logo
النظائر الكيميائية تكشف عن تغيرات جذرية في أوروبا قبل 3500 سنة

النظائر الكيميائية تكشف عن تغيرات جذرية في أوروبا قبل 3500 سنة

الجزيرة٠٧-٠٧-٢٠٢٥
كشفت دراسة علمية جديدة أجراها فريق دولي من الباحثين عن تحولات عميقة طالت أسلوب الحياة والغذاء وأنماط التنقل في حوض الكاربات في دولة المجر، أحد أهم المراكز الحضارية في أوروبا في العصر البرونزي، وهو العصر الذي تمَّيز باستخدام البرونز، ووجود الكتابة البدائية في بعض المناطق في العالم.
نُشرت نتائج الدراسة أخيرًا في دورية "ساينتفك ريبورتس"، وتعتمد على تحليل شامل لمجموعة كبيرة من الرفات البشرية والحيوانية، التي تعود إلى مرحلتي العصر البرونزي الأوسط والمتأخر، وتحديدًا من مواقع أثرية مهمة في المجر، في مقدمتها مقبرة "تيزافوريد-مايوروشلوم"، الواقعة في وادي نهر تيزا.
بحسب الباحثين، فإن نتائج الدراسة تسلط الضوء على نقطة تحول ثقافية واقتصادية واجتماعية مهمة في تاريخ أوروبا الوسطى، حيث ترافق ظهور ثقافات معمارية محددة مع تغيرات في نمط التنقل، والتحول من اقتصاد يعتمد على اللحوم إلى اقتصاد أكثر اعتمادًا على الحبوب كالدخن الأبيض، وربما أيضًا بداية تراجع في التفاوتات الطبقية.
السترونشيوم يكشف عن الهجرات
حلل الباحثون نسب النظائر المشعة من عنصر السترونشيوم في مينا الأسنان والعظام البشرية، لتحديد أنماط التنقل الجغرافي للأفراد.
السترونشيوم عنصر كيميائي يوجد طبيعيا في التربة والصخور، وعندما تتفتت الصخور، يدخل السترونشيوم إلى المياه والتربة، ثم تمتصه النباتات، أما الحيوانات والإنسان فيحصلون على السترونشيوم عن طريق الطعام والماء.
وجد الباحثون، أن غالبية سكان الموقع الرئيس في الدراسة كانت من السكان المحليين، مع وجود نسبة محدودة فقط قدمت من مناطق تبعد بين 20 إلى 100 كيلومتر، وشخص واحد فقط بدا أنه جاء من منطقة أبعد من ذلك بكثير.
أسنان الإنسان تتشكل في الطفولة، وتحتفظ بنسبة السترونشيوم من البيئة التي نشأ فيها الطفل، فإذا عاش الشخص في منطقة مختلفة عندما كبر، فإن عظامه ستسجل نسبًا مختلفة للسترونشيوم.
ومن ثم فإنه بمقارنة نسب السترونشيوم في الأسنان والعظام مع النسب في التربة المحلية، يستطيع العلماء معرفة، هل هو محلي أم مهاجر، ومن أين جاء تقريبًا؟
كذلك يمكن تحليل بقايا نباتية أو حيوانية (حبوب أو عظام ماشية) لمعرفة هل كانت مزروعة محليًا أم مستوردة.
وبحسب الدراسة، أظهرت نتائج العصر البرونزي الوسيط، أن بعض المهاجرين قدموا من مناطق أكثر إشعاعًا مثل أعالي نهر تيزا أو جبال الكاربات الشمالية، كما كشفت نتائج العصر البرونزي المتأخر، أن القادمين الجدد كانوا من مناطق أقل إشعاعًا مثل جنوب الكاربات أو هضاب ترانسدانوبيا، أي غرب نهر الدانوب، مما يدعم فرضية انتقال بعض العناصر الثقافية من الغرب إلى سهول المجر.
