logo
هل سيلعب لوبي ترامب دورًا في انتخاب بابا الفاتيكان الجديد؟

هل سيلعب لوبي ترامب دورًا في انتخاب بابا الفاتيكان الجديد؟

الجزيرة٠٦-٠٥-٢٠٢٥

بين أسوار الفاتيكان المرتفعة، وتحت قبّة كنيسة سيستنا، يُهيمن الآن سؤال واحد على أذهان الكرادلة والجمهور المتابع: من سيرث عباءة بطرس؟ من سيكون ذلك الرجل الذي سيجلس على عرش يهتزّ اليوم تحت وطأة العالم الحديث ومتغيراته، حيث غدت الكنيسة الكاثوليكية ميدانًا مفتوحًا للصراع بين الأصالة والتجديد، وبين العقيدة والتأويل.
في صباح 21 أبريل/ نيسان، وبينما كانت ساحة القديس بطرس لا تزال تحت وقع صدى دعاء الفِصح الأخير، انطفأ صوت البابا فرانشيسكو عن عمر يناهز الثامنة والثمانين.
كانت وفاة البابا لحظة فارقة أعادت فتح ملفّ الصراع الحاصل في هُوية الكنيسة. فالخلافة القادمة لا تتعلّق بمدى استمرار أو توقّف مسار رجل فقط، بل بمعركة حول هُوية الكنيسة نفسها.
فالهُوية الكاثوليكية كما صاغتها المجامع الكبرى – من نيقية إلى الفاتيكان الثاني – عاشت دائمًا على الحافة، في شدٍّ دائم بين "الثابت المقدّس" و"الطارئ التاريخي". وفي هذا السياق، يصبح السؤال عن البابا القادم اختبارًا جديدًا لذلك التوتّر الخلّاق.
ميراث فرانشيسكو
منذ لحظة انتخابه عام 2013، وقدومه المفاجئ من أقصى جنوب أميركا اللاتينية حاملًا رؤية تستمد جوهرها من شوارع بوينس آيرس الأرجنتينية أكثر من صالات المجامع، اختار التواضع، وتخلَّى عن القصر الرسولي ليسكن في دار الضيافة، ورفض ارتداء الزينة المذهّبة والأحذية الحمراء.
لكن رمزية هذه البداية تحوّلت إلى مشروع شامل: كنسية للفقراء، مفتوحة على العالم، تقف إلى جانب المهمّشين.
ففي زمن تتكالب فيه الأصوليات والتيارات الشعبوية، رفع فرانشيسكو شعار "الرحمة لا الإقصاء"، وانفتح على أتباع الديانات الأخرى، وانتقد الرأسمالية، وركز في خطاباته على القضايا البيئية واللاجئين والمهاجرين حول العالم. وهو ما عبّر عنه في رسالته الأشهر "كن مسبّحًا" (Laudato Si') التي شكّلت حجر الزاوية في اللاهوت البيئي المعاصر.
بيدَ أن هذه الإصلاحات لم تسلم من المعارضة. فقد تصاعدت أصوات غاضبة داخل الكنيسة، تتهم البابا بالتفريط في الثوابت، وبأنه يقرّب الكنيسة من الحداثة إلى حد التمييع. فكانت سنوات فرانشيسكو أشبه بمعركة مزدوجة: خارجية من أجل العدالة والسلام، وداخلية ضد جمود المؤسسة وروح البيروقراطية الكنسية.
ملامح المعركة المرتقبة داخل المجمع البابوي
وفاة فرانشيسكو أطلقت العد التنازلي لانعقاد مجمع الكرادلة (الكونكلاف)، وكما يصور الفيلم المتصدر حاليًا "Conclave 2024″ حيث يجتمع 135 كاردينالًا ممن لم يبلغوا سن الثمانين لاختيار البابا الجديد، فإن المجمع الذي يبدو شكلًا طقسيًا بحتًا يخفي وراءه صراعًا محتدمًا بين رؤيتين متناقضتين للكنيسة: الأولى تريد استكمال ما بدأه فرانشيسكو من انفتاح وتجديد، والثانية تسعى للعودة إلى الثبات اللاهوتي والانغلاق العقائدي.
