
"كوريا الآسرة".. مغامرة صحفية امتزجت بسحر الطبيعة والتقدم الصناعي
◄ النهضة الصناعية في كوريا لم تؤثر على جمال الطبيعة الخلابة
◄ ثنائية الحفاظ على البيئة والتطور التكنولوجي في كوريا نموذج يحتذى به
◄ مؤتمر الصحفيين العالمي سلط الضوء على القضية الفلسطينية بكل شجاعة
◄ المؤتمر ناقش الذكاء الاصطناعي وتغير المناخ ومستقبل الإعلام
◄ السفير زكريا السعدي رسول سلام وإخاء من عُمان إلى الشعب الكوري الصديق
◄ أغلب الطلبة العُمانيين في كوريا يدرسون الزمالة في تخصصات طبية
◄ تحول المنطقة منزوعة السلاح إلى مزار سياحي بارز دليل على عبقرية الشعب الكوري
◄ جزيرة جيجو منتجع سياحي مفتوح للاسترخاء والراحة
◄ مدينة أنسونغ سلة فواكه وخضراوات في كوريا
◄ عنب "شاين مسقط" المفاجأة الكبرى في كوريا
◄ العنب العُماني الأصل أجود الأنواع وأغلاهم سعرًا
◄ زراعة "شاين مسقط" في الجبل الأخضر تفتح آفاقًا واعدة
سيول (كوريا)- حاتم الطائي
ثمّة مثل كوري يقول "غو-ساينغ غيوت-إيه ناكي إيون-دا"؛ أي في نهاية المشقة تأتي السعادة، فبعد 10 ساعات من الطيران، من بينها ساعتان ترانزيت، أي قرابة نصف يوم كامل، قضيتها في رحلة رائعة من مسقط إلى سيول عاصمة كوريا الجنوبية، أسابق الزمن بخيالي لكي أصل في أسرع وقت إلى تلك المدينة الآسرة، التي خطفت قلبي وعقلي قبل سنوات.. وبينما أجلس على مقعدي في الطائرة، تذكرتُ عبارة ساحرة قرأتها قبل سنوات تقول "هناك وطن يتلبَّسُك"؛ أي يُسيطر على أفكارك ومشاعرك ويأسرك بجماله وتقدمه ونهضته، والوطن لا يعكس المعنى الحرفي للكلمة؛ بل المقصود الجغرافيا والطبيعة والأرض والنَّاس.
والعاصمة سيول واحدة من أجمل وأفخم المدن التي يمكن للمرء العيش فيها، وتُصنَّف في المركز الثاني على قائمة المدن الأعلى جودة للحياة، لا سيما وأنها تتميز بتنظيم عالي المستوى، ونظافة فائقة، وتشتهر بتنوع حضاري وثقافي مُبهر. والإبهار هنا ليس فقط إبهارًا بصريًا، لما تراه عيناك من جمال مُدهش، لكنه كذلك إبهار إنساني، بما صنعه المواطن الكوري من نهضة تنموية وحضارية غير مسبوقة، وتعكس إصرارًا مُذهلًا على التطور والازدهار.
الطبيعة والصناعة
ورغم أن كوريا تهتم كثيرًا بالتصنيع، إلّا أن الطبيعة الجميلة تُدهشك في كل مكان تطأه قدماك؛ فالمساحات الخضراء تنتشر، وتتألق بألوان الزهور المختلفة، وترسم صورة جمالية فريدة لما يمكن أن تكون عليه مدن المستقبل، التي ترتكز على النهج الحداثي مع الحفاظ على الطبيعة.
والزائر لكوريا الجنوبية، يستطيع بكل سهولة أن يلحظ مستوى النهضة الصناعية، والتي ترتكز في جوهرها على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تستهدف رفعة البلد وتقدمه في شتى المجالات. وربما أول شركة قد تتبادر إلى أذهان البعض عندما يقع على سمعه اسم "كوريا"، هي شركة سامسونج المتخصصة في الإلكترونيات، وكذلك شركة هيونداي وإل جي وكيا، لكن الأجمل أن نعرف شركات أخرى لها تأثير عالمي في مسارات الصناعات التكنولوجية، لكنها ربما لا تحظى بنفس شهرة العلامات التجارية التي نستخدمها تقريبًا في حياتنا اليومية. ومما لفت نظري أن سيول الكبرى تضم مراكز تكنولوجية معروفة مثل جانغنام ومدينة الإعلام الرقمية، وغيرها من الصناعات المتقدمة.
مؤتمر الصحفيين العالمي
ولقد سنحت لي فرصة المشاركة في أعمال مؤتمر الصحفيين العالمي "WJC" لعام 2025، والذي نظمته جمعية الصحفيين الكورية التي يرأسها بارك جونغ، وشارك فيه صحفيون من أكثر من 60 دولة حول العالم. وعُقد هذا المحفل الإعلامي الدولي البارز برعاية من وزارة الخارجية الكورية ووزارة الثقافة والرياضة والسياحة وهيئة الصحافة في كوريا.
المؤتمر ناقش- على مدى عدة أيام- دور الذكاء الاصطناعي كمحور أساسي في الإعلام، وحقوق النشر والتحديات الأخلاقية، وتأثير الثورة الصناعية الرابعة على الإعلام. فيما تضمن المحور الثاني تغيُّر المناخ في العالم وأهمية رفع الوعي بالتحديات التي تواجه البشرية نتيجة التغير المناخي. وشهدت النقاشات تقديم أوراق العمل مُثرية وعروض تقديمية عكست عمق المحتوى ونبوغ المشاركين من مختلف المؤسسات الإعلامية حول العالم والمعنيين بقطاع الإعلام والصحافة عامة.
كان لافتًا للغاية من خلال النقاشات، مدى الوعي الكبير والتعاطف مع القضية الفلسطينية من مختلف دول العالم، ومتابعة ما يجري في فلسطين يوميًا؛ الامر الذي عكس ما حققته القضية الفلسطينية من انتصارات شعبية حول العالم، في ظل ما يتعرض له الأشقاء في قطاع غزة من حرب إبادة وحشية.
في ضيافة السفير العُماني
لم تكن هذه الزيارة إلى كوريا الأولى بالنسبة لي، لكن في كل مرة أزور فيها هذا البلد، أستكشفُ أبعادًا جديدة، وأقوم بجولات مختلفة، ومن حُسن الطالع أن تزامنت هذه الزيارة مع إجازة عيد الفطر المبارك، كي أخوض تجربة مختلفة، وأرى كيف يحتفل العُمانيون المغتربون في مشرق الأرض بهذه المناسبة. وكانت الفرصة الأجمل في هذه الزيارة، أن تلقيت دعوةً كريمة من سعادة الشيخ زكريا بن حمد السعدي سفير سلطنة عُمان في كوريا، والذي استضافنا في منزله لتناول الغداء بصحبه كوكبة من الإخوة العُمانيين المقيمين في سيول، ولقد كان لقاءً مليئًا بمشاعر الود، ومحفوفًا بالسمت العُماني الطيب، من كرم الضيافة وطيب الجلسة، فضلًا عن حيوية الموضوعات التي تناقشنا حولها.
