
ما الذي تريده إيران؟ جذور الصراع بين الجمهورية الإسلامية والغرب
كريستوفر دي بيليغ* - (إندبندنت عربية) 11/3/2025
دعمت إيران حلفاءها الإقليميين في صراعات الشرق الأوسط، لكن هذه التحركات جلبت لها خسائر فادحة، من اغتيالات قادتها إلى ضربات إسرائيلية وأميركية غير مسبوقة. يفسر الباحث والي نصر هذه السياسات في كتاب جديد، مؤكداً أن استراتيجية طهران تستند إلى أمن قومي متأثر بتاريخها وحربها مع العراق.
***
اضافة اعلان
منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بدا أن الذراع الطويلة لإيران كانت حاضرة في كل الأزمات التي اجتاحت الشرق الأوسط. فبينما كانت إسرائيل تركز على "حزب الله"؛ حليف إيران الشيعي المدجج بالسلاح في لبنان، فإنها لم تكن مستعدة على الإطلاق للهجوم البري المدمر الذي شنته "حماس" من غزة، ولم يتوقع الغرب أن يكون الحوثيون في اليمن، وهم ميليشيات يُفترض أنها غير منظمة تلقت ترسانة صواريخ كبيرة من طهران، قادرين على شل حركة الشحن العالمية في البحر الأحمر.
لكن الصراعات التي أشعلها حلفاء إيران الإقليميون لم تكن في مصلحة القيادة الإيرانية؛ فقد تعرضت طهران لسلسلة من الإهانات المتتالية، كان أبرزها عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، إسماعيل هنية، داخل دار ضيافة تابع للحكومة في طهران، وهو دليل صارخ على مدى اختراق الاستخبارات الإسرائيلية للأجهزة الأمنية الإيرانية، فضلاً عن الخسائر التي لحقت بـ"حزب الله" وتصفية معظم قياداته العليا، بمن في ذلك زعيمه القوي حسن نصر الله.
وبالإضافة إلى ذلك، نفذت إسرائيل أكبر الغارات الجوية ضد إيران في تاريخها، ويقال إنها أضعفت الدفاعات الجوية للبلاد. كما شهدت طهران الانهيار السريع لنظام بشار الأسد؛ حليفها الوثيق منذ فترة طويلة.
في كتابه "استراتيجية إيران الكبرى: تاريخ سياسي"، يحاول الباحث المخضرم في الشؤون الإيرانية والشرق أوسطية، والي نصر، تفسير المناورات الدبلوماسية الدولية التي أدت، على مدى عقود عدة، إلى الوضع الحرج وغير المستقر الذي تواجهه إيران اليوم. ويزعم نصر أن الرؤية الاستراتيجية للنظام الإيراني تستند بصورة أقل إلى نية ثورية لنشر الأيديولوجيا الإسلامية، وأكثر إلى مفهوم للأمن القومي متجذر في المنافسات الإقليمية والتجربة التاريخية لإيران، والتيارات المعادية للإمبريالية والاستعمار التي برزت خلال أواخر القرن العشرين. ويقول نصر "إن الإسلام ما يزال لغة السياسة في إيران"، موضحاً أن الطابع الديني للدولة يستخدم كوسيلة لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية داخلياً وتحديد المصالح الوطنية خارجياً. لكنه يضيف "أن هذه الأهداف باتت ذات طبيعة علمانية الآن".
وبالاستناد إلى متابعة نصر الدقيقة لمصادر إيرانية غالباً ما يتجاهلها آخرون، يأتي هذا الكتاب المفيد والغني بالمعلومات في لحظة تحول محتملة في إيران. مع إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إحياء حملة "الضغوط القصوى" التي انتهجها خلال ولايته الأولى، يواجه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 85 سنة معضلة إما الاستسلام لواشنطن -مما قد يؤدي إلى تخفيف العقوبات، لكنه سيتطلب اتفاقاً نووياً أكثر تقييداً وتقليصاً جذرياً للسياسة الخارجية الإيرانية الحازمة والطموحة- أو المضي قدماً في تطوير سلاح نووي، مما قد يستدعي ضربات إسرائيلية وأميركية استباقية قد تكون مدمرة بصورة كارثية هذه المرة.
في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أكد أحد كبار مستشاري خامنئي أنه في حال هاجمت إسرائيل المواقع النووية الإيرانية، فإن المرشد الأعلى قد يعيد النظر في فتواه السابقة التي تحظر تطوير أسلحة الدمار الشامل واستخدامها، في محاولة لفهم رد فعل إيران. وسيكون من المهم أيضاً أن يتخلى الغرب عن الصور النمطية القديمة حول نظام طهران، وأن يحدد الجذور الحقيقية لسلوكه وتوجهاته التي يعود جزء كبير منها إلى الماضي.
عقدة كربلاء
في العام 2001، أكد فيلق "الحرس الثوري" الإسلامي الإيراني، في إحدى رواياته التاريخية الرسمية، أن الحرب التي خاضتها إيران ضد العراق بقيادة صدام حسين خلال الثمانينيات، واستمرت ثمانية أعوام، قد تؤثر في "كل قضية من قضايا السياسة الداخلية والخارجية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لعدة عقود مقبلة على الأقل". وهي وجهة نظر أيدها خامنئي مراراً وتكراراً، بما في ذلك أخيراً في العام 2022. غالباً ما قلل المحللون الغربيون من أهمية الحرب الإيرانية - العراقية.
ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنها انتهت من دون نصر حاسم، وفي جزء آخر إلى أن الولايات المتحدة وعدداً من حلفائها الذين دعموا دكتاتورية صدام البعثية، غيروا موقفهم لاحقاً بصورة محرجة وأطاحوا به بعد 15 عاماً. ولا يرى المعارضون الإيرانيون المنفيون أي فائدة في الإشادة بصمود إيران البطولي في وجه جارتها المستبدة.
في الواقع، يزعم أن هذا الصراع المرير الاستنزافي المطول الذي قُتل فيه ما يصل إلى مليون شخص من الجانبين، ولد الثقافة الاستراتيجية التي وجهت سلوك إيران خلال معظم العقود الثلاثة والنصف اللاحقة، بما في ذلك الوقت الحالي.
يصف نصر هذه الثقافة بأنها متجذرة في رؤية تجمع بين "الخوف من العزلة والطموحات المفرطة"، وهو مزيج دفع طهران إلى استخدام القوات الوكيلة والعملاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الوسائل غير التقليدية، لإلحاق الضرر بأعداء أفضل تجهيزاً مثل إسرائيل والولايات المتحدة.
بالنسبة لصدام، مثلت الثورة الإيرانية في العام 1979 فرصة سانحة. فبعد أن شهد الإطاحة بمحمد رضا بهلوي، شاه إيران المدعوم من الولايات المتحدة، والأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بعد اقتحام أتباع الزعيم الإيراني الجديد آية الله روح الله الخميني السفارة الأميركية في طهران واحتجاز أكثر من 50 أميركياً كرهائن، رأى الزعيم العراقي فرصة للاستيلاء على الأراضي وتحرير الأقلية العربية في إيران من نير الهيمنة الفارسية، وخنق النظام الديني الجديد الذي كان يحرض الشيعة في العراق على الإطاحة بحكومة صدام التي يهيمن عليها السنة.
لكن الغزو الذي شنه صدام في أيلول (سبتمبر) 1980 أدى بصورة غير متوقعة وغير مقصودة إلى تعزيز النظام الديني الجديد في إيران. وقد استغرق الأمر من الإيرانيين أقل من عامين لاستعادة الأراضي التي خسروها خلال الهجوم العراقي الأولي، ودفْع العدو إلى ما وراء شط العرب، الحدود النهرية بين البلدين.
وبحلول تلك المرحلة، كان الخميني قد أجرى تطهيراً سياسياً شمل الليبراليين واليساريين، واستبدل الجيش الذي ورثه عن الشاه بقوة جديدة متشددة هي "الحرس الثوري" الإسلامي، وأبقى نفسه على مسافة واحدة من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة مزدرياً الاثنين، مما شكل مصدر إلهام بالنسبة لملايين المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي الأوسع. وعندما سأل صحفي باكستاني الخميني عن فوائد الثورة، أجاب ببساطة: "الآن تتخذ جميع القرارات في طهران".
وخوفاً من أن يكون لراديكالية الخميني تأثير معدٍ، اصطف الغرب والكتلة السوفياتية ومعظم العالم العربي إلى جانب صدام، فباعته فرنسا طائرات مقاتلة من طراز "ميراج"، وقدمت له إدارة ريغان معلومات استخباراتية أميركية، بينما زوده السوفيات بالدبابات والصواريخ. ومن السعودية تلقى مليارات الدولارات على شكل قروض ومؤن لقواته. وفي ظل الحظر الدولي شبه المحكم على الأسلحة، اضطرت إيران إلى الاعتماد في الغالب على الاكتفاء الذاتي والحماسة الدينية والوطنية.
وعندما أجريتُ مقابلات مع قدامى المحاربين داخل إيران قبل عقدين من الزمان، أدركتُ مدى قوة هذه الحماسة الدينية، وسمعت أن أعضاء مراهقين في "ميليشيات الباسيج" التطوعية كانوا يضعون العطر قبل تنفيذ عمليات انتحارية لكي تكون رائحتهم زكية عند لقاء خالقهم.
كما أخبروني عن فتيات اخترن عمداً أزواجهن من جنود تسمموا بصورة قاتلة بسبب الأسلحة الكيماوية العراقية التي طورت باستخدام مواد مزدوجة الاستعمال ومركبات كيماوية أولية قدمتها شركات في ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وكان بعض المحاربين القدامى الذين تحدثت معهم في مدينة أصفهان الإيرانية يتوقفون عن الكلام فجأة ويسعلون بصوت خافت، وقد احمرت وجوههم وضاقت صدورهم بينما كان الغاز الذي استنشقوه قبل أكثر من عقد يواصل الفتك بهم ببطء.
في صيف العام 1982، تحول ما سماه النظام الإيراني بـ"الدفاع المقدس" إلى حملة هجومية عندما عبرت القوات الإيرانية نهر شط العرب. وفي النهاية، كلفت الحرب التي استمرت ما يقرب من عقد ضد خصم كان مجهزاً بصورة أفضل بكثير، إيران، ما يصل إلى نصف مليون قتيل، من دون أن تتمكن القوات الإيرانية من الإطاحة بصدام أو الحصول بصورة دائمة على أي أراض عراقية. وأكدت القيادة الإيرانية أن الأهداف الجديدة للحرب هي القضاء على إسرائيل وإلهام شعوب الدول الخليجية السنية في الغالب للانتفاض ضد حكامها المدعومين من الغرب.
