
القوة الناعمة الدينية السعودية
على مر التاريخ وحتى يومنا هذا، كان للدين دوراً مؤثراً وهاماً في العلاقات الدولية. وسواء كان ذلك الدور نابعاً من توظيف الأديان وروحانيتها وتأثيرها، بهدف تحقيق السلام؛ وبناء جسور التفاهم، وتعزيز قيم التسامح والتعايش، أو أنه كان توظيفاً لأهدافٍ أخرى تشمل إشعال الحروب وتغذية الصراعات والتحريض، فإن تلك الأدوار ينبغي في كل الأحوال، فهمها ودراستها وأخذها في الحسبان؛ باعتبارها واقعاً بالغ الأهمية والتأثير.وإذا كان مفهوم «القوة الناعمة» نفسه لا زال يشهد كثيراً من التطور والاختلافات في الآراء والتفسيرات، فمما لا شك فيه بأن محاولات التعريف بعد إضافة «الدين» إليه، وذلك في مفهوم «القوة الناعمة الدينية»، سوف يزيد الأمر صعوبة وتعقيدا. فمفهوم «القوة الناعمة» الذي صاغه للمرة الأولى «جوزيف ناي» في بداية التسعينيات، يُعرِّف القوة الناعمة بأنها «قدرة دولة على التأثير في خيارات دولة أخرى بالجاذبية؛ وبدون استخدام الإكراه أو الإغراء المادي»، ومن أهم مصادر تلك الجاذبية، الثقافة وقيم البلد السياسية، والإنجازات الدولية المختلفة.والملاحظ هنا هو أن «جوزيف ناي» نفسه الذي أوجد المفهوم، لم يذكر كلمة «الدين» في كتاباته الكثيفة، إلا بشكلٍ عابر. حيث ذكر في موضع بأن «انخفاض التسامح الأمريكي تجاه المسلمين أضر بسمعة الولايات المتحدة في الدول الإسلامية والعربية». وقال في موضع آخر: «الحركات الدينية المنظمة امتلكت لعقود «قوة ناعمة».. وبالرغم من أن عدد من المنظمات الدينية البروتستانتية والإسلامية والبوذية، تمكنت خلال العقود القليلة الماضية من جذب ملايين الأشخاص لمعتقداتها، إلا أن بعض حملات التبشير والدعوة يمكن أن تؤدي لنتائج عكسية مدمرة؛ بدلاً من أن تكون قوة ناعمة، وذلك عندما تمارس تلك المنظمات الدينية عدم التسامح الديني».ومنذ تأسيس المملكة، كان الدين الإسلامي -ولا يزال- جزءًا أساسيًا من هويتها الوطنية والسياسية، وأحد المصادر التي ساهمت في تعزيز علاقاتها مع العالم الإسلامي، وترسيخ مكانتها على الصعيد الدولي. وقبل إطلاق رؤية 2030، كان تركيز الدبلوماسية الدينية السعودية ينصب بشكل رئيس على دعم المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم؛ من خلال تقديم المساعدات الإنسانية، وتمويل المعاهد الدينية والمساجد، وبناء المرافق والمستشفيات، وتنظيم مواسم الحج والعمرة، بالإضافة إلى مواقف المملكة الداعمة لقضايا المسلمين في المنظمات الدولية.وبعد انطلاق رؤية 2030، ركزت المملكة في دبلوماسيتها الدينية على العديد من الاستراتيجيات، بشكلٍ يتسق مع توجهات ومتطلبات المرحلة الدولية الجديدة، وشمل ذلك العديد من الجوانب، منها على سبيل المثال: الانفتاح الثقافي على العالم، والذي أُسمِّيه «قنديل رؤية 2030»، وبدونه ستكون الرؤية بمثابة حديث منَّا لأنفسنا في غرفة مغلقة، لا يسمعه ويراه أحد سوانا. كما تسعى المملكة لدعم مفهوم الإسلام الوسطي المعتدل والترويج له عالميًا، حيث تم تحجيم التيارات والخطاب الديني المتشدد، ومحاربة الفكر المتطرف بشكل غير مسبوق، وجرى تحديث المناهج الدراسية لتشمل قيم التسامح والتعايش ونبذ الكراهية.وتعمل المملكة بشكل لافت على فتح قنوات للحوار بين الأديان، ومن مساهماتها بهذا الشأن تأسيس مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، الذي انطلق بهدف تعزيز التعاون والسلام بين أتباع الأديان، وذلك في زمن يشهد الكثير من أحداث العنف والقتل والدمار؛ التي غالبا ما تتوسطها -أو تستخدم لتغذيتها وإشعالها- دوافع الانتماءات والسلوكيات الثقافية والدينية.وتحظى المملكة بشرف خدمة الحرمين الشريفين، حيث تستقبل الملايين سنوياً لأداء فريضة الحج ومناسك العمرة بيسر وسهولة. وكمثال، يتيح برنامج خدمة ضيوف الرحمن مرافق ذات جودة عالية، وبنية تحتية متقدمة، وخدمات رقمية تساعد الجميع على أن ينعموا بتجربة روحانية آمنة ومريحة.وأخيراً وليس آخراً، دأبت المملكة منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي على تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية بسخاء لمختلف دول العالم المحتاجة. وبالرغم من أن تلك المساعدات يتم تقديمها دون تمييز بين لون أو دين أو عرق، إلا أنه وفقاً لمنصة المساعدات السعودية الرسمية، فإن الدول الإسلامية كانت تاريخياً الأكثر تلقياً لتلك المساعدات.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ يوم واحد
- Independent عربية
جوزيف ناي... آخر حكماء أميركا
عن عمر يناهز الـ88 رحل قبل أيام البروفيسور جوزيف ناي، أحد أكثر علماء السياسة الأميركيين المعاصرين صدقاً وموثوقية، حنكة وتدبراً، الرجل صاحب التأثير الأكبر في سجل العلاقات الدولية، الذي وضع الأساس لمفهوم "القوة الناعمة". شكل رحيل جوزيف ناي نهاية لرحلة علمية وخدمة عامة امتدت أكثر من ستة عقود، وقد ترك رحيله حسرة واضحة لدى كبار السياسيين حول العالم، فقد أشاد وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن به قائلاً "قليل من الناس أسهموا في رأس المال الفكري وفهم العالم ومكانة أميركا فيه مثل جوزيف ناي". في حين نعته صحيفة "فايننشيال تايمز" بالقول "إن رحيل البروفيسور ناي يأتي في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات متزايدة على الساحة الدولية". أما المستشار السابق للشؤون الآسيوية في البيت الأبيض، دينيس وايلدز، فقد قال "نحن نعاني نقصاً في الأشخاص الذين يفهمون الثقافة الآسيوية، وهذا سيكون له عواقب طويلة الأمد". تبدو مسيرة ناي مزيجاً من البحث الفكري السياسي النظري المعمق، ومن الممارسة السياسية على أرض الواقع في كثير من المناصب الرفيعة. حصل ناي على درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد عام 1964، وكان أحد المحاضرين الأوائل في كلية هارفرد كينيدي. ثم شغل منصب عميد كلية كينيدي في جامعة هارفرد في الفترة ما بين 1995- 2004، وحولها إلى مركز لتدريب كبار القادة وصناع القرار في العالم. خلال مسيرته المهنية الحافلة في الأوساط الأكاديمية والخدمة الحكومية شغل أيضاً منصب نائب وزير الخارجية ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني، ومساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي. في استطلاع حديث أوائل العام الحالي أجرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، صنف ناي كأكثر العلماء تأثيراً في السياسة الخارجية، ومن قبل في 2011 كانت المجلة عينها قد اختارته ضمن أفضل 100 مفكر عالمي. أحدث كتاب له الذي نشر عام 2024، هو "حياة في القرن الأميركي". من بين كتاباته الأخرى "قوة القيادة" و"مستقبل القوة" و"القيادة الرئاسية ونشأة العصر الأميركي" و"هل انتهى القرن الأميركي"، وقد وجد دوماً طريقه لكبريات الأكاديميات، فكان زميلاً للأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم والأكاديمية البريطانية والأكاديمية الأميركية للدبلوماسية، كذلك كانت له آراء واضحة في الرئيس ترمب. عن النظام العالمي في القرن الـ21 يصعب على المرء أن يختار منصة انطلاق للحديث عن البروفيسور ناي، لتعدد قراءاته الاستراتيجية، وتنوع توجهاته الفكرية، غير أن السؤال المهم الذي تطرحه كبار العقليات شرقاً وغرباً عن السيادة والريادة في القرن الحالي، ربما يكون نقطة البداية. هل القرن الـ21 هو قرن الصدام الأممي أم التعاون الدولي؟ اختلفت الرؤى، في السعي إلى إيجاد جواب، غير أن ناي رأى أن النظريات التي لدينا وتقوم على الفكرة التقليدية لتوازن القوى لا يمكن أن تساعدنا الآن في معالجة القضايا والتحديات، فعلى سبيل المثال إذا أخذنا التغيرات المناخية في العالم فإن الصين تجاوزت الولايات المتحدة في إنتاج غاز ثاني أوكسيد الكربون، وهذا يؤذي الولايات المتحدة ويؤذي باقي دول العالم والسؤال: كيف نحل هذه المشكلة؟ الإجابة والحديث دوماً لناي، ليس بالطرق التقليدية والتهديد بالحرب أو العقوبات أو المقاطعة الاقتصادية، بل تحل هذه المشكلات عبر التعاون المتبادل... هل يعني ذلك أن شكل النظام الدولي آخذ في التغير بصورة سريعة وغير نمطية، مما يعني تشكل عالم جديد، مختلف كلية عن فكرة الثنائيات الضدية التي عرفتها البشرية حتى قبل الميلاد وإلى الساعة؟ عرف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الدولة الحديثة بأنها مؤسسة سياسية تحتكر الاستخدام المشروع للقوة، لكن فهمنا للسلطة الشرعية يرتكز على أفكار ومعايير قابلة للتغيير، لذا ينبع النظام الشرعي من أحكام حول قوة المعايير، إضافة إلى أوصاف بسيطة حول حجم وطبيعة العنف داخل الدولة. هنا، وعندما يتعلق الأمر بالنظام العالمي، يمكننا قياس التغيرات في توزيع القوة والموارد، وكذلك في التزام المعايير التي ترسي الشرعية، كما يمكننا قياس وتيرة وشدة الصراعات العنيفة. والثابت أنه غالباً ما ينطوي التوزيع المستقر للقوة بين الدول على حروب توضح توازن القوى المتصور، لكن الآراء حول شرعية الحرب تطورت مع مرور الوقت. على سبيل المثال في أوروبا القرن الـ18، عندما أراد ملك بروسيا فريدريك الكبير الاستيلاء على مقاطعة سيليزيا من النمسا، استولى عليها ببساطة، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية أنشأت الدول الأمم المتحدة التي عرفت حروب الدفاع عن النفس فقط بأنها شرعية، ما لم يصرح مجلس الأمن بخلاف ذلك. بعد ثمانية عقود، باتت هناك متغيرات تشارك في تشكيل النظام العالمي المعاصر، الذي قد يصبح أقوى أو أضعف بسبب التغيرات التكنولوجية التي تغير توزيع القوة العسكرية والاقتصادية، والتغيرات الاجتماعية والسياسية المحلية التي تغير السياسة الخارجية لدولة كبرى، أو القوى العابرة للحدود الوطنية، كالأفكار أو الحركات الثورية، التي قد تتجاوز سيطرة الحكومات وتغير التصورات العامة لشرعية النظام السائد. هل يعني ذلك أن معطيات القوة والقدرة على مائدة التوازنات الدولية، قد بدأت في التغير، من عند القوة الخشنة المطلقة، مروراً بالقوة الناعمة، التي كان ناي أحد أهم منظريها، إلى أنواع أخرى من القوى التكنولوجية والمعرفية، التي ستخلق عالماً جديداً، قد يكون نظامياً أو فوضوياً؟ عن رؤية ناي لفلسفة القوة الناعمة حين يذكر اسم البروفيسور ناي يطفو على سطح العقل مباشرة الحديث عن مفهوم القوة الناعمة، وكأن هذا المعلم الكبير لم يتوقف عند أي معانٍ أو مبانٍ أخرى غير هذا المفهوم. ما الذي يعنيه ناي بهذا المصطلح الذي شاع وذاع في العقود الثلاثة الماضية على وجه التحديد، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؟ يذهب ناي إلى أن القوة العسكرية والقوة الاقتصادية كلتيهما أمثلة على القيادة القاسية التي يمكن استعمالها لإقناع الأخيرين بتغيير مواقفهم. فالقوة القاسية يمكنها أن تستند إلى مبدأ العصا والجزرة، لكن هناك أيضاً طريقة أخرى وغير مباشرة لاستخدام وممارسة القوة، فبإمكان دولة أن تحصل على النتائج التي تريدها في السياسة الدولية لأن الدول الأخرى تريد اللحاق بها واتباعها إعجاباً بقيمها أو تقليداً لنموذجها أو تطلعاً للوصول إلى مستوى ازدهارها ورفاهها وانفتاحها. هنا وفي هذا الاتجاه تمعن هذه الدولة أو تلك في بلورة برامج سياسية تجذب الآخرين وتجبرهم على التغيير، لا من خلال أسنة الرماح وسنابك الخيل، بل من خلال جعل الآخرين يرون ما تريد أن تريهم إياه من قوة ناعمة. هل من مثال على تلك القوة؟ يبدو أن الولايات المتحدة نفسها كانت خير مثال على نموذج القوة الناعمة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بنوع خاص، فقد قدمت للعالم الحلم الأميركي، وكشفت عن المفهومين الشهيرين الخاصين بها، القدر الواضح، والمدينة فوق جبل. نجحت الولايات المتحدة في إسقاط الاتحاد السوفياتي وتفكيكه بعد تفخيخه، لا من خلال القنابل النووية التي أسقطتها على هيروشيما وناغازاكي، وأدت إلى استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنما من خلال مشاهد زجاجة الكوكاكولا والفتاة اللعوب، الشبيهة لاحقاً بمارلين مونور، ومن خلال مأكولات "الفاست فود"، عطفاً على مجلات وإذاعات حملت عبر الأثير نسائم الحرية لأوروبا الشرقية وشعوبها، بل وصل الأمر إلى تسرب فيروس الحرية إلى داخل الجمهوريات السوفياتية نفسها. القوة الناعمة إذاً تستند إلى القدرة على وضع برنامج سياسي يرتب الأولويات بالنسبة إلى الآخرين على المستوى الشخصي، بالضبط مثل الأبوين الحكيمين اللذين يعلمان أنه إذا قاما بتربية أولادهم على القيم والمفاهيم الصحيحة، فإن قوتهم ستكون أكبر وستدوم فترة أطول مما لو كانوا اعتمدوا فقط على الضعف والتوبيخ أو قطع المصروف أو أخذ مفاتيح السيارة مثلاً. كذلك الأمر يتعلق بالمسؤولين السياسيين والمفكرين مثل أنطونيو غرامشي الذين فهموا طويلاً القوة الناجمة عن وضع جدول أعمال إضافة إلى تحديد إطار عمل لنقاش معين. وبلغة فلسفية سياسية فإن القدرة على تأسيس الأولويات كما يقول ناي تميل دائماً إلى الارتباط بمصادر القوة المعنوية كأن تكون ثقافة جذابة أيديولوجياً، أو مؤسسات فاعلة وناجزة محلياً، فإذا استطعت أن تقدم ما يلمع سيظنه الناظرون من دون أدنى شك بريقاً من الذهب. هل هناك ارتباط بين القوتين الخشنة والناعمة؟ بحسب ناي، فإنه إذا رغبت دولة بعينها أن تشرع قوتها الخشنة في عيون الآخرين، فإنها ستواجه مقاومة أقل لرغباتها إذا كانت ثقافتها وأيديولوجيتها جذابة، وساعتها سيرغب الآخرون في اتباعها بأقل مجهود ومن غير ضرورة الدخول في حروب تسيل فيها الدماء وتتعذر من بعدها المصالحة أو المسامحة. هل للقوة الناعمة حضور عالمي؟ إحدى أهم الأطروحات التي كان على ناي التعاطي معها قضية القوة الناعمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهل فقدتها بالفعل، لا سيما منذ بداية الألفية الثالثة، مع الغزو الأميركي لأفغانستان ومن ثم العراق، عطفاً على الدعم الواضح الذي قدمته لما عرف باسم "ثورات الربيع العربي" بدءاً من 2011. الشاهد أن نظرة ناي للفكرة القوة الناعمة ربما تجاوزت الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما تناوله في محاضرة له في جامعة كامبريدج في يناير (كانون الثاني) 2022. في تلك المحاضرة تساءل بعدما لاحظ في نهاية عام 2021 أن روسيا تحشد قواتها قرب حدودها مع أوكرانيا، والصين تنقل طائرات عسكرية نفاثة قرب تايوان، فيما كوريا الشمالية تتابع برنامجها النووي، بينما مقاتلو "طالبان" عادوا ليسيروا دوريات في شوارع كابول... تساءل ناي: ماذا حدث للقوة الناعمة؟ كان التساؤل يحمل في طياته علامة استفهام عن مستقبل هذه القوة وهل بات لها بالفعل موقع أو موضع فوق الكرة الأرضية في حاضرات أيامنا. في محاضرته هذه اعترف ناي بأن القوة الناعمة ليست المصدر الوحيد أو حتى الأهم للقوة لأن آثارها تميل إلى أن تكون بطيئة وغير مباشرة، لكن تجاهلها أو إهمالها خطأ استراتيجي وتحليلي جسيم. لم تكن قوة الإمبراطورية الرومانية تعتمد على جحافلها العسكرية فحسب، بل كانت تستند أيضاً إلى جاذبية الثقافة الرومانية والقانون الروماني. على نحو مماثل كان الوجود الأميركي في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، كما وصفه محلل نرويجي ذات مرة "إمبراطورية بالدعوة"، لم يسقط سور برلين من القذائف المدفعية، بل أزالته مطارق وجرافات بأيدي أشخاص لمستهم القوة الناعمة الغربية. ومن جديد أوضح ناي مصادر القوة الناعمة، تلك التي يتمتع بها أي بلد، وتأتي بصورة أساسية من ثلاثة مصادر: ثقافتها وقيمها السياسية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما تدعمها، وسياساتها عندما ترى على أنها مشروعة لأنها تدور في إطار من الوعي بمصالح الآخرين. تستطيع أي حكومة أن تؤثر في الآخرين من خلال العمل كقدوة في ما يتصل بالكيفية التي تتصرف بها في الداخل، بحماية حرية الصحافة والحق في الاحتجاج على سبيل المثال، وفي المواقف الدولية بالتشاور مع الآخرين وتعزيز التعددية، ومن خلال سياستها الخارجية بالترويج للتنمية وحقوق الإنسان. في هذا السياق عقد ناي مقاربة بين القوة الناعمة الصينية ونظيرتها الأميركية، واستخدم فترة تفشي جائحة "كوفيد-19" كمثال على نجاح أو إخفاق تلك السياسة. رأى ناي أنه أثناء الجائحة حاولت الصين استخدام ما يسمى "دبلوماسية اللقاحات"، لتعزيز قوتها الناعمة، التي تضررت بسبب تعاملها المتكتم مع انتشار الفيروس في مدينة ووهان. كانت الجهود التي تبذلها حكومة بكين ترمي إلى تعزيز مبادرة الحزام والطريق التي تدعم مشاريع البنية الأساسية في كثير من أجزاء العالم، لكن استطلاعات الرأي أظهرت أن النتائج كانت مخيبة للآمال بمقاييس الجاذبية، كان أحد أهم الأسباب وراء تدني مستوى القوة الناعمة الصينية هو استخدامها الفظ القوة الصارمة في سعيها وراء سياسة خارجية قومية على نحو متزايد، وكان هذا جلياً واضحاً في عقابها الاقتصادي لأستراليا وعملياتها العسكرية على حدود الهمالايا مع الهند. أوضح ناي كيف أن الصين تواجه مشكلة في التوصل إلى معادلة القوة الذكية، فمن الصعب ممارسة دبلوماسية اللقاح ودبلوماسية المحارب الذئب أي العدوانية والاستئساد القسري على البلدان الأصغر حجماً في الوقت ذاته. هل يعني ما تقدم أن هناك تراجعاً ملحوظاً بالنسبة إلى مفهوم القوة الناعمة حول العالم؟ ربما يكون البحث عن القوة الناعمة الأميركية، من النقاط الجوهرية التي كان ولا بد لناي من أن يشاغبها في أكثر من موقع وموضع، منها ما جاء في محاضرة كامبريدج، ومنها ما هو خارج ذلك. تراجع القوة الناعمة الأميركية من الواضح أن جوزيف ناي كان له رأي واضح في علاقة السياسات الخارجية الأميركية بمعدلات قوتها الناعمة حول العالم في عقود سابقة. غير أنه توقف بصورة خاصة عند سياسات الرئيس دونالد ترمب في ولايته الأولى، التي عاصرها بأكملها، ولم يمهله القدر أن يتابع بقية المشهد في الولاية الثانية التي بدأت منذ خمسة أشهر تقريباً. بعد عام من ولايته الأولى أي في 2018 رأى ناي أن سياسات ترمب قد قوضت القوة الناعمة الأميركية. لم يبد سوى 30 في المئة من المشاركين في استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب أخيراً في 134 دولة رأياً إيجاباً تجاه الولايات المتحدة بقيادة ترمب، وهو انخفاض بنحو 20 نقطة مئوية منذ رئاسة باراك أوباما. ووجد مركز بيو للأبحاث أن الصين بنسبة تأييد بلغت 30 في المئة قد وصلت إلى مستوى قريب من التكافؤ مع الولايات المتحدة. وأظهر مؤشر بريطاني القوة الناعمة 30 في المئة، تراجع أميركا من المركز الأول عام 2016 إلى المركز الثالث عام 2017. في ذلك الوقت رد المدافعون عن ترمب بأن القوة الناعمة لا تهم، فقد أعلن مدير موازنة ترمب، ميك مولفاني، عن موازنة القوة الصلبة، في وقت خفض فيه تمويل وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بنسبة 30 في المئة. بالنسبة إلى مروجي "أميركا أولاً"، فإن ما يعتقده بقية العالم يأتي في المرتبة الثانية، هل هم محقون؟ الجواب هو أن القوة الناعمة تقوم على الجذب لا على الإكراه أو المال، إنها تستميل الناس ولا تكرههم على المستوى الشخصي. بعد ستة أعوام من هذه الرؤية وفي 2024 تحدث ناي مرة جديدة عن رؤيته القوة الناعمة الأميركية. ذهب ناي إلى أنه وعلى رغم أن استطلاعات الرأي الدولية أظهرت أن الولايات المتحدة عانت هي أيضاً من تراجع قوتها الناعمة أثناء فترة رئاسة دونالد ترمب، فإن من حسن الحظ أنها أكثر من مجرد الحكومة في واشنطن، فعلى النقيض من أصول القوة الصارمة مثل القوات المسلحة، فإن هناك كثيراً من موارد القوة الناعمة منفصلة عن الحكومة، ولا تستجيب لأغراضها إلا جزئياً. على سبيل المثال تلهم الأفلام الهوليوودية التي تسلط الضوء على تجمعات مستقلة أو أقليات محتجة آخرين في مختلف أنحاء العالم. وينطبق هذا أيضاً على العمل الخيري الذي تزاوله المؤسسات الأميركية وحرية الاستقصاء والتساؤل في الجامعات الأميركية. ولعله من حسن حظ الولايات المتحدة أن الشركات والجامعات والمؤسسات والكنائس وحركات الاحتجاج تعمل على تطوير قوة ناعمة من إنتاجها. في بعض الأحيان تعمل أنشطتها على تعزيز أهدافها السياسية الخارجية الرسمية، وفي أحيان أخرى تتعارض معها، غير أنه وفي كلتا الحالتين تشكل مصادر القوة الناعمة الخاصة هذه أهمية متزايدة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. وعند ناي أن تمرد السادس من يناير 2021، الذي شهده مبنى الكابيتول، قد تسبب في ضرر بالغ للقوة الناعمة الأميركية، لكنه رأى أنه على أولئك الذين بالغوا في تقدير الضرر أن يضعوا في حسبانهم أن انتخابات 2020 اجتذبت في الوقت عينه إقبالاً غير مسبوق على صناديق الاقتراع على رغم تفشي جائحة "كوفيد-19" في ذلك الوقت، مما أظهر أن الشعب الأميركي لا يزال قادراً على خلع "زعيم دهماء" في انتخابات حرة ونزيهة. لكن ماذا عن اليوم وبعد أن عاد قائد من وصفهم ناي بالدهماء؟ لقد عاد دونالد ترمب وبغالبية غير متوقعة من اليسار واليمين، فماذا سيكون من شأن مسار القوة الناعمة عام 2029 عندما يسلم الرئيس ترمب الراية إلى رئيس آخر، ما لم يحدث انقلاب على النظام الدستوري الأميركي، ويستطيع الرئيس ترمب أن يظل أربعة أعوام أخرى رئيساً لولاية ثالثة؟ مهما يكن من أمر الجواب، فإن قضية الدهماء والذعر والجعيدية، على حد وصف المؤرخ العربي الكبير الجبرتي، يدفعنا في طريق قراءة معمقة لما رآه ناي في شأن النظام العالمي في ظل الفوضى السيبرانية الحادثة المرتبطة بالعالم الرقمي، والتكنولوجيات المعاصرة في زمن الذكاءات الاصطناعية، وما يمكن أن تتركه من أثر في سياقات الأحداث في عالم غير منضبط... ماذا عن ذلك؟ اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) النظام العالمي والفوضى السيبرانية الثابت أنه ضمن اهتمامات البروفيسور ناي جاء تركيزه المبكر على قضية العالم السيبراني، وكيف يمكن أن ينشئ نظاماً عالمياً فوضوياً، يكون وبالاً على القاصي والداني. في عدد يناير 2022 وعبر مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، كتب ناي يقول "إنه مع هجمات فيروس الفدية على الإنترنت، والتدخل في الانتخابات، والتجسس على الشركات، والتهديدات التي تتعرض لها الشبكات الكهربائية... على وقع الطبول في عناوين الأخبار الراهنة، يبدو الأمل ضئيلاً في إرساء شيء من النظام ضمن الفوضى السيبرانية السائدة، ويسهم سيل الأخبار السيئة الذي لا يتوقف مع تقدم عالم الإنترنت كعالم خارج عن السيطرة ويزداد خطورة يوماً بعد يوم. أما الآثار القائمة المترتبة على هذه الفوضى فهي لا تنحصر في الفضاء السيبراني وحده، بل تمتد لتصيب اقتصادات العالم والجغرافيا السياسية والمجتمعات الديمقراطية والأسئلة البديهية الأولى المتعلقة بالحرب والسلم". هل كان ناي مهموماً فقط بالهجمات السيبرانية التي تتعرض لها الولايات المتحدة؟ مؤكد أنها كانت في المقدمة، لكنه وسع رؤيته إلى الإطار العالمي. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فعلى رغم قدراتها الدفاعية والهجومية تبقى شديدة الهشاشة تجاه الهجمات السيبرانية وغيرها من عمليات التأثير، وذلك نظراً إلى أسواقها الحرة، ومجتمعها المفتوح، ويضيف "أعتقد أنها فكرة جيدة أن نفكر في الأقل بالمثل القديم عن كيف ينبغي على الأشخاص الذين يسكنون بيوتاً زجاجية ألا يرشقوا الآخرين بالحجارة". هذا ما يذكر به جيمس كلابر الذي كان يشغل منصب مدير جهاز الاستخبارات الوطني خلال شهادته أمام الكونغرس عام 2015 عن ردود فعل واشنطن على الهجمات السيبرانية. وكان كلابر يشدد عن وجه حق على أنه وعلى رغم كون الأميركيين أفضل من يرشق بالحجارة ربما، فإنهم يعيشون في بيوت كلها من زجاج، وإن الواقع يمنح الولايات المتحدة مصلحة معينة في تطوير المبادئ التي تخفف من حوافز رمي ورشق الحجارة في الفضاء السيبراني. العالم الذي يحذر من الفوضى فيه جوزيف ناي، هو عالم يختلف عن ذاك الذي يمكن ضبطه بقواعد ومعايير دبلوماسية متفق عليها، فالتفاوض على معاهدات الحد من التسلح السيبراني سيكون أمراً بالغ الصعوبة، لأن مفاهيم الحد من هذا التسلح لا يمكن التحقق منها، بيد أن الدبلوماسية في الفضاء السيبراني ليست أمراً متعذراً تماماً. يخلص ناي إلى أن عالمنا المعاصر قد بلغ حقبة جديدة من الحروب السيبرانية، ويبدو أن العالم ليس مستعداً لها، مما ربما دفعه في نهايات أيامه إلى إصدار عمل متميز يتساءل فيه عن أهمية الأخلاق، وهل لا يزال لها موقع أو موضع في سياسات اليوم، أم أنه وكما يقال "أرسطو له ماضٍ فلسفي فيما ميكافيللي له مستقبل سياسي". هل الأخلاق مهمة في السياسة؟ كان هذا هو عنوان كتاب ناي المهم الذي يشاغب فيه المسألة الأخلاقية عند الرؤساء الأميركيين من روزفلت إلى ترمب، ويطرح فيه قضية الأخلاق وهل هي مهمة في السياسة الخارجية الأميركية، أم أن الأخلاق الأميركية مجرد نفاق كما يقول أصحاب التيار السياسي الواقعي في الداخل الأميركي. يرى ناي أن الأخلاق أمر مهم بالفعل، وأن ما يحاول القيام به في هذا الكتاب هو إثبات أنه إذا تبينت وجهة نظر مفادها أن الأخلاق غير مهمة، فلن نتمكن من فهم تاريخ الأعوام الـ70 الماضية في التاريخ الأميركي. في صفحات كتابه يبين ناي أن هناك ميلاً كبيراً لدى الأميركيين للخلط ببين الأخلاق والقيم، فالأخلاق لا تعني التباهي بها، بل تعني الجمع بين النيات أو الدوافع، والوسائل التي تختارها، والنتائج المترتبة عليها في حزمة واحدة. يجب تقييم هذه الحزمة ككل، لا بمراعاة النيات فحسب، أو حتى النتائج فقط، أحياناً يظن بعضهم أن نجاح سياسة ما في تحقيق مصالح بعينها يجعلها جيدة، فيما قد يكون ذلك خطأ، ذلك أنه إذا سألت عن ماهية السياسة الخارجية الجيدة، فيجب أن تشمل ليس فقط الدوافع، بل أيضاً الوسائل والنتائج المرتبطة بها. هل من خلاصة لفكر ناي؟ مؤكد أن القيم تنتج قوة ناعمة، والسياسة الخارجية للدول الناجحة يجب أن تجمع بين القوة الصارمة والناعمة لإنتاج سياسة مشروعة.


Independent عربية
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
3 سيناريوهات ترسم ملامح العلاقات السورية- الأردنية
لم تكن العلاقات السورية-الأردنية يوماً سهلة أو مستقرة، فالجغرافيا تفرض التفاعل والتاريخ يثقل بكثير من الشكوك، بينما المصالح تدفع دوماً نحو التعاون، ومع سقوط نظام بشار الأسد يقف البلدان على مفترق طريق يمكن أن يتحول إما إلى شراكة إستراتيجية جديدة أو استمرار لحال الانتظار الحذر. ويمكن القول إن مستقبل العلاقات بين الجارتين العربيتين مرهون بنجاح السوريين في إدارة شؤونهم الداخلية، وبمدى قدرة عمّان على موازنة مصالحها الأمنية والاقتصادية والإنسانية. التأسيس تحت الانتداب بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى (1918)، دخلت القوى الاستعمارية وتحديداً بريطانيا وفرنسا المشرق العربي وفق اتفاقية سايكس–بيكو التي قسمت بلاد الشام والعراق بينهما، حصلت باريس على سوريا ولبنان، ولندن على العراق وشرق الأردن وفلسطين، وهذه المرحلة تميزت بغياب دول مستقلة ذات سيادة حقيقية في المنطقة، مما جعل الحدود بين الكيانات الجديدة مرنة ومحل نزاع سياسي وأيديولوجي. كان هناك اختلاف جذري في شكل الانتداب الفرنسي على سوريا عن نظيره البريطاني على الأردن، ففي سوريا بعد معركة ميسلون وهزيمة السوريين، دخل الفرنسيون دمشق بالقوة واستمرت الثورات ضدهم حتى الاستقلال، أما في الأردن فحاول الأمير عبدالله بن الحسين في البداية دعم شقيقه الملك فيصل في سوريا، إلا أن اتفاق القوتين (لندن وباريس) وتفوقهما العسكري والميداني أجبر الأمير عبدالله على التوصل إلى تسوية مع البريطانيين، فتأسست في الـ11 من أبريل (نيسان) 1921 إمارة شرق الأردن رسمياً، تحت الوصاية البريطانية، مع تعهد بدعم الحكم المحلي. خط الرمل بالنسبة إلى الأمير عبدالله بن الحسين، وعلى رغم توليه حكم الأردن بقي معارضاً بشدة لفكرة "تقسيم بلاد الشام"، وكان يعتبر أن "سوريا الطبيعية" يجب أن تكون واحدة وتحت حكم الهاشميين، فحاول مرات عدة إقناع بريطانيا وفرنسا بإعادة توحيد سوريا والأردن ويتولى الحكم في دمشق، لكن جميع جهوده في هذا الاتجاه باءت بالفشل. مشروع الوحدة تحت حكم الهاشميين في العاصمة دمشق كان يلقى رفضاً من النخبة القومية السورية، مما تسبب في توتر بين البلدين استمر إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، على رغم أن الفكرة الأساسية التي كان يريدها الأمير عبدالله بن الحسين هي "سوريا الكبرى" التي تشمل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وعلى رغم الخلافات بين الفرنسيين والنخبة القومية السورية اتفقا على رفض مشروع الأمير عبدالله، إذ كان المشروع يتعارض مع مصالح فرنسا في سوريا ولبنان. على الصعيد الاجتماعي، خلال فترة الانتداب، وعلى رغم التوتر السياسي