وكم غمرتني مشاعر الفخر والزهو عندما علمت أن مُعظم الحضور من أبناء عُمان البررة المتفوقين في الطب، والذين يعيشون في كوريا طلبًا للعلم؛ حيث يدرسون الزمالة في المستشفيات الكورية. وفي تلك اللحظات الآسرة، وبينما نتجاذب أطراف الحديث، مرت أمام بصري مشاهد تخيُّلية وكأنها فيلم سينمائي أخرجته بنفسي؛ إذ تصورتُ هؤلاء الطلبة في عصر آخر في قديم الزمان، يمخرون عباب البحر على متن سفينة مكتوب على جانبها "أسياد عُمان"، رافعين صورة الملاح العظيم أحمد بن ماجد، قادمين إلى ميناء بوسان الكوري، قادمين من صحار؛ حيث أبحرت سفينتهم، التي تُشبه سفننا القديمة، التي كان يصنعها العُمانيون في صور. مرت هذه المشاهد سريعًا وإذا بهؤلاء الطلبة أراهم اليوم بالمعاطف البيضاء حاملين بين أيديهم أجهزة طبية يكشفون بها على المرضى الكوريين، ليقدموا لهم الوصفات الطبية الناجعة.
أشعرتني هذه الزيارة في بيت سعادة الشيخ السفير، وكأنني في عُمان، فالجميع تقريبًا يرتدي الدشداشة والمصر العُماني المميز بألوانه الزاهية، يأخذون العلوم ويتبادلون أطراف الحديث، نمدُ أيدينا لتناول التمر مع القهوة العُمانية اللذيذة، ثم يأتي موعد الغداء، ونجد أنفسنا في قلب وليمة عُمانية شهية، تزخر بأشهى أطباق العرسية والهريس والقلية، حتى البخور العُماني كان يزيد الأجواء عبقًا وأصالة.
المنطقة المنزوعة السلاح (
DMZ
)
كل يومٍ قضيتُهُ في كوريا، كان بمثابة اكتشاف عظيم؛ سواء كان على مستوى الاشخاص الذين التقي بهم، أو من حيث التعرف على مستوى التقدم الذي تنعم به كوريا. في كل يوم كنت أتعلم درسًا جديدًا وأخوض تجربة نوعية، أخرجُ منها بالفائدة على المستويات الشخصية والعملية كافةً.
وأتيحت لي فرصة تاريخية، لزيارة المنطقة الحدودية منزوعة السلاح التي تفصل بين الكوريتين، الشمالية والجنوبية، وهي عبارة عن حزام أمني أشبه بـ"بافر زون"، يُمنع فيها حمل الأسلحة. ويعود تاريخ هذا المنطقة الواقعة على الشريط الحدودي، إلى مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار إبان الحرب الكورية، وتتولى قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة مسؤولية الدوريات الأمنية هناك طوال الأربعة وعشرين ساعة.
ومن المفارقات العجيبة، أن هذه المنطقة تعد من أكثر أماكن الجذب السياحي في كوريا الجنوبية، والتي يرتادها عدد كبير من السياح والزوار في مختلف أيام السنة. وهنا أجدها ميزة أخرى في الشعب الكوري، المُحب للسلام، والذي يوظف مثل تلك البقعة- بما فيها ربما من ذكريات مؤلمة- في الجذب السياحي، وكأنه يقول للعالم أن السلام يصنع الرخاء والازدهار، وأن الحرب لا تأتي سوى بالخراب والبؤس.
جزيرة جيجو
لم يكن لنا أن نعود من هذه الرحلة الرائعة دون أن نزور جزيرة "جيجو"، الواقعة جنوب غرب كوريا الجنوبية؛ حيث تُعد أكبر جزيرة فيها، كما إنها تشكل أكثر الأماكن المقصودة للاسترخاء وقضاء العطلات، وذلك بسبب مناخها الرائع المعتدل والبيئة الطبيعية الخلابة فضلًا عن تربتها الخصبة التي تشكلت من الحمم البركانية والتي ساهمت في تشكيل الجزيرة منذ حوالي مليوني سنة.
المشهد في هذه الجزيرة عجيب لأبعد مدى؛ حيث كنتُ أرى السهول الخضراء وكأنها بساط هائل ممتد نسجته أنامل الشعب الكوري، بعبقرية وذكاء وإبداع وجمال. ومن الطريف أنني عندما وطأت قدامي الجزيرة، فأول ما قُمتُ به أن جلست القرفصاء على الأرض، حتى استلقيت في كل هدوء واسترخاء على هذه المروج الخضراء، التي كانت تفوح منها رائحة الطبيعة الساحرة، وفي الخلفية كنتُ أُنصتُ باهتمام لصوت خرير الماء القادم من شلال جونغ بانغ الذي يُعد من أجمل وأطول الشلالات فيها، وهو قريب من البحر. وتضم هذه الجزيرة، والتي تعد من أكبر المقاطعات الكورية من حيث التقسيم الإداري، جبل ومتنزه هالاسان، ويُطلق عليه اسم جبل يونغجوسان، وهي كلمة تعني "الجبل المرتفع بما يكفي لسحب المجرة"!
تعلمتُ من النهضة الكورية، أنه في قلب الطبيعة ستجد مشروعات واعدة، دون الإخلال بالبيئة أو الإضرار بالطبيعة، ولذلك تضم هذه الجزيرة محطة لإنتاج الهيدروجين، وهي مشروع استثماري عملاق يُقدر حجمه بحوالي 56 مليار وون (41 مليون دولار) عندما يكتمل بحلول العام المقبل 2026. وتعرفت خلال زيارتي أن الحكومة الكورية تعكف على إطلاق مشاريع تجريبية لإعادة تدوير بطاريات السيارات الكهربائية في المعدات الزراعية وأنظمة تخزين الطاقة، ولقد لفت انتباهي أن هناك مجموعة من الحافلات تعمل بالطاقة المتجددة.