المفارقة أن فرانشيسكو نفسه هو من عيّن أكثر من ثلثي الكرادلة الناخبين، وبهذا المعنى، فإن المجمع مشكّل – نظريًا – على صورته. لكنه لم يكن يومًا رجل الولاءات المطلقة، بل اختار تنوعًا متعمّدًا في أعضاء المجمع.
وهذا ما يفسّر وجود تيارات متباينة داخله: من اليسار اللاهوتي التقدمي، إلى اليمين الكاثوليكي التقليدي. كما أن التوازن الجغرافي يلعب دورًا حاسمًا. فاليوم، لم تعد أوروبا تحتكر الصوت الكاثوليكي، بل صعدت أصوات من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي مناطق يشهد فيها الكاثوليك تطورًا ديمغرافيًا وروحيًا.
المشهد البابوي المقبل يتصدر فيه وجوه بارزة، لكل منها خلفيته اللاهوتية ورؤيته للكنيسة، وموقفه من إرث فرانشيسكو. لعل من أبرز هؤلاء الكاردينال الإيطالي ماتيو زوبي، الذي يلقّب بـ"فرانشيسكو الإيطالي" لقربه من المدرسة الفكرية للبابا الراحل.
في المقابل، يبرز اسم الكاردينال بييترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان، كمرشح توافقي يجمع بين الكفاءة الدبلوماسية والخبرة الطويلة في دهاليز الحكم الكنسي. بارولين يتمتع بثقة غالبية الكرادلة، وقد قاد تفاهمات حساسة مع الصين وفيتنام، ويُنظر إليه باعتباره قادرًا على الحفاظ على وحدة الكنيسة دون خوض مغامرات إصلاحية جذرية.
ومن خارج القارة الأوروبية، يلوح اسم الكاردينال الفلبيني لويس أنطونيو تاغلي، الذي ينظر إليه كثيرون بوصفه الوريث الروحي لفرانشيسكو في العالم الآسيوي.
أما الكاردينال الغاني بيتر توركسون، فهو من أبرز المرشحين غير الأوروبيين، يتمتع بخبرة عريضة في مجالات العدالة والسلام، ويملك سجلًا قويًا في حوار الأديان. وإذا ما انتُخب، فسيكون أول بابا أفريقي منذ القرن الخامس، وهو ما قد يعكس التغير الديمغرافي الحاد في قلب الكنيسة.
في الجهة المقابلة، يقف التيار المحافظ ممثلًا بالكاردينال روبرت سارا من غينيا، والكاردينال ريمون بيرك من الولايات المتحدة. كلاهما معروف بتمسكه بالطقوس التقليدية، وبموقفه الصلب من قضايا كالشذوذ والليتورجيا، ويعبّران عن رغبة شريحة من الكرادلة في كبح المد الإصلاحي الذي أطلقه فرانشيسكو. وهناك أسماء مرشحين آخرين -الإصلاحيين منهم والمحافظين- لا تقل أهميتهم عن المذكورين.
الدعم الأميركي للتيار المحافظ وكاثوليك حركة MAGA
مع اقتراب انعقاد المجمع، برز إلى السطح تيار كاثوليكي محافظ متشدد، يُعرف بلقب "MAGA Catholics"، وهو تيار أميركي يميني يسعى لإعادة الكنيسة إلى مواقف أكثر تشددًا. وهو مزيج من الكاثوليكية المحافظة والحركة الشعبوية اليمينية المرتبطة بدونالد ترامب.
هذه الحركة، التي تقودها شخصيات بارزة مثل ستيف بانون (المستشار السابق لدونالد ترامب) تعبر عن استياء عميق من البابا فرانشيسكو وتوجهه الإصلاحي. وتسعى هذه الحركة إلى إعادة الكنيسة إلى تعاليمها الأصلية، خصوصًا في قضايا الزواج والإجهاض والشذوذ، في وقت تشهد فيه الكنيسة تباينًا حادًا بين المواقف الليبرالية والمحافظة.
