
هل تتخلى الصين عن حيادها ولماذا تخشى هزيمة روسيا؟
وهو ما أثار تساؤلات فيما إذا كانت الصين بصدد تغيير موقفها وإعادة حساباتها الإستراتيجية على ضوء ما يشهده العالم من تطورات وتحولات ليست ببعيدة عنها.
فقد نقلت وسائل إعلام صينية وغربية عن وزير الخارجية الصيني قوله إن بلاده "لا تريد أن ترى روسيا تخسر الحرب في أوكرانيا"، لأن ذلك قد يثير مخاوف من أن تحول الولايات المتحدة تركيزها الكامل باتجاهها.
التصريح المفاجئ جاء خلال لقاء الوزير الصيني مع مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس الثلاثاء الماضي على هامش مباحثات الجانبين في بروكسل والتي طالبت بكين بالتوقف عن تقويض أمن أوروبا.
ومنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، ظلت الصين تدعو بانتظام إلى محادثات السلام واحترام وحدة أراضي جميع الدول، بما فيها أوكرانيا.
بكين لم تتبنَّ رسميا تصريحات وزير خارجيتها الأخيرة، ويظهر ذلك من خلال تصريحات أدلت بها المتحدثة باسم وزارة الخارجية بعد 4 أيام من تصريحات الوزير، حرصت خلالها على التأكيد أن "الصين لا تتدخل في القضية الأوكرانية، وأن موقفها موضوعي وثابت: التفاوض، ووقف إطلاق النار، والسلام"، معتبرة أن استمرار الأزمة الأوكرانية لا يخدم مصالح أحد.
الرأي نفسه، تبناه العديد من المحللين السياسيين في الصين، الذين استبعدوا أن تغير بلادهم مواقفها المعلنة تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ضمن هؤلاء البروفيسور فيكتور غاو، نائب رئيس مركز الصين والعولمة، الذي قال في تصريحات لبرنامج "ما وراء الخبر" إن استمرارية هذه الحرب لا تخدم أي طرف.
الكثيرون في الصين يرون أن تصريح الوزير الصيني تم تأويله بشكل خاطئ أو "أن هناك من يحاول التضليل بشأن الموقف الصيني"، بل اتهم غاو قوى في الغرب بتصيد الفرص وتقديم تفسير خاطئ لموقف الصين.
توتر مع أوروبا
ورغم إعادة بكين تكرار موقفها تجاه الحرب، فإنها على ما يبدو على أعتاب أزمة سياسية ليست بالبسيطة مع أوروبا، ويظهر هذا جليا من تصريحات كالاس، التي دعت بكين للتوقف عما أسمته تقويض أمن أوروبا.
وقالت كالاس إن "الشركات الصينية توفر طوق نجاة لموسكو للمحافظة على مجهودها الحربي ضد أوكرانيا، وتنفّذ بكين هجمات إلكترونية وتتدخل بديمقراطياتنا.. وهذه الأفعال تضر بأمن أوروبا".
المخاوف الأوروبية يفسرها أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف، الدكتور حسني عبيدي، بأنها تنبع من إدراك الأوروبيين بأنه لولا الدعم الصيني لروسيا لَما استطاعت أن تستمر في حربها على أوكرانيا.
لكن الأوروبيين لا يستطيعون التخلي عن الصين بسبب العلاقات الاقتصادية والسياسية التي تجمعهم بها.
وعلى ما يبدو فإن الأوروبيين ليسوا وحدهم الذين يشككون في مواقف الصين تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، فمن وجهة نظر جيمس روبنز، نائب وزير الدفاع الأميركي السابق فإن الصين تستفيد من مواصلة الحرب في أوكرانيا وتخشى فعلا من استدارة واشنطن تجاهها فيما لو وضعت الحرب أوزارها.