مدينة أنسونغ
لم تتوقف رحلتنا عند جيجو، ودفعني الفضول لاكتشاف المزيد من المدن والمقاطعات الكورية، وحرصتُ على المشاركة في جميع فعاليات برنامج الزيارة، ولذلك انتقلنا من جيجو الجميلة إلى المدينة الرائعة "أنسونغ"، تلك المدينة التي تجعل زائرها يعيش أجواء الفنون الشعبية والحرف اليدوية الكورية، كما إن هذه المنطقة تُروِّج لنفسها على أنها "مدينة الماجستير"، وتهتم بالزراعة وتُقيم عددًا من المهرجانات الزراعية المختلفة، منها مهرجان الكمثرى الآسيوية ومهرجان العنب ومهرجان الجينسنغ ومهرجان الأرز. وما يُميز هذه المدينة أن تقع في قلب كوريا، وتُعد مركز المدن في كوريا، كما إنها نقطة الاتصال بجميع الطرق السريعة في البلاد، وقد استمتعتُ فيها بالعروض الفلكلورية وفنون الطبول الكورية وغيرها من الفنون الأخرى الرائعة.
المطبخ الكوري
في كل بقعة ومدينة نمر عليها في كوريا، نكتشف أصنافًا مختلفة من الأطعمة الكورية، لكن المُميَّز فيها أن المطبخ الكوري يعتمد على طبق رئيس وأساسي وهو الأرز المطهو بالبخار مع الخضراوات واللحوم. وهناك أطباق جانبية متعددة، منها "الكيمتشى الكوري" والذي غالبًا ما كنتُ أجده حاضرًا في كل مائدة، وهو أشبه بالمخلل من حيث الطعم، وهو عبارة عن ثمرة ملفوف تُقدَّم مع التوابل الحارة الممزوجة في زيت السمسم والملح والثوم والزنجبيل وغيرها من المكونات. وفي الحقيقة، أزعم أنني من مُحبي المطبخ الآسيوي، لكن الأطعمة الكورية لها مذاق خاص للغاية، وتختلف عن أي أطعمة آسيوية، سواء في الصين أو تايلاند أو اليابان.
عنب مسقط!
أما أجمل الاكتشافات على الإطلاق، فكان العنب العُماني الأصل، والمعروف باسم "شاين مسقط"، وهي أحد أنواع العنب الذي كان يُزرع في مسقط، ونقله البرتغاليون من عُمان إلى جنوب أوروبا، وزرعوه بكميات كبيرة، ثم قام معهد الزراعة والبحوث الزراعية في اليابان (NARO) في عام 1990 بإدخال تقنيات الهندسة الوراثية من أجل تطوير هذا الصنف على مدى 10 سنوات من البحوث المتواصلة، وفي عام 2003 تقريبًا كُشف النقاب عن النوع المزروع حاليًا، ونستطع أن نجده في كل من كوريا والصين، وهو صنف ممتاز، حقق رواجًا هائلًا حتى صار مميزًا باسم "شاين مسقط" أو "عنب مسقط". ويمتاز هذا العنب بمذاقه الشهي الفريد، وقشرته الرقيقة جدًا، والأهم من ذلك أنه بدون بذور، أي يُمكن تناوله بكل سهولة.
ولأني شغوف بالزراعة، وأجد فيها بُعدًا ذاتيًا يمنحني شعورًا جميلًا، حيث إنني في كل مرة أغرس فيها نبتة أو ثمرة، أتيقنُ أن حياةً جديدةً قد بدأت، فالنبات كائن حي يتنفس مثلنا ويشعر مثلنا، يحزن إذا تخليت عنه، ويسعد كثيرًا كلما أوليته اهتمامًا. ولذلك حرصتُ على أن أجلب معي شتلات من عنب "شاين مسقط"، لكي أغرسها في موطنه الأصلي: عُمان، وتحديدًا في الجبل الأخضر؛ حيث الطقس المعتدل الشبيه بطقس حوض البحر الأبيض المتوسط، والذي يمنح هذا النوع من النباتات فرصة النمو في ظروف صحية جيدة للغاية.
وعندما عُدت بحمدالله إلى وطني الحبيب عُمان، ذهبت مباشرةً لزراعتها، وقد أهديتُ صديقي العزيز عبدالله الريامي، شتلةً من عنب "شاين مسقط"، وكم كنتُ سعيدًا بأن حلم الحصول على عنب "شاين مسقط" قد تحقق أخيرًا، وكذلك صديقي عبدالله الريامي الذي ارتسمت على مُحياه ابتسامة عريضة وغمرته الفرحة بهذه الشتلة، خاصة وأنه أحد المهتمين بالزراعة في الجبل الأخضر، ويحرص على زراعة العديد من الفواكه والخضراوات، وخاصةً النادر منها، وقد فاز في العام الماضي في مسابقة زيت الزيتون بالجبل الأخضر، حيث كانت ثمار الزيتون التي يزرعها ويهتم بها الأعلى جودة في إنتاج ذلك الذهب الأخضر.
وبعد أن استقر بي الترحال في مدينتي مسقط، بدأت في عدِّ الأيام والليالي، في انتظار العام المقبل لأقطف ثمار عنب "شاين مسقط"، بعد أن استقر في تربة موطنه الأصلي بعد غياب طويل جدًا.
