسو والتشيز كيك والليزي كيك، وكل أنواع الحلويات للمناسبات والأعراس". ومشاركة غزال في هذا المهرجان ليست للربح المادي المباشر فقط، وإنما للترويج لمنتجاتها وتعريف الناس بطبيعة هذه المنتجات من خلال التواصل مع شرائح جديدة من المجتمع تحضر إلى السوق، حسب تعبيرها. بدورها، تعمل فرح حسونة في مجال الأشغال اليديوية من أساور وزينة، تنوه بهذا المهرجان وبمشاركة الناس الكبيرة فيه، وتؤكد للجزيرة نت أن الناس بحاجة إلى هذه المساحة من الفرح بعد كل الضغوط التي مروا بها خلال العامين الماضيين. أفراح أبو زيد تملك متجرا لبيع مستلزمات الصناعات اليدوية وقد حضرت إلى السوق لتعرض هذه المستلزمات وتعرف الناس على تجارتها، وتشير في حديثها للجزيرة نت إلى أن المهرجان مميز، خاصة أنه يحمل كل التحايا للعمال الذين يكدّون ويتعبون للاستمرار في هذه الحياة الصعبة، وتلفت أفراح إلى أن أهمية هذا النشاط هو إعادة الحياة إلى المنطقة بعد الحرب القاسية، وبعد الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي سبقتها، وتقول "حبنا لكفررمان وللجنوب وصمودنا هو ما دفعنا للاستمرار، واليوم نعيد الحياة إليها من جديد رغم كل ما حصل". وتقف فاطمة صمادي إلى جانب ابنتها التي تخبز "المناقيش" على فرن الصاج، وتتحدث للجزيرة نت عن الصاج الذي ارتبط بتاريخ المنطقة، حيث كان موجودا في كل بيت، وكانت ربة المنزل تخبز عليه الخبز اليومي والمناقيش، إلا أن استخدامه بدأ ينحسر مع التطور الذي طرأ على الحياة، وتؤكد على ضرورة العودة للجذور والتمسك بالأرض والبيوت والحياة التقليدية. زوار من داخل وخارج البلدة حشود كبيرة من البلدة وخارجها حضرت منذ اللحظات الأولى لافتتاح السوق ومن جميع الفئات العمرية، ومن ضمن فعاليات السوق الشعبي والتراثي جناح خاص بالأطفال، حيث رسموا ولعبوا وغنوا بإشراف المنظمين. إعلان علي شعشوع من بلدة كفررمان حضر مع أسرته ليشاهد الفعاليات، ويؤكد على ضرورتها في التخفيف عن جميع أفراد المجتمع الذين عانوا ما عانوه خلال الحرب. وخلال حديثه للجزيرة نت، يشدد شعشوع على ضرورة أن كل النشاطات التي تقام للأطفال، لأنهم عاشوا ذكريات سيئة خلال الحرب، ويجب أن ينسوها بمثل هذه النشاطات المتنوعة، معربا عن أمنيته بأن يعود الجنوب أفضل مما كان عليه قبل الحرب. أما كمال حمزة فيصف الجو بالرائع، ويقول في حديثه للجزيرة نت: "عادت الحياة إلى قريتنا كفررمان وعاد النبض إلى الجنوب بعد كل ما مررنا به من قصف ودمار وتهجير، ولا شك في أن الخراب كبير، لكن الناس لم تمت، بل بقيت على قيد الحياة، وهذا دليل على تمسكهم بأرضهم، والذين ينظمون هذا النشاط هم أولادنا، وهم الذين سيواصلون الحياة بكل أشكالها". من مدينة بعلبك شمالي شرقي لبنان، حضر شوقي فارس مع أسرته إلى بلدة كفررمان، الذي أكد أن قدومهم رسالة تشجيع للقيمين على المهرجان وإحياء لبلدة كفررمان بعد كل ما تعرضت له من تدمير خلال الحرب، ويقول للجزيرة نت "الكل مسرور هنا، الأطفال والكبار، وأهم ما في الأمر أن الناس متمسكة بأرضها كما أشجار الزيتون، وهذا يدل على أن هذه الأرض فيها شعب حي يعود للنهوض من جديد، فحين تنظر من حولك ترى الفرحة تكبر أكثر فأكثر، وإن شاء الله ستعود هذه المنطقة للحياة ويصبح كل شيء