بحسب ما نشرته صحيفة "غارديان" فإن جهود كاثوليك MAGA تتمثل في التأثير على مستقبل الكنيسة الكاثوليكية عبر مجموعة من التحركات الإستراتيجية. فعلى الرغم من أن هذه الحركات قد لا تُسمى رسميًا "ضغطًا"، فإن أعضاء الحركة يعملون خلف الكواليس بشكل فعال.
يلتقي العديد من الشخصيات المؤثرة من الحركة مع الكرادلة المحافظين لتوجيههم نحو انتخاب البابا الذي يتماشى مع قيمهم التقليدية، في محاولة لخلق بيئة مؤيدة لهذه المواقف قبل بداية انتخابات البابا المقبل.
إلى جانب هذه التحركات السياسية الإستراتيجية، تعتمد الحركة أيضًا على تأثيرها الإعلامي الواسع. حيث يوظف ستيف بانون منصاته الإعلامية، وخاصة البودكاست War Room، لتوجيه انتقادات لاذعة ضد البابا فرانشيسكو.
من خلال هذه الحملات الإعلامية، تسعى حركة كاثوليك MAGA إلى تعزيز رسالتها بين الكاثوليك التقليديين وجذب انتباههم إلى ما يرونه تدهورًا في المبادئ الكاثوليكية في ظل البابوية الحالية.
أما من الجانب المالي، فإن الكاثوليك MAGA يمتلكون أيضًا تأثيرًا كبيرًا. بما أن الحركة تدعم مرشحين ومبادرات تتوافق مع رؤيتها، فإنهم يستخدمون قوتهم الاقتصادية لدعم الشخصيات داخل الكنيسة التي تدعم مواقفهم.
وهذا التأثير المالي يمكن أن يكون حاسمًا في تقوية مواقفهم داخل الفاتيكان، إذ يحتاج البابا المقبل إلى دعم اقتصادي كبير من المؤسسات الكاثوليكية في الولايات المتحدة.
من جانب آخر، تنظم الحركة فعاليات شعبية ودينية تهدف إلى تحفيز الكاثوليك المحافظين على المشاركة السياسية واللاهوتية. على سبيل المثال، نظمت مجموعة Catholics for Catholics فعاليات دينية في مارالاغو، مع التركيز على تعبئة الناخبين الكاثوليك في الولايات المتأرجحة لدعم المرشحين الذين يتبنون مواقف الحركة.
ونجد مؤخرًا تتويجًا للموقف الأميركي في التّصريح الساخر لترامب بقوله: " أود أن أكون البابا، هذا خياري الأول"، ثم أبدى دعمه للكاردينال الأميركي تيموثي دولان المعروف بمواقفه المحافظة، معتبرًا أنه "كاردينال ممتاز من نيويورك"، إلا أنه يُعتقد أن احتمالية فوز دولان ضئيلة مقارنة بغيره من الكرادلة.
رغم امتلاكهم نفوذًا ماليًا وإعلاميًا، فإن توازن القوى داخل الكلية الكاردينالية، الذي مالت كفته للإصلاحيين بفضل تعيينات فرانشيسكو، يجعل فرص نجاحهم محدودة. ومع ذلك، فإن مجرد وجودهم النشط في كواليس المجمع يضغط باتجاه انتخاب بابا يتجنب السياسات الإصلاحية التقدمية التي ميزت فترة فرانشيسكو.
في الختام يبقى السؤال: هل سيستمر السباق البابوي في تعزيز الإصلاحات التي أطلقها فرانشيسكو، أم ستعود الكنيسة إلى ثوابتها التقليدية بدعم أميركي؟ من سيختار البابا هذه المرّة؟ الكرادلة أم دونالد ترامب؟ الجواب سيُفصح عنه الدخان الأبيض.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب يهاتف بوتين وأنباء عن "مذكرة سلام" روسية لإنهاء حرب أوكرانيا
ترامب يهاتف بوتين وأنباء عن "مذكرة سلام" روسية لإنهاء حرب أوكرانيا

