logo
سعف النخيل والزيت المستعمل يشعلان ثورة الطاقة البديلة في العراق

سعف النخيل والزيت المستعمل يشعلان ثورة الطاقة البديلة في العراق

الجزيرة٢٣-٠٧-٢٠٢٥
من التحديات الكبرى أمام الاعتماد على الوقود الحيوي كبديل أنظف للبنزين والديزل، أن إنتاجه عادة ما يعتمد على محاصيل غذائية مثل الذرة أو الصويا، مما يخلق صراعا بين الغذاء والطاقة، ولهذا يسعى العلماء إلى تطوير طرق مستدامة لإنتاج هذا الوقود دون منافسة الغذاء أو الإضرار بالبيئة، ومؤخرا، جاء أحد أبرز الحلول من العراق.
ففي دراسة نُشرت بدورية "فيول"، أعلن فريق بحثي عراقي بقيادة الدكتور يونس العاني من كلية الهندسة التقنية بالجامعة التقنية الوسطى في بغداد، عن تطوير محفز كيميائي صديق للبيئة مصنوع من سعف النخيل، نجح في تحويل زيت الزيتون المستعمل إلى وقود حيوي (بيوديزل) بكفاءة وصلت إلى 97.36%.
وسعف النخيل هو الجزء الورقي الأخضر أو الجاف الذي يمتد كالمروحة من قمة النخلة، ويتكون من ساق طويلة تعرف بالجريد، تتفرع منها وريقات جانبية تشبه الريش تسمى الخوص.
وفي العراق، الذي يمتلك قرابة 22 مليون نخلة من أصل أكثر من 35 مليون نخلة في العالم العربي، تقدر كمية السعف المتساقط سنويا بما يتراوح بين 3 إلى 5 ملايين طن، وتمثل هذه الكميات الضخمة فرصة ذهبية للاستفادة منها في مشاريع مبتكرة، مثل تصنيع المحفزات الكيميائية التي تتيح تحويل المخلفات إلى وقود بديل مستدام وصديق للبيئة.
ولفهم الدور الذي يقوم به المحفز الكيميائي المصنوع من السعف، تخيل أنك تذيب ملعقة سكر في كوب شاي بارد، ستحتاج وقتا وجهدا حتى يذوب السكر، لكن إذا سخنت الشاي قليلا، سيذوب السكر أسرع بكثير. وفي الكيمياء، فإن المحفز يشبه الحرارة في هذا المثال، فهو لا يشارك في التفاعل نفسه، لكنه يسرّعه ويجعله أكثر كفاءة.
من تصنيع المحفز إلى إنتاج الوقود
وبدأ الفرق البحثي بجمع سعف النخيل الجاف، ثم حولوه إلى كربون نشط عبر تسخينه في درجات حرارة مرتفعة دون وجود الأكسجين، وهي عملية تُعرف بـ"الكربنة".
بعد ذلك، أضافوا أكسيد الزركونيوم إلى هذا الكربون، مما أنتج مادة مسامية ذات قدرة عالية على تسريع التفاعلات الكيميائية، وهذه المادة تُعرف علميا باسم " الكربون النشط من سعف النخيل المدعم بأكسيد الزركونيوم".
ووجد الباحثون أن هذه المادة وفرت بيئة نشطة للتفاعل، ساعدت في تحويل الزيت إلى وقود بنسبة وصلت إلى 97.36%.
وتبدأ العملية الكيميائية للتحويل، والتي تُسمى "عملية التفاعل الإستيري" بجمع زيت الزيتون المستعمل من المطاعم والمنازل، حيث يتم تنقيته بعناية لإزالة الشوائب مثل بقايا الطعام والأتربة التي قد تؤثر على جودة الوقود النهائي، وبعد ذلك، يخلط الزيت المنقى مع كمية محددة من الميثانول، في وجود محفز سعف النخيل، بما يعمل على تسريع التفاعل الكيميائي دون أن يُستهلك خلال العملية.
ويتم وضع هذا الخليط في وعاء تفاعلي خاص، حيث تُضبط درجة الحرارة وتُحافظ على زمن تفاعل محدد بعناية، ليبدأ المحفز بتحويل جزيئات الزيت الثقيلة إلى جزيئات أبسط تُعرف باسم "إسترات الميثيل" أو "البيوديزل"، وبعد انتهاء التفاعل، يتم فصل البيوديزل النقي عن المواد الجانبية مثل الجلسرين، الذي يمكن استخدامه في صناعات أخرى.
وتخضع بعدها مادة "البيوديزل" لعمليات تنقية إضافية لضمان نقاوتها وجودتها، مما يجعلها مناسبة للاستخدام كوقود بديل صديق للبيئة، وبهذه الطريقة، يتم تحويل نفايات زيت الطعام إلى طاقة متجددة، تساهم في الحد من التلوث ودعم الاستدامة البيئية.
6 مزايا إيجابية
وامتاز محفز سعف النخيل المستخدم في إنتاج الوقود الحيوي بـ6 مزايا إيجابية أوردها الباحثون في دراستهم، وهي أنه في البداية يمتاز بمساحة سطحية كبيرة، وهذه المساحة تسمح بتوفير أماكن كثيرة على سطح المحفز ليتم فيها تفاعل المكونات، ما يزيد من فعالية تحويل زيت الطعام المستعمل إلى وقود حيوي بكفاءة عالية.
كما يحتوي على مسام متوسطة الحجم بحجم نانوي دقيق، ما يتيح للجزيئات الكبيرة الموجودة في زيت الطعام المستعمل المرور عبر المحفز والتفاعل بشكل فعال، وهذا التصميم المسامي يجعل المحفز أكثر كفاءة في تسريع عملية تحويل الزيت إلى وقود حيوي.
ويتمتع بمواقع حمضية نشطة تساعد على تحفيز التفاعل الكيميائي بين الميثانول والزيت، ووجود هذه المواقع يسرع من عملية تحويل الجزيئات الكبيرة إلى مركبات وقود أصغر وأسهل للاشتعال، مما يرفع من جودة الوقود الناتج.
وبعد استخدام المحفز لعدة مرات، تبين أن تركيبه البلوري ووظائفه الكيميائية تبقى مستقرة تقريبا، مع بعض التغيرات الطفيفة الناتجة عن بقايا التفاعل، وهذا الثبات يمنح المحفز قدرة على العمل لفترات طويلة دون فقدان كفاءته، وهو أمر مهم للاستخدام الصناعي.