الكربون والنيتروجين للكشف عن الطعام
كما كشفت تحاليل النظائر المستقرة للكربون والنيتروجين في كولاجين العظام، أن النظام الغذائي قد شهد تحولًا ملحوظًا مع نهاية العصر البرونزي الأوسط. فقد أظهرت النتائج انخفاضًا في استهلاك البروتين الحيواني تزامنا مع زيادة في تناول الحبوب، خصوصًا نبات الدخن الأبيض.
وتكشف نظائر الكربون عن أنواع النباتات المُتناولة (مثل الدخن مقابل الحبوب الأخرى)، بينما يشير النيتروجين إلى كمية البروتين الحيواني مقابل البروتين النباتي في النظام الغذائي.
الكربون والنيتروجين من أهم الأدوات الكيميائية في علم الآثار لمعرفة الغذاء والبيئة التي عاش فيها الإنسان أو الحيوان.
النباتات تأخذ الكربون من ثاني أكسيد الكربون في الجو، لكن طريقة امتصاصها تختلف حسب نوعها، فمثلا نباتات مثل الذرة والشعير تمتص الكربون 13 بنسبة منخفضة مقارنة بنباتات مثل الدخن أو الذرة، والتي تمتصه بشكل يختلف عن نباتات أخرى مثل الصبار.
عندما تأكل الحيوانات أو البشر هذه النباتات (أو الحيوانات التي تتغذى عليها)، تنتقل هذه النسب إلى العظام والأسنان، وعند قياس النسب يمكن للعلماء الإجابة عن أسئلة مثل: هل اعتمدت الجماعة محل الدراسة على نباتات؟ ومتى دخلت محاصيل جديدة (مثل الدخن) في نظامها الغذائي؟
وكلما ارتفع الكائن الحي في السلسلة الغذائية، زادت نسبة النيتروجين 15 في أنسجته، فمثلا تمتلك النباتات نسبة منخفضة من هذا النيتروجين، بينما تمتلك آكلات الأعشاب نسبة أعلى قليلا، وآكلات اللحوم تمتلك أعلى نسبة.
ومن ثم يقيس العلماء نسبة النيتروجين في كولاجين العظام للإجابة عن أسئلة مثل: ما كمية البروتين الحيواني مقابل النباتي في الغذاء؟ هل كانت المجموعة قيد الدراسة تعتمد على الصيد أم الزراعة؟ هل هناك اختلاف غذائي بين الرجال والنساء أو بين طبقات المجتمع؟
دور الدخن
وبحسب الدراسة، توصل الباحثون إلى أن إدخال نبات الدخن في النظام الغذائي قد حدث في فترة زمنية ضيقة نسبيًا بين عامي 1540 و1480 قبل الميلاد.
وتظهر آثار النبات بوضوح في تحاليل الرواسب الكلسية على الأسنان، حيث وُجدت بقايا نشا وسليكا، أي رمال، مميزة لنبات الدخن لدى غالبية الأفراد في العصر البرونزي المتأخر، مقارنة بنسب محدودة جدًا في المرحلة السابقة.
ويُعتقد أن ظهور نبات الدخن الأبيض، الذي يمتاز بدورة نمو سريعة وتحمل للجفاف، كان عاملًا حاسمًا في دعم المجتمعات الزراعية التي عرفت ازدهارًا ديمغرافيًا متزايدًا في تلك الفترة.
الرواسب الكلسية على الأسنان هي صلبة تتكون عندما تتراكم بقايا الطعام والبكتيريا على الأسنان وتختلط بالأملاح (مثل الكالسيوم والفوسفور) من اللعاب.
مع مرور الوقت، تتصلب هذه الطبقة وتتحول إلى "صخر صغير" على الأسنان، وهو نفس الجير الذي ينظفه طبيب الأسنان اليوم، لكن في البقايا الأثرية يبقى محفوظًا لآلاف السنين.
تعمل هذه الطبقة مثل كبسولة زمنية، تعلم الباحثين عن بقايا الطعام، بل وبدراسة أنواع البكتيريا في هذه الطبقة يعرف الباحثون عن أمراض الناس في تلك الأزمنة البعيدة.