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

ترامب يهاتف بوتين وأنباء عن "مذكرة سلام" روسية لإنهاء حرب أوكرانيا

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم السبت أنه تحدث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بشأن إنهاء ما وصفها "الحرب الرهيبة" الدائرة في أوكرانيا منذ أزيد من ثلاث سنوات. كما نقل موقع أكسيوس عن مسؤولين أميركيين، أن الإدارة الأميركية ما زالت تعتقد أن الرئيس بوتين على وشك اتخاذ خطوات ملموسة نحو التوصل إلى اتفاق مع أوكرانيا. وكشف المسؤولون للموقع أن دبلوماسية الرئيس ترامب مع بوتين أقنعته بإعداد "مذكرة سلام"، الأمر الذي كان يرفضه سابقا. ونقل الموقع عن مسؤولين أوكرانيين قولهم إن واشنطن "لا تملك أي معلومات بشأن موعد أو مكان انعقاد الجولة المقبلة من المحادثات مع روسيا". وكان الرئيس ترامب قد أجرى مكالمة سابقة مع الرئيس الروسي الاثنين الماضي، أكد على إثرها أن موسكو وكييف "ستبدآن فورا مفاوضات" لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب قد تستضيفها الفاتيكان. وقال ترامب إن مكالمته مع بوتين سارت على ما يرام، وإن الفاتيكان "ممثلا في البابا، أبدى اهتمامه باستضافة المفاوضات. فلتبدأ العملية!". كما وصف بوتين محادثته مع ترامب بالصريحة والبناءة، وقال -في مؤتمر صحفي- إن الرئيس الأميركي "أقر بأن روسيا تؤيد الحل السلمي للأزمة الأوكرانية". إعلان وأعرب عن استعداد بلاده للعمل على مذكرة تفاهم مع أوكرانيا تشمل وقف إطلاق النار، داعيا للتوصل إلى "تنازلات تناسب الطرفين"، وإلى القضاء على جذور الصراع، وفق تعبيره. ويعد اتصال اليوم رابع اتصال رسمي بين الرئيسين الأميركي والروسي خلال العام الجاري، حيث تقود إدارة ترامب جهودا دبلوماسية لإنهاء النزاع الذي ترى أنه كبّد الولايات المتحدة خسائر كبيرة. ومنذ 24 فبراير/شباط 2022، تشن روسيا هجوما عسكريا على جارتها أوكرانيا وتشترط لإنهائه تخلي كييف عن الانضمام لكيانات عسكرية غربية، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما تعتبره كييف "تدخلا" في شؤونها.

الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا اللاتينية
الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا اللاتينية

