
هل دمّر البنك المركزي القطاع المصرفي الخاص في العراق والى الابد؟
سياسات نقدية مثيرة للجدل
خلال السنوات الأخيرة، انتهج البنك المركزي العراقي سياسات نقدية متخبطة، أبرزها التوسّع النقدي غير المنضبط، حيث ارتفعت الكتلة النقدية من 46 تريليون إلى أكثر من 100 تريليون دينار في ظرف عامين فقط، دون أن يقابلها نمو اقتصادي حقيقي. هذا أدى إلى تضخم تجاوز 7.5%، فرفع البنك المركزي سعر الفائدة إلى 7.5% قبل أن يتراجع عنها لاحقًا إلى 5.5%، في خطوة لم تحقق أثرًا ملموسًا على السوق. كما بقيت الفجوة كبيرة بين سعر الفائدة على القروض التي تتجاوز 10% والفائدة على الودائع التي بالكاد تصل إلى 7%، ما عمّق عزوف المواطنين عن الإيداع، وأضعف قدرة المصارف على التمويل.
نقد خارج النظام وفقدان الثقة
المشكلة لا تكمن فقط في السياسات، بل في واقع مرير يتمثل في أن الجزء الأكبر من النقد المتداول خارج النظام المصرفي. هذا التسرب الهائل يضعف قدرة المصارف على أداء دور الوساطة المالية ويعكس أزمة ثقة حقيقية بين المواطن والبنك. فبعد فضائح إفلاس مصرفية، وهيمنة شخصيات حزبية على بعض المصارف الخاصة، وتراجع الخدمات، وغياب أي نظام فعال لضمان الودائع، أصبح المواطن يرى في المصرف خطرًا لا ملاذًا.
قروض استهلاكية بلا تنمية حقيقية
من أبرز الإخفاقات أن أغلب القروض التي منحتها المصارف خلال السنوات الماضية ذهبت نحو الاستهلاك وليس الإنتاج. تمويل سيارات، قروض شخصية، وأقساط لأغراض ترفيهية، دون توجه حقيقي نحو دعم المشاريع الإنتاجية أو الشركات الصغيرة. هذا أدى إلى تفاقم المضاربات في سوق العقار، وارتفاع أسعار الأراضي، من دون أي إنتاج حقيقي أو خلق فرص عمل، بل فقط تضخّم سكاني عمراني بلا بنية اقتصادية مقابلة.
احتكار حكومي وترهّل إداري
القطاع المصرفي العراقي يتمحور حول مصرفي الرافدين والرشيد، اللذين يسيطران على معظم أصول القطاع، لكن أداءهما ضعيف، وهياكلهما الإدارية تعاني من ترهّل واضح، إضافة إلى أن فروعهما غير مرتبطة إلكترونيًا، وتفتقر إلى بنية تقنية حديثة. في المقابل، لم ينجح البنك المركزي في تطوير إطار رقابي صارم أو فرض الحوكمة على مجالس إدارة المصارف، ما أتاح لمؤسسات مالية صغيرة أن تعمل خارج الضوابط لسنوات طويلة.
نافذة العملة كمدخل لغسيل الأموال
من أخطر الأدوات التي ساهمت في تقويض النظام المصرفي هي نافذة بيع العملة الأجنبية، حيث يبيع البنك المركزي الدولار بسعر رسمي لمصارف خاصة، ثم يُعاد بيعه في السوق الموازية بفارق أرباح كبير. هذه الآلية وفّرت بيئة مثالية لغسيل الأموال وتهريبها إلى الخارج، مستغلة ضعف الرقابة المصرفية، وتكرار الأسماء والمستندات في طلبات التحويل. العديد من المصارف استفادت من هذه الفروقات لتحقيق أرباح غير مشروعة، وتم لاحقًا سحب تراخيص بعضها بعد تدخلات دولية.
عقوبات دولية تؤشر على الخلل
ابتداءً من عام 2022، بدأت الولايات المتحدة تفرض حظرًا على عدد من المصارف العراقية من التعامل بالدولار بسبب شبهات تتعلق بعمليات تحويلات مشبوهة وغسيل أموال. وتوسعت القائمة لاحقًا لتشمل مصارف جديدة، مما أدى إلى تعطيل جزء كبير من عمليات التجارة الخارجية والتحويلات، وأثّر سلبًا على مصداقية البنك المركزي العراقي أمام المؤسسات الدولية والمصارف المراسلة.