كانت الحركة التجارية والاجتماعية بين دمشق وعمّان نشطة للغاية، كما أن القبائل العربية في البادية الجنوبية في سوريا مثل الحويطات وبني خالد وغيرها كانت تتنقل بين سوريا والأردن بحرية من دون عوائق. في الـ17 من أبريل 1946 جرى إعلان استقلال سوريا ومغادرة الفرنسيين، وبعد أقل من شهر ونصف الشهر وتحديداً في الـ25 من مايو (أيار) 1946 استقل الأردن بتتويج الملك عبدالله بن الحسين ملكاً على "المملكة الأردنية الهاشمية"، فوجد فرصة لإعادة إحياء مشروع "سوريا الكبرى" فزار دمشق بعد أيام قليلة من الاستقلال وعرض مشروع الوحدة بين البلدين، إلا أن القيادة القومية في دمشق رفضت المشروع مجدداً، بل اتهمت الملك عبدالله بمحاولة "استغلال الفراغ السياسي بعد الاستقلال"، وأسفر عن ذلك توتر بين البلدين، تطور بسرعة وأدى إلى تجميد العلاقات الدبلوماسية. حسين وعبدالناصر... صراع المشاريع في الشام فترة ما بعد الاستقلال في سوريا اتسمت بغياب الاستقرار السياسي يقابله استقرار نسبي في الأردن، وتسببت الخلافات حول مشروع "سوريا الكبرى"، بقطيعة وتدهور شديدين في الخلافات بين البلدين. وفي الـ20 من يوليو (تموز) 1951 تعرض الملك عبدالله لعملية اغتيال أثناء دخوله المسجد الأقصى في القدس، وبقيت العلاقات باردة مع سوريا في عهد خلفه الملك طلال (1951–1952)، ثم بدأت بالتحول في عهد الملك الحسين بن طلال الذي تولى العرش عام 1952. خلال الفترة ما بين 1949 و1963، شهدت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية، أولها انقلاب حسني الزعيم وآخرها انقلاب البعثيين، وهذه الاضطرابات جعلت العلاقات مع الأردن غير مستقرة ومتغيرة بحسب من يحكم دمشق، والفارق الأساس بين دمشق وعمّان كان أن الأردن حافظ على علاقات وثيقة مع الغرب، لا سيما بريطانيا والولايات المتحدة، بينما اتجهت سوريا –خصوصاً بعد عام 1955– إلى تبني سياسات قومية عربية ويسارية وتحالفت مع مصر في عهد جمال عبدالناصر والاتحاد السوفياتي. عند إعلان قيام الوحدة بين سوريا ومصر في فبراير (ِشباط) 1958، اعتبر الملك الحسين بن طلال أن "هذا التكتل تهديد مباشر لأمن الأردن واستقلاله". ولاحقاً شهد الأردن محاولات انقلابية فاشلة عدة، إذ قالت بعض الصحف إن بعض هذه الانقلابات نُفذت بدعم استخباراتي من القاهرة ودمشق، ووصل التوتر بين الجمهورية المتحدة والأردن إلى ذروته عام 1958. بعد الانفصال بين سوريا ومصر، شهدت دمشق فترة من الاضطراب السياسي، فتعامل الأردن بحذر مع الحكومات السورية المتعاقبة، وبعد انقلاب البعثيين في الثامن من مارس (آذار) 1963 ازدادت حدة الخطاب ضد النظام الملكي الأردني. مطاردة في السماء بحسب برنامج "ذاكرة سوريا"، فإنه في الـ10 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، اعترضت مقاتلات سورية طائرة الملك الحسين بن طلال لدى مرورها بالأجواء السورية، وكان الملك حسين حينها عائداً من سويسرا إلى عمّان (وفي رواية أخرى كان متجهاً من عمّان إلى سويسرا لقضاء عطلة)، عندما اعترضت طائرته مقاتلات من طراز "ميغ" سوفياتية الصنع وأجبرت الطائرة على العودة إلى الأردن. ومن عمان ألقى العاهل الأردني خطاباً اتهم فيه السوريين بمحاولة اختطافه أو قتله، وقال إن طياره البريطاني أخبر مطار دمشق بوقت عبور الطائرة الملكية للأجواء السورية، إلا أنه فوجئ بالمقاتلات السورية تأمره بالهبوط في دمشق، لكن الطيار رفض الامتثال للأمر وطار على علو منخفض عائداً إلى الأردن، ونجح في المراوغة والإفلات من الخطر حيث هبطت الطائرة بسلام في عمّان، بينما طاردته المقاتلات السورية مخترقة المجال الجوي للمملكة. من جهتها أعلنت سلطات الجمهورية العربية المتحدة أن الطائرة دخلت الأجواء السورية من دون الحصول على تصريح سابق وفق الأصول المعمول بها دولياً، وأن طيارها لم يخطر مطار دمشق بأن العاهل الأردني كان على متنها، ووفق تصريح المتحدث باسم سلاح الجو في الإقليم الشمالي فإن الطائرة خالفت أعراف الطيران المحلية والدولية بما يبرر إسقاطها، إلا أن المقاتلات أرسلت بدلاً من ذلك لتؤمن خروجها من الأجواء السورية إلى الأردن. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) حينها استُقبل الملك الحسين في الأردن استقبال الأبطال وأعلن يوم الـ11 من نوفمبر يوم عطلة رسمية للاحتفال بسلامته، وخرج الناس إلى شوارع عمّان هاتفين بحياته ومنددين برئيس الجمهورية المتحدة جمال عبدالناصر، وعقد البرلمان الأردني جلسة طارئة خوّل فيها الحكومة اتخاذ الإجراءات اللازمة للرد على ما سموه "العدوان السوري"، ورفعت الحكومة الأردنية شكوى رسمية إلى مجلس الأمن، إلا أن الملك الحسين أعلن سحبها بعد أسبوع من ذلك حفاظاً على الوحدة العربية. وحول هذه الحادثة، قالت صحيفة الدستور الأردنية، إن "حركة شعبية عفوية خرجت إلى شوارع وسط عمّان احتفالاً بنجاة الحسين فور الإعلان عن إحباط محاولة الاغتيال، واحتشدت الجماهير في شارع الملك فيصل مع جزء من شارع الملك الحسين (شارع السلط)، وسارت الجماهير نحو قصر رغدان فخطب فيهم الحسين شاكراً لهم ومقدراً تجمعهم الاحتفالي، وأكد في كلمته الموثقة بتسجيلات وتقارير عدة محطات أجنبية اعتزازه بالشعب الأردني والتزام المملكة الدائم بدورها في الدفاع عن القضايا العربية المحقة". وتحدث الحسين بن طلال عن تلك الحادثة وعن حوادث كثيرة ومحاولات اغتيال تعرض لها سابقاً خصوصاً في مرحلة الستينيات والسبعينيات في كتابه (مهنتي كملك)، ويحوي الكتاب "أسئلة للملك وجهها له الكاتب والصحافي الفرنسي فريدون وإجابات الملك حسين عنها". أيلول الأسود.. صدام الإخوة في ساحة النار في أحداث "أيلول الأسود"، والصراع الدامي بين القوات المسلحة الأردنية بقيادة الملك الحسين، ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، خلال الفترة ما بين سبتمبر (أيلول) 1970 والـ17 من يوليو (تموز) 1971، وقفت سوريا ضد الجيش الأردني، إذ أرسلت ثلاثة ألوية مدرعة ولواء كوماندوز ولواء من المقاتلين الفلسطينيين إضافة إلى أكثر من 200 دبابة من طراز "تي-55". ويرى مؤرخون أن التحرك السوري لحماية منظمة التحرير لم يكن مخططاً له، وكان يعتمد على معلومات غير صحيحة مصدرها قيادة منظمة التحرير، وكانت القوات الأردنية على علم سابق بتحرك القوات البرية السورية، ولم تستخدم دمشق سلاحها الجوي، فيما كان قاد القوات السورية اللواء محمود باغ الذي فوجئ بعنف رد القوات الأردنية التي نشرت قوات كثيفة سميت بقوات الحجاب التابعة للواء الـ40، الذي كبد نظيرتها السورية خسائر فادحة. ويقال أيضاً إن السعودية توسطت لدى الأردن للسماح للسوريين بإدخال شاحنات لسحب أنقاض قواتهم المنسحبة من شمال الأردن. بعد أحداث أيلول الأسود، شهدت العلاقات السورية-الأردنية نوعاً من الاستقرار النسبي، قبل أن يختلف الطرفان مجدداً في الحرب العراقية-الإيرانية (1980 – 1988)، إذ دعمت سوريا طهران، فيما انضم الأردن إلى الإجماع العربي بدعم بغداد، إلا أن هذا الخلاف لم يُسفر عنه تصعيد كبير، وبقيت العلاقات موسومة بالاستقرار الحذر حتى موت حافظ الأسد عام 2000، وتوريث بشار الحكم، عندها تحسنت العلاقات تدرجاً حتى 2011. من اللاجئين إلى الكبتاغون.. كلفة الجوار السوري كان الأردن إحدى الدول التي تأثرت بصورة مباشرة جراء الأزمة السورية، فمع اندلاع الانتفاضة ضد حكم البعث، اتخذت عمان موقفاً حذراً للغاية، فلم تعلن دعم الثورة السورية، وفي المقابل لم تؤيد النظام، وسمحت بدخول مئات الآلاف من اللاجئين، نصفهم في مخيم الزعتري. اشترك الأردن أيضاً في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، وقُتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة في مدينة الرقة بعد إسقاط طائرته من قبل التنظيم الإرهابي، كما لعبت الاستخبارات الأردنية دوراً مهماً في ما سمي "عمليات التسوية" التي جرت في الجنوب السوري منتصف 2018، ففي أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه أعادت فتح معبر نصيب جابر الحدودي مع سوريا، إلا أن هذا المعبر صار لاحقاً أحد أهم أسباب عودة التوتر بين عمّان والنظام السابق، بسبب استخدامه لتهريب المخدرات. خلال الفترة ما بين 2018 و2024، عانى الأردن تهريب مئات الملايين من حبوب الكبتاغون المنتجة في سوريا، وعلى رغم تحسن العلاقات نسبياً مع نظام بشار، اتهم الجيش الأردني مجموعات في نظيره السوري بتسهيل تهريب المخدرات إلى المملكة. وفي عام 2023 بلغت عمليات تهريب المخدرات ذروتها، فتطورت عمليات التهريب لتشمل الطيران المسير، مما دفع جامعة الدول العربية لتشكيل "لجنة الاتصال العربية الخاصة بسوريا"، لكن الأسد سقط قبل أن تنهي اللجنة أعمالها. العهد الجديد بحلول الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، سقط النظام السوري فكان الأردن في مقدمة الدول العربية التي رحبت بانتصار الثورة السورية، وبعد أيام من سقوط نظام الأسد استضافت عمّان مؤتمراً تشاورياً لدول الجوار السوري بمشاركة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية، فيما أجرى وزير الخارجية الأردني زيارات عدة إلى سوريا، وشارك في مؤتمر الرياض الذي دعا إلى دعم سوريا خلال العملية الانتقالية ورفع العقوبات عنها. في الـ26 من فبراير الماضي، أجرى الرئيس السوري أحمد الشرع زيارة رسمية إلى الأردن، حيث التقى الملك عبدالله الثاني في مراسم استقبال رسمية، فيما اعتبرت هذه الزيارة بداية لحقبة جديدة من العلاقات بين الجارتين، وسط مطالبات أردنية متكررة بضرورة تسريع رفع العقوبات واندماج سوريا بالمجتمع الدولي مجدداً. سيناريوهات المستقبل ينحصر مستقبل العلاقات السورية-الأردنية في ثلاثة سيناريوهات، تراوح ما بين عودة التوتر والاستقرار النسبي والتحالف الإستراتيجي. فالسيناريو الأضعف هو احتمالية عودة التوتر بين الجارتين، فالعلاقات بين دمشق وعمّان منذ عام 1920 لليوم لم تصل إلى مرحلة التحالف الإستراتيجي، والأعوام التي غلب فيها التوتر أكثر بكثير من أيام الهدوء، خصوصاً في ما يتعلق بملف الجنوب السوري، إذ يعتبر الأردن نفسه معنياً بصورة مباشرة بكل حدث في تلك المنطقة؟ أما السيناريو الثاني فهو الاستقرار النسبي، وفيه يرجح أن تشهد الفترة المقبلة نوعاً من الاستقرار كتلك الفترة في العلاقات ما بين 2000 و2011، فتزيد وتيرة الزيارات المتبادلة والتعاون التجاري والاعتراف الدبلوماسي، من دون أن تشهد العلاقات تحالفاً أقوى أو توتراً من جديد. ثم السيناريو الثالث، وهو التحالف الإستراتيجي، وهذا السيناريو مرجح لسببين رئيسين، الأول ضرورة أن يكون هناك دور عربي قوي في دمشق من دول الجوار وذلك لتحقيق توازن مع اللاعب التركي الذي تربطه علاقات وثيقة للغاية مع سوريا الجديدة، أما السبب الثاني هو رغبة الأردن في استقرار سوريا وهو هدف مشترك بين دمشق وعمّان، خصوصاً أن نظام الحكم الجديد يرغب بأن يكون ضمن المدار العربي خلافاً لتوجهات الأسد الذي كان يفضل العلاقة مع إيران على محيطه العربي. وفي ظل عدم الاستقرار في كل من لبنان والعراق، يبقى الأردن الجار العربي الوحيد لسوريا الذي يمكن بناء تحالف إستراتيجي معه. بالمحصلة، شهدت العلاقات السورية-الأردنية خلال القرن الماضي فترات متباينة ما بين التوتر والتصادم المباشر، وبين الهدوء الحذر والموقف الرمادي، ومع التغيير التاريخي في سوريا جراء سقوط نظام الأسد فتحت الأحداث المجال لحقبة جديدة، وغالبية المؤشرات تدعم احتمالية قيام تحالف إستراتيجي بين الأردن وجاره الشمالي.


