
السفينة وربابنتها
حين تسري كل الأمور على هواك، تختال نفسك وتضعف قدرتك على تقييم أدائك وتتجبر روحك اعتقاداً أنك تقف في حيز الحق المطلق. حين تواتيك الظروف دائماً، سواء بحظك الطيب أو بأموالك أو بتخويفك للآخرين، تتغبش الصورة الحقيقية أمام عينيك، فترى الدنيا من أعلى لتعتقد أنك تمسكها وتحركها بخيوط لا تبلى، وترى نفسك من أعلى لتعتقد أنك فوق الآخرين وأنك تستحق أن تتملكهم وتصعد فوقهم. حين تواتيك الظروف دائماً وتذهب الدنيا على هواك وتستسلم أنت لهذه المتعة الأنانية، ستنقطع صلتك بمن هم أضعف منك وستتوه عن الحقيقة، وفي الغالب ستخسر كثيراً أو قليلاً، ولكنك ستخسر في النهاية بلا شك.
المعارضة مهمة، هي صوت الضمير المرتفع، هي الحكاية من زاوية أخرى لا تستطيع أن تراها أو تحيا فيها، هي المسطرة التي تخطط لك طريقك وتبقيك حقيقياً وواقعياً ودائم التقييم لذاتك وحياتك. لكننا في جزء من العالم لا يفهم معنى وقيمة الصوت المختلف، فنحن قوم عشائريون أبويون، نعتقد بالهرمية في كل منحى من مناحي حياتنا: الأب والأم أعلى من الأبناء، الزوج أعلى من الزوجة، الرجل أعلى من المرأة، المسؤول أعلى من الشعب، الغني أعلى من الفقير، المواطن أعلى من المقيم، العربي أعلى من الأعجمي ولو تغلب الأخير عليه بالتقوى، الأصيل (والذي لا يوجد بعد مفهوم علمي واضح لهويته) أعلى من «البيسري» (الذي يفترض أنه شخص غير أصيل الدم والمنبت)، الرئيس أعلى من المرؤوس، وهكذا إلى أن أصبحت حيواتنا عبارة عن سلسلة هرمية قبيحة هلامية لا مكان لها واقعياً سوى في خيالاتنا العنصرية.
على سبيل المثال، معلمك في المدرسة ليس والدك، هو موظف مهمته إيصال العلوم لك، وفي حين أن احترامه مستوجب كما هو مستوجب في كل تعاملاتك مع البشر كافة، فإن معارضته ومناقشه ومحاورته بل والاختلاف معه، كلها من مستلزمات وظيفته ومن أصول ممارستها. هذه المعادلة تنطبق على العلاقات كافة: في العلاقة مع الوالدين، مع رؤساء العمل، مع مسؤولي الدولة، تلك كلها علاقات لا يمكن التغاضي عن فرق القوى فيها، عن حقيقة أن هناك تفاوتاً في السلطة، وبالتالي نسبة من الخوف والكتمان يسيطران عليها. وعليه، لا بد لمن هو في الموقف الأقوى أن يلحظ كل ذلك، وأن يفتح الباب للحرية، ولا بد لمن هو في الموقف الأضعف أن يلحظ كل ذلك ويفتح الباب لشجاعة المطالبة بالحق والمساواة، ودون فتح كل هذه الأبواب، ستبقى العلاقة حبيسة الخوف، وستبقى الحياة المحيطة بها خانقة متجمدة في مكانها.
بالطبع، العلاقة بالأبوين تختلف بعض الشيء، فهناك رابط بيولوجي خاص يجعل الحقوق والواجبات مختلفة، عاطفية، ومعقدة كثيراً، إلا أن اعتقاد الآباء والأمهات باستحقاق الطاعة والولاء لمجرد أنهم قاموا بالعملية البيولوجية الإنجابية هو اعتقاد خاطئ يقضي على طيب وجمال العلاقة التي يجب أن تكون. الآباء والأمهات يحتاجون لأن يبذلوا مجهوداً في أدوارهم ليستحقوا الحقوق العظيمة المناطة بدورهم العظيم. لكن هذه المعادلة، هذا الشعور الأبوي بواجب الطاعة، لا يمكن تطبيقها على بقية العلاقات، وهنا تحديداً مكمن المشكلة.
في عالمنا العربي، ننظر لرئيس العمل على أنه والد، للمدرس على أنه والد، للمسؤول عموماً على أنه والد، نتحدث عن ضرورة طاعة ولي الأمر واحترامه بسبب سنه ومقامه، مستسلمين تماماً لهذا المفهوم الأبوي العشائري الذي ينسينا حقيقة أن رئيس العمل موظف، والمسؤول مهما علا مقامه موظف كذلك، وأنهما حقيقة ليسا آباء لأحد، إنما هم موظفون لهم حقوق وعليهم واجبات، وأن لا مكانتهم ولا سنهم ولا أموالهم ولا سلطتهم يفترض أن تعفيهم من النقد أو ترفع عنهم المعارضة. بل لربما أدعي أنه كلما زاد المال والسلطة والعمر، كانت الحاجة أشد للمعارضة والنقد والرفض والإصرار على التغيير والتجديد والتحديث.
المعارضة في عالمنا العربي المسكين تعاني؛ فالأبناء لا يجب أن يعارضوا الآباء، والمرؤوسون لا يجب أن يعارضوا رئيسهم، والشعب لا يجب ولا يستطيع أن يعارض المسؤول، وهكذا غبنا تماماً في نغمة الصوت الواحد الطنانة المؤذية، وما عدنا نرى كيف تتعدد الرؤى والآراء وزوايا الحياة، وتثبتت لدينا فكرة أن الحق واحد والحقيقة واحدة والمسار واحد والفكرة واحدة، وأن سفينة حياتنا المترنحة أصلاً سيغرقها الربانيون، غير مستوعبين أن ربانها الأوحد -برأيه الذي لا يجادله فيه أحد- هو من قد يغرقها ونحن معها.