عصر من التفاوت
من الجوانب اللافتة في الدراسة أيضًا، هو تراجع التفاوت في النظام الغذائي بين الذكور والإناث. ففي العصر البرونزي الأوسط، إذ أظهرت النتائج أن الذكور حصلوا على نسب أعلى من البروتين الحيواني مقارنة بالإناث، مما يشير إلى وجود تفاوت اجتماعي في توزيع الموارد الغذائية.
أما في العصر البرونزي المتأخر، فقد تراجعت هذه الفروقات، ما يعكس تحولًا نحو مجتمع أكثر مساواة، أو على الأقل، تراجع في الطبقية الاجتماعية المرتبطة بالغذاء.
ومن أبرز ملامح التحول الثقافي الذي كشفته الدراسة، هو التخلي عن النمط العمراني السائد في العصر البرونزي الأوسط، والذي تمثل في المستوطنات التلية المحصنة والمستمرة لأجيال.
ومع ظهور ثقافة "الهياكل التلية"، وهي ثقافة العصر البرونزي السائدة في أوروبا الوسطى والتي تميزت بممارسة دفن الموتى تحت تلال دفن، بدأ الاعتماد على مستوطنات أفقية أصغر عمرًا وأقل تحصينًا، مما يعكس تغيرات سياسية أو اجتماعية عميقة في بنية المجتمعات آنذاك.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر
حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر

الجزيرة

timeمنذ 12 ساعات

  • الجزيرة

حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر

أثبتت دراسة حديثة أن بعض أشجار التين في كينيا يمكنها تحويل كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة، مما يضمن بقاء الكربون في التربة لفترة طويلة بعد موتها، ويعني ذلك أن أشجار التين المزروعة بالغابات يمكن أن تقدم فوائد مناخية إضافية من خلال عملية عزل الكربون. وأشارت الدراسة إلى أن جميع الأشجار تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وينتهي معظم هذا الكربون عادة كجزيئات هيكلية تُستخدم لبناء النبات، مثل السليلوز، لكن 3 أنواع من أشجار التين الأصلية في مقاطعة سامبورو في كينيا يمكنها أيضا صنع كربونات الكالسيوم من ثاني أكسيد الكربون. وتُحوّل بعض الأشجار ثاني أكسيد الكربون إلى مركب بلوري يُسمى أوكسالات الكالسيوم، والذي يمكن للبكتيريا الموجودة في الشجرة والتربة تحويله إلى كربونات الكالسيوم، المكون الرئيسي للأحجار مثل الحجر الجيري أو الطباشير. يمكن أن يبقى الكربون في شكل معدني داخل التربة لفترة أطول بكثير مما يمكن أن يبقى في المادة العضوية للشجرة. وتشمل الأشجار المعروفة بتخزين الكربون بهذه الطريقة شجرة "إيروكو إكسيلسا" (Milicia excelsa)، التي تنمو في أفريقيا الاستوائية وتستخدم للأخشاب، ولكنها لا تنتج الثمار. ووجد الباحث الرئيسي مايك رولي في جامعة زيورخ في سويسرا وزملاؤه أن 3 أنواع من أشجار التين الأصلية في مقاطعة سامبورو في كينيا يمكنها أيضا صنع كربونات الكالسيوم من ثاني أكسيد الكربون. يقول رولي: "جزء كبير من الأشجار تصبح كربونات الكالسيوم فوق الأرض، لكننا نرى أيضا هياكل جذرية كاملة تحولت إلى حد كبير إلى كربونات الكالسيوم في التربة حيث لا ينبغي أن تكون، وبتركيزات عالية". وحدد فريق الدراسة لأول مرة أنواع أشجار التين التي