تراخيص مصرفية بلا ضوابط واضحة
في السنوات الأخيرة، منح البنك المركزي العراقي تراخيص مصرفية جديدة بأعداد غير مسبوقة، حتى تجاوز عدد المصارف الخاصة السبعين مصرفًا، دون أن يكون هناك مبرر اقتصادي أو تقييم حقيقي لحاجة السوق. هذا التوسع الكمي جاء على حساب النوعية والرقابة، وأسهم في تفتيت السوق المصرفية، وخلق كيانات هشة ضعيفة من الناحية المالية والإدارية، تُستغل في كثير من الأحيان كواجهات لأجندات حزبية أو مصالح خارجية.
تفريط في السيادة المصرفية
رغم وضوح قانون المصارف الأهلية في تحديد الحد الأقصى لنسبة ملكية الأجانب في المصارف العراقية، والتي لا تتجاوز 25%، إلا أن البنك المركزي تغاضى بشكل غير مبرر عن هذا القيد. فقد تم السماح لمؤسسات مالية أجنبية بتملك حصص كبيرة في عدد من المصارف، بصورة مباشرة أو عبر واجهات محلية، ما أدى إلى اختلال في هيكل الملكية، وخلق تبعية مالية خارجية تهدد القرار الاقتصادي العراقي وتضعف استقلالية النظام المصرفي الوطني.
نزيف أرباح إلى الخارج دون استثمار
في سابقة خطيرة، سمح البنك المركزي لإدارات مصارف – أغلبها مملوكة لمؤسسات أجنبية – بتحويل أكثر من 75% من أرباحها السنوية إلى الخارج، على شكل أرباح موزعة، دون أن يُلزمها بإعادة استثمار جزء من هذه الأرباح داخل السوق العراقية. هذا السلوك يتنافى مع أبسط قواعد العمل المصرفي التنموي، وكان يفترض أن يُواجه بإجراءات واضحة تُجبر هذه المصارف على تطوير خدماتها، تعزيز رأس مالها، أو المساهمة في مشاريع استثمارية وطنية، بدلًا من أن تصبح مجرد قنوات لتحويل العملة الصعبة إلى الخارج.
نصائح دولية عاجلة للإصلاح
مؤسسات دولية عدة، منها وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قدمت توصيات واضحة. من أبرزها: تشديد الالتزام بقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تعزيز الشفافية في معاملات الدولار، تقوية الرقابة الداخلية والخارجية على المصارف، مراجعة جودة الأصول، وتحديث البنية الرقمية للقطاع. كما دعت هذه المؤسسات إلى رفع الحد الأدنى لرأس المال المصرفي ودمج أو تصفية المصارف المتعثرة، بهدف خلق نظام أكثر متانة.
مسؤولية مباشرة للبنك المركزي
البنك المركزي ليس جهة رقابية محايدة فقط، بل هو شريك أصيل في الأزمة. فقد سمح باستمرار نافذة العملة رغم مخاطرها، ولم يُلزم المصارف بتطبيق معايير الحوكمة الدولية، وتراخى في فرض الضوابط على التملك الأجنبي، ولم يضع إطارًا تشريعيًا فعالًا لحماية المودعين أو ضبط هيكلة المصارف. مسؤوليته ليست تقنية فقط، بل أخلاقية ومؤسسية أمام اقتصاد يتعرض للاستنزاف.