ولنسأل أنفسنا نحن بحد ذاتنا كأشخاص عاديين غير ذوي سلطة أو قوى: هل نتقبل الرأي الآخر أو نعطيه فرصة؟ هل نتقبل فكرة تساوي الأديان، فكرة أننا قد نكون على خطأ في التفسيرات والمفاهيم الدينية والاجتماعية، فكرة أن التوجه الجنسي والجندري قد يكون على غير ما اعتقدنا على مدى آلاف السنوات، فكرة أننا قد نكون نشأنا على الأرض بطريقة علمية مختلفة وأن عمرنا البشري مختلف تماماً عن كل تصوراتنا؟ هل سنعطي مثل هذه الأفكار وغيرها فرصة أم سنقمعها في داخلنا بخوفنا وسنقمع الآخرين من مجرد التفكير فيها، دع عنك التعبير عنها، بتسلطنا الاجتماعي وبسلطة العادات والتقاليد والحلال والحرام؟
المعارضة مهمة، حتى المؤذي الخطر منها. الرأي الآخر حيوي، حتى المتطرف الغريب المختلف تماماً منه. حرية الرأي حيوية للشعوب وسلامتها وحسن مسارها، ولو كانت ممكنة في عالمنا العربي، لساهمت هذه الحرية حقيقة في إنقاذ فلسطين، وهذا سيكون موضوع المقال القادم.
نقلاعن القدس العربي
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الصحراء
منذ 25 دقائق
- الصحراء
الرياض: سفارة موريتانيا في الرياض تعلن عن منح امتياز جامعية للموريتانيين
أعلنت السفارة الموريتانية في المملكة العربية السعودية عن منح امتياز جامعية لصالح التلاميذ الموريتانيين، الحاصلين على الثانوية العامة من إحدى مؤسسات التعليم الثانوي بدول مجلس التعاون الخليجي. وحسب إعلان صادر عن السفارة، فإن عدد المقاعد عشرة مقدمة من طرف مؤسسات التعليم العالي في دولة الإمارات المتحدة، وتشمل ستة عشر تخصصا. المسابقة مفتوحة أمام الموريتانيين الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين. ويشترط في المعنيين الحصول على الثانوية العامة منذ مدة لا تتجاوز العامين احتسابا من العام الأكاديمي 2025، مع الحصول على 80 بالمائة في مادة اللغة الإنجليزية / أو ما يعادلها وفق تقييم IELIS/ TOEFL.


جوهرة FM
منذ 44 دقائق
- جوهرة FM
إضراب بطاحات جربة مازال قائما
مازال إضراب بطاحات جزيرة جربة، المزمع تنفيذه أيام 17 و18 و19 أوت الجاري، قائما، وذلك بعد تأجيله في مناسبتين بناء على تعهد وزير الشؤون الاجتماعية بعقد جلسة صلحية اليوم الجمعة 15 أوت 2025، والتي لم تلتئم ولم تتم دعوة أي طرف لها، ما دفع الطرف النقابي إلى التمسك بهذا الاضراب، وفق بيان توضيحي صادر عن الاتحاد الجهوي للشغل بمدنين. وحسب نفس البيان، فإن وزير الشؤون الاجتماعية تعهد خلال جلسة التأمت بمقر ولاية مدنين يوم 4 أوت بعقد جلسة صلحية بمقر الوزارة يوم 15 أوت الجاري، من أجل حلّ مختلف النقاط العالقة في ملف تحويل الإشراف على البطاحات من وزارة التجهيز الى وزارة النقل، وإتمام الاطار القانوني والترتيبي للعملية. واعتبر الاتحاد الجهوي للشعل، في بيانه، أنّ عدم عقد هذه الجلسة، وعدم الدعوة لها، يمثّل اخلالا من قِبل سلطة الاشراف بالتزاماتها وتعهداتها، وفق تعبيره. وذكّر نص البيان بجهود الهياكل النقابية من خلال تأجيل الاضراب في مناسبتين متتاليتين مراعاة لمصالح المواطنين، وحرصا على حماية المناخ الاجتماعي، وذلك رغم تدهور ظروف العمل وتهرؤ الاسطول الى مستويات أصبحت تشكل خطرا على سلامة الاعوان والركاب، لا سيما في ظل تواصل غياب التأمين على البطاحات.


الصحراء
منذ ساعة واحدة
- الصحراء
القائد الجديد للأفريكوم يشيد بدور الجيش الوطني في محاربة الإرهاب
أشاد القائد الجديد للقيادة الأمريكية بإفريقيا (أفريكوم) الجنرال داغفين أندرسن، بالدور الذي يقوم به الجيش الوطني في تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب والهجرة السرية والتهديدات العابرة للحدود. جاء ذلك خلال لقاء مع قائد الأركان العامة للجيوش الموريتاني الفريق محمد فال ولد الرايس، على هامش حفل تبادل المهام بين القائد السابق أفريكوم الجنرال ميشيل لانغلي والقائد الجديد في شتوتغارت بألمانيا. وأكد القائد الجديد استعداده لتعزيز التعاون العسكري مع الشريك الموريتاني لدعم جهود الأمن والاستقرار في المنطقة. وأثنى القائد السابق للأفريكوم لانغلي على مساهمة الجيش الوطني في ترسيخ السلام والأمن الإقليمي.