وما يقلق واشنطن هو أن الصين أظهرت تطلعها لتوسيع نطاق نفوذها في المنطقة وتوسيع أسطولها البحري، وهو ما من شأنه أن يضر بالمصالح الأميركية، بحسب ما صرح به روبنز لـ"ما وراء الخبر".
ومن وجهة نظر مؤيدي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنه حاول منذ عودته للبيت الأبيض قبل 6 أشهر أن يحسّن علاقات بلاده مع الصين، وأن لا يجعل قضية الحرب الروسية الأوكرانية تقف عقبة أمام ذلك، رغم إدراكه بأن هذه العلاقات معقدة تجاريا وأمنيا.
لكن الأوروبيين لا يثقون بأن أي تسويات سيتوصل لها ترامب مع الصين بالضرورة أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح القارة العجوز، لذلك هم يتطلعون لمقاربة توفيقية مع الصين خاصة بهم وحدهم، كما يقول عبيدي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 39 دقائق
- الجزيرة
طوكيو تتعهد بعدم التنازل السهل في المحادثات التجارية مع أميركا
أكد رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا الأحد أنه "لن يتنازل بسهولة" في المحادثات مع واشنطن في وقت تسعى طوكيو لتجنّب رسوم جمركية أميركية تصل نسبتها إلى 35% على السلع اليابانية. وقال إيشيبا في برنامج حواري: "لن نتنازل بسهولة. لهذا السبب يستغرق الأمر وقتا وهو صعب لهذا السبب أيضا". جاءت تصريحاته في وقت تسارع اليابان للتفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل مهلة الأربعاء النهائية المحددة للتوصل إلى اتفاقيات تجارية. وبينما فرض ترامب رسوما جمركية واسعة النطاق نسبتها 10% على الواردات من معظم شركاء بلاده التجاريين في أبريل/ نيسان الماضي كشف عن رسوم بمعدلات أعلى تستهدف عشرات الاقتصادات بما فيها اليابان، لكنه علّق تطبيقها مفسحا المجال للمفاوضات. وتنقضي مدة تعليقها يوم 9 من يوليو/ نيسان الجاري ما يعني بأن الرسوم المرتفعة ستفرض ما لم تتوصل البلدان المعنية إلى اتفاقات مع واشنطن لتجنبها. وأفاد ترامب بأنه سيوجه رسالة إلى اليابان يطلب منها "دفع 30% أو 35% أو أيا كان الرقم الذي نحدده"، واصفا العلاقة التجارية الثنائية بأنها "غير منصفة". ويطالب ترامب اليابان باستيراد المزيد من المركبات والرز من الولايات المتحدة. وفي برنامج الأحد الحواري، شدد إيشيبا على أن اليابان، أكبر دولة مستثمرة في الاقتصاد الأميركي، يجب أن تحظى بمعاملة مختلفة عن باقي البلدان. وقال: "ما هو الأمر غير المنصف؟ وهو غير منصف من أي ناحية؟ علينا دراسة" مزاعم الولايات المتحدة"كلا على حدة". وأضاف: "نحن حلفاء، لكن علينا أن نقول ما ينبغي علينا قوله. نحن أكبر دولة مستثمرة في العالم وأكبر جهة توفر وظائف (في الولايات المتحدة). نحن مختلفون". وفي برنامج آخر الأحد، قال إيشيبا إن اليابان "تستعد للتعامل مع كافة الأوضاع"، وذلك ردا على سؤال بشأن الكيفية التي ينوي من خلالها التعامل مع رسالة ترامب. محادثات عميقة قالت الحكومة اليابانية أمس إن مفاوض الرسوم الجمركية الياباني ريوسي أكازاوا أجرى "محادثات معمقة" عبر الهاتف مع وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك يومي الخميس والسبت. وذكرت الحكومة اليابانية في بيان أنها تعتزم مواصلة التنسيق الفعال مع الجانب الأميركي بشأن هذه المسألة، إذ تعمل على تجنب فرض رسوم جمركية أعلى. وأحجم البيت الأبيض عن التعليق على البيان، واكتفى بالإشارة إلى أحدث تعليقات ترامب بشأن اليابان. وهاجم ترامب اليابان قبل أيام بسبب ما قال إنه إحجام طوكيو عن استيراد الأرز المزروع في الولايات المتحدة، واتهم اليابان بالانخراط في ممارسة تجارة "غير عادلة" في قطاع السيارات.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
سيّارات تسلا في مأزق.. ماسك غير مكترث وترامب يهدّد
قالت صحيفة وول ستريت جورنال، إن شركة صناعة السيارات الكهربائية تسلا تشهد حالة من الفوضى وتعاني من أسوأ فترات مبيعاتها، في وقت يبدو أن رئيسها التنفيذي إيلون ماسك غير مكترث بمستقبلها، بينما يتجه الرئيس دونالد ترامب إلى اتخاذ قرارات ستؤثر سلبا على رواجها. وجاء في تقرير للصحيفة التي تعنى بالشؤون المالية والاقتصادية، أن تسلا تعاني حاليا من تقادم تشكيلة سياراتها ومن انخفاض مبيعاتها، لكن إيلون ماسك حوّل تركيزه إلى سيارات الأجرة الآلية والروبوتات. وأعلنت الشركة الأربعاء الماضي، أن مبيعاتها من السيارات في السوق العالمية انخفضت بنسبة 13.5% في الربع الثاني، مقارنةً بالعام الماضي. كما انخفض تسليم السيارات بنسبة 13% في الربع الأول. وفي غضون ذلك، أنتجت شركات منافسة، في أميركا والصين، سيارات عالية التقنية، فاستحوذت على حصة سوقية كبيرة، بينما يستعد الكونغرس لإلغاء الإعفاءات الضريبية الأميركية للسيارات الكهربائية، في وقت يتجه المستهلكون إلى شراء السيارات التقليدية. على الرغم من أن ثلاثة أرباع إيرادات تسلا البالغة نحو 100 مليار دولار في عام 2024 كان مصدرها بيع السيارات، إلا أن ماسك أخبر المستثمرين أن تركيزه منصبٌ حاليا على تحويل الشركة نحو إنتاج المركبات ذاتية القيادة والروبوتات. وحسب الصحيفة فإن المستثمرين يراهنون على رؤية ماسك، مما يرفع قيمة أسهم الشركة في السوق إلى ما يقارب تريليون دولار بناءً على وعوده، لكن العديد من محللي وول ستريت يرون أن قيمة سهم تسلا أقل من 100 دولار، أي ثلث سعر سهمها البالغ نحو 300 دولار. وعلى الرغم من توقعات ماسك بتحقيق مزيد من النمو، فإن قطاع السيارات الكهربائية يعاني حاليًا من التعثر، إذ انخفضت أرباح الشركة بنسبة 71% في الربع الأول. ويتوقع المحللون أن تنخفض مبيعات الشركة في الربع الثاني بنسبة 10% تقريبا، وانخفاضًا في الأرباح نحو 20%. ولاحظت الصحيفة، أن مشاكل تسلا تفاقمت هذا العام، حتى بعد إعلان ماسك مغادرته البيت الأبيض لتكريس المزيد