أفضل". سالي حرب أتت من عكار شمالي لبنان، المحافظة التي استقبلت مئات العائلات الجنوبية النازحة بسبب الحرب الإسرائيلية، وكانت سالي على تماس معهم وبنت معهم أفضل العلاقات، واليوم أتت لتقف على حالهم في هذا النشاط المميز حسب تعبيرها. "عكار بطبيعتها منطقة مضيافة وكريمة، وقد احتضنت أهل الجنوب خلال الأزمة، رغم أن لا شيء يعوضهم عما مروا به من ضغوط وفقد، لكننا حاولنا أن نقف إلى جانبهم، وأقول لأهل الجنوب شكرا لأنكم رغم المسافة جعلتم منّا شعبا واحدا، وكما جئتم إلينا في وقتكم الصعب، اليوم نأتي إليكم في وقتكم الجميل، وبصراحة الإيجابية كبيرة، لأن الناس رغم كل ما عانوه، ما زالوا يحبون الحياة ومتمسكين بأرضهم". الجهة المنظمة يشير حسين شكرون، وهو أمين السر العام لكشافة التربية الوطنية، إلى أن هذا النشاط يأتي لتكريم العمال بعيدهم، حيث تقدم النساء والرجال منتجاتهم المصنوعة يدويا في السوق الشعبي والتراثي، والهدف من ذلك ليس فقط الوقوف إلى جانب العمال فحسب، بل إعادة الحياة إلى البلدة وإلى كل الجنوب، ونوّه بصمود الأهالي وتضحياتهم الكبيرة في سبيل الأرض والحفاظ عليها. إعلان وفي حديثه للجزيرة نت، أشاد شكرون بالمشاركة الكبيرة لأهالي البلدة وأهالي قرى قضاء النبطية وكل المناطق اللبنانية الذين حضروا لإنجاح هذا النشاط الذي سيستمر ليومين.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
السياسة قبل الرواية والشعر في الدورة الـ66 لمعرض بيروت للكتاب
لاحظ عدد من الناشرين المشاركين في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، الذي افتُتِحت دورته الـ66، أنّ للمؤلفات السياسية حضورا بارزا في هذه النسخة من الحدث الثقافي اللبناني، وأن اهتمام القراء بات يميل أكثر إلى هذا النوع بعدما كان الطلب ينصبّ على الرواية والشعر. ويواصِل عدد دور النشر المُشاركة في المعرض هذه السنة الارتفاع، مقارنة بالأعوام الأخيرة منذ بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان وجائحة كورونا، على ما أفاد المنظمون. وأكدت رئيسة النادي الثقافي العربي، الذي يُنظم المعرض منذ العام 1956، سلوى السنيورة بعاصيري أن من بين دور النشر الـ134 المُشاركة في هذه الدورة التي تمتد إلى 25 مايو/أيار الجاري، جهات عربية عدة، من قطر والإمارات ومصر والأردن وسوريا، ومعهد العالم العربي في باريس ، إلى جانب الحضور المحلي. وأوضحت بعاصيري -في تصريحها لوكالة الصحافة الفرنسية- أن إحجام دور النشر العربية عن المشاركة في الدورات الأخيرة كان "لأسباب أمنية، إذ إن الظروف في لبنان كانت حتى القريب غير مواتية لهذا الحضور"، لكنّ "الجميع يشعر الآن أن ثمة مناخا مختلفا". وقال المدير العام لدار "الشروق" المصرية أحمد بدير "انقطعنا (عن المشاركة) لأعوام لكنّ تأليف الحكومة الجديدة شكّل لنا دافعا للعودة بقوة". وتوقعت بعاصيري "أن يزيد الحضور العربي في الدورة المقبلة" وأن يكون "كثيفا". إعلان "بيروت لن تتخلى عن الثقافة" وشدّد رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، في افتتاح الدورة الـ66 الأربعاء، على أن " بيروت لم ولن تتعب من حمل راية الثقافة رغم كل الجراح". وذكّر سلام المعروف بشغفه بالمطالعة وقال عنه عريف الحفل الإعلامي