وكان الشعار الشائع بين المتطوعين الإيرانيين هو "الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء"، المدينة العراقية التي تحوي أضرحة شيعية مقدسة.
في الواقع، مر هذا الطريق عبر لبنان؛ حيث خاضت ميليشيات "حزب الله" الشيعية التي أنشأتها إيران في العام 1982 معارك ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ونفذت هجمات ضخمة ضد القوات الأميركية والفرنسية. كما مر أيضاً عبر مكة؛ حيث واجهت السلطات السعودية في العام 1987 تظاهرة نظمها حجاج إيرانيون، ولقي نحو 400 شخص حتفهم خلال الاشتباك، بمن في ذلك أكثر من 200 حاج إيراني. وبعد فترة طويلة من انتهاء الأعمال العدائية رسمياً بين إيران والعراق، مر الطريق إلى القدس عبر بوينس آيرس؛ حيث وجهت السلطات الأرجنتينية والمحققون الدوليون اتهامات لإيران بالتخطيط لتفجيرات السفارة الإسرائيلية في العام 1992 ومركز ثقافي يهودي بعد ذلك بعامين.
وفي تموز (يوليو) 1988، أسقطت سفينة حربية أميركية طائرة ركاب إيرانية فوق الخليج العربي، وهي الرحلة (655) التابعة للخطوط الجوية الإيرانية، مما أسفر عن مقتل جميع الركاب على متنها والبالغ عددهم 290 شخصاً. وزعمت الولايات المتحدة التي كانت تحاول احتواء القوة الجوية الإيرانية أنها أخطأت في التعرف إلى الطائرة وظنتها مقاتلة من طراز "إف-14 توم كات" (أعرب الرئيس رونالد ريغان عن أسفه لهذا لخطأ لكنه لم يعتذر).
حطمت هذه الكارثة عزيمة الخميني الذي شبّه قبوله لاحقاً بوقف إطلاق النار الذي رعته الأمم المتحدة بـ"تجرع السم"، وتوفي في العام 1989 وخلفه تلميذه علي خامنئي الذي، وفقاً لولي نصر، "بسط نفوذه على السياسة الإيرانية منذ ذلك الحين".
يعرف خامنئي بعناده ودهائه، وهو أيضاً رجل ذو قناعات ومبادئ راسخة. وعلاوة على ذلك، فإن كراهيته للولايات المتحدة عميقة للغاية. وينقل نصر عنه قوله خلال أحد اجتماعات المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني "أن أميركا مثل الكلب، إذا تراجعتَ فسوف ينقض عليك، ولكن إذا انقضضتَ عليه فسوف يرتد ويتراجع".
من قرار الرئيس جيمي كارتر بمنح الشاه حق اللجوء إلى الولايات المتحدة بعد الإطاحة به في العام 1979، وهو الحدث الذي أدى إلى الاستيلاء على السفارة الأميركية، إلى خطاب الرئيس جورج دبليو بوش الذي أدرج إيران ضمن "محور الشر" في العام 2002، وصولاً إلى انسحاب ترامب الأحادي في العام 2018 من الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع القوى العالمية وفرضه مئات العقوبات الجديدة، يمكن للمرشد الأعلى أن يستعين بكثير من الأدلة لدعم زعمه بأن الولايات المتحدة لطالما سعت إلى تغيير النظام في إيران.
متاهة سليماني
ولكن بحلول الأعوام الأولى من هذا القرن، جذبت احتمالات السلام وتدفق الاستثمارات الأميركية عدداً من السياسيين الإيرانيين الأكثر براغماتية، وبخاصة رفسنجاني، الذي شغل منصب الرئيس خلال تسعينيات القرن العشرين. وقد ترددت إشاعات عن سعيه، بدعم من بعض رجال الدين، إلى عقد "صفقة كبرى" مع "الشيطان الأكبر"؛ أي الولايات المتحدة. ثم خلَفه في المنصب محمد خاتمي، وهو رجل معتدل سعى بصورة أكثر صراحة إلى تحسين العلاقات مع واشنطن.
ويذكر نصر، استناداً إلى مقابلاته مع خاتمي، أنه عندما أطلع هذا الأخير خامنئي في العام 2003 على رسالة كان قد صاغها إلى بوش يعرض فيها حل الخلافات العالقة مع الولايات المتحدة كافة، نصحه المرشد الأعلى بعدم إرسالها، وحذره بقوله: "إن أميركا ستخذلك وستفسر الرسالة على أنها ضعف". بيد أن خاتمي أرسلها على أي حال، لكن بوش لم يرد عليها، فاضطر الرئيس الإيراني إلى الاعتراف بأن المرشد الأعلى كان على صواب.
في نظر خامنئي، فإن ما يهم هو الأمد البعيد. فالسعي وراء المثل العليا أكثر أهمية من تحقيقها، وسيتبين دائماً أن النكسات مؤقتة، وقد يستغرق تحقيق النصر أجيالاً. وعلى الرغم من كلفتها وعدم حسمها، فإن الحرب الإيرانية - العراقية علمت طهران كيف تتحايل على العقوبات الغربية باستخدام شركات وهمية ووسطاء. وقد منحت الحرب "الحرس الثوري" الإيراني رغبة الدخول في الأعمال والمشاريع الخاصة، مما مهد الطريق إلى الهيمنة الاقتصادية التي تتمتع بها الشركات المرتبطة بـ"الحرس الثوري" اليوم، وبخاصة في مجال الطاقة والبنية التحتية.