كما يستطيع المحفز الاحتفاظ بأكثر من 88% من كفاءته حتى بعد 5 دورات من الاستخدام، مما يعني أنه يمكن استخدامه عدة مرات دون الحاجة لاستبداله بشكل متكرر، وهذه الخاصية تجعل الإنتاج أكثر توفيرا من الناحية الاقتصادية وأقل تأثيرا على البيئة.
والميزة الأهم أنه تم صنع المحفز من سعف النخيل، وهو نفاية زراعية متوفرة بكثرة، مع إضافة أكسيد الزركونيوم، وطريقة التحضير بسيطة وغير مكلفة، ما يفتح الباب أمام إنتاج واسع النطاق باستخدام موارد طبيعية ومستدامة، مع تقليل الحاجة إلى مواد كيميائية باهظة الثمن.
"بيوديزل" بمواصفات عالمية
وانعكست كفاءة المحفز بطبيعة الحال على اليوديزل (الوقود الحيوي) المنتج من تدوير زيت الطعام، حيث تم الحصول على منتج يتماشى مع المعايير الدولية من حيث تميزه بنقطة وميض مرتفعة (درجة الحرارة التي يبدأ عندها الوقود في إطلاق أبخرة قابلة للاشتعال)، مما يجعل تخزينه ونقله أكثر أمانا، كما أن هذه الخاصية تقلل من خطر الاشتعال العرضي للوقود عند درجات حرارة منخفضة، مما يوفر بيئة أكثر أمانًا في المنشآت والمركبات التي تعتمد على هذا النوع من الوقود.
وتبلغ كثافته حوالي "0.86 غرام لكل سنتيمتر مكعب"، وهو الحد الأدنى المقبول حسب المواصفات العالمية ، والذي يضمن سهولة ضخ الوقود داخل محركات الاحتراق الداخلي، ويُسهم في تحسين عملية الاحتراق، مما يعزز من كفاءة الأداء والاستهلاك.
و يتمتع بلزوجة مناسبة تتيح له التدفق بسلاسة عبر أنظمة الحقن في المحركات دون التسبب في انسدادات أو تأخير في وصول الوقود، وهذا يضمن تشغيلا سلسا للمحرك ويقلل من احتمالات الأعطال المرتبطة بالتدفق.
وتبلغ "نقطة الغيوم" للوقود الحيوي المنتج نحو 3 درجات مئوية، وهي الدرجة التي يبدأ عندها ظهور بلورات شمعية دقيقة تؤثر على سلاسة تدفقه، وهذا يعني أن الديزل الحيوي يظل سائلًا وسهل الاستخدام في المناطق ذات المناخ المعتدل أو الحار، مثل معظم أنحاء العالم العربي. أما في المناطق شديدة البرودة، فقد يتطلب الأمر تعديلات بسيطة، مثل خلطه بوقود ذي "نقطة غيوم" منخفضة، لضمان أداء مثالي للمحركات.
ويحظى الوقود المنتج بعدد سيتان مرتفع، وهي خاصية تعبر عن سرعة وسهولة اشتعاله داخل غرفة الاحتراق، وهذا يؤدي إلى تشغيل أكثر سلاسة للمحركات، وتقليل الانبعاثات الضارة، وتحسين الأداء العام للمركبة.
خطوة مهمة على الطريق
وبالنظر إلى الأداء العالي للمحفز، وسهولة تصنيعه من مواد متوفرة محليا، ونجاح عملية تحويل زيت الطعام بنسبة تقارب 100%، كما كشفت الدراسة، فإن هذا الإنجاز يمثل بداية الطريق نحو اعتماد هذا الحل على نطاق صناعي واسع.
ومن أجل ضمان استدامة وكفاءة المشروع، يشير الدكتور تامر إسماعيل، أستاذ الطاقة بكلية الهندسة جامعة قناة السويس بمصر في تصريح للجزيرة نت، إلى عدة خطوات علمية وتطبيقية ضرورية في المرحلة المقبلة.
ويقول " في المرحلة الحالية، أثبت الباحثون فعالية المحفز من خلال النتائج، لكن الخطوة التالية تستدعي استخدام أدوات تحليل أكثر دقة لتحديد قوة وكمية المواقع النشطة على سطح المحفز، عبر تقنيات مثل قياس امتصاص ثاني أكسيد الكربون والأمونيا، وهذه القياسات ستعزز الفهم العلمي للتركيب النشط للمحفز وتفتح المجال لتحسينه مستقبلا".
وحتى الآن، تمت التجارب في المختبر على نطاق صغير، والخطوة الطبيعية التالية، كما يوضح إسماعيل، هي اختبار العملية في وحدات إنتاج أكبر تعمل بنظام التدفق المستمر، مما سيحاكي الواقع الصناعي ويبين مدى كفاءة المحفز في ظروف إنتاج حقيقية، مع تقييم الاستهلاك الطاقي وكفاءة التشغيل المستمر.
ورغم أن المحفز أثبت قدرته على العمل لعدة دورات، إلا أن الأداء يتراجع تدريجيا مع الوقت، ولذلك، يشدد أستاذ الطاقة بجامعة قناة السويس، على أنه "من الضروري تطوير طرق بسيطة وغير مكلفة لتجديد المحفز بعد الاستخدام، بهدف إزالة الرواسب العضوية واستعادة فاعليته، مما يطيل عمره التشغيلي ويقلل التكاليف".
وركزت الدراسة على زيت الزيتون المستعمل، ولكن لتوسيع نطاق الاستخدام، يوجه إسماعيل بضرورة العمل على تجريب المحفز مع أنواع أخرى من الزيوت المستعملة المنتشرة في المنازل والمطاعم، مثل زيت دوار الشمس أو زيت القلي المختلط، وذلك للتأكد من فعاليته مع مصادر مختلفة من المخلفات.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"تمساح السودان".. اكتشاف نادر على نهر عطبرة عمره 90 ألف سنة
"تمساح السودان".. اكتشاف نادر على نهر عطبرة عمره 90 ألف سنة