زافين قيومجيان إن "منزله معرض كتاب"، بأن المعرض "تقليد راسخ يعكس نبض بيروت الثقافي وتراثها الفكري ودورها التاريخي كعاصمة عريقة للمعرفة والإبداع". وفي جناح دار "النهار" التي عرضت مؤلفاتها الجديدة، ومن أبرزها كُتب عن العلاقات بين بيروت وطهران وعن الشأن السياسي اللبناني، قالت المديرة الإدارية للدار العريقة كارلا قرقفي زيادة "نحن نحب المعارض، لأنّ فيها تفاعلا مع القارئ، لا يهمنا ما سنجنيه من أرباح، لكن نحب أن نحافظ على هذا التفاعل". ولاحظت المسؤولة عن "دار رياض الريس" فاطمة الريس أن "القارئ كان يهتم لسنوات بالرواية والشعر، لكنه اليوم بات يميل إلى الكتب التي تطرح مواضيع فكرية وسياسية". وتشكّل المؤلفات السياسية 80% من إصدارات دار "سائر المشرق" التي كانت تشهد مثلا في يوم الافتتاح توقيع كتاب للباحث محمد عبد الجليل غزيّل، يتناول "دور رئيس مجلس الوزراء في بناء الهوية الوطنية وقيادة الإصلاحات السياسية والاقتصادية"، على ما أوضح. ومن الإصدارات في المعرض كتاب عن مؤسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام موسى الصدر، الذي كان قبل اختفائه عام 1978 أحد أبرز الشخصيات الشيعية في لبنان، وقالت شقيقته ورئيس المؤسسة التي تحمل اسمه رباب الصدر إن الكتاب يتناول موضوع الاعتصام الذي أقامه الإمام الصدر في أحد المساجد عام 1975 للدعوة إلى وقف الحرب الأهلية. ورأت أستاذة القانون والكاتبة ندى شاوول أن "معرض الكتاب العربي يتأثر أكثر من سواه بالمسائل السياسية والسوسيولوجية ويتفاعل أكثر مع الأحداث". وتشارك شاوول في إدارة نقاش عن مؤسسة "الندوة اللبنانية" التي أدت ما بين 1946 و1984 "دورا تثقيفيا في حقبة من تاريخ لبنان المضيء"، حسب بعاصيري، وهي واحدة من نحو 60 نشاطا مماثلا خلال المعرض. وأشارت بعاصيري إلى أن من أبرز الندوات الأخرى، واحدة عن المسرح، وأخرى عن الكاتب الراحل إلياس خوري، وسواهما مثلا عن مئوية الأديب للبناني سليمان البستاني المعروف بترجمته "الإلياذة"، وعن الأديب والمؤرخ والرحّالة أمين الريحاني في الذكرى المئوية لكتابه "ملوك العرب"، إضافة إلى واحدة عن المطربة أم كلثوم. مساحة مفتوحة لفنون الكتاب وتتمحور إحدى الندوات على إمام بيروت وسائر الشّام عبد الرحمن الأوزاعي في الذكرى الـ1250 لوفاته، "لِما عُرف عنه من تسامح ديني ونهج إصلاحي". وهذه الندوات تندرج ضمن توجه المعرض، حسب بعاصيري، إلى "ألا يقتصر على كونه منصة للكتاب، بل أيضا مساحة مفتوحة لفنون الكتاب وما يدور في فلكه"، على ما شرحت في كلمتها الافتتاحية. وأشارت في تصريحها إلى أن ما يميّز هذه النسخة "التركيز على المعارض الفنية المختصة" التي يصل عددها إلى ستة، يلقي أحدها الضوء على "دور مدينة طرابلس الثقافي والمعرفي"، ويتناول آخر تطور السينما في لبنان من خلال الملصقات، ويستعيد ثالث محطات المعرض نفسه منذ نشأته، إضافة إلى آخر عن رسوم كاريكاتورية متعلقة بغزة. ولأن "الثقافة متعددة الأوجه، وهي فن وموسيقى وكتابة وتأليف وشعر"، على قول بعاصيري، طعّم المعرض برنامجه بعدد من الحفلات الموسيقية، يُحيي إحداها عازف البيانو الفرنسي اللبناني عبد الرحمن الباشا في مناسبة مرور مئة عام على ولادة والده المؤلف الموسيقي توفيق الباشا.