فرصة إصلاح ما زالت قائمة
رغم المشهد القاتم، لا تزال الفرصة قائمة لإنقاذ النظام المصرفي العراقي. يتطلب ذلك إرادة سياسية ومهنية، تبدأ بإصلاح التشريعات، وفرض رقابة صارمة، وتفعيل الشفافية، والتعاون مع المؤسسات الدولية لاستعادة الثقة. لا تنمية حقيقية من دون قطاع مصرفي قوي، ولا قطاع مصرفي ناجح من دون بنك مركزي مستقل وفاعل، يدرك أنه ليس فقط حارسًا للسيولة، بل صانعًا للاستقرار.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ ساعة واحدة
- شفق نيوز
الذهب يتراجع بفعل تحسن شهية المخاطرة رغم ضعف الدولار واقتراب اتفاقات تجارية
شفق نيوز - بغداد / اربيل تراجع الذهب الأربعاء، مع تحسن الإقبال على المخاطرة عقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتفاق تجاري مع اليابان قبل الموعد النهائي الوشيك لفرض رسوم جمركية لكن ضعف الدولار وانخفاض عوائد السندات حد من الخسائر. هبط الذهب في المعاملات الفورية 0.2% إلى 3423.44 دولاراً للأوقية بحلول الساعة الـ01:36 بتوقيت غرينتش، بعد أن سجل أعلى نقطة له منذ 16 حزيران في وقت سابق من الجلسة. وانخفضت العقود الأميركية الآجلة للذهب 0.2% إلى 3437.70 دولاراً. وقال ترامب إن الولايات المتحدة واليابان أبرمتا اتفاقا تجاريا يتضمن رسوما جمركية بنسبة 15% على الواردات الأمريكية من اليابان. وقال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت إن مسؤولين أميركيين وصينيين سيجتمعون في ستوكهولم الأسبوع المقبل لمناقشة تمديد الموعد النهائي إلى 12 آب للتفاوض على اتفاق تجاري. وقال تيم واترر، كبير محللي السوق في سي.إم تريد "إذا تم توقيع المزيد من الصفقات التجارية قبل الأول من أغسطس آب، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الإقبال العام على المخاطرة وتقليل الطلب على الذهب...لكن إذا ظل الدولار تحت ضغط، فإن هذا سيبقي العودة إلى مستوى 3500 دولار للأوقية احتمالا ممكنا على المدى القريب". وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، انخفضت الفضة في المعاملات الفورية بنسبة 0.3% إلى 39.15 دولاراً للأوقية، وانخفض البلاتين 0.3% إلى 1437.83 دولاراً، وتراجع البلاديوم 0.8% إلى 1264.96 دولاراً.


شفق نيوز
منذ 12 ساعات
- شفق نيوز
عبر 5 عوامل.. العراق يستهدف الوصول بسعر الدولار إلى "مرحلة التطابق"
شفق نيوز– بغداد كشف المستشار المالي والاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، اليوم الثلاثاء، عن خمسة عوامل تقود إلى تقليص الفجوة بين السعر الرسمي للدولار وسعره بالسوق الموازي، في مسار قد يفضي إلى الوصول لمرحلة "التطابق" بين السعرين. ويبلغ سعر صرف الدولار الرسمي المعتمد من البنك المركزي العراقي 132 ألف دينار لكل 100 دولار، في حين اقتربت أسعار الصرف في السوق الموازي خلال اليومين الماضيين من 139 ألف دينار، في بغداد وإقليم كوردستان، وهو ما يمثل فجوة تسعى الحكومة إلى تقليصها. وقال مظهر محمد صالح، لوكالة شفق نيوز، إن "انخفاض قيمة الدولار في السوق الموازي لصالح الدينار العراقي، واقترابه من السعر الرسمي، يعود لعدة أسباب وعوامل، أولها منع التعامل بالدولار داخلياً، لا سيما في قطاع العقارات، ما شكّل رادعاً أساسياً لظاهرة الدولرة". وأضاف أن "العامل الثاني يتمثل في الانتقال إلى سياسة التعزيز بالنقد الأجنبي من خلال المصارف العالمية المراسلة، والتي تولت عمليات التحويل الخارجي، بعد انتهاء نافذة البنك المركزي مطلع العام الجاري، ما خفّض من مخاطر اللجوء إلى التمويلات غير الرسمية عالية الكلفة". وتابع صالح أن "دخول صغار المستوردين إلى نظام التمويل الرسمي، واعتمادهم على سعر صرف ثابت عند التحويل الخارجي، وهو ما يشكل نحو 60% من إجمالي التجارة الخارجية، يُعد العامل الثالث في تقليص الفجوة". وأشار إلى أن "العامل الرابع يتمثل في توسّع ثقافة استخدام بطاقات الدفع الإلكتروني بالعملة الأجنبية بين المسافرين، ما خفف الضغط على طلب الدولار النقدي، إلى جانب تيسير حصول المسافر على حصته من الدولار عبر المطارات بضوابط واضحة". أما العامل الخامس، فهو وفقاً لصالح، "سياسة الدفاع السعري عبر نشر التعاونيات للسلع الاستهلاكية ومواد البناء، والممولة من استيرادات تُحسب بسعر الصرف الرسمي 1320 ديناراً لكل دولار، ما يعكس تكاملاً بين السياسات النقدية والمالية والتجارية ضمن البرنامج الحكومي". وختم المستشار المالي تصريحه بالقول إن "اقتراب الفارق بين السعر الرسمي والموازي إلى أقل من 4% يشير إلى دخول مرحلة التطابق، إذ إن هذا الفارق يمثل فقط كلفة المعاملات".