كما منحت النظام، أو على الأقل أجزاءه الأكثر أيديولوجية والتزاماً، إيماناً بقدرته على الصمود وقدرة إيران على التعافي من النكسات، وربما الأهم من كل هذا هو أن الحرب حولت إيران إلى دولة مكتفية ذاتياً في مجال التكنولوجيا وقادرة على تصنيع القنابل المتطورة المزروعة على جانب الطريق التي استخدمتها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران لقتل مئات الجنود الأميركيين في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، والطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية التي أطلقتها إيران على إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وبالطبع أجهزة الطرد المركزي التي دفعت طهران إلى حافة العتبة النووية على الرغم من المعارضة الدولية.
بالإضافة إلى ذلك، كان هجوم صدام على إيران مصدر إلهام لعقيدة طهران الإستراتيجية المسماة "الدفاع المتقدم" [أي العمل على نقل أي مواجهة خارج حدود أراضي إيران من خلال الأدوات والوكلاء الإقليميين] التي تبنتها رسمياً في العام 2003. وما يراه أعداء إيران وخصومها على أنه عدوان يزرع الفوضى من خلال الطائفية والمكائد القذرة، هو في نظر النظام محاولة دفاعية لتحييد التهديدات قبل أن تصل إلى حدود البلاد.
لقد عززت إيران قوة حلفائها الشيعة في العراق على حساب الفصائل السنية (بما في ذلك المتطرفون المنتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية أو "داعش")، وأخضعت الجسم السياسي اللبناني لسيطرة "حزب الله"، وأرسلت آلافاً من "الحرس الثوري" الإيراني والمقاتلين الأجانب، معظمهم من الشيعة الأفغان، لمساعدة بشار الأسد في قتال المتمردين الذين أرادوا الإطاحة به في سورية.
وعلى مدى معظم العقد الثاني من هذا القرن، أشرف على هذه الجهود الرجل الذي أصبح أحد أبرز الدعاة المؤيدين لإستراتيجية "الدفاع المتقدم"، الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
في أوائل العقد الثاني من عمره وفي بداية الحرب الإيرانية العراقية، انضم سليماني إلى "الحرس الثوري" الإيراني ونفذ أعمالاً تخريبية داخل العراق. وسرعان ما ارتقى إلى مناصب أعلى فتولى في العام 1998 قيادة "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري" الإيراني؛ الجناح المسؤول عن العمليات الخارجية. ولم يكن رجلاً متعصباً أيديولوجياً لا يتزحزح عن معتقداته. ففي أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، قدم للولايات المتحدة معلومات استخباراتية ساعدتها في الإطاحة بعدوهما المشترك في أفغانستان، "حركة طالبان". لكن سليماني لم تكن لديه أي أوهام بشأن "صفقة كبرى" محتملة مع الولايات المتحدة.
وقد شبه علاقة واشنطن بإيران بعلاقة "الذئب والخروف". ولم يكن معجباً بجودة القوات السورية التي اضطر إلى العمل معها عندما كان يدير عملية التدخل العسكري الإيراني في سورية. وووفق ملف نشرته "مجلة نيويوركر" عن سليماني في العام 2013، فقد قال لأحد السياسيين العراقيين "إن الجيش السوري عديم الفائدة، أعطني لواء واحداً من 'الباسيج' وسأتمكن من السيطرة على البلد بأكمله".
وغض النظر عن ذلك، كانت إنجازات سليماني كبيرة. ففي العام 2015، أقنع شخصياً كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، بالتدخل في الصراع السوري، مما سمح لنظام الأسد بالبقاء مدة عقد آخر من الزمان تقريباً. وفي العام نفسه، خطط أيضاً لاستعادة مدينة تكريت العراقية المهمة من تنظيم "داعش"، بمشاركة القوات العراقية وقوات "الحرس الثوري" الإيراني. وقد جمع سليماني بين شجاعة المحارب ودهاء رجل الاستخبارات وطغيان الحاكم، ووصفه مسؤول عراقي كبير سابق بأنه "إستراتيجي بارع وذكي بصورة مخيفة". وفي أحد الاقتباسات الكثيرة التي يستشهد بها نصر، يذكر أن سليماني قال لخامنئي: "لقد وضعنا الحبة في فم الأسد، لكنه يبصقها بمجرد أن ندير وجوهنا".
من أجل الحفاظ على روح الحرب بين إيران والعراق، أنشأت الجمهورية الإسلامية متاحف "الدفاع المقدس" في جميع أنحاء البلاد، وحاولت تعزيز قيم الحماسة والتضحية بالنفس التي كانت محورية خلال تلك الحقبة من خلال الأفلام وألعاب الفيديو والموسيقا الشعبية. لكن هذه الجهود لم تحقق نجاحاً كبيراً، إذ إن 60 في المائة من الإيرانيين الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة ليست لديهم ذكريات عن تلك الحرب، وكثير منهم، في ظل العزلة الاقتصادية وتراجع الفرص والآفاق في الداخل، مستاؤون من أن نظاما يحول مليارات الدولارات إلى "محور المقاومة"، وهو الاسم الذي يطلقه على شبكة وكلائه وشركائه. وفي كل مرة تشهد إيران إحدى موجات الاحتجاج والاضطراب التي تعانيها دورياً مثلما حدث في نهاية العام 2022 بعد وفاة امرأة إيرانية شابة، مهسا أميني، أثناء احتجازها لدى الشرطة، ينتقد المحتجون تورط إيران في النزاعات الخارجية.