الجزيرة
٣٠-٠١-٢٠٢٥
- الجزيرة
'أرزة'.. دراجة مسروقة تختزل واقع الشتات الطائفي
تخبرنا حكايات التاريخ المتوارثة أقاويلها، أن البداية الحقيقية لصعود شبح الطائفية في لبنان، قد انطلق مع تفشي أدخنة الحرب الأهلية في السبعينيات، لكن ما أُغفل سهوا هو أن ضعف السطوة المركزية للدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، ساهم فيما بعد بانفراط عقد هذا الوثاق الديمغرافي، وبالعودة للماضي نستطيع قراءة مشهدية الحاضر. هذا الحاضر المغلف بالصراعات الخفية بين حدود هذه الطائفة وتلك، يقدمه الفيلم اللبناني 'أرزة' (2024)، وقد كتب له السيناريو لؤي خريش وفيصل سام شعيب، وأخرجته اللبنانية ميرا شعيب، وهو أول تجاربها الروائية الطويلة، بعد سنوات من صناعة الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة، أغلبها مشغول برصد تداعيات الواقع اللبناني المأزوم أمره على الدوام. نحن أمام مخرجة تدرك تمام اليقين ما تريد قوله، وقد استطاع الفيلم جذب ردود أفعال واسعة الصدى، بعد عرضه في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية والعربية، استحق الفيلم بسببها جائزة أفضل موسيقى تصويرية، من مهرجان أيام قرطاج السينمائية. طموح تجاري يصطدم بجدران الطائفية تقتنص أحداث الفيلم مقطعا من حياة بطلته أرزة' (الممثلة اللبنانية دياموند أبو عبود)، وهي تعمل في إعداد الفطائر المخبوزة منزليا وبيعها، ثم يدفعها طموحها التجاري لشراء دراجة نارية بالأقساط المؤجلة، لتوصيل عدد أكبر من الطلبات المتراكمة، لكن القدر يباغت تطلعاتها بسرقة الدراجة، وعندئذ يصبح لزاما عليها الوفاء بالتزامات الدين، بمحاذاة متطلباتها المالية الأخرى. هكذا ينسج الفيلم سرديته، مقدما الواقع اللبناني كما هو، خاليا من الرتوش التجميلية المشروعة فنيا في بعض الأحيان، مدثرا هذا الغشاء السردي بجرأة وقدرة استثنائية على البوح والتعري المجتمعي. فالمضمون العام للفيلم يبدو معنيا في المقام الأول بإثارة تساؤلات الانتماء وإشكالات الهوية، فهو يستعرض أزمة الطائفية بأريحية مخلوطة بتوابل السياسة، وتلك أزمة مؤثرة ضمنيا على وحدة النسيج الداخلي للشعب اللبناني. ومن هذه الاستفاضات الفكرية الشائكة أحيانا، والمثيرة للتأمل حينا آخر، ثمة قماشة سردية أخرى تغزل خيوطها على مهل، قوامها الواضح بلا مواربة أن مسارات الحياة لا تتدفق أمواجها، إلا بقوة الأمل وحده، ولا شيء سواه. في ظلال هذه الأوضاع المحكومة بالضيق والخناق الاقتصادي، كيف ستدير بطلتنا ما تيسر من حياتها؟ مفتتح سردي.. نظرة على واقع الشارع اللبناني يشيد السيناريو عالمه السردي، استنادا على المبدأ الدرامي التقليدي، القائم على النسيج الخطي، الخالي من الالتواءات الدرامية أو الزمنية، وبهذا التدافع الحكائي تطالعنا تدريجيا الإجابة المنتظرة. تبدأ الأحداث بتتابع مشهدي، نرى فيه 'أرزة' وهي تقتحم المجال البصري للشاشة، من ناحية اليسار تقديرا لأهميتها الشخصية والدرامية، ثم تستكمل سيرها في الشوارع المكتظة بالتنوعات البشرية، متجاهلة بابتسامة عابرة دعوات التظاهر والاحتجاج على