وكالة الصحافة المستقلة
منذ 13 ساعات
- وكالة الصحافة المستقلة
الدولار يقترب من الرسمي.. إصلاح حقيقي أم خدعة مؤقتة؟
المستقلة /- في خطوة توحي بوجود 'تحوّل' في سياسة الحكومة تجاه أزمة الدولار، كشف المستشار المالي لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، مظهر محمد صالح، عن خمسة عوامل قال إنها تقود إلى تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي، تمهيداً لما وصفه بمرحلة 'التطابق' بين السعرين. لكن السؤال الأبرز: هل ما يحدث هو إصلاح حقيقي؟ أم مجرد 'مكياج اقتصادي' يخفي واقعاً هشاً؟ السعر الرسمي الذي حدده البنك المركزي بـ132 ألف دينار لكل 100 دولار، بات يقترب من السعر الموازي في السوق الذي لامس 139 ألف دينار، وهو انخفاض اعتبره البعض مؤشراً إيجابياً، فيما يراه آخرون حركة 'مسيّسة' ومؤقتة لتهدئة الشارع قبيل استحقاقات سياسية واقتصادية مقبلة. خمسة عوامل أم خمس أوراق ضغط؟ العامل الأول في نظر الحكومة هو 'منع الدولرة'، خصوصاً في قطاع العقارات، وهي خطوة تبدو جيدة نظرياً، لكنها تثير تساؤلات حول آلية التنفيذ في سوق يعج بالتعاملات غير الرسمية. العامل الثاني يتعلق بالتحويلات عبر البنوك المراسلة العالمية بعد إغلاق نافذة البنك المركزي، لكن مراقبين يتساءلون: هل هذه التحويلات متاحة حقاً للجميع؟ أم محصورة بأسماء وشركات محددة؟ العامل الثالث هو دخول صغار التجار إلى نافذة التحويل الرسمي، وهي خطوة يُشكك كثيرون في فعاليتها على أرض الواقع بسبب الروتين والبيروقراطية. العامل الرابع يدور حول توسع استخدام البطاقات الإلكترونية، وهي خطوة تصطدم بعقبات البنية التحتية التقنية وثقافة الدفع النقدي المتجذرة. أما العامل الخامس فيتعلق بما تسميه الحكومة 'الدفاع السعري' عبر التعاونيات، وهي سياسة قد تعيد العراق إلى زمن 'البطاقات التموينية'، وسط شكوك حول استدامتها. هل الفارق فعلاً أقل من 4%؟ تصريحات المستشار صالح بأن الفارق بين السعرين أصبح 'كلفة معاملات فقط'، تفتح الباب لجدل اقتصادي واسع: هل يمكن الحديث عن 'تطابق' في ظل استمرار السوق الموازي؟ وهل تم القضاء فعلاً على مافيات الدولار؟ أم أنها تغيّرت مراكزها فقط؟ ختاماً: تهدئة أم معالجة جذرية؟ الوصول إلى سعر صرف موحد هو مطلب شعبي واقتصادي مشروع، لكن من دون إصلاح شامل للمنظومة المالية، وزيادة الشفافية في التحويلات، وضمان العدالة في التوزيع النقدي، فإن أي انخفاض في السوق الموازي قد لا يكون سوى 'استراحة محارب' قبل انفجار جديد.