تنتج كربونات الكالسيوم عن طريق رش حمض الهيدروكلوريك الضعيف على الأشجار والبحث عن الفقاعات، وهي علامة على إطلاق ثاني أكسيد الكربون من كربونات الكالسيوم. كما قام الباحثون بقياس المسافة التي تمكنوا من اكتشاف كربونات الكالسيوم في التربة المحيطة بها، وحلّلوا عينات من الأشجار لمعرفة أين يتم إنتاج كربونات الكالسيوم في جذوعها. ويقول رولي: "ما كان حقا مفاجأة كبيرة، هو أن كربونات الكالسيوم قد ذهبت حقا أعمق بكثير في الهياكل الخشبية مما توقعنا، فقد ظننا أن تكون العملية سطحية تشمل الشقوق ونقاط الضعف داخل الهيكل الخشبي فقط". وسيحتاج الباحثون إلى القيام بمزيد من العمل لحساب كمية الكربون التي تخزنها الأشجار، وكذلك كمية المياه التي يحتاجونها ومدى مرونتها في المناخات المختلفة. ولكن إذا كان من الممكن دمج أشجار التين في مشاريع إعادة التحريج المستقبلية، فيمكن أن تكون مصدرا للغذاء وحوض الكربون، كما يقول رولي. وكانت معظم الأبحاث العلمية السابقة قد ركزت على قدرة الأشجار على التقاط ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين من خلال عملية التركيب الضوئي، لكن هذه الدراسة ذهبت أبعد من ذلك. وقد يمثل امتلاك أشجار التين هذه القدرة الفريدة من نوعها على تخزين الكربون داخل التربة لفترات زمنية طويلة حلا مناسبا للأزمة المناخية المتفاقمة، في وقت يسعى الباحثون لتوسيع الدراسة لاكتشاف أنواع نباتية أخرى يمكنها تخزين الكربون.

مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟
مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟

قد لا يتجاوز حجم النملة البيضاء الواحدة حجم ظفر الإصبع، وهي مخلوق هش، شفاف الهيكل، وشديد الحساسية لأشعة الشمس، بل يكفي أن يطأها شخص بقدمه دون أن يشعر لينهي وجودها. ومع ذلك، حين تجتمع ملايين من هذه الكائنات الدقيقة فإنها تتحول إلى مهندس معماري بارع، قادر على بناء تلال طينية شاهقة. وبعض هذه التلال يرتفع حتى 5-8 أمتار، أي ما يعادل بالنسبة لحجم النمل الأبيض بناء ناطحات سحاب أو مدن تمتد لكيلومترات، إذا ما قورنت بجسم الإنسان. إنها ليست مجرد كتل ترابية ضخمة، بل هي مدن بمعنى الكلمة، تحتوي على شبكة معقدة من الغرف والأنفاق والقنوات التي تعمل على تنظيم درجة الحرارة والرطوبة وتدفق الهواء، بما يضمن بقاء المستعمرة والفطريات التي تزرعها لتقتات عليها. لكن ما يثير الذهول حقًا أن كل هذا يُبنى دون مخطط هندسي أو قائد مركزي. ولا توجد "نملة معمارية" ترسم التصاميم أو توزّع الأوامر على العمال، بل تُبنى هذه التلال عبر قواعد بسيطة مطبقة محليًا من كل فرد، وتترابط تلك التصرفات الفردية الصغيرة لتشكل في النهاية أنماطًا معمارية مذهلة. هندسة بلا عقول مركزية تبدأ العملية بمزيج من التربة واللعاب والروث، حيث تبني النملة الواحدة كرة صغيرة من الطين، وتضعها في مكان مناسب. وقاعدة البناء هنا بسيطة "إذا رأيت نملة قد وضعت كرة طينية، ضع أنت الأخرى فوقها أو بجانبها" ومن هذه التكرارات الصغيرة ينشأ مع مرور الوقت