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا اللاتينية

في كتابه 'الشتات الفلسطيني في أميركا اللاتينية- دراسات في الإعلام والهوية'، يقدّم الباحث أحمد الزعبي دراسة معمقة تنطلق من أطروحة الدكتوراه التي ناقشها في برنامج الدراسات العليا في الاتصال الاجتماعي بجامعة الميثودية في ساو باولو. ويعتمد الكتاب على مقاربة بحثية متعددة المستويات، تمزج بين الصرامة الأكاديمية والحس الأخلاقي، وتُوظّف أدوات الصحافة الإنسانية ونظريات الهوية الثقافية لتفكيك كيفية تناول الإعلام اللاتيني للقضية الفلسطينية في 5 دول: الأرجنتين، البرازيل، تشيلي، السلفادور، وهندوراس. ويتتبع المؤلف التأثيرات العميقة لهذه التغطيات على تمثيلات الشتات الفلسطيني وإدراكه لذاته، وصراعه من أجل البقاء والاعتراف في بيئات اجتماعية وثقافية متداخلة. ويكشف هذا الكتاب عن تحيزات إعلامية بنيوية في ما يقدمه من تأريخ شفهي ورؤية داخلية لمجتمعات الشتات، من خلال 40 مقابلة معمقة مع شخصيات فلسطينية مؤثرة في أميركا اللاتينية. ويسلط الكتاب الضوء على إستراتيجيات المقاومة الثقافية والسياسية التي ابتكرها الفلسطينيون في المهجر، ضمن بيئة إعلامية تخضع لتأثيرات محلية ودولية، وتُعيد إنتاج الرواية الرسمية المنحازة. ويمثل الكتاب أيضا شهادة تاريخية على لحظة مفصلية في نضال الشعب الفلسطيني، إذ كُتب في ظل إحدى أكثر الفترات مأساوية من حيث تصاعد المجازر، ولم يكتفِ بوصف الواقع الإعلامي والسياسي، بل يقترح سبلا بديلة للتفكير في دور وسائل الإعلام ضمن صراعات الهوية والانتماء والنسيان القسري. وفي لقاء أجرته الجزيرة نت مع المؤلف -أستاذ الصحافة والإعلام الرقمي بجامعة لوسيل- نُوقشت أبرز ما ورد في الكتاب من محاور، مثل حضور فلسطين في الإعلام اللاتيني، وتحولات نظرة المجتمعات المضيفة، وأشكال التفاعل ما بين الشتات الفلسطيني وحركات التضامن، إلى جانب خصوصية كل مجتمع من مجتمعات الشتات، وارتباطه بالأصول، واللغة، والانتماء، والهوية الوطنية. ما أبرز الأفكار التي يتناولها كتابكم؟ وكيف ترون الوجود الفلسطيني في دول أميركا اللاتينية، خاصة في ظل تحولات القضية الفلسطينية اليوم؟ بداية، الكتاب هو نتاج أطروحة الدكتوراه التي أعددتها في تخصص الإعلام بجامعة الميثودية في مدينة ساو باولو البرازيلية. ويتكون الكتاب من 4 فصول: الفصل الأول يتناول تاريخ القضية الفلسطينية، وهو تاريخ معروف بالنسبة لنا، لكنه جديد على القارئ البرازيلي، لذا رأيت من المهم أن أقدمه له بتسلسل موضوعي. تحدثتُ فيه عن مؤتمر بازل الأول، والكتاب الأبيض، ووعد بلفور، وثورة البراق، والانتفاضتين، وصولا إلى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. أما الفصل الثاني، فيركّز على الجاليات الفلسطينية في 5 دول من أميركا اللاتينية: تشيلي، السلفادور، هندوراس، البرازيل، والأرجنتين. هذه الدول تمثل أبرز مراكز الشتات الفلسطيني في تلك المنطقة، سواء من حيث العدد أو من حيث التأثير السياسي والاجتماعي. وتشيلي مثلا تضم أكبر جالية فلسطينية خارج الوطن، يقدّرها البعض بنحو 500 إلى 900 ألف فلسطيني. أما في البرازيل، حيث قُدّر عددهم بين 40 و60 ألفا، فلها أهمية سياسية خاصة كونها عاصمة أميركا اللاتينية سياسيا. وهناك أيضا السلفادور وهندوراس، وهما من دول أميركا الوسطى، وتحضنان جاليات نشطة. كذلك الأرجنتين، التي كانت ذات يوم مطروحة كموقع محتمل لإقامة وطن قومي لليهود، قبل أن يقع الاختيار على فلسطين. كيف تشكّل الوجود الفلسطيني في هذه الدول؟ وهل كان وجودا لاحقا للنكبة فقط، أم أقدم من ذلك؟ وجود الفلسطينيين في أميركا اللاتينية يعود إلى ما قبل النكبة، بل إلى أواخر القرن الـ19، وفقا لما وثّقه الباحث المغربي المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية عبد الواحد أكمير. فالهجرة الأولى كانت لأسباب اقتصادية، في ظل ضعف الدولة العثمانية وتدهور الأوضاع المعيشية وفرض الضرائب. وهاجر الناس جماعات، وكثير منهم خرج بجوازات عثمانية. وكان هناك أيضا ما يُعرف بـ'فلسطينوفوبيا' و'تركوفوبيا' في تلك المجتمعات، بسبب الصورة النمطية السلبية التي رُوّجت عن العرب والمسلمين. View this post on Instagram A post shared by Monitor do Oriente (@monitordooriente) هل تعرض الفلسطينيون في تلك الدول للتمييز أو التضييق بسبب هوياتهم؟ نعم، بالفعل. كان هناك عنصرية مبكرة تجاه الفلسطينيين، لدرجة أن بعض الدول مثل تشيلي والأرجنتين سنت قوانين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الـ20 تمنع دخولهم. واضطر كثيرون إلى تغيير أسمائهم وأزيائهم وحتى دياناتهم المعلنة لتسهيل دخولهم. كانوا يقولون مثلا إن دينهم 'بلدين' حتى لا يُصنّفوا ضمن الأديان الرسمية المفروضة. لكنهم، رغم كل التحديات، تمكنوا من التكيف، وحققوا نجاحا اقتصاديا كبيرا، وأسّسوا مجتمعات قوية ما زالت حاضرة وفاعلة. نعم، بدرجات متفاوتة. هناك جاليات فلسطينية في أميركا اللاتينية حافظت على انتمائها القومي والديني والثقافي، وبعضها أذابته ثقافة البلد المُضيف. في تشيلي مثلا، نجد جاليات فلسطينية مسيحية، وأخرى مسلمة، وثالثة كردية أو أرمنية. هذا التنوع انعكاس طبيعي لتاريخ الشتات الطويل والمعقد، وكذلك نتيجة القوانين التي كانت سائدة حينها، والتي فرضت دينا رسميا للدولة، كما كان الحال في تشيلي حتى عام 1920. View this post on Instagram A post shared by Monitor do Oriente (@monitordooriente) كيف تتابع النخب الثقافية والسياسية والإعلام في أميركا اللاتينية الواقع الفلسطيني، وما تأثير وجود الشتات الفلسطيني في تشكيل هذا التصوّر؟ إعلان بشكل عام، لا يمكن إنكار أن الإعلام في أميركا اللاتينية منحاز إلى السردية الاستعمارية الإسرائيلية، وهذا أمر مؤسف. ولا يوجد في المناطق الفلسطينية مثل غزة أو القدس أو رام الله أي مراسل دائم يتبع لوسائل إعلام رئيسية من أميركا اللاتينية. معظم ما يُنشر في الصحف والمجلات الكبرى هناك مثل فوليا دي ساو باولو أو لا برينسا أو إلغرافيكو، مصدره وكالات أنباء دولية، خاصة الغربية والأميركية منها. لذلك فإن الجاليات الفلسطينية -سواء من ذوي التوجهات اليمينية أو اليسارية- تعتمد في متابعتها لما يحدث في فلسطين على أقاربها، أو على وسائل إعلام عربية مثل قناة الجزيرة، أو منصات إلكترونية مثل العربي الجديد وميدل إيست آي. وهناك اهتمام واضح بمتابعة ما يجري، ويصل أحيانا إلى إرسال أبنائهم لتعلم اللغة العربية، أو إبرام زيجات داخل فلسطين، أو الاستثمار الاقتصادي هناك، كما فعل بنك فلسطين بفتح فرع له في تشيلي، إلى جانب مشاريع تعليمية وصحية أخرى أقامها أبناء الشتات. بالتأكيد. أصبح الوجود الفلسطيني هناك مصدر اعتزاز، بعدما كان في الماضي يواجه نوعا من العنصرية و'الفلسطينوفوبيا'. فاليوم توجد شوارع ومؤسسات ومدارس ومطارات تحمل أسماء فلسطينية. في تشيلي مثلا، الجالية الفلسطينية أثّرت على السياسات الرسمية، وساهمت في سحب استثمارات من الاحتلال الإسرائيلي، والاعتراف بحدود الرابع من يونيو/حزيران وحل الدولتين، وبحق الشعب الفلسطيني. الشعوب اللاتينية عموما مؤيدة للقضية الفلسطينية، لأنها عانت تاريخيا من الاستعمار، وبالتالي لديها حس تضامني كبير. لكن هذا التأييد يواجه تحديين: أولهما صعود الجماعات الإنجيلية، التي تتبنى الرواية الصهيونية، وثانيهما ضعف العلاقة بين العالم العربي وهذه المنطقة، بسبب حاجز اللغة وبعد المسافة. هل نستطيع القول إن الهوية الفلسطينية أصبحت جزءا من الثقافة المحلية هناك؟ إعلان نعم، إلى حد كبير. هناك مظاهر ثقافية واضحة للوجود الفلسطيني، مثل الدبكة والفلافل والحمص، والكوفية الفلسطينية التي تُرتدى في المناسبات التضامنية. في يوم النكبة أو يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، تُنظم فعاليات في معظم دول القارة، ويحضر الفلسطينيون والعرب والسكان المحليون. والكتاب الأخير بعنوان 'الشتات الفلسطيني في أميركا اللاتينية: دراسات في الإعلام والهوية'، وهو أول عمل أكاديمي متخصص يتناول هذا الموضوع بعمق. يتناول الكتاب تأثير الإعلام على الجاليات الفلسطينية، ودور الفلسطينيين في الاقتصاد والسياسة والثقافة، ويُظهر كيف تحوّل الفلسطيني من مهاجر فقير إلى شخصية مؤثرة في المجتمعات المضيفة. صدر الكتاب باللغتين البرتغالية والإسبانية، وهناك مشروع لترجمته إلى الإنجليزية. ومن المشاريع البحثية الأخرى التي أعمل عليها: رواية الهيكل في أميركا اللاتينية، حيث بُني هيكل ضخم شبيه بـ'هيكل سليمان' في البرازيل بالحجارة المستوردة من الخليل، والزيتون القادم من القدس. إنها محاولة واضحة لترويج الرواية الصهيونية دينيا وثقافيا، وهذا أحد محاور بحثي المستمر. نعم، ما زال كثير من أبناء الشتات يتحدثون باللهجات القروية الفلسطينية، وبعضهم يحافظ على مفردات فلاحية موروثة من أجدادهم. وهذا يُثبت أن الفلسطيني، رغم بعده الجغرافي، ما زال متمسكا بجذوره.