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

"تمساح السودان".. اكتشاف نادر على نهر عطبرة عمره 90 ألف سنة

في كشف علمي نادر يعيد تسليط الضوء على التنوع الحيوي القديم في القارة السمراء، أعلن فريق بحثي سوداني- ألماني عن اكتشاف نوع جديد من التماسيح المنقرضة في شرق السودان، يعود تاريخه إلى ما قد يصل إلى 90 ألف عام، خلال أواخر العصر البليستوسيني. ويعد هذا النوع، الذي أطلق عليه اسم "كروكودايلوس سوداني"، أول تمساح يصنف رسميا من هذه الحقبة في أفريقيا. الدراسة ، التي نشرت في الأول من أغسطس/آب في مجلة "ساينتفك ريبورتس"، اعتمدت على جمجمة شبه مكتملة وجدت ضمن تكوينات رسوبية موثقة جيولوجيا على نهر عطبرة. ويؤكد الباحثون أن الخصائص التشريحية الفريدة لهذا التمساح تميزه عن أي نوع معروف حاليا، وهو ما يشير إلى سلالة مستقلة ربما ظلت مغمورة لزمن طويل. تشريح يكشف سلالة مميزة ويشرح الباحث المشارك في الدراسة "خلف الله صالح" -الباحث الجيولوجي في متحف التاريخ الطبيعي ببرلين وجامعة النيلين في السودان، وأحد المؤلفين المشاركين في الدراسة- لـ"الجزيرة نت" أن الفريق العلمي توصل إلى هذا الاكتشاف بعد تحليل شامل للجمجمة المكتشفة باستخدام الفحص المقطعي الدقيق، ودراسة السمات المورفولوجية الدقيقة. وأضاف صالح: "لاحظنا خصائص فريدة لم تسجل في أي من أنواع التماسيح الأفريقية المعروفة، من بينها ارتفاع واضح في الجزء العلوي من الفك، وغياب عظم الجزء الخلفي والسفلي من سقف الجمجمة، بالإضافة إلى فتحات أنف أمامية متجهة لأعلى، وبروزات عظمية مميزة في مقدمة الجمجمة". وبحسب الباحث، فإن الاكتشاف يكشف عن "تنوع مورفولوجي (شكلي) في جنس "كروكودايلوس" في أفريقيا خلال العصر البليستوسيني لم يكن معروفا من قبل". وعلى الرغم من أن الدراسة استندت إلى عينة واحدة من موقع واحد، إلا أن الفريق يرى في ذلك مؤشرا على وجود سلالات تمساح إقليمية متميزة، ربما أغفلت سابقا بسبب التشابه الظاهري مع تمساح النيل أو تمساح غرب أفريقيا. ويضيف: "نحن لا نعمم وجود هذا النوع على كامل القارة، ولكننا نعتقد أنه قد يمثل سلالة محلية ظلت في عزلة تطورية نسبية". ظروف الحرب تعرقل البحث ويؤكد الباحث أن الفريق يطمح إلى توسيع نطاق البحث ليشمل مواقع أخرى على امتداد حوض النيل، ويأمل في مراجعة عينات قديمة محفوظة في المتاحف. لكنه يوضح أن الأوضاع الأمنية الراهنة في السودان، وخاصة بسبب الحرب، "تسببت في تعليق كافة الأنشطة الميدانية لمشروع "باليونايل"الذي يهدف إلى توثيق الحياة الفطرية في السودان خلال العصور القديمة". ورغم هذه التحديات، يعتقد الفريق أن هذا الاكتشاف يشكل نقطة انطلاق لإعادة تقييم تصنيف التماسيح في أفريقيا، والدعوة إلى استخدام أدوات تحليل وراثي وتشريحي متكاملة لتوثيق هذا التنوع البيولوجي الغني. ويعتقد صالح أن الاكتشاف "يسد ثغرة كبيرة في سجل الحفريات بالقارة"، ويضيف أن ذلك يمنح العلماء فرصة لفهم أعمق لمسار الزواحف الكبرى في شرق أفريقيا على مدى ملايين السنوات. ويختتم المؤلف المشارك في الدراسة بالتأكيد على أهمية دعم البحث العلمي في السودان، قائلا: "بلادنا تملك سجلا طبيعيا مذهلا، يحتاج فقط إلى عين علمية هادئة، وظروف مستقرة تُمكننا من اكتشافه وحمايته".

جامعة بجنوب أفريقيا تطلق مشروعا لحماية وحيد القرن من الصيد الجائر والتهريب
جامعة بجنوب أفريقيا تطلق مشروعا لحماية وحيد القرن من الصيد الجائر والتهريب