من الوقت لتسلا، خاصة على خلفية النزاعات التجارية الدولية بشأن المعادن النادرة في الصين، وهي ضرورية لتصنيع السيارات الكهربائية، وهو ما أربك سلسلة التوريد المحلية لتسلا التي تعتمد على قطع غيار من كندا و المكسيك. وعموما تراجع طلب المستهلكين على السيارات الكهربائية وانخفض إجمالي مبيعاتها في الولايات المتحدة بنحو 7% في الربع الثاني من هذا العام. كما تأثرت علامة تسلا التجارية جزئيًا بأنشطة ماسك السياسية وهو ما أثار غضب العملاء من مختلف الأطياف السياسية. ورغم أن ماسك تنحى عن دوره في إدارة الكفاءة الحكومية في مايو/أيار الماضي، فإنه لم يخرج نهائيا من دوامة السياسة. وبعدما أنفق ماسك نحو 300 مليون دولار لدعم انتخاب الرئيس ترامب، فقد دخل في خلاف معه مرتين على مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة، منتقدا مشروع قانون الموازنة "الضخم والجميل" الذي أطلقه الجمهوريون. وردّ عليه ترامب ملوحا باستخدام سلطة الحكومة الفدرالية لمعاقبته ولمّح لإمكانية وضعه على قائمة الممنوعين من السفر، ولم يستبعد إمكانية ترحيل ماسك، وهو مواطن أميركي متجنس وُلد في جنوب أفريقيا. كما تعاني تسلا من اضطرابات في صفوفها التنفيذية، إذ غادرها الأسبوع الماضي أوميد أفشار، وهو أحد أبرز مساعدي ماسك ومقربيه، وكان يشرف على المبيعات والتصنيع في أميركا الشمالية وأوروبا. كما فقدت تسلا رئيس برنامج روبوتات أوبتيموس، ميلان كوفاتش، الذي قال إنه استقال للتفرغ لعائلته. في غضون ذلك، يركّز ماسك على إطلاق خدمة سيارات الأجرة الآلية، رغم أنه ليس رائدًا في مجال السيارات ذاتية القيادة، ويتوقع ماسك أن خططه في ذلك المجال قد تضيف مستقبلا ما بين 5 و10 تريليونات دولار إلى القيمة السوقية لشركة تسلا.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
سيزيف غزة يحمل خيمة لا صخرة!
مالت الشمس نحو الغروب، وسقطت في حضن البحر فامتلأت أمواجه بالأصيل الدافئ المحبب إلى النفس، وخرج الرجال إلى مجالسهم الصاخبة بالحوار والمناقشات السياسية، وركنت النساء إلى الراحة بعد يوم صيفي طويل، أمضينه في إشعال النار وطهي الطعام وغسل الملابس على الأيدي والأكف، وجاءت سويعات العصر الناعسة المليئة بالهيام نحو الهدوء، والخلوة إلى النفس أو الترويح عنها.. إلا في غزة، وفي ذاك اليوم على وجه التحديد. كان الليل قد زحف سريعاً، فحلت العتمة، وامتدّ الظلام الذي خيم على قلوبنا، وجمّد معها مشاعرنا ومحاجر الدمع في عيوننا، ثم استلقينا على فراشنا نطلب النوم وهو متمنع عنا.. ففي عصر يوم الاثنين، صدرت أوامر تقضي بالإخلاء الفوري لحينا والأحياء المجاورة، فتبددت الراحة الواهية المتوشحة والمغلفة بأصوات الصواريخ والتفجيرات التي كنا نسمعها يوميًّا وساعيًّا في المدينة، ودار الرجال لا يدرون ما يصنعون في ظل حرب لا تُقعي ولا تهدأ، لا يدرون ماذا يصنعون، فأوامر