عباس والبابا يطلقان نداء عاجلا للتحرك الإنساني العاجل بغزة
عباس والبابا يطلقان نداء عاجلا للتحرك الإنساني العاجل بغزة

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

عباس والبابا يطلقان نداء عاجلا للتحرك الإنساني العاجل بغزة

أطلق الرئيس الفلسطيني محمود عباس و البابا ليو الرابع عشر ، اليوم الأربعاء، نداءين منفصلين يدعوان فيهما إلى التحرك العاجل لإنهاء الحصار على قطاع غزة والسماح بدخول مساعدات إنسانية كافية، ووقف الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ودعا عباس في بيان نشرته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا)، قادة دول العالم إلى "اتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة لكسر الحصار على شعبنا في قطاع غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية والطبية برا وبحرا وجوا، والوقف الفوري والدائم لهذا العدوان وإطلاق سراح جميع المحتجزين والأسرى والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع". وأضاف عباس: "لم يعد من الممكن الصمت عن جرائم الإبادة الجماعية والتدمير والتجويع التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي"، مؤكدا أن "غزة جزء أصيل من أرض دولة فلسطين"، ومطالبا بتولي دولة فلسطين مسؤوليتها الكاملة في القطاع. وأشار إلى أن هذه المرحلة "لحظة أساسية للانتقال إلى إعادة الإعمار وتنفيذ حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية"، معربا عن أمله في أن يسفر مؤتمر السلام الدولي المرتقب في نيويورك عن خطوات ملموسة نحو إنهاء الاحتلال. إنهاء الحرب وفي الفاتيكان، قال البابا ليو الرابع عشر في أول لقاء عام له منذ توليه منصبه، إن "الوضع في قطاع غزة مقلق ومؤلم"، مطالبا بالسماح بدخول مساعدات إنسانية "كافية" إلى القطاع، و"إنهاء القتال الذي يدفع ثمنه الباهظ الأطفال والمسنون والمرضى". وأضاف خلال عظته في ساحة القديس بطرس: "أجدد مناشدتي للسماح بدخول المساعدات العادلة للقطاع وإنهاء الأعمال القتالية"، محذرا من تفاقم الكارثة الإنسانية. وجاءت مناشدة البابا بعد أن اتهمت منظمة "أطباء بلا حدود" إسرائيل بالسماح بدخول مساعدات "غير كافية بشكل مثير للسخرية" في محاولة "لتجنب اتهامها بتجويع الناس، بينما في الواقع تبقيهم على قيد الحياة بالكاد". ويُقدر عدد الضحايا الفلسطينيين في قطاع غزة منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023 بأكثر من 175 ألفا بين شهيد وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى آلاف المفقودين ومئات آلاف النازحين، وسط تحذيرات متزايدة من تفشي المجاعة وانهيار النظام الصحي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store