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

جامعة بجنوب أفريقيا تطلق مشروعا لحماية وحيد القرن من الصيد الجائر والتهريب

بدأت جامعة ويتواترسراند في جنوب أفريقيا تنفيذ مشروع علمي جديد يهدف إلى حقن قرون وحيد القرن بمواد مشعة غير ضارة تمكّن من رصده عبر أنظمة الأمن النووي في المطارات والمعابر الدولية، وذلك من أجل حمايته من الصيد الجائر والمتاجرة بقرونه. المبادرة التي تحمل اسم "مشروع ريزوتوب" هي ثمرة للتعاون بين جامعة ويتواترسراند ومسؤولين في مجال الحفاظ على البيئة وخبراء في قطاع الطاقة النووية. وقال باحثون في وحدة الإشعاع والفيزياء الصحية في الجامعة إن الاختبارات التي أجريت في الدراسة التجريبية أكدت أن المادة المشعة لم تكن ضارة بوحيد القرن ولا تشكل خطرا على حياته، وستمكّن من حمايته من الصيادين والمهربين. وكانت اختبارات سابقة قد أجريت في العام الماضي على 20 وحيد قرن، قد أثبتت سلامة المواد المشعة، وكشفت عن فعالية الحقن النووي في الكشف عن القرون داخل حاويات الشحن العميقة. وقال البروفيسور جيمس لاركن، كبير العلماء في المشروع، إن هذه العملية آمنة تمامًا للحيوانات، وفعالة في جعل القرون قابلة للرصد بواسطة أنظمة الأمن النووي المستخدمة من طرف الجمارك وقوات الأمن. وتأمل الجامعة أن تساهم هذه الخطوة في ردع المهربين من خلال جعل نقل قرون وحيد القرن محفوفا بمخاطر الكشف والملاحقة القانونية، الأمر الذي سيساعد في المحافظة على هذه الحيوانات التي باتت مهددة بالتناقص. ودعت الجامعة مالكي المحميات الخاصة والجهات الوطنية المعنية بالحفاظ على البيئة إلى المشاركة في المشروع، وحقن قرون الحيوانات تحت رعايتهم من أجل إنقاذها من مخاطر الانقراض. وتأتي هذه الخطوة في وقت تعاني جنوب أفريقيا التي يوجد فيها أكبر عدد من حيوانات وحيد القرن في العالم (16 ألف حيوان) من تزايد حالات القتل والصيد الجائر بمعدل 500 حالة سنويا بغرض الاتجار بالقرون.

هل تسقط فرضية العوالم المتوازية؟ الفيزياء تُعيد الحسابات
هل تسقط فرضية العوالم المتوازية؟ الفيزياء تُعيد الحسابات