وقد انتشر مؤخرا مقطع فيديو على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي الإيرانية يظهر فيه مدير مدرسة إيرانية للذكور يهتف قائلاً "الموت لإسرائيل"، فيرد عليه تلاميذه بحماسة "الموت لفلسطين".
في العام 2022، أعرب مير حسين موسوي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء خلال الثمانينيات -لكنه انقلب على خامنئي في العام 2009 بعد انتخابات متنازع عليها وظل قيد الإقامة الجبرية منذ ذلك الحين- عن أسفه لأن إيران كانت تساند "نظام الأسد الذي يقتل الأطفال" وتثير العنف في جميع أنحاء المنطقة.
وكدليل على ما سماه "شر هذا المسار الخاطئ"، أشار إلى "ملايين اللاجئين ومئات آلاف القتلى في سورية، وتشويه سمعة "حزب الله" والحروب الطائفية والعرقية في اليمن، واستعداد الدول العربية للتعاون مع إسرائيل لمواجهة الهلال الشيعي".
المعضلة النووية
في ضوء الأخطاء الأخيرة التي ارتكبتها إيران والضربات القوية التي وجهتها إسرائيل إلى هيبتها الإقليمية، من المغري اعتبار اغتيال سليماني في العام 2020 بواسطة طائرة مسيرة أميركية ضربة استراتيجية بارعة من ترامب الذي أعطى الأذن بتنفيذها قرب نهاية ولايته الأولى. ولو كان سليماني ما يزال على قيد الحياة وقادراً على التأثير في الأحداث، لكان من المستبعد أن يشن "حزب الله" هجومه غير المدروس على إسرائيل بعد فظائع "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وهو قرار أدى إلى انتقام إسرائيلي عنيف لم يسفر عن مقتل نصر الله وعدد من كبار قادته وحسب، بل أدى أيضاً إلى تعطيل تدفق الأسلحة والأموال التي كان يتلقاها من إيران، وربما لم تكن طهران لتسمح بسقوط الأسد بسهولة خلال كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وهو ما كان بمثابة ضربة قاسية لخامنئي.
وقد وصف أحد القادة الكبار في الحرس الثوري سورية ذات مرة بأنها "مفتاح المنطقة، وما نخسره في فقدان سورية أكثر تدميراً مما قد نخسره في العراق ولبنان واليمن" [وفقدانها سيكون أكثر خطورة من أي خسائر محتملة في العراق ولبنان واليمن].
لا توجد طريقة واضحة يمكن لإيران أن تتعافى بها من النكسات التي تعرضت لها خلال العام الماضي، وفي هذا السياق، كتب نصر أنه "حتى لو اختارت الجمهورية الإسلامية التخلي عن الدفاع المتقدم اليوم، فلن يكون من السهل القيام بذلك"، وكان ذلك قبل سقوط الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024.
وعلاوة على ذلك، تجعل المعضلة النووية موقف طهران أكثر تعقيداً، إذ من المرجح أن تضطر إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع إدارة ترامب. وخلافاً لما كان الوضع عليه خلال الأعوام التي تلت حرب إيران والعراق، حينما كانت إيران تمتلك قيادة شابة نسبياً، أصبح خامنئي ودائرته الداخلية أشبه بنظام حكم مسن، في وقت يزداد فيه الجيل الجديد رفضاً للحكم الديني.
لكن، قد لا تكون هذه هي النهاية بعد. فعلى الرغم من حالة الإرهاق والهشاشة التي تعانيها إيران،
واستعداد ملايين الإيرانيين للنزول إلى الشوارع للتعبير عن ازدرائهم للنظام الإيراني، فإن الشعب يبقى شديد الحرص على حماية بلاده والهجمات الخارجية غالباً ما توحده. ومن الأمور التي تزيد حال عدم اليقين مسألة الخلافة الإيرانية. في الواقع، يبدو أن خامنئي يفضل أن يخلفه في منصب المرشد الأعلى ابنه الثاني مجتبى (56 سنة) ويصفه نصر بأنه "مستشاره الرئيسي".
وفي مقابلة حديثة، أشار عباس باليزدار، وهو أحد المقربين من مجتبى، إلى الفساد المستشري في "الدوائر الحاكمة" داخل الجمهورية الإسلامية، وأعرب عن ثقته في أنه إذا تولى مجتبى الحكم بعد والده فلن "ينحر الفاسدين" ويقضي عليهم بلا رحمة وحسب؛ بل سيعمل أيضاً على زيادة الحريات الاجتماعية ويطلق السجناء السياسيين، وهذا من شأنه أن يضعه في فئة الإصلاحيين التحديثيين نفسها، مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
ومع ذلك، قضى مجتبى أعوام الحرب الإيرانية - العراقية في خدمة كتيبة من "الحرس الثوري" الإيراني كانت معروفة بإخلاصها الأيديولوجي المطلق. ووفقاً لنصر، فهو يرغب في "استمرار إستراتيجيات المقاومة و'الدفاع المتقدم' التي وُلدت أثناء الحرب"، كما أنه لم يظهر أي مؤشر على أنه أقل التزاماً بالبرنامج النووي مقارنة بوالده، وإذا أصبح مجتبى بالفعل المرشد الأعلى، فلن تقترب الجمهورية الإسلامية من أن تصبح ملكية وراثية وحسب، بل إن إستراتيجية "الدفاع المتقدم" قد تستعيد زخمها.