برج شاهق ومعقد. ولكن النمل الأبيض لا يكتفي بتكرار أعمى، فهو حساس للغاية لتغيرات بيئته، ويستجيب لها لحظة بلحظة. فالرطوبة، مثلًا، تلعب دورًا رئيسيًا في توجيه عمليات البناء، ففي دراس ات حديثة أجريت على النمل الأبيض، اكتشف الباحثون أن عاملات البناء في النمل الأبيض تستشعرن الفقاعات الرطبة المتسربة من شقوق العش، فإذا شعرن بفقاعة رطوبة، تضعن كرات طينية عند حافتها، مما يدفع الفقاعة إلى الامتداد تدريجيًا، فيواصلن البناء للأعلى. أما إذا تسرب هواء جاف أو هبت رياح قوية فجأة، تتلاشى الفقاعة الرطبة ويتوقف البناء فورًا. وإذا ارتفع مستوى ثاني أكسيد الكربون داخل التل بشكل خطير على الفطريات (التي تتغذى عليها قطعان النمل الأبيض) تهرع العاملات لفتح فتحات تهوية جديدة أو توسيع الأنفاق لتجديد الهواء. وإذا ارتفعت درجة الحرارة، بنى النمل الأبيض أبراجًا تعمل مثل المداخن لتسريب الهواء الساخن للخارج. وإذا كان الجو باردًا، أغلق الفتحات وعزل الجدران بالطين للحفاظ على الدفء. وتمثل تيارات الهواء أيضًا إشارات، فإذا شعر الأفراد بتدفق قوي مفاجئ، تعاملوا معه كإشارة خطر وسدوا الفتحة على الفور. أما التيار اللطيف فيستغلونه لإنشاء نظام تهوية طبيعي أشبه بمكيف هواء ذاتي التشغيل، بحسب دراسة نشرت عام 2024 بدورية "إي-لايف". المستعمرة ككائن حي فائق يظهر ما سبق أنه حينما نراقب سلوكيات النمل الأبيض، يبدو كما لو أننا أمام كائن واحد ضخم وليس ملايين الكائنات الصغيرة. ولا تعرف أي نملة بشكل فردي التصميم النهائي للتلة، تمامًا كما لا تعرف أي خلية عصبية في دماغك أنك تفكر الآن. لكن عبر شبكة معقدة من التفاعلات المحلية، يظهر ذكاء جماعي يسمح للمستعمرة بحل مشاكل معقدة مثل تنظيم التهوية والدفاع عن النفس وبناء الهياكل. ويطلق علماء الأحياء على هذا النوع من الكائنات اسم "الكائنات الفائقة" فالمستعمرة، بكل أفرادها، تعمل كأنها جسد واحد، والتلة هي "جلدها ورئتها". والفطريات المزروعة بداخلها تمثل جهازها الهضمي، أما النمل الفردي فهو مثل خلايا متناثرة داخل هذا الكائن الأكبر. وبحسب هانتر كينغ الباحث من مختبرات ل. ماهاديفان بجامعة هارفارد، يمكننا تخيل التل ككائن حي ضخم، يتكون من ملايين النمل، لكل فرد وظيفة مثل عضلة أو خلية دم. ويعد ذلك، في علوم التعقد، نموذجا مثاليا على ظاهرة الانبثاق، فنحن أمام أفراد يعملون بقوانين بسيطة وبشكل مستقل، لكن هذه القوانين تجعلهم يتفاعلون مع الجيران، بشكل يؤدي لنشوء نظام معقد يحمل صفات أكبر من مجموع أفراده، ويطور ذلك ما نسميه سلوكا أو ذكاء جمعيا. سؤال البشر إن ما يفعله النمل الأبيض لم يعد يثير إعجاب علماء الأحياء فقط، بل أصبح مصدر إلهام للهندسة والروبوتات. فقد طوّر مهندسون معماريون مباني ذكية بنظام تبريد سلبي مستوحى من تلال النمل الأبيض، وتبنى خبراء الروبوتات خوارزميات بناء جماعي مستوحاة من هذه الحشرات لبناء منشآت بلا حاجة لتوجيه مركزي. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تتأمل مشروع "ترمس" وهي روبوتات صغيرة صممتها مجموعة بحثية من جامعة هارفارد لتقليد الطريقة التي يبني بها النمل الأبيض مساكنه. والفكرة الأساسية بسيطة، فكما أن النمل الأبيض يبني أعشاشًا ضخمة دون قائد أو خطة مركزية، كذلك تتم برمجة هذه الروبوتات لتعمل بشكل جماعي وتبني هياكل معقدة دون الحاجة إلى التحكم عن بُعد أو أوامر مباشرة من البشر. ولا يعرف كل روبوت بسيط جدًا شكل البناء النهائي لكنه يعتمد على قواعد محلية بسيطة مثل "إذا وجدت حجارة في مكان معين، ضع فوقها لبنة جديدة، وإذا كان المكان مزدحمًا، انتظر حتى يفرغ الطريق، وإذا لاحظت فراغًا في مستوى معين، ابدأ بتعبئته". وإلى جانب ذلك، فكل روبوت يحتوي على حساسات لرؤية البيئة القريبة جدًا منه (مثل مستشعرات الحركة) وذراع ميكانيكي لحمل ووضع الطوب، إلى جانب برنامج يتحكم بخطواته وفق القواعد البسيطة السابقة. وقد لاحظ الباحثون أنه عندما يعمل عشرات الروبوتات معًا، يظهر شكل معقد تدريجيًا مثل أقواس أو جدران أو أبراج. وقد صمم العلماء هذه التجارب لفهم كيف يبني النمل الأبيض مجتمعاته بشكل ذاتي التنظيم، ولاستخدام الفكرة في مشاريع حقيقية مثل بناء هياكل في أماكن يصعب وصول البشر إليها (مثلا على القمر أو المريخ) وعمليات الإنقاذ بعد الكوارث (بناء ممرات أو جسور بسرعة) وطبعا تطوير تقنيات الذكاء الجماعي في الروبوتات. وإلى جانب التطبيق العملي لهذه الهندسة المدهشة، يبقى سؤال فلسفي يلوح في الأفق: هل النمل الأبيض "ذكي" لأنه يبني تلالًا متقنة ؟ أم أنه مجرد منفذ لقواعد غريزية بسيطة؟ ربما تكمن الإجابة في أن الذكاء لا يحتاج إلى وعي بالضرورة، بل قد يكون خاصية ناشئة عن تفاعل مكونات بسيطة جدًا، كما يتصور بعض الباحثين إنه ما يحدث في عقولنا البشرية. وفي النهاية فإن هذه التلال ليست مجرد أكوام طين، بل هي كتب مفتوحة تخبرنا عن عالم لم نكن لنتصور وجوده في حياتنا، وعن إمكانية ظهور أنماط معقدة من أبسط القواعد، وعن قوة التعاون التي تتجاوز حدود الأفراد لتصنع عقولًا جماعية تفكر وتخطط وتبني.

كارثة علم الفيزياء.. هل نعيش في "فقاعة كونية" كبيرة؟
كارثة علم الفيزياء.. هل نعيش في "فقاعة كونية" كبيرة؟

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

كارثة علم الفيزياء.. هل نعيش في "فقاعة كونية" كبيرة؟

على مدى عقود، ظل ما يسمى "توتر هابل" أحد أعقد الألغاز التي تؤرق علماء الكونيات أثناء محاولتهم قياس سرعة تمدد الكون. وتعتمد هذه قياسات التي يجريها العلماء لحساب سرعة الكون على تقنيتين رئيسيتين: الأولى تستند إلى بيانات مأخوذة من المراحل المبكرة جدا لتاريخ الكون، مثل إشعاع الخلفية الكونية، في حين ترتكز الثانية على رصد المجرات القريبة والنجوم المتغيرة في الكون المحلي (القريب من مجرتنا). أصل التوتر المدهش والمثير لانتباه العلماء دوما كان أن نتائج الطريقتين تختلف بشكل واضح رغم تكرار التجارب وتحسين دقتها، إذ يقاس تمدد الكون بما يُعرف بـ"ثابت هابل-ليميتر"، وهو مقياس يحدد السرعة التي تتباعد بها المجرات عن بعضها البعض. وعند حساب