الجزيرة

timeمنذ 5 أيام

  • الجزيرة

هل تسقط فرضية العوالم المتوازية؟ الفيزياء تُعيد الحسابات

مقدمة الترجمة هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ أم أن نسخًا أخرى منّا تعيش في عوالم موازية، تتفرّع في كل لحظة كما تتشعّب الطرق في غابة كثيفة؟ قد تبدو هذه الفكرة أقرب إلى الخيال العلمي، لكنها نابعة من قلب إحدى أعقد وأغرب النظريات في الفيزياء، وهي ميكانيكا الكم. حيّرت هذه النظرية العلماء والفلاسفة على حد سواء لأكثر من قرن، إذ تقدِّم لنا عالمًا يبدو غير منطقي: جسيمات توجد في مكانين في الوقت نفسه، قطط نصف حية ونصف ميتة، وواقع لا يُحسم إلا حين ننظر إليه. وفي خضم هذا الغموض، انبثقتْ تفسيرات كثيرة، من بينها "العوالم المتعددة"، التي تفترض أن كل احتمال كمومي يؤدي إلى انقسام الكون ذاته إلى نسخ جديدة. لكن، ماذا لو لم نكن بحاجة إلى هذه العوالم المتعددة أصلًا؟ ماذا لو كانت القوانين التي اعتقدنا أنها تنهار في عالم الكم، تعمل بهدوء ودقة خلف الستار؟ في هذا المقال المترجم من مجلة "نيو ساينتست"، نأخذك في رحلة إلى قلب هذا السؤال، رحلة تبدأ من تجربة ذهنية بسيطة وتنتهي عند مفاهيم ثورية حول الحفاظ على الزخم، والزمن، والعلاقات الخفية بين الأشياء. رحلة يقودها فيزيائيون لا يسعون إلى تفسير الكون فحسب، بل إلى فهمه بعمق جديد قد يغيّر كل شيء. نص الترجمة بين الحين والآخر، يجدر بنا أن نتوقف لحظة لنشكر النسخ الأخرى من أنفسنا، تلك التي تعيش في عوالم موازية وتُشبهنا إلى حد كبير ولكن مع اختلافات بسيطة. فوجود هذه النسخ هو ما يساعد على حفظ التوازن في هذه الأكوان. على الأقل، هذا ما يُقال إن كنت من أنصار نظرية العوالم المتعددة في ميكانيكا الكم، ذاك التصور الجريء الذي وُلد قبل أكثر من 65 عامًا، ويقوم على فكرة مفادها أن الواقع لا يسير في مسار واحد، بل يتفرّع بلا انقطاع إلى مسارات متوازية، بفعل تفاعلات خفية تدور في عوالم الجسيمات الكمومية. ورغم أن هذه الفكرة قد تبدو مربكة للعقل، فإنها تمهّد الطريق لحلّ بعض أعقد المعضلات الفيزيائية. ولهذا، لا عجب أن يؤمن بها عدد لا بأس به من الفيزيائيين الثاقبي البصيرة. لكن الآن، قد تواجه هذه الفكرة الغريبة (فكرة العوالم المتعددة*) تحدّيًا كبيرًا، وذلك بفضل عمل قام به عالما الفيزياء ساندو بوبيسكو ودانييل كولينز من جامعة بريستول في المملكة المتحدة. في البداية، لم يتمحور هدفهما حول مهاجمة فكرة الأكوان المتوازية، بل كانا يسعيان في الأصل إلى حل لغز في ميكانيكا الكم عمره 100 عام. لكن خلال بحثهما، توصّلا إلى نتائج تهدد الركائز الأساسية التي تقوم عليها فكرة العوالم المتعددة. وعن ذلك، يقول كولينز: "لقد نسفنا فعليًّا أحد أهم الحجج التي كانت تُستخدم للدفاع عنها". قد يبدو ما توصّل إليه الباحثان أمرًا يُزعزع الاستقرار أو يُربك النظريات القائمة، لكن المفارقة أن ما بدا تهديدًا، قد يتحوّل إلى دَفعة منعشة أو جرعة تنشيط لنظرية الكم نفسها. فالعمل الذي أنجزه بوبيسكو وكولينز بدأ بالفعل يُضيء زوايا أخرى في عالم الكم، ويُساعد في تفكيك مفارقات استعصت على الفهم لعقود. بالنسبة لبعض الباحثين في هذا المجال، تُمثّل نتائج هذا العمل نافذة نحو طريقة جديدة تمامًا في فهم الكون، لا باعتباره مجموعة أكوان متوازية، بل بوصفه واقعًا كموميًّا موحّدًا، يتشكّل من الداخل نحو الخارج. في السياق ذاته، يعلِّق نيكولا جيسين، الباحث في أساسيات نظرية الكم بجامعة جنيف بقوله: "إنه شيء يحمل بين طياته عمقًا جديدًا، وربما يكون الشرارة التي تُشعل طريقًا غير مطروق في فهم الكون". تبدأ قصة هذه النتائج الغريبة من مبدأ بسيط لطالما كان جزءًا أساسيًّا من الفيزياء حتى قبل أن تولد نظرية الكم نفسها، يُعرف بـ"مبدأ حفظ الطاقة". والمقصود به أن ثمة بعض الأشياء مثل الطاقة لا تَفنَى، بل تتحوّل من شكل إلى آخر. على سبيل المثال: عندما تضغط على مكابح سيارتك فجأة، لا تختفي الطاقة الحركية التي كانت تدفع السيارة، بل تتحوّل إلى حرارة وضجيج في أجزاء المكابح، كالأقراص، والعجلات، والإطارات. من حيث المبدأ، لا تقتصر قوانين الحفظ على الأجسام الكبيرة مثل السيارات، بل يُفترض أن تسري كذلك على أصغر مكونات الوجود التي تخضع لقوانين ميكانيكا الكم، مثل الذرّات والجسيمات المتناهية الصغر على غرار الفوتونات والكواركات. والمثير للانتباه أنه حتى ميكانيكا الكم -بكل غرابتها- يجب أن تخضع لهذه القوانين القديمة. لكن في قلب هذا الاتساق الظاهري، بقي هناك لغز لم يُحلّ بعد. فكِّر داخل الصندوق لكي نبدأ في فك خيوط هذه المعضلة، تخيّل أننا أعددنا تجربة نُطلِق فيها إلكترونًا نحو عشرة صناديق مصطفّة أمامه (بجوار بعضها البعض)، قد يستقر في أي واحد منها، ولا سبيل إلى الجزم بمكانه سلفًا. كل ما تمنحنا إياه ميكانيكا الكم هو خريطة احتمالات: في أي صندوق قد يظهر؟ وأيها أكثر ترجيحًا؟ لكن هذه الاحتمالات ليست ثابتة، فـمسار الإلكترون، والترتيب المكاني للصناديق، كلاهما يغيّر شكل الاحتمالات ويعيد توزيعها من جديد. في البداية، سنطلق الإلكترون، ونراقب أين يحطّ، ثم نكرر التجربة 99 مرة أخرى. بعد تكرار التجربة عدة مرات، سنكتشف أن عدد المرات التي ظهر فيها الإلكترون في كل صندوق يتوافق مع الاحتمالات التي تنبأت بها نظرية الكم. وهكذا، تنتصر ميكانيكا الكم. لكن دعنا نفترض أننا أجرينا التجربة مرة واحدة فقط، أي أطلقنا الإلكترون مرة واحدة فقط. في هذه الحالة، لا توجد أي وسيلة للتنبؤ بالنتيجة، لأن نظرية الكم لا تستطيع التنبؤ بالأحداث الفردية، بل بالمتوسطات الإحصائية فقط بعد تكرار التجربة مرات كثيرة. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما معنى ذلك؟ وفقًا للفهم التقليدي لميكانيكا الكم كما طرحه نيلز بور، أحد مؤسسي النظرية، فإن النظام قبل أي قياس يكون في حالة تُسمى "التراكب الكمومي". بمعنى آخر: في تجربتنا الذهنية، الإلكترون لا يوجد في صندوق واحد فقط، بل في الصناديق العشرة معًا في الوقت نفسه، إلى أن نقيس أو نرصد مكانه، وعندها فقط "نُجبره" على اختيار موقع واحد. وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية، خصوصًا إذا أخذنا هذه الفكرة إلى نهايتها المنطقية، كما فعل الفيزيائي إروين شرودنغر في تجربته الذهنية الشهيرة المعروفة بـ"قطة شرودنغر". في هذه التجربة، توضع قطة داخل صندوق مغلق، ويعتمد مصيرها (الحياة أو الموت) على حدث كمومي غير محسوم. وفقًا للتراكب، تظل القطة في حالتين في الوقت ذاته: حية وميتة، إلى أن يفتح أحدهم الصندوق ويرى حالتها، وعندها تختفي إحدى النسختين، وتبقى الأخرى. ما سبق كان غريبًا بما يكفي، لكن إذا عدّلنا قليلًا سيناريو التجربة، فستتكشف أمامنا مشكلة أعمق بكثير. فلنقل إننا قررنا هذه المرة ألا نقيس مكان الإلكترون، بل نقيس زخمه، أي كمية حركته. هنا تظهر معضلة جديدة، لأن الزخم يخضع لقوانين الحفظ الصارمة التي تمنع ظهوره فجأة من العدم، أو فقدانه بلا أثر. لكن قبل القياس، يكون الإلكترون في حالة تراكب كمّي، حالة غائمة لا تمنحنا رقمًا واحدًا، بل طيفًا من القيم المحتملة. وعندما نقيس الزخم، نحصل على قيمة نهائية واحدة تبدو مختلفة كليًّا عن الحالة السابقة. وهنا تحدث المفارقة: يبدو أن بعض الزخم قد ظهر من العدم، أو تبخّر في الهواء، وهذا يُعدُّ خرقا صارخا لقانون حفظ الزخم. وعن ذلك يقول كولينز: "بما أننا لا نستطيع أن نعرف بدقة ما كانت عليه قيمة الزخم في البداية، بدا الأمر وكأن هذه القيمة قفزت فجأة، ولم يكن هناك مفرّ من هذا الاستنتاج". بعبارة أخرى، تبدو ميكانيكا الكم وكأنها تستهزئ بقوانين الحفظ. وقد ظلّ الفيزيائيون يتصارعون مع هذه المفارقة قرنًا من الزمان. حاول بعضهم تجاوز هذه المعضلة بتفسير مبسّط: "ربما تكون الظروف في العالم الكمومي مختلفة تمامًا، ولذلك ليس منطقيا أن نتوقع من نظرية الكم أن تلتزم بنفس القوانين الكلاسيكية للحفظ". لكن كولينز يرى في هذا التبرير نوعًا من الاستسلام إذ يقول: "نظرًا إلى أن ميكانيكا الكم غريبة بطبيعتها، وغير منطقية في كثير من الأحيان، بدا أن الكثيرين مستعدّون لقبول أي سلوك شاذ يصدر عنها". على الجانب الآخر يُصرّ بعض العلماء على أن هذه المفارقة مهمة فعلًا ولا يمكن تجاهلها، وهنا تحديدًا يظهر دور "العوالم المتعددة". إذ لا يقدِّم هذا التفسير شرحًا لمعضلة القطة الحية والميتة في آنٍ واحد فحسب، بل يقول إن كلا النسختين تستمرّان في الوجود، لكن كل واحدة منهما في كونٍ مختلف. القطة الميتة تواصل وجودها في عالم، والحية في عالم آخر. ليس هذا فحسب، بل تبدو نظرية العوالم المتعددة كأنها تقدّم حلًّا لمشكلة انتهاك قوانين الحفظ. فإذا أخذنا في الاعتبار جميع العوالم أو الأكوان مجتمعة، فسنكتشف أن الزخم لم يُخلق من عدم، ولم يُفقد، وأن كل شيء لا يزال محفوظًا، لكنه موزّع على عوالم متعددة. لم يكن كولينز وبوبسكو مرتاحَين كغيرهما من الفيزيائيين أمام ما بدا خرقًا صريحًا لقوانين الحفظ. فبينما اختار البعض تجاهل التناقض باعتباره من غرائب ميكانيكا الكم، قرّر الاثنان أن يغوصا في أعماق المشكلة، وأن يواجها السؤال الذي تحاشاه كثيرون. وفي تجربة ذهنية نُشرت في أبريل/ نيسان الماضي، وهي جزء من سلسلة أبحاث قدّماها على مدى السنوات الأخيرة، أثبت العالِمان أن الزخم لا يُنتهك كما ظننا، بل يظل محفوظًا حتى في تجربة كمّية واحدة، وذلك لأسباب مفاجئة ومثيرة للدهشة. وعن ذلك، يقول بوبسكو: "لقد خضنا غمار التجربة حتى وصلنا إلى درجة من العمق لم يتوقعها أحد". يبدأ العالِمان بتحليل حالة بسيطة: جسيم يتحرّك في دائرة، ثم يتخيلان قياس الزخم الزاوي لهذا الجسيم، وهو نوع من الزخم مرتبط بالحركة الدائرية، ويُعَدُّ أيضًا كمية يجب أن تُحفَظ وفقًا لقوانين الفيزياء. عند إجراء القياس، نحصل على قيمة مُحدَّدة وواضحة للزخم الزاوي. لكن قبل القياس، كان الجسيم في حالة تراكب كمومي (أي لم تكن له قيمة واحدة محددة، بل مجموعة من الاحتمالات*). وهنا تظهر المشكلة: بما أن شيئًا قد تغير بعد القياس، أي انتقل من حالة تراكب إلى نتيجة واحدة واضحة، فالسؤال هو: من أين أتى هذا التغير في الزخم الزاوي؟ في البداية، توجّه تفكيرهما نحو جهاز القياس. فالمنطق البسيط يقول: إذا كان الجهاز يَقيس، فلا بد أنه يتفاعل مع الجسيم، لا بد أن شيئًا ما يمرّ بين الاثنين، وهو نوع من التبادل الخفي. وعن ذلك، يقول كولينز: "من الواضح أن هناك تفاعلًا، لذا يبدو بديهيًّا أن شيئًا ما ينتقل بين جهاز القياس والنظام". لكن عندما دخلا إلى عمق المعادلات، كشفت الحسابات شيئًا مغايرًا تمامًا. بعد أن استبعدا جهاز القياس باعتباره مصدرا للتغير في الزخم الزاوي، انتقل العالمان للتفكير في الجهاز الذي يضع الجسيم في حالة تراكب كمومي، وهو ما يُعرف بـ"المحضِّر". ومن خلال دراسة هذا الجهاز، كشفا عما يشبه نسخة كمومية لحلّ مشكلة ما على حساب خلق مشكلة أخرى، بمعنى أن ما يُفقَد من طرف يُعوّض في طرف آخر، بحيث تبقى الحصيلة النهائية محفوظة. بعد إجراء القياس، اكتشف العالمان أنهما إذا جمعا الزخم الزاوي للجسيم مع الزخم الزاوي للمحضِّر، سيجدان أن المجموع الكلي لم يتغير منذ اللحظة الأولى التي تفاعل فيها الجسيم مع المحضِّر. بمعنى آخر، يُعدُّ المحضّر نفسه جزءًا من حالة التراكب الكمومي، وهو الذي يحافظ على توازن كل شيء بدقة تامة. في التجارب الحقيقية، لا يكون "المحضِّر" جهازًا غامضًا، بل مجموعة من فوتونات الليزر تُستخدم لإحداث حالة التراكب الكمومي في جسيم، مثل أيون محاصر قبل إجراء القياس عليه. ما وجده كولينز وبوبسكو هو أن مجال الليزر والأيون لا ينفصلان بعد هذا التفاعل، بل يبقيان في حالة تُعرف بـ"الترابط الكمومي الباقي". بمعنى آخر، حتى بعد أن يدخل الأيون في حالة تراكب، فهو لا يصبح مستقلًّا تمامًا عن فوتونات الليزر، بل يظل مرتبطًا بها داخل تلك الحالة الكمومية المشتركة، التي لم تُحسم نتيجتها بعد. والأهم من ذلك، أن أي تغيّر في زخم الأيون الزاوي يقابله دومًا تغيّر معاكس ومكمّل في زخم فوتونات الليزر. يمنحنا هذا التقدّم الجديد في فهم قوانين الحفظ رؤية غير مسبوقة لآلية العمليات الكمومية. فلم يحدث من قبل أن استطعنا الحديث بمعنى حقيقي عن الأرقام الكامنة خلف حدث كمومي واحد. ويعلّق بوبسكو على ذلك قائلًا: "إننا أمام تغيير يمسّ واحدة من الركائز الأساسية التي قامت عليها ميكانيكا الكم". ويرتبط أحد الآثار المباشرة لهذا الاكتشاف بنظرية العوالم المتعددة. فإذا خضعتْ قوانين الحفظ لهذا الكون وحده، فما الحاجة إذن إلى اختراع أكوان موازية لتبرير ما يحدث؟ في هذه الحالة، يبدو أن العمل الجديد قد فكّك المفارقة التي طالما استندت إليها نظرية العوالم المتعددة للدفاع عن وجودها. في السياق ذاته، يقول بوبسكو: "ما أثبتناه هو أن قوانين الحفظ تنطبق في كل فرع من فروع التراكب الكمومي، حتى على مستوى الحالات الفردية. لذا، فالإشارة إلى أن العوالم المتعددة ضرورية لحفظ التوازن لم تعد مقنعة". ويُؤيّد هذا الرأي رِناتو رينر، العالم في نظرية الكم من المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ، قائلًا: "هذا العمل يفتح الباب لإمكانية وجود تفسير متّسق دون الحاجة إلى نظرية الأكوان المتعددة. إنه سببٌ آخر يجعل الإيمان بها أقل إلحاحًا مما كنا نظن". أما كولينز، فيرى أن هذه القصة تشكِّل تحذيرًا ضد الوقوع في فخّ الانحياز الفكري حين يتعلّق الأمر بتأويلات ميكانيكا الكم، بقوله إن افتراض صحة نظرية العوالم المتعددة قد يُوقف التفكير في المشكلة أصلًا. ويتابع: لو كنتَ افترضتَ صحة هذا التأويل منذ البداية، لما خطر ببالك قط أن تتساءل عن دور المحضّر أو أن تفتح هذا الباب من الأساس. كنت ستظن ببساطة أن كل شيء على ما يرام". الآن، يبدو أن هذه الرؤى الجديدة حول قوانين الحفظ الكمومية قد تفتح الطريق نحو فهم أعمق لجوهر ميكانيكا الكم. فعلى سبيل المثال، تُبرز هذه النتائج أهمية مفهوم يُعرف "بالأطر المرجعية" أو "إطارات الإسناد" عند إجراء القياسات الكمومية. ويمكن التفكير في هذا المفهوم كنوع من وجهة النظر التي نرصد من خلالها ما يحدث فيزيائيًّا، فهو المرجع الذي تُقاس منه الظواهر. على الجانب الآخر، يوضح كولينز وبوبسكو أن الإطار المرجعي في القياسات الكمومية يتحدد عبر خصائص جهاز التحضير نفسه، وأن الوعي بهذا الإطار أمر جوهري لفهم كيف تبقى قوانين الحفظ قائمة حتى في أبسط التجارب الكمومية وأكثرها فرادة. ما تفتحه هذه النتائج من آفاق ليس بالأمر الهيّن، بل ربما يحمل في طياته دلالة عميقة، لأن الأطر المرجعية لا تقف وحدها، بل تتشابك مع مفهوم آخر أكثر رسوخًا في بنية الفيزياء، وهو التناظر. في عالم الفيزياء، يشير التناظر إلى قدرة النظام على الاحتفاظ بجوهره حتى لو خضع لتغييرات شكلية، كأن يُدار أو يُعكس دون أن يتبدّل في قوانينه شيء. وهنا يختصر كولينز الأمر بقوله: "الفيزياء كلّها تقوم على التناظر، ومن التناظر تنبثق قوانين الحفظ، ولهذا تكتسب هذه القوانين قيمتها الكبرى". ميل غريزي نحو التناظر في عام 1918، كانت عالمة الرياضيات إيمي نويثر أول من بيّن أن قوانين الحفظ تنبع من ميل الكون إلى التناظر في عملياته الفيزيائية. ومنذ ذلك الحين، أصبح اكتشاف التناظرات الجديدة، أو ملاحظة انتهاكها يشير إلى وجود ظواهر تستحق الدراسة والبحث. فبهذه الطريقة، ظهر التنبؤ بوجود العديد من الجسيمات في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، مثل الكواركات وبوزون هيغز، قبل اكتشافها تجريبيًّا. وقد دفع هذا