وفي ختام هذه المغامرة الصحفية الجميلة، أتقدمُ بكل الشكر والتقدير إلى الأعزاء في سفارة جمهورية كوريا الجنوبية بسلطنة عُمان على تلك الدعوة الكريمة، وتسهيل مهمتي في بلادهم الجميلة، كما أشكر وزارة الخارجية الكورية التي قدمت كل الدعم أثناء الزيارة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
١٦-٠٤-٢٠٢٥
- جريدة الرؤية
"كوريا الآسرة".. مغامرة صحفية امتزجت بسحر الطبيعة والتقدم الصناعي
◄ النهضة الصناعية في كوريا لم تؤثر على جمال الطبيعة الخلابة ◄ ثنائية الحفاظ على البيئة والتطور التكنولوجي في كوريا نموذج يحتذى به ◄ مؤتمر الصحفيين العالمي سلط الضوء على القضية الفلسطينية بكل شجاعة ◄ المؤتمر ناقش الذكاء الاصطناعي وتغير المناخ ومستقبل الإعلام ◄ السفير زكريا السعدي رسول سلام وإخاء من عُمان إلى الشعب الكوري الصديق ◄ أغلب الطلبة العُمانيين في كوريا يدرسون الزمالة في تخصصات طبية ◄ تحول المنطقة منزوعة السلاح إلى مزار سياحي بارز دليل على عبقرية الشعب الكوري ◄ جزيرة جيجو منتجع سياحي مفتوح للاسترخاء والراحة ◄ مدينة أنسونغ سلة فواكه وخضراوات في كوريا ◄ عنب "شاين مسقط" المفاجأة الكبرى في كوريا ◄ العنب العُماني الأصل أجود الأنواع وأغلاهم سعرًا ◄ زراعة "شاين مسقط" في الجبل الأخضر تفتح آفاقًا واعدة سيول (كوريا)- حاتم الطائي ثمّة مثل كوري يقول "غو-ساينغ غيوت-إيه ناكي إيون-دا"؛ أي في نهاية المشقة تأتي السعادة، فبعد 10 ساعات من الطيران، من بينها ساعتان ترانزيت، أي قرابة نصف يوم كامل، قضيتها في رحلة رائعة من مسقط إلى سيول عاصمة كوريا الجنوبية، أسابق الزمن بخيالي لكي أصل في أسرع وقت إلى تلك المدينة الآسرة، التي خطفت قلبي وعقلي قبل سنوات.. وبينما أجلس على مقعدي في الطائرة، تذكرتُ عبارة ساحرة قرأتها قبل سنوات تقول "هناك وطن يتلبَّسُك"؛ أي يُسيطر على أفكارك ومشاعرك ويأسرك بجماله وتقدمه ونهضته، والوطن لا يعكس المعنى الحرفي للكلمة؛ بل المقصود الجغرافيا والطبيعة والأرض والنَّاس. والعاصمة سيول واحدة من أجمل وأفخم المدن التي يمكن للمرء العيش فيها، وتُصنَّف في المركز الثاني على قائمة المدن الأعلى جودة للحياة، لا سيما وأنها تتميز بتنظيم عالي المستوى، ونظافة فائقة، وتشتهر بتنوع حضاري وثقافي مُبهر. والإبهار هنا ليس فقط إبهارًا بصريًا، لما تراه عيناك من جمال مُدهش، لكنه كذلك إبهار إنساني، بما صنعه المواطن الكوري من نهضة تنموية وحضارية غير مسبوقة، وتعكس إصرارًا مُذهلًا على التطور والازدهار. الطبيعة والصناعة ورغم أن كوريا تهتم كثيرًا بالتصنيع، إلّا أن الطبيعة الجميلة تُدهشك في كل مكان تطأه قدماك؛ فالمساحات الخضراء تنتشر، وتتألق بألوان الزهور المختلفة، وترسم صورة جمالية فريدة لما يمكن أن تكون عليه مدن المستقبل، التي ترتكز على النهج الحداثي مع الحفاظ على الطبيعة. والزائر لكوريا الجنوبية، يستطيع بكل سهولة أن يلحظ مستوى النهضة الصناعية، والتي ترتكز في جوهرها على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تستهدف رفعة البلد وتقدمه في شتى المجالات. وربما أول شركة قد تتبادر إلى أذهان البعض عندما يقع على سمعه اسم "كوريا"، هي شركة سامسونج المتخصصة في الإلكترونيات، وكذلك شركة هيونداي وإل جي وكيا، لكن الأجمل أن نعرف شركات أخرى لها تأثير عالمي في مسارات الصناعات التكنولوجية، لكنها ربما لا تحظى بنفس شهرة العلامات التجارية التي نستخدمها تقريبًا في حياتنا اليومية. ومما لفت نظري أن سيول الكبرى تضم مراكز تكنولوجية معروفة مثل جانغنام ومدينة الإعلام الرقمية، وغيرها من الصناعات المتقدمة. مؤتمر الصحفيين العالمي ولقد سنحت لي فرصة المشاركة في أعمال مؤتمر الصحفيين العالمي "WJC" لعام 2025، والذي نظمته جمعية الصحفيين الكورية التي يرأسها بارك جونغ، وشارك فيه صحفيون من أكثر من 60 دولة حول العالم. وعُقد هذا المحفل الإعلامي الدولي البارز برعاية من وزارة الخارجية الكورية ووزارة الثقافة والرياضة والسياحة وهيئة الصحافة في كوريا. المؤتمر ناقش- على مدى عدة أيام- دور الذكاء الاصطناعي كمحور أساسي في الإعلام، وحقوق النشر والتحديات الأخلاقية، وتأثير الثورة الصناعية الرابعة على الإعلام. فيما تضمن المحور الثاني تغيُّر المناخ في العالم وأهمية رفع الوعي بالتحديات التي تواجه البشرية نتيجة التغير المناخي. وشهدت النقاشات تقديم أوراق العمل مُثرية وعروض تقديمية عكست عمق المحتوى ونبوغ المشاركين من مختلف المؤسسات الإعلامية حول العالم والمعنيين بقطاع الإعلام والصحافة عامة. كان لافتًا للغاية من خلال النقاشات، مدى الوعي الكبير والتعاطف مع القضية الفلسطينية من مختلف دول العالم، ومتابعة ما يجري في فلسطين يوميًا؛ الامر الذي عكس ما حققته القضية الفلسطينية من انتصارات شعبية حول العالم، في ظل ما يتعرض له الأشقاء في قطاع غزة من حرب إبادة وحشية. في ضيافة السفير العُماني لم تكن هذه الزيارة إلى كوريا الأولى بالنسبة لي، لكن في كل مرة أزور فيها هذا البلد، أستكشفُ أبعادًا جديدة، وأقوم بجولات مختلفة، ومن حُسن الطالع أن تزامنت هذه الزيارة مع إجازة عيد الفطر المبارك، كي أخوض تجربة مختلفة، وأرى كيف يحتفل العُمانيون المغتربون في مشرق الأرض بهذه المناسبة. وكانت الفرصة الأجمل في هذه الزيارة، أن تلقيت دعوةً كريمة من سعادة الشيخ زكريا بن حمد السعدي سفير سلطنة عُمان في كوريا، والذي استضافنا في منزله لتناول الغداء بصحبه كوكبة من الإخوة العُمانيين