
وزير خارجية السودان السابق للجزيرة نت: الحرب أصبحت إقليمية وتقسيم البلد غير وارد
نيروبي- يرى وزير خارجية السودان السابق الدرديري محمد أحمد أن الحرب في السودان الآن انتقلت من مواجهة بين الجيش السوداني مع مليشيا متمردة إلى حرب إقليمية، وأن ما حدث في بورتسودان قبل يومين أو ثلاثة، ولا يزال يحدث، هو عدوان على السودان من قوى إقليمية ومن دول ذات مصلحة في أن يستمر هذا العدوان ويأخذ أشكالا جديدة.
ويؤكد الدرديري، في مقابلة مع الجزيرة نت، أن التقسيم ليس خيارا واردا مطلقا، وأن من يتحدثون عن التقسيم لا يدركون جيدا ما هي طبيعة الشعب السوداني.
وعن الوضع العالمي، يقول الدرديري إنها مرحلة إعادة تشكل جديدة. ولا يستبعد أن تحدث فيها صدامات كبرى، وأن السبب في الاضطراب العالمي هو غياب التوازن. وقال "إننا نشهد ميلاد قطبيات متعددة لم تتبلور بعد حتى اليوم".
ويتحدث وزير الخارجية السابق، للجزيرة نت، عن أهم القضايا التي تواجه السودان في ظل حرب تجاوزت العامين.
طلبت الصين ودول أخرى من رعاياها مغادرة السودان، كيف ترى تطورات الحرب الحالية؟
لا شك في أن الحرب في السودان الآن انتقلت من مواجهة بين الجيش السوداني مع مليشيا متمردة إلى حرب إقليمية. وما حدث في بورتسودان ، قبل يومين أو ثلاثة ولا يزال يحدث، هو عدوان على السودان من قوى إقليمية ومن دول ذات مصلحة في أن يستمر هذا العدوان ويأخذ أشكالا جديدة.
وبالتأكيد من حيث السلاح، ومن حيث التوسع الذي حدث في ميدان المعركة، ومن حيث أيضا الاستهداف الذي تم وطبيعته، فإن هذه الحرب الآن تتحول إلى حرب بطابع اقليمي. ومن شأن الحروب الإقليمية أنها تكون موضعا لردود فعل عالمية أوسع وأكبر مثل الذي ذكرت أنت من الصين ومن الجهات الأخرى.
لكن في النهاية بالنسبة للشعب السوداني، أيا كانت هذه التحولات، فإن هدف العدوان لا يزال ذاته وهو أن يمنع الشعب السوداني من ممارسة قراره الحر المستقل وأن تفرض بعض القوى الإقليمية إرادتها عليه وأن تفرض خياراتها السياسية عليه. وهذا ما يقف الشعب السوداني بأكمله في وجهه دون أدنى هوادة. ومن ثم فبالنسبة للشعب السوداني فإن هذا التحول لا يزيده إلا تصميما وإرادة.
التقسيم ليس خيارا واردا مطلقا. من يتحدثون عن التقسيم لا يدركون جيدا ما هي طبيعة الشعب السوداني. فالشعب السوداني متماسك، وهو شعب عاش (أفراده) معا لأكثر من 3 آلاف سنة.
فشمال السودان سابقا -السودان حاليا- ظل منذ 3 آلاف سنة في حالة تلاقح وتواصل وتزاوج وانصهار. ومن ثم فهو أحد الشعوب الحقيقية القليلة في أفريقيا وليس شعبا صنعته الحدود الموروثة من المستعمر.
وهذا يعني أن أي حديث الآن عن تقسيم الشعب السوداني هو حديث لا يدرك طبيعة الشعب السوداني أو يأخذها في الاعتبار. وإذا كنت تتحدث عن التقسيم فإن أول ما تعنيه هو أن تفصل دارفور فهل دارفور إثنية واحدة؟
وهل دارفور تختلف دينيا أو عرقيا عن باقي السودان؟ وهل لدارفور الآن مطامع بأن تكون دولة مستقلة عن باقي السودان؟ أم أن دارفور نفسها هي التي قادت السودان في أكثر من حقبة من تاريخه، وهي نفسها التي أسهمت في تكوين الشخصية السودانية الحالية.
فهذا الحديث عن التقسيم ليس له أبدا ما يصدقه على الواقع.
هناك دراسات وكتابات تتوقع تقسيم السودان إلى 5 دول، والبداية كانت من الجنوب، والآن هناك حرب يمكن أن تنتهي بتقسيم جديد.
إعلان
هذا من المستحيل أن يقع، أن يقسم السودان لدولتين فضلاً عن خمس دول، هذا من المستحيل.
تخصصي وموضوع رسالة الدكتوراه التي كتبتها هو الحدود في أفريقيا، وتنطلق أطروحتها من أن الحدود في أفريقيا ظلت مستقرة منذ عام 1960 تقريباً أي عندما استقلت القارة الأفريقية.