العلماء التجريبيين إلى بناء أجهزة ضخمة بتكاليف تُقدّر بالمليارات لاختبار تلك التنبؤات والتحقق من وجود تلك الجسيمات. في هذا العمل الجديد، تتشابك الأطر المرجعية، والتناظرات، وقوانين الحفظ في عالم الكم، تمامًا كما كانت مترابطة منذ زمن بعيد في الفيزياء الكلاسيكية. ومن جانبه، يعلّق الفيزيائي جيسين قائلًا: "الأمر لا يقتصر على حل معادلة معقدة عجز الآخرون عن حلها، بل يكمن في أنهم حققوا فهمًا عميقًا للفيزياء ذاتها". في السياق ذاته، يرى رينر أن الترابط الجديد بين الأطر المرجعية، والتناظرات، وقوانين الحفظ قد يحمل في طيّاته مفتاحًا لحل مفارقة كمومية استعصت على التفسير لعقود. في ستينيات القرن الماضي، طرح الفيزيائي يوجين فيغنر تجربة فكرية عُرفت لاحقًا باسم "صديق فيغنر"، فيها يُجري صديقه تجربة داخل مختبر مغلق، يُشبه السيناريو الشهير لقطة شرودنغر. يفتح صديقه الصندوق ويجد القطة حيّة. لكن فيغنر، الواقف خلف الباب المغلق، لم يطّلع بعد على النتيجة، ومن وجهة نظره لا تزال القطة في حالة تراكب كمومي، حية وميتة في آن واحد، ومتشابكة كموميا مع صديقه داخل المختبر. وهنا تتكشّف المفارقة: "واقعان لا ينسجمان، ومع ذلك، تقول ميكانيكا الكم إن كليهما صحيح". ومع ذلك، يرى رينر أن الفهم الأدق للأطر المرجعية قد يكون المفتاح الذي يُعيد ترتيب مشهد المفارقة. ففي السيناريو التقليدي، يُفتَرض أن صديق فيغنر يوجد داخل المختبر في حالة كمومية نقية، مستقلة تمامًا عن فيغنر الواقف خارجه. لكن ما توصّل إليه كولينز وبوبسكو يظهر استحالة هذا الافتراض: فالصديق ليس كيانًا منعزلًا، بل متشابكا كموميًّا مع المُحضِّر، وهو في هذه الحالة فيغنر نفسه. وهكذا، فإن تأثير المُحضّر، الذي كان يُهمَل عادةً باعتباره ضئيلًا، يأخذ الآن موقعه في صلب التجربة، ولا يمكن تجاهله بعد اليوم. وعن ذلك، يقول رينر: "ربما تُحلّ هذه المفارقات، إذا تعاملنا مع تجربة صديق فيغنر بمزيد من التأنّي والدقّة في نمذجتها". كل هذا يدفع رينر وآخرين إلى النظر إلى الواقع بصورة مختلفة كليًّا، صورة لا تمتّ بصلة إلى نظرية العوالم المتعددة. تتمثل الفكرة الجوهرية هنا في أن القياسات ليست مُطلَقة، وإنما يراها كل مراقب بصورة مختلفة، وهي فكرة متجذّرة في تأويلين بديلين لميكانيكا الكم: يُعرف الأول "بميكانيكا الكم العلائقية"، ويفترض أن الأشياء لا توجد منفصلة أو قائمة بذاتها، بل ينبثق الواقع فقط من شبكة العلاقات المتبادلة بينها. أما الثاني، فهو "الاحتمالية الكمومية البايزية"، ويرى هذا التأويل أن ميكانيكا الكم ليست وصفًا للعالم كما هو، بل أداة يستخدمها كل مراقب للتنبؤ بما سيشهده. وفي هذا العالم، لا تُبنى الحقيقة من حقائق موضوعية خارجية، بل من العلاقة بين المراقب والقياس الذي يجريه. وهكذا، بدلًا من واقع يتشظّى إلى عدد لا يُحصى من الأكوان، تقدّم هذه الرؤية كونًا واحدًا يتشكّل من الداخل، من خلال ربط أو حياكة العديد من الرؤى الذاتية معًا. ورغم ما تحمله نتائج كولينز وبوبسكو من وعود، فإن الطريق أمامها لا يزال محفوفًا بأسئلة تنتظر الإجابة. فحتى الآن، اقتصر إنجازهما على إثبات حفظ الزخم الزاوي من الناحية النظرية، ثم افترضا أن ما ينطبق عليه، يمكن أن يمتد إلى بقية قوانين الحفظ، كقانوني الطاقة والزمن. في حين يرى جونتي هانس من جامعة نيوكاسل بالمملكة المتحدة، أن هذا التوسّع قد لا يكون بهذه البساطة، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بالزمن، ذلك المفهوم الغائم في قلب ميكانيكا الكم، الذي لم تنجلِ حقيقته بعد. في الجهة المقابلة، تُبدي فاليا ألوري، فيلسوفة الفيزياء بجامعة بيرغامو في إيطاليا، تحفظًا اتجاه النتائج التي توصّل إليها كولينز وبوبسكو. ففي رأيها، تنطوي الحجّة على قفزات دقيقة لكنها مقلقة، تكمُن في طبيعة التفاعل بين الجسيم وجهاز القياس، أو بين الجسيم والمحضِّر الذي يُعدّه للتجربة. وفي أروقة المختبرات، بدأ العلماء يطرحون سؤالًا جديدًا: كيف يمكن رؤية قوانين الحفظ الكمومية وهي تعمل في العالم الحقيقي؟ يرى الفيزيائي أفرايم ستاينبرغ من جامعة تورنتو أن هذه القوانين في صورتها الفردية، قد تُشكّل قيودًا خفية، تُحدّد بدقّة ما يمكن تحضيره من حالات كمومية، وما لا يمكن. وهكذا، تتحوّل هذه القيود إلى مُحفّزات لتجارب جديدة، تسعى إلى خلق تلك الحالات ورصدها. عندما اطّلع الفيزيائي ستاينبرغ على هذا البحث للمرة الأولى، أخبره حدسه بأنه غير صحيح. لكن بعد أن أمضى وقتًا في دراسة الورقة العلمية بتمعّن، بدأ يرى أن ما طرحه الباحثان يبدو مقنعًا بشكل مفاجئ، وعبّر عن حيرته قائلًا: "وجدت نفسي عالقًا في حالة تراكب غير مريحة، بين أن أوافقهما الرأي.. وألا أوافقهما". وبغضّ النظر عمّا ستؤول إليه الأمور، يأمل بوبسكو أن يُسهم بحثه مع كولينز في هدم الاقتناع الراسخ بأننا لن نتقدم أبدًا في فهم نظرية الكم. وفي النهاية، يختتم بوبسكو حديثه قائلا: "من الشائع أن يُقال إن ميكانيكا الكم عصيّة على الفهم، ولا يوجد من يفهمها. حسنًا! إننا هنا على الأقل نحاول أن نبني هذا الفهم خطوةً بخطوة".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store