هذا الثابت استنادا إلى البيانات الكونية القديمة، تُقدّر القيمة بنحو 244 ألف كيلومتر في الساعة لكل مليون فرسخ فلكي (ما يعادل نحو 3.2 ملايين سنة ضوئية). أما إذا استُند إلى قياسات المجرات الأقرب إلينا في الزمان والمكان، فإن القيمة ترتفع إلى 264 ألف كيلومتر تقريبا لنفس المسافة. هذا الفارق -الذي لا يمكن تفسيره بسهولة- يفتح باب التساؤلات حول ما إذا كنا نواجه حدودا في فهمنا لطبيعة الكون أم أننا على أعتاب اكتشافات جديدة تغير قواعد الفيزياء كما نعرفها. فقاعة كونية وتقدم دراسة جديدة، عُرضت خلال اجتماع الجمعية الفلكية الملكية لعام 2025 في مدينة دورام البريطانية، فرضية جريئة، تقول إننا، نحن والكوكب الأرضي، بل مجرتنا درب التبانة، نعيش داخل "فقاعة كونية" ضخمة، قد تكون السبب في أننا نُلاحظ توسعا أسرع للكون محليا مقارنة بما يُحسب من النموذج الكوني التقليدي. ويفترض الباحثون أن قُطر هذه الفقاعة يساوي حوالي مليار سنة ضوئية، وكثافتها أقل بنحو 20% من متوسط ​​كثافة الكون ككل. وبحسب الدراسة، يؤدي وجودنا في مركز الفراغ إلى تدفق المادة خارجه نحو الخارج، وهذا يجعل سرعتنا النسبية (أي السرعة داخل الفقاعة مقارنة ببقية الكون) أكبر، فيعطي ذلك انطباعا بتوسع محلي أسرع، إلا أن السرعة في الأصل متطابقة بين الكون المبكر والمحلي. يوضح الدكتور إندرانيل بانيك، من جامعة بورتسموث في تصريح حصلت الجزيرة نت عليه نسخة منه: "أحد الحلول المحتملة لهذا التناقض (يقصد توتر هابل) هو أن مجرتنا قريبة من مركز فراغ محلي كبير". ويضيف: "سيؤدي ذلك إلى سحب المادة بفعل الجاذبية نحو الجزء الخارجي عالي الكثافة من الفراغ، وهذا يؤدي إلى أن يصبح الفراغ أكثر فراغا مع مرور الوقت، ومع هذا التوجه، ستكون سرعة الأجسام بعيدا عنا أكبر مما لو لم يكن الفراغ موجودا. وهذا يُعطي انطباعا بمعدل تمدد محلي أسرع". ويوضح بانيك أنه من تلك النقطة، فإن "توتر هابل ظاهرة محلية إلى حد كبير". أصداء الانفجار العظيم وجدت هذه الفرضية الجديدة دعما بسبب الاتفاق مع ما يسميه العلماء "التذبذبات الصوتية الباريونية"، ولفهمها تخيل الكون في لحظاته الأولى (قبل 13.8 مليار سنة) كـ"حساء ساخن وكثيف" مليء بالجسيمات دون الذرية، بما في ذلك فوتونات الضوء. في ذلك الوقت، كانت هناك موجات صوتية تنتشر عبر هذا الخليط بسبب التفاعلات بين المادة والضوء، مثل التموجات في بركة ماء. وبعد حوالي 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، برد الكون بما يكفي لكي يطلق الضوء بحرية (وهو ما نراه اليوم كالخلفية الإشعاعية الكونية)، وعند هذه اللحظة، توقفت هذه الموجات الصوتية، لكن "الأصداء" أو الآثار المتبقية لهذه التموجات بقيت محفوظة في توزيع المجرات. ويستخدم العلماء هذه الأصداء الكونية لمقارنة المسافة بين المجرات لأنها تترك ما يشبه البصمة في العلاقة بين المسافة وما يسمى بالانزياح الأحمر، لكن إذا كنا داخل فراغ كوني ضخم، فإن ذلك يجعل بيانات لتذبذبات الصوتية الباريونية "منحنية" قليلا مقارنة بالتوقعات