* كريستوفر دي بيليغ: صحفي ومؤرخ ومؤلف كتاب "في روضة الشهداء: مذكرات عن إيران" In the Rose Garden of the Martyrs: A Memoir of Iran. المقال مترجم عن "فورين أفيرز" حيث نشر في 25 شباط (فبراير) 2025.
في

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ ساعة واحدة
- أخبارنا
خادم الحرمين الشريفين يصدر توجيهه باستضافة 1300 حاج وحاجة من 100 دولة لأداء مناسك الحج
أخبارنا : وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- باستضافة (1300) حاج وحاجة من (100) دولة لأداء مناسك الحج لهذا العام 1446هـ، وذلك ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة، الذي تنفذه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد. وبهذه المناسبة، رفع معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد المشرف العام على برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، الشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين، ولصاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله- على هذا التوجيه الكريم، الذي يعكس ما تقوم به القيادة الحكيمة في خدمة قضايا الأمة الإسلامية، ويؤكد رسوخ المملكة العربية السعودية في موقعها الريادي للعالم الإسلامي. وأوضح أن الوزارة بدأت فور صدور التوجيه الكريم، تسخير جميع الإمكانات والطاقات لتقديم أفضل الخدمات للضيوف، حيث تم إعداد خطة تنفيذية متكاملة تشمل برامج إيمانية وثقافية وعلمية، وزيارات ميدانية لأبرز المعالم الإسلامية والتاريخية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلى جانب تنظيم لقاءات مع عدد من العلماء وأئمة الحرمين الشريفين، مما يعزز الأثر الروحي والمعرفي لهذه الرحلة المباركة. وعدّ برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة من المبادرات النوعية والمتميزة التي تهدف إلى توثيق الصلات مع القيادات الدينية والعلمية والفكرية في العالم الإسلامي، وتعزيز التواصل الحضاري والدعوي، مشيرًا إلى أن البرنامج استضاف منذ انطلاقته عام 1417هـ قرابة 65 ألف حاج وحاجة من 140 دولة، وفرت لهم الوزارة منظومة متكاملة من الخدمات اللوجستية والدينية والصحية والثقافية، بدءًا من لحظة ترشيحهم وحتى عودتهم إلى بلدانهم بعد أداء مناسك الحج. وأكد معاليه أن هذه الاستضافة تُمثل صورة مشرقة من صور عطاء المملكة الذي لا ينضب في خدمة الإسلام والمسلمين، وتجسد رؤية المملكة في تعميق علاقاتها مع الشعوب الإسلامية وتعزيز الحضور الإيجابي عالميًا، تحقيقًا لمستهدفات رؤية 2030 في بُعدها الإسلامي والإنساني، سائلًا الله أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، وأن يجزيهما خير الجزاء على ما يقدمانه من جهود جليلة لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يديم على المملكة أمنها واستقرارها وريادتها في شتى المجالات. ــ واس

عمون
منذ 4 ساعات
- عمون
الاستراتيجية الأردنية بعيد الاستقلال تحول لا ثبات!
في أقل من أسبوعين، كان مسؤولان بريطانيان عسكريان في عمّان؛ الأول مستشار مجلس الأمن القومي البريطاني، والثاني كبير مستشاري وزارة الدفاع البريطانية. وقد يكون رئيس وزراء مالطا في عمّان ومباحثاته الموسعة مع أعلى مراتب المسؤولية السياسية الأردنية في الدولة ما يتفق ضمنيًا مع عنوان المقالة. في الفصل التمهيدي، يمكن أن زوّار عمّان، في أعلى مستوياتهم، يرون أن هذه العاصمة في استراتيجيتها تحمل سؤالًا وجوابًا: كيف أن النظام العربي يُعاد تشكيله بعد 7 أكتوبر، حرب الإبادة وتطوّرها إلى حرب التجويع على غزة، وعودة ترامب للبيت الأبيض بعنفوان بارز، مُلخصة بإعادة هيبة أمريكا في العالم.! وبعد سقوط نظام الأسد التابع لطهران، ونزع أنياب حزب الله، وتصفيات متتالية لقيادات سياسية وعسكرية من طراز رفيع لحركة حماس، وببزوغ مشروع عقاري للحل في غزة من بين رُكامها الحجري والبشري، تطوّر إلى "ريفييرا غزة"، ثم مشروع عربي تمويلي، ليكون سؤال وجواب زوّار عمّان قد صاغته جولات متواصلة مرهقة للملك في أوروبا، ودول اجتماع العقبة، وداخل المؤسسات الأمريكية التمثيلية: الاقتصادية، المالية، الاستخبارية، العسكرية، الدفاعية، وصنّاع الرأي