النظام السياسي، حتى تعود من حيث بدأت إلى منزلها، وهذه المرة تعبر الإطار من الناحية اليمنى، بعد أن انتهت من شراء أغراضها المنزلية. ومن ثم اختار الفيلم أن يبدأ حكايته بهذا القوس الافتتاحي، فهو لا يكتفي بتقديم الشخصية الرئيسية محل التناول فحسب، بل يقدم كذلك لمحة يسيرة من عالم سردي تدور في إنائه الشخصيات، وهي تناضل وتصارع لبلوغ تطلعاتها. ولذلك فإن البناء العام يقوم على توليفة من العلاقات الثنائية والثلاثية، وبالاحتكاك المتوقع بين بعضهم تتدافع الأحداث للأمام، نحو الذروة المنتظرة. ومن هنا يمكن القول إن نسيج الفيلم الدرامي، لا يتكئ على البطولة الفردية أو الجماعية للشخصيات، مع ما نرى من بطولة فردية مستحقة لشخصية 'أرزة'، ذلك أن المكان يحظى بنصيب من تلك الكعكة، لرغبة أصيلة في تسليط نيران النقد اللاذع نحو جوهر المكان، المكتظ حتى الحافة بالتناقضات، وهي لا تنكشف على جرعة واحدة، بل يعمد السرد إلى إزاحة غموضها وتفكيك شفراتها شيئا فشيئا. فالبداية مع الفصل التمهيدي الأول، الذي يكشف عن أبطال الساحة السردية، ومعضلتهم الإشكالية مع معوقات المكان، وهي تتضح تدريجيا مع دخول الفصل الثاني، فيدخلوا في خصومة واضحة المعالم ضد حيثيات هذا العالم المحيط والمحِبط في نفس الآن، إلى أن تتم إجراءات المصالحة مع أجواء المكان في الفصل الثالث. أوضاع البلد.. بيئة تدفع أبناءها إلى الهجرة لا يتأخر السرد في تقديم رؤيته الوصفية للمكان، فالمشاهد الأولى الكاشفة عن الشخصيات ودوافعها كفيلة بتحقيق هذا الغرض، فنرى كنان (الممثل بلال الحموي) وهو ابن أرزة في لقطات عدة يطلق قذائف انتقاداته للوضع العام. فالاحتجاجات الثورية الدؤوبة لا تحقق التغيير المطلوب، ناهيك عن التدهور الملحوظ في الأداء الاقتصادي، ويقدمه السيناريو عبر مشاهد عدة، يظهر فيها قوة الدولار الشرائية مقابل الليرة. هذا على نطاق الوضع العام، الذي يلقي بتأثيراته على الشخصيات، فلا ترى مخرجا سوى الهروب إلى الخارج في قوارب الهجرة غير الشرعية، ثم يبدو المكان مكبلا محصورا بالضيق، أو بمعنى أكثر دقة طاردا لأهله ورفاقه، ولذلك يلجأ الأسلوب الفيلمي إلى المباشرة في تقديم عالمه السردي، فالتعبير الشجاع عن الواقع لا يحتاج إلى الاختباء والمواربة. ولأن الواقع يضغط بأحماله الثقيلة على الجميع، حتى يعلي شأن الفردية في مقابل انحسار التضامن الإنساني، تلجأ أرزة لسرقة سوار أختها الذهبي، لسداد دفعة مقدمة من ثمن شراء دراجة نارية، حتى يقودها ابنها للمساعدة في توصيل طلبات الفطائر التي تعدها للبيع. بحث عن الدراجة في جغرافيا ممزقة مع بهجة الأيام الأولى، وفي غفلة من الابن تسرق الدراجة، ومنذ ذلك الحين يورط السيناريو المتفرج معه، في دوامة البحث عن ذرات الدراجة التائهة في شوارع بيروت. يتوالى كشف السرد على نحو أكثر تفصيلا، عن ماهية المكان الذي يغلفه الشتات من كل حدب وصوب، فالقوس الافتتاحي لملحمة الانقسام الداخلي تلك، تبدأ مع بيع السوار الذهبي لتاجر أرمني، ثم شراء الدراجة من تاجر درزي، وكل منهم لا يأمن الآخر. ومع اختطاف الدراجة، تدخل الأم