الشرق الأوسط
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- الشرق الأوسط
مخاوف في صنعاء من موجة ضربات إسرائيلية جديدة
أثارت تهديدات المسؤولين الإسرائيليين بتوجيه ضربات جديدة، على خلفية إطلاق الحوثيين صاروخاً جديداً، الجمعة، مخاوف قطاع واسع من اليمنيين الذين رأوا في استهداف المنشآت المدنية عقاباً لهم، وليس لقادة الجماعة. وكانت الضربات الإسرائيلية الأخيرة قد استهدفت ميناءي الحديدة ورأس عيسى، ومصنعي إسمنت عمران وباجل، ومطار صنعاء، وثلاث طائرات تابعة للخطوط الجوية اليمنية، ومحطتين لتوليد الكهرباء. ورغم الارتياح الذي عبّر عنه سكان في مناطق سيطرة الحوثيين تجاه اتفاق الجماعة مع الولايات المتحدة على وقف الضربات المتبادلة، فإن الدمار الكبير الذي لحق بمطار صنعاء الدولي، وأرصفة ميناء الحديدة ورأس عيسى، ومصنعي الإسمنت في باجل وعمران، ومحطتي حزيز وذهبان لتوليد الطاقة، أثار المخاوف من تدمير ما تبقى من البنية التحتية في تلك المناطق، في حين ظل قادة الجماعة المسؤولون عن هذا التصعيد دون عقاب. الضربات دمرت خزانات الوقود في ميناء رأس عيسى (إعلام محلي) ويؤكد محسن -وهو موظف عمومي في صنعاء- أن مشاهد الدمار التي لحقت بمطار صنعاء كانت مفزعة، وذكر أن الأضرار التي لحقت بالمواني ومصنَعي الإسمنت كوّنت قناعة لدى غالبية من السكان بأن إسرائيل تعاقب المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة، بينما قادة الحوثيين ومخازن أسلحتهم في مأمن من هذه الضربات. ويرى الموظف أن هذا التوجه يختلف كلياً عن التوجه الأميركي الذي كان يركز على مخابئ قادة الحوثيين، ومخازن أسلحتهم السرية، ومنظومة الاتصالات العسكرية. هذه الرؤية يؤيدها عبد الله -وهو معلِّم في مناطق سيطرة الحوثيين- حيث يذكُر أن الضربات الأميركية أصابت الحوثيين بحالة من الرعب، واختفت القيادات، واستهدفت مواقع عسكرية في الغالب، في حين ظلت المنشآت المدنية والسكان بعيدين عن الاستهداف في المجمل، رغم حدوث بعض الأخطاء التي رافقت تلك الضربات. ويتساءل هذا المعلم عن الأضرار التي لحقت بالحوثيين جرَّاء تدمير مطار صنعاء والطائرات التي كانت فيه، ويقول إن آلافاً من السكان هم المتضررون، وسيتحملون عبء الانتقال إلى مناطق سيطرة الحكومة في حال أرادوا السفر إلى الخارج، سواء للعلاج أو التعليم أو العمل. وكذلك الأمر فيما يرتبط بتدمير مصنعي الإسمنت؛ حيث إن مئات الأسر ستفقد مصدر دخلها الأساسي، وتنضم إلى طابور من الملايين الذين يعانون الفقر، بينما قادة الحوثيين يعيشون في نعيم. يرى محلل سياسي يقيم في مناطق سيطرة الحوثيين -في حديثه لـ«الشرق الأوسط»- أن النهج الذي تتبعه تل أبيب في ضرب مناطق سيطرة الحوثيين يخدم القيادات الحوثية أمام السكان في تلك المناطق؛ حيث يتهربون من التزاماتهم تحت مزاعم أنهم القوة الوحيدة التي تدافع عن فلسطين، وتواجه الترسانة العسكرية الإسرائيلية. مصنع إسمنت باجل دمرته الغارات الإسرائيلية (إعلام محلي) وحسب المحلل السياسي اليمني الذي طلب عدم الكشف عن هويته خشية الاعتقال، فإن الحوثيين يستغلون انتشار الجهل في مناطق سيطرتهم، ويستخدمون المساجد ووسائل الإعلام لبث خطاب تعبوي عن بطولات زائفة في مواجهة إسرائيل، ويبالغون في وصف آثار الصواريخ أو المُسيَّرات التي يطلقونها، حتى وإن تم اعتراضها وتدميرها قبل وصولها. ومع تأكيده أن اليمنيين ورثوا خلال العقود الستة الماضية خطاباً ثورياً تعبوياً، سواء من قوى اليسار أو من جماعة «الإخوان المسلمين»، فقد تمت تعبئة طلاب المدارس وروّاد المساجد بهذا الخطاب، وفي وسائل الإعلام العامة. وكذلك مكَّن ارتفاع معدلات الأمية -خصوصاً خلال العقد الأخير؛ حيث وصلت إلى 67 في المائة- الحوثيين من استثمار ذلك الموروث، وواقع الفقر وانعدام فرص العمل. ويشير المحلل السياسي إلى أن الحوثيين حصروا مصادر الدخل على التحاق المراهقين بتشكيلاتهم العسكرية، مع رهن البقاء في الوظائف بحضور كافة فعالياتهم، كما ضاعف من هذه السيطرة تحكُّمهم في توزيع المساعدات الإنسانية، وربط الحصول عليها بمدى التأييد والمشاركة في أنشطتهم.