العام، للوقوف على أبعاد المرحلة الجديدة لأمريكا، وقراءة دقيقة للقوى والتيارات التي تصنع التغيير وتدير دفة إدارة البيت الأبيض، خصوصًا المجمع الصناعي العسكري المالي الأمريكي ودوره في عسكرة السياسة. ولا ننسى استفزازات متتالية للكيان ضد الأردن ونهجه الإنساني، الذي أراد أردنًا يصبغ ويطبع البعد الإنساني على تنازع البقاء وصراع الأمم والشعوب والمصالح. قد تكون عمّان واستراتيجيتها، منذ تحول الثقل والوزن نحو موسكو (الاتحاد السوفيتي السابق) ونحو الاتحاد الأوروبي، قد قادها الراحل الكبير الحسين بن طلال الباني منذ عام 1964، واستمرت في عهد الملك عبد الله الثاني، وخصوصًا حين تم تدويل ربيع سوريا بفوضاها وكثافة فصائل التطرف التي عشّشت في سوريا، وهي من كل حدب وصوب. وبالضرورة، كان واجبًا أن تقفز أمن حدودنا الشمالية وضمان عدم اختراق السيادة الأردنية إلى المقدمة، أما من الميليشيات أو من تجّار ومروّجي المخدرات، فكان لا مناص من التنسيق السياسي والأمني، وبالضرورة البحث الجدي عن صناعة أفق للتسوية في سوريا وعودة السلم الأهلي لربوعها، دون أن يكون ذلك على حساب القضية الأم وأحداث لبنان المتتالية. هذا كان في زمن وفترة التحولات الجيوسياسية والحرب الباردة، بحيث امتلك رؤى تعزيز مواقف الأردن على الساحة الدولية، وسعى لضمان دعم روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقًا) للأردن. وفي ظل توترات العالم العربي، مرّت في الثمانينات تغييرات كبيرة بفعل الأحداث في فلسطين والضفة ولبنان والعراق والسودان ومصر وليبيا وتونس، ومن زاوية توزيع وتنويع خيارات الأردن الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية وتحقيق التوازن في السياسة الخارجية، ودور الأردن كطرف مؤثر في القضايا الإقليمية والدولية، مما أثْرى علاقات الأردن مع القوى الكبرى في العالم. وخارج إطار السيطرة السياسية، إما بالولاء أو التبعية أو كليهما، وبالاتفاق الضمني أو التقاسم المصلحي، لكل من الدولتين العظميين: بريطانيا وأمريكا. ولأجل ذلك كانت نشأته (أي الأردن) وازدهاره، بخلاف استمراره تحت رحمة الإنعاش الاقتصادي الخارجي، إما من أمريكا أو بريطانيا، وكلاهما تملكان استراتيجية التحول لا الثبات، وفق متغيرات العصر ومصالحهما العليا.! أن ندرك، والعام الجديد على الأبواب، أن التغيير الحقيقي الصحيح لا يكون إلا بتطبيق حرفي لمنظومة التحديث السياسي، والرؤية الاقتصادية، والتحديث الإداري، التي بين طيّاتها الحرص على السيادة الوطنية، والقرار المستقل، والتحالفات والاتفاقيات الاستراتيجية. هي ما نذهب إليه إلا لخدمة مصالح الأردن، وبتزامن مع تمتين لحمة النسيج الاجتماعي ووحدة الأردنيين، مقدمةً لمشروع وحدة الأمة، بمزيد من الحكم الرشيد، وبالاستمرار في تنقيح الدستور الأنقى وتعديله، وتجهيز برامج للحكم الإداري والاقتصادي والتعليم والسياسة الخارجية المتوازنة، بالطبع لا تخرج إلا عن استراتيجية وطنية لا تراعي أحدًا ولا تتزلف لأحد، ولا هي "في جيب أحد"، اللهم مع ما يجري من مستجدات في الإقليم من حولنا بوعي، فنتجنّب أن نضل أو نُستغل.! واضح أنه من الغباء الاعتقاد أن استراتيجية الأردن خاضعة أو منجذبة تارةً لأمريكا، وحين تدير ظهرها له أو تختلف الرؤى السياسية، فيُحتل "مسك الأردن من الكتف الذي يؤلمه"، فيلوذ نحو لندن أو بروكسل. وربما تذهب ببعض خبثاء السياسة والمتآمرين عليه تاريخيًا، إلى أنه يمارس دورًا وظيفيًا صنعه دهاقنة تل أبيب وجنرالات التلمود – لا سمح الله. وكأننا دولة وكيان كرتوني تتقاذفه الرياح، بينما مئة وخمس سنوات من عمره، وتسع وسبعون سنة مضت على استقلاله، وربع قرن من حكم الملكية الرابعة، لا ندرك أننا نصنع من تلاشي مفهوم الدولة – بفعل كثافة التدخلات الآتية من النظام الدولي وسرعة الأحداث التي تنذر بالانهيار – إلى دولة كأمر منطقي بالنظر إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي والمصالح الاقتصادية والسياسية، إلى دولة "فاتحة طريق" على خيارات تعزيز السيادة، وتعظيم وتفعيل القرار المستقل، وتحولات للثبات في كل شيء، إلا خلع ثوابتنا بالمقامرة بمصالح الأردن شعبًا ودولة، وأنه ارتسم على خارطة الشعوب الحية المؤمنة بالمستقبل.!