الإخلاء المجحفة صدرت في أعقاب اليوم، والشمس أوشكت على الذوبان في البحر. دلف الرجال والأطفال إلى البيوت هائمين تائهين، يتنتاقشون مع أهل بيتهم متبادلين نظرات حيرى ووجلة دون أن يهتدوا لفكرة أو حل، ثم خرجوا مجدداً إلى الشارع. تجمع الجيران مع بعضهم وقد قرروا أن يبيت أهالي الحي في بيوتهم الليلة، وفي الصباح يرتحلون، وهكذا عاد الجميع إلى بيوتهم، وخلا الشارع إلا من بعض السابلة المضطربة. وبدأت مع ذلك مرحلة جمع الحقائب وترتيبها، وأخذ ملابس تكفي للفصول الأربعة كلها؛ خوفاً من استطالة أمد النزوح أو من نسفٍ للبيوت، وأخْذِ بعض الأدوات المنزلية، وقوارير فارغة لجلب الماء. كان الليل قد زحف سريعاً، فحلت العتمة، وامتدّ الظلام الذي خيم على قلوبنا، وجمّد معها مشاعرنا ومحاجر الدمع في عيوننا، ثم استلقينا على فراشنا نطلب النوم وهو متمنع عنا.. كنا نريد أن ننام، لم نكن ننام في مدينتنا البركانية المحتشدة سماؤها وأرضها بالحمم والقذائف (خان يونس)، ولا يغضي لنا جفن، وزاد أن أمامنا يومًا قاسيًا طويلًا مريرًا في الغد، ولكن النوم هرب بعيدًا من ثقل ما نحن فيه، فلم نلتقِ معه في أي وقت. كيف ينام الإنسان؟ وكيف يشعر في آخر ليلةٍ له في بيته الذي لا يعرف إن كان سيعود له أم لا؟! كنت والحائط نجري حواراً صامتاً بيننا، أسمعه يغص في البكاء وهو يحادثني، وأمسح أنا على صفحته الباردة علّه يسكن أو يهدأ، حسدته لبكائه، ومقدرته على ذلك، فاستحال هو شخصًا ذا قلب بائس من الحزن والقهر، وأمسيت أنا بلا روح أو نفس، وبقيت أتقلب كحال الجميع في البيت والحي.. كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت ليلة الهجرة؟ وكيف انقضى عنه الوقت؟ وكيف كان قلبه وهو يخرج من أحب البقاع لقلبه؟ لقد كان معه وعد ربه: {إن الّذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معادٍ}… فياربِّ اجعل لنا معادًا حقًّا في بيوتنا ومدينتنا. مات النهار في ذاك الصباح، رغم أن الشمس أشرقت، وشككت في طلعتها وضوئها، فلم أسمع يومها زقزقة أو شقشقة للعصافير، أكانت هي الأخرى تحزم متاعها مثلنا؟! جمعنا ما استطعنا جمعه في حقائبنا، كنت أتحاشى النظر لأشيائي وأغراضي، أحاول ألا تُطبع في ذاكرتي التي تركتها؛ لكيلا أستحضرها لاحقاً فأقعي من الحزن في بداية الطريق. وحُمِّلت الأغراض في الشاحنة، وكانت عدة شاحنات أخرى مصطفة في الحي، كل بيت وقفت أمامه شاحنة أو سيارة أو عربة كارو؛ لنقل المتاع عليها. كانت تتردد في مخيلتي كلمات مشهد "درويش"، وهو يبكي بها على المنصة، حين كان يرثي وطنه: ماذا نسينا وراءنا؟ وكنت أستبدلها بـ"ماذا تركنا وراءنا؟"