وابنها رحلة بحث في كل بقاع بيروت، فكل بقعة تسيطر عليها طائفة ما، وكل فصيلة طائفية لا تساعد من هم خارج حيزها الآمن. ويستثنى من هذه السيمفونية السكانية المبعثرة متجر الهدايا والحلي، فهو يجمع كافة الشعارات الدينية والسياسية، وتتردد أرزة عليه في ديمومة مكررة تبعا لحالات التنكر، وهكذا في دوامة متصاعدة المتاعب، لا تقترب من المراد، ولا تبتعد كذلك. متاهات البحث.. صراع متعدد الأوجه بين الشخوص والمكان مع الفصل الثاني تنطلق أرزة وابنها كنان في رحلة بحث عن أي أثر للدراجة المفقودة، بأسلوب يقترب إلى حد كبير من الفيلم الإيطالي الأيقوني 'سارقوا الدراجات' (Ladri di biciclette) للمخرج الإيطالي 'فيتوريو دي سيكا'، وهو من إنتاج عام 1948. فلئن كان الفيلم القديم يقدم الواقع الإيطالي وقد تهاوى اقتصاديا وسياسيا بفعل الحرب العالمية الثانية، فإن البيئة العامة للأحداث في فيلمنا لا تختلف كثيرا، فالإطار العام مغلف بالتراخي الاقتصادي، الذي ينعكس على الفرد، وبين هذا الضعف وذاك يقبع وطن ممزق الأوصال. وللتعبير عن هذا السياق، يمزج الفيلم في تناوله بين التراجيديا والكوميديا، فالضحك يتوالد تلقائيا من مشاهد أرزة المكررة، أثناء تنكرها الشكلي، بما يناسب كل طائفة، بحثا عن الدراجة المسروقة، لكنه ضحك مبتور تصحبه مرارة الواقع، فتبدو الكوميديا -التي تبزغ من تلقاء الموقف- سوداء ساخرة وناقمة على هذا الوضع المثير للتأمل والحيرة. وعندئذ يمكن الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن الصراع الدرامي، الذي يبدو مهموما بالتعبير عن النزاع من أجل البقاء على الحد الأدنى من الحياة، ولذلك تخرج الدراجة النارية المسروقة، من حدود كونها وسيلة لتحسين المستوى المعيشي، إلى دلالة الرمز، وكأنها تمثل طوق نجاة. ولا تتوقف أركان الصراع عند هذه النقطة، بل يصاغ بصورة أكثر اتساعا مع توغلنا في السرد، حين يكشف عن تباين الرؤى بين الأجيال، أما أرزة فترغب بالتشبث بجذورها، وأما كيان فيسعى بدأب للفرار من محدودية هذا المكان المحصور بالكبت. وهكذا يقدم الفيلم توليفته السردية، ويتضمن نسيجها المتشعب صراعا متعدد الأوجه، يحيل تطلعات الشخوص الفردية إلى إطار أوسع وأشمل، فتصبح الصراعات الشخصية تأويلا وانعكاسا للصراع العام، الذي يحيط بالحيز الجغرافي المنقسم على ذاته، والذي يلقي صدى تفاعلاته على الأبطال، فالواقع أن كلا منهما يتفاعل مع الآخر وضده. ثنائيات متشابكة وبشائر منتظرة مع أن الحكاية تتميز ببساطة مقنعة، فإنها لا تخلو من بعض التعقيد على مستوى العلاقات بين الشخصيات، فالبناء العام يقوم أساسه المعماري على الدوائر الثنائية، البداية مع العلاقة التقليدية بين أرزة وكنان، وبين أرزة وأختها ليلى، وكذلك بين ليلى وكنان، ثم نصل إلى الدرجة الأكثر تفصيلا، بالعلاقة بين كنان وصديقته ياسمين. وبنظرة واسعة المدى، يمكن أن نلاحظ أن هيكل الأحداث لا يسير على خط درامي وحيد، لكن هذا السياق يحتوي في داخله خطوطا سردية أخرى، تتفرع من رحم الخيط الأصلي، وكل منها يسهم بقدره المتوازن في إثراء النسيج السردي بألوان