المقيمين في سيول، ولقد كان لقاءً مليئًا بمشاعر الود، ومحفوفًا بالسمت العُماني الطيب، من كرم الضيافة وطيب الجلسة، فضلًا عن حيوية الموضوعات التي تناقشنا حولها. وكم غمرتني مشاعر الفخر والزهو عندما علمت أن مُعظم الحضور من أبناء عُمان البررة المتفوقين في الطب، والذين يعيشون في كوريا طلبًا للعلم؛ حيث يدرسون الزمالة في المستشفيات الكورية. وفي تلك اللحظات الآسرة، وبينما نتجاذب أطراف الحديث، مرت أمام بصري مشاهد تخيُّلية وكأنها فيلم سينمائي أخرجته بنفسي؛ إذ تصورتُ هؤلاء الطلبة في عصر آخر في قديم الزمان، يمخرون عباب البحر على متن سفينة مكتوب على جانبها "أسياد عُمان"، رافعين صورة الملاح العظيم أحمد بن ماجد، قادمين إلى ميناء بوسان الكوري، قادمين من صحار؛ حيث أبحرت سفينتهم، التي تُشبه سفننا القديمة، التي كان يصنعها العُمانيون في صور. مرت هذه المشاهد سريعًا وإذا بهؤلاء الطلبة أراهم اليوم بالمعاطف البيضاء حاملين بين أيديهم أجهزة طبية يكشفون بها على المرضى الكوريين، ليقدموا لهم الوصفات الطبية الناجعة. أشعرتني هذه الزيارة في بيت سعادة الشيخ السفير، وكأنني في عُمان، فالجميع تقريبًا يرتدي الدشداشة والمصر العُماني المميز بألوانه الزاهية، يأخذون العلوم ويتبادلون أطراف الحديث، نمدُ أيدينا لتناول التمر مع القهوة العُمانية اللذيذة، ثم يأتي موعد الغداء، ونجد أنفسنا في قلب وليمة عُمانية شهية، تزخر بأشهى أطباق العرسية والهريس والقلية، حتى البخور العُماني كان يزيد الأجواء عبقًا وأصالة. المنطقة المنزوعة السلاح ( DMZ ) كل يومٍ قضيتُهُ في كوريا، كان بمثابة اكتشاف عظيم؛ سواء كان على مستوى الاشخاص الذين التقي بهم، أو من حيث التعرف على مستوى التقدم الذي تنعم به كوريا. في كل يوم كنت أتعلم درسًا جديدًا وأخوض تجربة نوعية، أخرجُ منها بالفائدة على المستويات الشخصية والعملية كافةً. وأتيحت لي فرصة تاريخية، لزيارة المنطقة الحدودية منزوعة السلاح التي تفصل بين الكوريتين، الشمالية والجنوبية، وهي عبارة عن حزام أمني أشبه بـ"بافر زون"، يُمنع فيها حمل الأسلحة. ويعود تاريخ هذا المنطقة الواقعة على الشريط الحدودي، إلى مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار إبان الحرب الكورية، وتتولى قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة مسؤولية الدوريات الأمنية هناك طوال الأربعة وعشرين ساعة. ومن المفارقات العجيبة، أن هذه المنطقة تعد من أكثر أماكن الجذب السياحي في كوريا الجنوبية، والتي يرتادها عدد كبير من السياح والزوار في مختلف أيام السنة. وهنا أجدها ميزة أخرى في الشعب الكوري، المُحب للسلام، والذي يوظف مثل تلك البقعة- بما فيها ربما من ذكريات مؤلمة- في الجذب السياحي، وكأنه يقول للعالم أن السلام يصنع الرخاء والازدهار، وأن الحرب لا تأتي سوى بالخراب والبؤس. جزيرة جيجو لم يكن لنا أن نعود من هذه الرحلة الرائعة دون أن نزور جزيرة "جيجو"، الواقعة جنوب غرب كوريا الجنوبية؛ حيث تُعد أكبر جزيرة فيها، كما إنها تشكل أكثر الأماكن المقصودة للاسترخاء وقضاء العطلات، وذلك بسبب مناخها الرائع المعتدل والبيئة الطبيعية الخلابة فضلًا عن تربتها الخصبة التي تشكلت من الحمم البركانية والتي ساهمت في تشكيل الجزيرة منذ حوالي مليوني سنة. المشهد في هذه الجزيرة عجيب لأبعد مدى؛ حيث كنتُ أرى السهول الخضراء وكأنها بساط هائل ممتد نسجته أنامل الشعب الكوري، بعبقرية وذكاء وإبداع وجمال. ومن الطريف أنني عندما وطأت قدامي الجزيرة، فأول ما قُمتُ به أن جلست القرفصاء على الأرض، حتى استلقيت في كل هدوء واسترخاء على هذه المروج الخضراء، التي كانت تفوح منها رائحة الطبيعة الساحرة، وفي الخلفية كنتُ أُنصتُ باهتمام لصوت خرير الماء القادم من شلال جونغ بانغ الذي يُعد من أجمل وأطول الشلالات فيها، وهو قريب من البحر. وتضم هذه الجزيرة، والتي تعد من أكبر المقاطعات الكورية من حيث التقسيم الإداري، جبل ومتنزه هالاسان، ويُطلق عليه اسم جبل يونغجوسان، وهي كلمة تعني "الجبل المرتفع بما يكفي لسحب المجرة"! تعلمتُ من النهضة الكورية، أنه في قلب الطبيعة ستجد مشروعات واعدة، دون الإخلال بالبيئة أو الإضرار بالطبيعة، ولذلك تضم هذه الجزيرة محطة لإنتاج الهيدروجين، وهي مشروع استثماري عملاق يُقدر حجمه بحوالي 56 مليار وون (41 مليون دولار) عندما يكتمل بحلول العام المقبل 2026. وتعرفت خلال زيارتي أن الحكومة الكورية تعكف على إطلاق مشاريع تجريبية لإعادة تدوير بطاريات السيارات الكهربائية في المعدات الزراعية وأنظمة تخزين الطاقة، ولقد لفت انتباهي أن هناك مجموعة من الحافلات تعمل بالطاقة المتجددة. مدينة أنسونغ لم تتوقف رحلتنا عند جيجو، ودفعني الفضول لاكتشاف المزيد من المدن والمقاطعات الكورية، وحرصتُ على المشاركة في جميع فعاليات برنامج الزيارة، ولذلك انتقلنا من جيجو الجميلة إلى المدينة الرائعة "أنسونغ"، تلك المدينة التي تجعل زائرها يعيش أجواء الفنون الشعبية والحرف اليدوية الكورية، كما إن هذه المنطقة تُروِّج لنفسها على أنها "مدينة الماجستير"، وتهتم بالزراعة وتُقيم عددًا من المهرجانات الزراعية المختلفة، منها مهرجان الكمثرى الآسيوية ومهرجان العنب ومهرجان الجينسنغ ومهرجان الأرز. وما يُميز هذه المدينة أن تقع في قلب كوريا، وتُعد مركز المدن في كوريا، كما إنها نقطة الاتصال بجميع الطرق السريعة في البلاد، وقد استمتعتُ فيها بالعروض الفلكلورية وفنون الطبول الكورية وغيرها من الفنون