وطنا نيوز
منذ يوم واحد
- وطنا نيوز
صرخة مدوية في وجه التيه العربي
بقلم د. هاني العدوان من لظى المعاناة وعمق التحدي، انبثقت الدولة العثمانية شامخة، على أرض الأناضول التي كانت تموج بصراعات السلاجقة الممزقين، وتهوي عليها رياح المغول العاتية، وتتربص بها أطماع البيزنطيين المتزايدة وسط هذا اللهيب، بزغ نجم عثمان بن أرطغرل، قائدا فذا ورجلا ملؤه الإيمان، نذر نفسه لهدف أسمى، توحيد القبائل التركية تحت راية واحدة، وبناء دولة قوية تحميها وتذود عنها لم يكن دربه ممهدا بالحرير، بل كان وعرا مليئا بالمخاطر، فالمغول الذين اجتاحوا المنطقة بقوة لا تقهر، والصليبيون، الذين لم ينسوا حلم استعادة القدس، أدركوا خطورة هذا التوحد التركي المتنامي، فما كان منهم إلا أن حيكت المؤامرات، وبذلت الأموال والنفوذ لشراء الذمم، وأُججت الفتن والنعرات بين القبائل، ووعد بالسيادة والنفوذ لمن ينضم إليهم، وفتحت أبواب التجارة طمعا في كسب ولائهم، ولاقى ما لاقى من مؤامرات، بدءا من الأقربين، فلم يسلم من مؤامرات عمه، وحتى بعض إخوته، لكن عثمان بحكمته وإيمانه الراسخ، كان سدا منيعا أمام هذه المخططات الدنيئة لقد أدرك بفطرته أن قوة الأمة تكمن في وحدتها، وأن الفرقة والضعف لا يجلبان سوى الذل والهوان، لذلك آثر الحوار والتفاهم على القتال، والعفو والصفح على الانتقام، فلم تسفك في عهده قطرة دم تركية واحدة في صراع داخلي، وكان شعاره الخالد 'صلح بين قومي خير لي من نصر على عدوي' بهذا النهج القويم، استطاع عثمان أن يكسب ثقة القبائل وولاءها، وأن يجمع شتاتهم تحت رايته الظافرة لقد أسس دولته على قواعد متينة من العدل والشورى والتسامح، وجعل من الإسلام نبراسا يضيء طريقه، لم يكتف بالفتوحات العسكرية، بل اهتم أيضا ببناء المؤسسات، وتنظيم الإدارة، ونشر العلم والثقافة، لقد وضع اللبنة الأولى لدولة عظيمة، استمرت لأكثر من ستة قرون، وحملت راية الإسلام إلى أقاصي الأرض، دولة كانت منارة للعلم والحضارة، وقوة عظمى يحسب لها ألف حساب واليوم، ونحن نرى أمتنا العربية ممزقة الأوصال، مقطعة الأقطار، يعاني فيها العربي مرارة الغربة وبين إخوته، وتسلب الأراضي، وتنتهك الأعراض، وتشرد الشعوب، ويفتك الجوع ببعض الأقطار، نتساءل، نحن ابناء الأمة حاملة رسالة الإسلام ، الأمة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة اخرجت للناس ، الأمة العربية ذات المجد ،اين نحن من ماضينا ، اين نحن من دروس عثمان بن ارطغرل حيث امتدادها ما زال ماثلا أمامنا على أرض تركيا العظيمة ، مهابة الجانب ، اين نحن من بطولات الصحابة الافذاذ رضوان الله عليهم ،أين النخوة والشهامة والعزة والتاريخ التليد، لقد أصبح الدم واللسان العربي، وحتى العقيدة التي تجمعنا، لم تعد قاسما مشتركا يجمعنا، العالم من حولنا يتحد ويتآزر، ونحن نزداد فرقة وتقزما وشتاتا ما الذي اعمى بصائرنا، كيف كنا وأين صرنا، اصبحنا أمة متخلفه مكانها في ذيل الأمم ، ليس لنا موقف ولا اعتبار وليس لنا حسبة بين الأمم ، أمة مستهلكة وثرواتها منتهبه وأرضها مغتصبة وقرارها ليس من رأسها ، فهل آن الأوان لأن نستلهم من ماضينا وعقيدتنا وتاريخنا ،المجيد ، ونعيد لأمتنا مجدها ووحدتها ان مصير الأمة معلق في رقاب قادتها وهم على قدر كبير من الحكمة وعريقون في السياسة، الرهان معقود عليهم ، وليس ثمة ما يحيل عن تحقيقهم احلام وتطلعات شعوبهم الا أن يلتقوا ويلقوا بالخلافات وراء ظهورهم ، يضعوا مصالح أمتهم فوق أية اعتبارات وينهضوا بهذه الشعوب حيث مكانتها التاريخية فيا قادة الامة الذين نجلهم ونقدرهم، يا من بيدكم مقاليد الامر، ويا من على عاتقكم امانة التاريخ، هل من مستجيب لنداء الشعوب التي تئن تحت وطأة التيه والفرقة، هل من ملتفت لارادة امة تواقة للمجد، عطشى للوحدة، مستعدة لبذل الغالي والنفيس في سبيل عزتها ان صرخة هذه الامة ليست مجرد كلمات، بل هي رجاء صادق، ونداء من اعماق الأفئدة، بان تلقوا بالخلافات جانبا، وان تضعوا مصلحة الامة العليا نصب اعينكم ان شعوبكم تتطلع اليكم بان تستلهموا من عظمة الماضي، لترسموا مستقبلا يليق بعراقة هذه الامة وتضحيات ابنائها، فاستجيبوا لنداء الوحدة، ولصوت الحق الذي يصدح من حناجر الملايين، لتعود الامة العربية منارة للعالم، وقوة لا تقهر، ومجدا لا يزول، ولتكونوا شهودا على نهضة عظيمة، لا على تيه مستمر