، كشعورٍ بالذنب والخيانة لتركنا بيتنا الجريح، والمثخن بالآلآم. على قارعة الطريق اصطففنا وتكدسنا، افترشنا الأرض والرمل من طول الانتظار، لا نعرف أين الوجهة أو المستقر، تركنا خلفنا بيوتنا مجددًا، نياط القلب معقودة بها، وكلما ابتعدنا كانت تشدنا أكثر فأكثر، فتصبح هذه النياط كالأوتاد الحادة تتمزق داخلنا فننزف دماً. مادت بنا الأرض وارتجّت تحتنا، وتعطلت السيارة، ونامت عجلاتها معلنةً استسلامها وأنها ماتت إثر ذبحة أصابت صدرها! حاول السائق عبثًا تصليحها، تحدث معها، أخبرها بأننا مجبورون، تمنعت وقالت: كل من في داخلي يبكي وينزف، فكيف أسير بهم إلى لحودهم حيث النزوح والتشريد، ونشيج بيتهم أسمعه يُذوي القلب؟ أسير فقط إن عدتُ بهم، وعانقوه لعله يهدأ من حنينه إليهم. مرت الساعات، ساعة تلو الأخرى، والشمس الباردة أصبحت فوق الرأس، وتماثل الظل مع الجسد، ينظر الناس إلينا ونحن مفترشات مكانًا نجهله ويجهلنا، ويلعنون الاحتلال وكل من كان سبباً في ما نحن فيه. لم نستطع أن نبكي أو نتذمر أو نغضب، كنا كمن يسير إلى موته وحتفه، ولا حيلة له ولا يد ولا قرار.. أنعودُ أدراجنا إلى حيث ننتمي؟ فلمَ خرجنا إذن؟! لأننا تلقينا أوامر تقضي بالإخلاء الفوري تحت النار والدم أو الموت. وكأن الموت أسوأ مما نحن فيه، قلنا ألف مرةٍ ومرة: إن النزوح أسوأ من الموت، فنلنعد لحينا، ونجلس مع بيوتنا ونتآنس مع جدرانها، ولا يهم إن حوصرنا أو طوقتنا نيرانهم ومدرعاتهم، لا يهم إن هطلت المدافع على البيوت، أو تسللت مسيَّرات وطائرات انتحارية، وفجَّرت المنزل بنا. ولكن، ماذا إن هطلت علينا الصواريخ أو البراميل المتفجرة، وسقطنا مع حجارة البيت سقوطاً فوضوياً، وآلَ بنا الحال إلى بقائنا متمددين تحت الأنقاض وبيت الحجارة، مختنقين لا نحن أحياء ولا أموات؟ ماذا إن بقينا نحتضر لأيام دون مدد، أو غوث؟ كيف لقلوبنا أن تتحمل أن تسمع صوت استغاثة قلب أمها أو أبيها وأشقائها تحت الأنقاض، ولا حيلة لنا لإنقاذ بعضنا أو أنفسنا؟ أنبقى تحت الأنقاض نسمع حشرجات بعضنا، وتراخي أجسادنا وانسحاب الأرواح منا، فنصبح شهداء مفقودين، أو يأخذ واحد منا لقب (الناجي الوحيد)؟ ما كل هذه التفاصيل المرعبة والمخيفة؟ ومن أين تجمعت؟ وكيف تجدست في أخلادنا؟ أنخاف من التفاصيل؟ أهي ما يمنعنا من البقاء في بيوتنا؟ وأية تفاصيل هذه؟! إذن، لننتظر حتى عودة السائق الذي ذهب ليبحث عمن يساعده في تصليح السيارة المعترضة وسط الطريق. بقينا لثلاث ساعات، قضاها الأطفال بالتذمر والبكاء، أو اللهو بلا فهم أو معرفة لما يدور حولهم، وبعض من الفتيات يضحكن بلا سبب، كنّ يضحكن لكل ما هو مبكٍ، المحظوظ منا من بكى، فنحن في غالبيتنا لم نستطع ذلك، ولم نرده أو نفكر فيه، نحن لا نعلم شيئاً، كإنسان حجري أُسقط في أرض لا يعرف طبيعتها، ولا مادتها، ينزف منه الدم، فيظنه شراب توت فيتذوقه، فيجده صلدًا فيمجه خارج فمه. عاد السائق وارتحلنا من جديد نحو وجهتنا التي لا نعلمها، وسارت بنا السيارة متثاقلة، وحطت على رصيف بارد لا نعرفه ولا يعرفنا، مالت الشجيرات الصغيرات تستطلع القادمين، وكذلك رفعت الحجارة قامتها في محاولة لإشباعِ فضولها أين نحن؟ وكيف أضحينا هنا؟ كنا في الصباح في بيوتنا، ويوم أمس كنا في مثل هذا الوقت نُعدُّ الغداء ونصلي الظهر، أية سرعة جنونية هذه في غزة بلا استعدادٍ أو تحضيرٍ مسبق؟! كنا نتحاشى أفكارنا، ونحاول ألا نتقاطع معها في أية دقيقة أو ثانية، خوفاً من الغرق فيها أو الانهزام أمامها، يعطينا الناس ماءً لأجل الأطفال ورحمةً بهم وبنا. عاد السائق الذي لم ننتظر عودته، فقد سدّ بعودته آخر فرصة للعودة إلى البيت، أكان لدينا أمل في أن نعود أدراجنا ذاك النهار؟ لقد تمنينا الموت مراراً وتكراراً في دواخلنا، ليس يأساً، ولكن من شدة وهول ما أصابنا، نريد أن ينتهي هذا الجنون، والظلم، والألم، والقهر.. أن يتوقف نزيف قلوبنا. عاد السائق وارتحلنا من جديد نحو وجهتنا التي لا نعلمها، وسارت بنا السيارة متثاقلة، وحطت على رصيف بارد لا نعرفه ولا يعرفنا، مالت الشجيرات الصغيرات تستطلع القادمين، وكذلك رفعت الحجارة قامتها في محاولة لإشباعِ فضولها. حملنا حقابنا ووضعناها أرضاً، وجلسنا فوقها، وتجمدنا، عيوننا ذاهلة، تنصب نظراتنا في اللاشيء ونحوه! ثم ماذا؟ إلى متى سنجلس هكذا؟ هذا ليس بيتنا، وليس مسكننا، وكيف ستسكن أرواحنا فيه، كيف ستمر الساعات علينا، وكم يومًا سنبقى هنا، وعلى هذه الحال؟ لمَ لا نعيش كما يعيش الآخرون، كما تحيا جميع الكائنات؟ لكل حي عش وبيت يأوي إليه، ويحميه من كل ما هو مؤذٍ ومخيف، إلا الغزيّ، فلا يفصله ولا يحول بينه وبين الموت أو الخوف إلا قماش بالٍ، تُغرقه الأمطار شتاءً، والندى صباحاً أو صيفاً كم مرةً سنموت؟ وأي قهر سيُذوينا؟ وكم حدثاً جسيماً سيمر علينا دون أن ينجح في تحريكنا؟ وكم موقفاً صغيراً سيبكينا؟! ما الذنب الذي ارتكبه الغزّيون ليعانوا بهذا الشكل؟ ما الإثم الذي يوصل الإنسان لهذا الحال؟ أية كفارة هذه التي ندفعها بقلوبنا، وأجسادنا؟ ما الذي جنيناه حتى نموت مرتين، فمرة نموت في الحياة، ومرة نموت عند الموت؟ أم إن موت الغزي فيه حياة له، خلاص من هذه المصائب التي لا تتوقف عن الانصباب كشلال أسود هادر؟ هل حُكِم على الغزي أن يحمل أغراضه كصخرة سيزيف ولا يستقر مكانها، فيبقى ويشقى في العذاب المستمر هذا؟ لمَ لا نعيش كما يعيش الآخرون، كما تحيا جميع الكائنات؟ لكل حي عش وبيت يأوي إليه، ويحميه من كل ما هو مؤذٍ ومخيف، إلا الغزيّ، فلا يفصله ولا يحول بينه وبين الموت أو الخوف إلا قماش بالٍ، تُغرقه الأمطار شتاءً، والندى صباحاً أو صيفاً، وتقتلع الرياح بيته، وتحمله بعيداً لوجهة يجهلها كمارد ضخم أراد الانتقام، وتصليه حرارة الصيف نهاراً. ما الذي جنيناه كي نحتمل ما لم يحتمله حي على البسيطة؟ كل الطيور تأوي إلى أعشاشها، والكائنات كلها تعود إلى بيوتها.. إلا الغزي! عرَّوه من بيته وحيه وجيرانه وأحبابه. إلامَ سيستمر هذا الحال؟ أستكون لنا بيوت على الأرض، أم إن بيوتنا هناك تُبنى في السماء؟!