الأخرى الرائعة. المطبخ الكوري في كل بقعة ومدينة نمر عليها في كوريا، نكتشف أصنافًا مختلفة من الأطعمة الكورية، لكن المُميَّز فيها أن المطبخ الكوري يعتمد على طبق رئيس وأساسي وهو الأرز المطهو بالبخار مع الخضراوات واللحوم. وهناك أطباق جانبية متعددة، منها "الكيمتشى الكوري" والذي غالبًا ما كنتُ أجده حاضرًا في كل مائدة، وهو أشبه بالمخلل من حيث الطعم، وهو عبارة عن ثمرة ملفوف تُقدَّم مع التوابل الحارة الممزوجة في زيت السمسم والملح والثوم والزنجبيل وغيرها من المكونات. وفي الحقيقة، أزعم أنني من مُحبي المطبخ الآسيوي، لكن الأطعمة الكورية لها مذاق خاص للغاية، وتختلف عن أي أطعمة آسيوية، سواء في الصين أو تايلاند أو اليابان. عنب مسقط! أما أجمل الاكتشافات على الإطلاق، فكان العنب العُماني الأصل، والمعروف باسم "شاين مسقط"، وهي أحد أنواع العنب الذي كان يُزرع في مسقط، ونقله البرتغاليون من عُمان إلى جنوب أوروبا، وزرعوه بكميات كبيرة، ثم قام معهد الزراعة والبحوث الزراعية في اليابان (NARO) في عام 1990 بإدخال تقنيات الهندسة الوراثية من أجل تطوير هذا الصنف على مدى 10 سنوات من البحوث المتواصلة، وفي عام 2003 تقريبًا كُشف النقاب عن النوع المزروع حاليًا، ونستطع أن نجده في كل من كوريا والصين، وهو صنف ممتاز، حقق رواجًا هائلًا حتى صار مميزًا باسم "شاين مسقط" أو "عنب مسقط". ويمتاز هذا العنب بمذاقه الشهي الفريد، وقشرته الرقيقة جدًا، والأهم من ذلك أنه بدون بذور، أي يُمكن تناوله بكل سهولة. ولأني شغوف بالزراعة، وأجد فيها بُعدًا ذاتيًا يمنحني شعورًا جميلًا، حيث إنني في كل مرة أغرس فيها نبتة أو ثمرة، أتيقنُ أن حياةً جديدةً قد بدأت، فالنبات كائن حي يتنفس مثلنا ويشعر مثلنا، يحزن إذا تخليت عنه، ويسعد كثيرًا كلما أوليته اهتمامًا. ولذلك حرصتُ على أن أجلب معي شتلات من عنب "شاين مسقط"، لكي أغرسها في موطنه الأصلي: عُمان، وتحديدًا في الجبل الأخضر؛ حيث الطقس المعتدل الشبيه بطقس حوض البحر الأبيض المتوسط، والذي يمنح هذا النوع من النباتات فرصة النمو في ظروف صحية جيدة للغاية. وعندما عُدت بحمدالله إلى وطني الحبيب عُمان، ذهبت مباشرةً لزراعتها، وقد أهديتُ صديقي العزيز عبدالله الريامي، شتلةً من عنب "شاين مسقط"، وكم كنتُ سعيدًا بأن حلم الحصول على عنب "شاين مسقط" قد تحقق أخيرًا، وكذلك صديقي عبدالله الريامي الذي ارتسمت على مُحياه ابتسامة عريضة وغمرته الفرحة بهذه الشتلة، خاصة وأنه أحد المهتمين بالزراعة في الجبل الأخضر، ويحرص على زراعة العديد من الفواكه والخضراوات، وخاصةً النادر منها، وقد فاز في العام الماضي في مسابقة زيت الزيتون بالجبل الأخضر، حيث كانت ثمار الزيتون التي يزرعها ويهتم بها الأعلى جودة في إنتاج ذلك الذهب الأخضر. وبعد أن استقر بي الترحال في مدينتي مسقط، بدأت في عدِّ الأيام والليالي، في انتظار العام المقبل لأقطف ثمار عنب "شاين مسقط"، بعد أن استقر في تربة موطنه الأصلي بعد غياب طويل جدًا. وفي ختام هذه المغامرة الصحفية الجميلة، أتقدمُ بكل الشكر والتقدير إلى الأعزاء في سفارة جمهورية كوريا الجنوبية بسلطنة عُمان على تلك الدعوة الكريمة، وتسهيل مهمتي في بلادهم الجميلة، كما أشكر وزارة الخارجية الكورية التي قدمت كل الدعم أثناء الزيارة.


جريدة الرؤية
٢٦-١٠-٢٠٢٤
- جريدة الرؤية
منتدى شباب عُمان الأول.. خطوة نحو المستقبل
حمد الناصري برعاية صاحب السُّمو السيد الدكتور أدهم بن تركي آل سعيد، أقيم مُنتدى شباب عُمان في نسخته الأولى، تحت عنوان "الذكاء الاصطناعي ومستقبل العالم الجديد" في الفترة الصباحية، بينما تضمنت الفترة المسائية احتفالية بعنوان "عُمان ملهمة"، مكونة مفرداتها من شقين "عُمان"؛ اسم بلدنا العزيز بعراقته وأصالته وحاضره البهي والكبير بإنجازاته وتطلعاته، والشق الآخر "ملهمة" أي أنها دولة بكل ما تمثله من ألق وتميز يلهم الآخرين، ويُحفز الدول على التطلع إلى التجربة العُمانية، إنه عنوان يهز الوجدان، ويُشعِر كل عُماني بالفخر والسُّمو والمجد الخالد. وقد استهل حاتم الطائي الأمين العام لمنتدى شباب عُمان ورئيس اللجنة العليا المُنظِّمة للحفل أعمال المنتدى، بكلمة ترحيبية أثنى فيها على الأطراف التي أسهمت في رعاية ودعم الحفل من المؤسسات والأفراد مرحبًا بجميع المشاركين في حفل الافتتاح. وقد أشار الطائي في بداية الكلمة الترحيبية إلى متغيرات قادمة وصفها بالهائلة، قائلا "إنَّ هذا المنتدى ينعقد تحت ذلك العنوان المهم والاستشرافي، بينما يشهد العالم من حولنا متغيرات هائلة على صعيد التطورات التكنولوجية، والابتكارات التي تعمل على تغيير مجرى حياة البشر، وإيجاد مسارات جديدة في العديد من المجالات، لا سيما فيما يتعلق بالإنتاج والتنمية والاقتصاد، فضلًا عن الطفرة المعرفية التي ساعدت الإنسان على التوصل إلى نتائج لم تكن معروفة من قبل، وأسهمت في إحداث تحولات جذرية في فهمنا للواقع الذي نعيشه". وذكر الطائي في كلمته أن النسخة الأولى من أعمال منتدى شباب عُمان تستهدف الاحتفاء بأصحاب الإنجاز وفتح المجال واسعًا أمام خلق قدوات جديدة، تزامنًا مع احتفالات البلاد بيوم الشباب العُماني. وحول تزايد الاهتمام بتقنيات الثورة الصناعية الرابعة نوه الطائي إلى "ما أحدثته من طفرات نوعية في العديد من المجالات، والعالم يترقب بشغف كل تطورٍ في مجال الذكاء الاصطناعي، ليس فقط لما يسهم به من سرعة إنجاز المهام وغيرها، لكن الأهم أنه يساعد على بلوغ نتائج علمية