العادية. وبحسب الدراسة، فإن هذا الانحناء في البيانات قد لوحظ بالفعل في دراسات الكون المحلي، وبدراسة قياسات لتذبذبات الصوتية الباريونية المتاحة على مدار الـ20 عاما الماضية، أظهر الفريق البحثي أن نموذج الفقاعة أكثر احتمالا بحوالي 100 مليون مرة من نموذج اللافقاعة. كارثة علم الكونيات توتر هابل هو كارثة علم الكونيات الحالية، لأن ثابت هابل يسري حكمه على كل ما هو كوني، فهو يحدد المعدل الذي يتوسع من خلاله الكون، وبالتالي يرشدنا إلى معرفة عمره، ويرسم الجدول الزمني لتتالي الأحداث فيه وصولا إلى حجمه الحالي والمستقبلي. كما أنه يساعد العلماء على تقدير المسافات إلى الأجرام الأخرى في جميع أنحاء الكون. إلى جانب ذلك، فإن قيمة ثابت هابل تساعد العلماء على فهم خصائص الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، وهما مكونان غامضان يمثلان 95% من تركيب هذا الكون، لا يعرف العلماء عنهما إلا أقل القليل. والخلل في ذلك معضلة، حيث أدى إلى انقسام في المجتمع العلمي بين مَن يرى أن المشكلة في البيانات أو الإحصاءات أو الأساليب المستخدمة لقياس الثابت، وبين مَن يعتقد أن الخلل امتد إلى النظرية نفسها أو قُل النموذج والأساس النظري الذي تعتمد عليه تلك القياسات أو حتّى فيزياء الكونيات من الأساس، التي تبني نفسها على نتائج النظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين. ويعد "بافيل كوروبا"، الأستاذ بمعهد هيلمهولتز للإشعاع والفيزياء النووية بجامعة بون الألمانية، واحدا من أولئك الذين يعتقدون أن الخلل يكمن في الأساس النظري، وبالتالي هو أحد العلماء الذين يكرسون أنفسهم لحلٍّ لهذه الكارثة، عبر وضع نظرية بديلة. وأوضح كوروبا في تصريحات للجزيرة نت أنه "يمكن تفسير توتر هابل عبر دراسة اختلاف كثافة المجرات، فمجرتنا توجد في منطقة من الكون ذات كثافة مجرية منخفضة نسبيا". وتأتي فكرة كوروبا التفسيرية هذه في إطار دراسة نشرها في 2023 بصحبة فريق من الباحثين في دورية "مونثلي نوتيس" التابعة للجمعية الفلكية الملكية، وتشير الورقة إلى أننا نسكن داخل فقاعة كونية هائلة، بما يتفق مع افتراض الدراسة الأخيرة. تحديات ليست بالسهلة الفرضية الجديدة التي تعتمد عليها الدراسة الجديدة تواجه لا شك تحديات كبيرة، فهي تتعارض مع مبدأ أساسي في النموذج القياسي لعلم الكونيات، أو اختصارا "لامدا سي دي إم". ويفترض هذا النموذج أن الكون أشبه ما يكون بحساء متجانس، موزع بشكل متساو ومتشابه في كل الاتجاهات إذا نظرنا له على مقاييس ضخمة جدا (مليارات السنين الضوئية)، بمعنى أنه لا يوجد مكان "خاص" أو منطقة فارغة تماما وأخرى ممتلئة جدا. وبالتالي، لو كان هناك فراغ ضخم جدا حولنا، فهذا يعني أن الكون غير متجانس على مقياس كبير، ومن ثم فإذا صحت الفرضية الجديدة، فإن العلماء بالتبعية سيكونون بحاجة لإعادة النظر في أسس علم الكونيات، التي بنيت عليها النظريات المعاصرة، وهذا ما يؤكد علماء مثل كوروبا ضرورة حدوثه.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store