متباينة من الحكي. لكن الملفت حقا للنظر، هو المساواة بين جميع الشخصيات في معيار البؤس والتعاسة المستحق لكل منهم، فأرزة قد تركها زوجها في بداية زواجهما، وفر هاربا من دون أن يترك أدنى وسيلة للتواصل، وأما ليلى فما تزال تنتظر عودة زوجها، ولا تعلم أنه قد لقي حتفه في سجون النظام السوري، وعلى الرقعة الأحدث نرى كنان وقد باغتته ياسمين برحيلها المفاجئ إلى أوروبا مع أسرتها. وهكذا يبدو الإطار العام مدثرا بغلالة رقيقة من الفقد والحنين، مما يدعم النسيج السردي بمسحة شفيفة من العذوبة والشاعرية. وعندئذ يمكن بمنتهى السهولة واليسر الوصول إلى مفتاح قراءة الفيلم، وهو يكمن ببراءة بين الإيمان غير المحدود بقوة الأمل، والرجاء في المستقبل الأفضل، الذي سيأتي بالتأكيد في الوقت المعلوم. فالجميع ينتظر وصول بشارة مجهولة حسنة الطالع؛ أرزة الباحثة بدأب واجتهاد عن دراجتها، وليلى المنتظرة عودة زوجها، وبينهما كنان الذي ينبش عن فرصة ملائمة، للفرار من جحيم هذا الواقع المشلول بندرة الفرص. عودة الدراجة.. مصالحة بين مجتمع متشابك لا يتوقف التعبير عن الحصار الذي تعاني منه الشخصيات على السياق الدرامي فحسب، فعناصر التكوين والصورة تقول كلمتها أيضا، فتطالعنا أرزة في مشاهد عدة، وهي في إطار محصور ضيق المساحة، تعبيرا عن الحصار النفسي والذاتي الذي يغلف حياتها. ولاكتمال الصيغة التعبيرية، يلجأ الإخراج إلى زوايا التصوير المتوسطة الحجم، التي تسهب في التعبير الوصفي عن محتويات تلك الحياة التي يعيشها أبطالها. لقد اختير أبطال الفيلم بعناية فائقة، فانتماءاتهم الطائفية والدينية حقيقية تماما، فكل منهم يعبر عن عقيدته المذهبية، فالتاجر الدرزي ومن يماثله من الموارنة ينتمون إلى تلك الطوائف. لذلك تتباين اللكنات باختلاف الشخصيات والمكان كذلك، فلكل ضاحية لكنتها المغايرة عن الأخرى، أما ما يثير الإعجاب حقا، فهو الالتزام كذلك بأماكن التصوير الواقعية، التي تسيطر عليها كل طائفة بحسب تعدادها السكاني. يتوالى السرد باندفاع محموم نحو الذروة، وحين نصل إلى الفصل الثالث تلتئم الخيوط السردية معا، وتجري وقائع المصالحة مع المكان، بعد أن يستعيد الثنائي أرزة وكنان الدراجة المسروقة، وتقتنصهما الكاميرا في لقطات متعاقبة أثناء تنقلهما السعيد في شوارع بيروت. وفي طرح موازٍ يقول الشاعر اليوناني 'قسطنطين كفافيس' عن التشبث بالهوية المكانية: 'لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى، فسوف تلاحقك المدينة، ستهيم في نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة، في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها'. وكأن شاعر لبنان جبران خليل جبران اختزل ذلك السيل الجارف من التعلق بالمكان حين قال: بِلادي لا يزالُ هواكِ مِنِّي كما كانَ الهوى قبلَ الفِطامِ ومن ثم يمكن القول إن السياق السردي نجح في خلق فيلم جذاب المحتوى الشكلي والفكري، يحرض على التأمل والتدبر، ويبعث على التساؤلات المشروعة، الباحثة عن إجابة مؤكدة راسخة اليقين، عن السبب الحقيقي في تجانس هذا المجتمع شكلا، وتباعده مضمونا.