ومعرفية غير مسبوقة في وقت قياسي". وبين رئيس تحرير جريدة الرؤية العُمانية في كلمة الافتتاح "أن الحديث عن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تطبيقات رقمية تساعد البعض على إتمام بحث علمي هنا أو تصميم صورة أو مقطع فيديو هناك؛ بل بات الأمر ذا صلةٍ قويةٍ بالتقدم الاقتصادي والمعرفي والعلمي، وسط سعي حثيث من أجل توظيف مثل هذه التقنيات الثورية في خدمة المجتمعات ومساعدتها على النمو وتخطي العوائق". ومن منطلق تعزيز التوجه الاستراتيجي لبناء اقتصاد رقمي مزدهر ورصين، فقد ذكر أن الأهداف من البرنامج الوطني للذكاء الصناعي والتقنيات المتقدمة تثبيت المرتكزات التي استندت عليها الرؤية الوطنية "عُمان 2040"، وفي مقدمتها: تحسين ترتيب سلطنة عُمان في التقرير السنوي لمؤشر الجاهزية الحكومية للذكاء الاصطناعي الذي يصدر عن مؤسسة إنسايت أوكسفورد، وزيادة عدد الشركات الناشئة المتخصصة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، والشركات العاملة في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب جذب وتنمية الاستثمارات في هذا القطاع". وكما هو معروف فأن الذكاء الاصطناعي، له جوانب مبتكرة وإيجابية كثيرة ومتنوعة ينبغي علينا أن نستخدمها في خير البشرية وتطور رفاه الحياة، وبنفس الوقت ننأى بأنفسنا عن الاستخدامات السلبية والضارة، وقد أوضح الطائي حول ذلك الموضوع قائلًا إن "الذكاء الاصطناعي سلاحٌ ذو حدين، ينبغي علينا جميعًا أن نستخدمه في خير البشرية وصلاحها وتطورها، وأن نتكاتف من أجل مقاومة الاستخدامات السلبية له، فالتقنيات الحديثة نعمٌ عظيمة من الخالق، وما تعلمه الإنسان وابتكره في هذا الجانب يأتي مصداقًا لقوله تعالى في سورة العلق: "علم الإنسان ما لم يعلم"، لذلك ينبغي أن يكون هذا العلم مفيدًا ونافعًا للبشرية بعيدًا عن كل شر أو ضرر". وفي نهاية كلمته الافتتاحية دعا الطائي الشباب العُماني والشابات لتعلُّم التقنيات الحديثة، وأن يبتعدوا عن طريق الوظائف التقليدية، التي باتت تعاني من حالة تخمة كبيرة، وفي المقابل، يتوجهوا إلى التخصصات النوعية القائمة على التقنيات الحديثة ومخرجات الثورة الصناعية الرابعة، وفي المقدمة منها، الذكاء الاصطناعي، لأن المستقبل الذي بدأ بالفعل سيقوده شبابنا المتسلح بالعلم المتقدم وبالمعرفة العميقة والتخصصية بهذه المجالات، التي ستعمل على تغيير حياتنا نحو الأفضل. كما قدم البروفيسور تشينغ تشيه تسال عميد كلية الهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب في جامعة تشونغ هيسينغ الوطنية في تايوان، ورقة العمل الرئيسية الأولى، حول صناعة أشباه الموصلات وتوظيف الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، علمًا بأن تايوان هي الدولة الرائدة والمُصدِّر الرئيس لأشباه الموصلات؛ لأنها موطِن لشركة صناعة الرقائق الإلكترونية تايوان لصناعة أشباه الموصلات وفيها شركة (TSMC)؛ وهي أكبر شركة لصناعة الرقائق في العالم؛ إذ تستحوذ على أكثر من 50 بالمئة من الإنتاج العالمي للرقائق العادية ومتوسطة القوة، كما تستحوذ الشركة على أكثر من 90 بالمئة من الإنتاج العالمي للرقائق فائقة التطور. وأعقب جلسة الافتتاح انطلاق أعمال الورش التدريبية المتخصصة المصاحبة؛ والتي استهلها البروفيسور يانغ مينغ دير عميد كلية الهندسة والأستاذ في قسم الهندسة المدنية جامعة تشونغ شينغ الوطنية بتايوان، بورشة حول "الاستخدامات التنموية للذكاء الاصطناعي"، كما قدم البروفيسور بو تشونغ تشوانغ الورشة التدريبية الثانية: "المحتوى الإخباري الجديد وتقنيات الذكاء الاصطناعي"، ثم الورشة التدريبية الثالثة بعنوان "الإنتاج الافتراضي وخوارزميات الذكاء الاصطناعي" والتي قدمها البروفيسور هسيانغ واي لاي أستاذ قسم (RTV) بجامعة تايوان الوطنية. وقدمت البروفيسورة شوهوي صوفي تشينغ الأستاذ المشارك بقسم فنون الاتصال جامعة تشاويانغ للتكنولوجيا بتايوان، في ختام فعاليات المنتدى الصباحية الورشة التدريبية "الذكاء الإصطناعي وصناعة التأثير في الرأي العام". وانطلقت أعمال الجلسة المسائية كاحتفالية شبابية تحفيزية، برعاية اللواء الركن متقاعد المكرم سالم بن مسلم قطن نائب رئيس مجلس الدولة. وجاءت "عُمان ملهمة" كمنصة أتاحت للمؤثرين العُمانيين مجتمعيًا من جيل الشباب استعراض عصارة تجاربهم، فاتحين نوافذ الإبداع والأمل أمام قطاع الشباب نحو التفكير الإيجابي وصناعة التغيير. وكان من بين الحضور شخصيات كثيرة من المهتمين والمتابعين ومن بينهم المهندس الرائع إسحاق الشرياني، صاحب فكرة صناعة البشر. واختتم الحفل، بتكريم مُتميز من لدن اللجنة الرئيسية لأعمال المُنتدى للشباب المؤثرين المشاركين في منصة "عُمان ملهمة"، إلى جانب تتويج الفائزين بهاكاثون التسويق الرقمي 2024. خلاصة القول.. إنَّ الاحتفاء بصناع المستقبل هو خطوة في رحلة الألف ميل لمسيرة التطور والتقدم العُمانية والدخول في عصر الذكاء الصناعي بقوة وفاعلية من خلال تمكين الطاقات العُمانية لتحمل مسؤولياتهم اتجاه الوطن والمساهمة في بناء المستقبل وتفعيل الممكنات الإبداعية الملهمة والأفكار في رفد مسيرة نهضة عُمان المتجددة التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله تعالى بقوة وإرادة صلبة وعزم لا ينثني. إنَّ شبابنا هم ذخرنا وبناة مستقبل وطننا وإلهامهم وتحفيزهم واجب على كل عُماني لصناعة مستقبل متألق وزاهي، لتكون عُماننا ملهمة للأمم والشعوب ولتبقى ما بقي الزمان حاضرة المجد والتاريخ.


جريدة الرؤية
١٥-١٠-٢٠٢٤
- جريدة الرؤية
روبوتات إيلون ماسك وصلت.. هل نقول أهلًا بالمستقبل؟!
مؤيد الزعبي تحدثنا من قبل عن أن الروبوتات المنزلية قادمة لا محال، وبأننا على أعتاب مرحلة نجد فيها الروبوتات تساعدنا في أعمالنا المنزلية؛ تنظف وتطبخ وترتب وترعى أطفالنا وتهتم بحيواناتنا الأليفة وحتى مزروعاتنا البيتية، وبعد سنوات سنجدها تطبطب وتدلل وترعى مشاعرنا ونفسيتنا، وتهتم بشؤوننا الأسرية والعائلية. وقبل أن نخوض في هذه المغامرة، دعني أحدثك- عزيزي القارئ- إلى أين وصلنا من تطور في هذا المجال خصوصًا بعد أن طرح إيلون ماسك قبل أيام الجيل الجديد من الروبوت المنزلي "أوبتيموس"، وهنا دعني أتساءل معك- عزيزي القارئ- هل فعلًا روبوتات ماسك تستطيع القيام بكل شيء كما أعلن؟، أم أنها ما زالت تحتاج للتطوير لتلبي احتياجاتنا؟ قد أقول لك بكل بساطة أهلًا بالمستقبل، وبأن الروبوتات المنزلية على أعتاب باب بيتك، ولكن قبل أن أقولها بهذه البساطة دعني أخوض من خلال هذا الطرح في مواضيع أكثر تعقيدًا لنصل لفهم أعمق لما نحن مقبلون عليه. عندما أتحدث عن الروبوتات المنزلية فأنا لا أقتصر الحديث عن روبوتات إيلون ماسك؛ بل أقصد الكثير من الروبوتات المشابهة فهناك روبوت Roomba الذي تطوره شركة iRobot والذي هو عبارة عن مكنسة روبوتية، والروبوت Astro الذي تطوره شركة أمازون، والروبوت Nadine من جامعة نانيانغ التكنولوجية، وهناك روبوتات أجد بأن لها حظ وفير في أن تدخل سوق الروبوتات المنزلية مثل روبوت Figure 02 من شركة Figure AI، والروبوت البشري Atlas الذي تطوره شركة "بوسطن دينامكس"، وهناك الكثير من الروبوتات المنزلية التي تطورها سامسونج وتشاومي، ولهذا نحن نتحدث هنا عن الروبوتات المنزلية بشكل كامل ولا أخصص الحديث عن روبوت بعينه. صحيحٌ أن الروبوت "أوبتيموس" قد ظهر على المسرح قبل أيام في فعالية We Robot "واثق الخطى يمشي ملكًا" أقصد يمشي بصورة متزنة ويتحرك بطريقة سلسلة، وصحيح أنه قام بتقديم المشروبات والهدايا وتفاعل مع الحضور لكن هذا كله غير كافٍ لنختبر مدى قدرته على التعامل مع بيئات أكثر صعوبة وتعقيدًا وأتحدث هنا عن البيئة المنزلية، والتي رغم بساطتها وبساطة أعمالها بالنسبة لنا نحن البشر إلا أنها معقدة وصعبة للروبوتات خصوصًا ونحن نتحدث عن متغيرات كثيرة يجب أن نأخذها بالحسبان عند تقييم أي روبوت منزلي واعتماد مدى كفاءته، فالبيئة المنزلية المليئة بالأثاث والأجهزة المنزلية وتصميم البيت نفسه من غرف وحمامات؛ كل هذه تُعتبر ظروفاً فيها الكثير من التحديات بالنسبة للروبوت، فلا يقتصر عمل الروبوت على قدرته على التجول في المنزل أو حمل الأشياء بل أيضًا يتطلب معرفته بكيفية التعامل مع كل هذا، والأهم كيفية تصرفه في الحالات الطارئة أو في الظروف الاستثنائية. من حقنا أن نتساءل أنا وأنت عزيزي القارئ، كيف سيتعامل الروبوت مع مخاطر محتملة في البيئة المنزلية مثل الحرائق أو مشاكل تسرب الماء أو حتى الفيضانات وحتى كيف سيتعامل مع مشاكل بسيطة قد تحدث في أي بيت من انقطاع الكهرباء أو الانترنت، وكيف سيتعامل مع المخاطر البشرية مثل السرقة أو الاعتداء على المنازل، والأهم كيف سيتعامل مع الأطفال ويرعاهم في حالات معقدة وخطرة مثل ابتلاع الأطفال لقطع الألعاب، أو حتى رعايتهم وقت المرض أو التعب أو الإصابة، وبالحديث عن رعاية المسنين فكيف سيتعامل الروبوت مع أمراض المسنين والتعامل مع أدويتهم والرعاية اليومية الخاصة التي يحتاجونها، ولهذا عندما يُعلن إيلون ماسك أن روبوته "أصبح قادرًا على إنجاز أي مهمة" علينا أن نوجه له كل هذه الأسئلة وغيرها العشرات وبناءً على إجابته سنحكم فعلًا فيما إذا كان الروبوت أوبتيموس قادرًا فعلًا على القيام بجميع المهام أم لا!، وحتى وإن كان قادرًا فعلًا فمن حقنا أن نتساءل عن الخصوصية والأمان الإلكتروني الذي ينتظرنا عندما تدخل هذه الروبوتات منازلنا وتقتحم حياتنا. في النهاية دعني أقول لك إنني من أشد المتفائلين والمنتظرين للروبوتات المنزلية التي تطبخ وتنظف وتتواصل مع البقالة وتحمل وترتب الأشياء، وحتى تلك التي ترعانا كبشر في مختلف الظروف والحاجيات، ولكن من وجهة نظري أننا مازلنا نحتاج للوقت لتطوير كل هذه الروبوتات، وحتى نطورها يجب أن نستخدمها ونستعملها وأن نسمح بأن تدخل بيوتنا لنجربها ونختبر مشاكلها، وهذا ليس دوري ودورك بل على هذه الشركات أن تقوم باختبار روبوتاتها في مكانها المستقبلي "المنازل" وليس فقط الاكتفاء بتطورها هناك في شركاتهم أو في بيئاتهم الافتراضية، فالبيئات الحقيقية لمنازلنا تحفها المخاطر ويتخللها المفاجآت، ولن نستطيع تقييم أي روبوت طالما مازال عرضه وتقديمه يقتصر على المنصات والمسارح أو عبر الشاشات.