فالحدود التي ورثناها عن المستعمر منذ ذلك الحين هي حدود الدول ذاتها الموجودة الآن في أفريقيا. ولا توجد دولة في أفريقيا في حدود بخلاف حدود الاستقلال باستثناء دولة جنوب السودان ودولة إريتريا.
بينما الدول في أوروبا وفي أميركا اللاتينية وفي آسيا بلغت أعداداً مضاعفة في الحقبة ذاتها. وأوروبا نفسها ظهرت فيها خلال هذه الفترة أكثر من 15 دولة جديدة.
ما هو السبب الذي يجعل أفريقيا استثناء ويجعلها مستقرة من حيث الحدود الجغرافية رغم تفشي الصراعات فيها، ويجعلها استثناء من حيث عدم ميلاد دول جديدة؟ السبب أن هناك إرادة أفريقية جماعية.
ونحن في أفريقيا قررنا منذ فجر الاستقلال أن نترك موضوع الحدود لمنظمة الوحدة الأفريقية سابقاً و الاتحاد الأفريقي حالياً. وقرار الانفصال عن أي دولة من الدول ليس ملكاً لتلك الدولة وإنما للدول الأفريقية جمعاء.
وقرار انفصال جنوب السودان -وأنا كنت أحد المفاوضين في هذه المسألة- لم يكن أبداً قراراً سودانياً خالصاً إنما كان قراراً أفريقياً بالدرجة الأولى. نعم كان السودان وراءه لكن كانت وراءه أفريقيا بأكملها، فكانت هناك قرارات للقمم الأفريقية المتعاقبة بهذا الشأن.
وما لم تتوفر هذه الإرادة الأفريقية -والتي توفرت أيضاً في الحالة الأخرى حالة أريتريا- فإنه مهما حاول المحاولون فإنه لن تتكرر حالة الانفصال في أي دولة أفريقية أخرى، فضلاً عن دولة أصلاً حدث فيها انفصال مثل السودان.
السياسيون السودانيون -باستثناء قلة قليلة باعت نفسها للشيطان- يقفون الآن جميعاً خلف جيشهم ويقفون بقوة واقتدار. وراجع الآن مساهمات ومداخلات السودانيين فيما حدث، فقط بعد العدوان على بورتسودان، وراجع مواقف القوى السياسية الكبرى، وراجع التصريحات التي أدلت بها كافة الأحزاب والقوى السياسية.
ولم أجد في التاريخ المعاصر للشعب السوداني أي مرحلة من المراحل تماثل هذه المرحلة، من حيث إجماع القوى الوطنية السودانية على موقف محدد وهو الوقوف خلف الجيش السوداني الآن في معركة الكرامة، وعلى نحو الذي نراه اليوم. الشعب السوداني يقف الآن بأكمله، السياسيون منه والإعلاميون وغير ذلك، يقفون جميعا خلف القوات المسلحة السودانية. بل المجتمع السوداني بأكمله وبكل كياناته القبلية والمجتمعية يقف خلف الجيش السوداني.
أيضا المبدعون بمختلف مسمياتهم ومختلف تصنيفاتهم، وتشهد لذلك الأعمال الإبداعية المختلفة التي تضج بها الفضاءات الإسفيرية. والشعب السوداني الآن موجود والسياسيون موجودون، ويقفون بقوة خلف الجيش السوداني في هذه المعركة.
الإسلاميون هم أكثر القوى السياسية السودانية الآن وضوحا من حيث الموقف إزاء هذه المعركة، ولا يمكن أن تجزئ الإسلاميين إلى مقاتلين وغير مقاتلين. الإسلاميون جميعا الآن مقاتلون.
وهناك من يقاتل منهم في الميدان، وهناك من يقاتل بالكلمة، وهناك من يقاتل بغير ذلك. والموقف الإسلامي موحد تماما، ومهما كانت الاختلافات السياسية بين بعض القوى أو داخلها فإن هناك إجماعا منقطع النظير من كل الإسلاميين السودانيين على الوقوف خلف الجيش السوداني في معركة الكرامة.
إعلان
إذا كان هناك إلى وقت قريب ما يسمى "المجتمع الدولي" وإذا كان هذا كيانا مهما جدا وكان مؤثرا في مجريات السياسة العالمية، فإن هذا الكيان لم يعد موجودا. وإذا لم يتلاشَ فهو في طريقه إلى التلاشى.
وما يحدث الآن من تغير كبير جدا في النظام العالمي بالذات بعد وصول ترامب إلى السلطة يقول بذلك. بل إن هذا التغير بدأ منذ وصول ترامب إلى السلطة في ولايته الأولى عام 2016. وقد أخذ الآن شكلا أكثر وضوحا.
وهذا التغير يؤكد تماما أن المجتمع الدولي القديم -الذي كان يتحرك في إطار القطبية الأحادية الأميركية، ويقول بمبادئ تلك القطبية في إدارة الشأن العالمي- لم يعد موجودًا.
والآن إذا حاولت البحث عن موقف غربي موحد أو موقف حتى لبعض الدول الغربية الرئيسة، إزاء ما يجري في السودان، أو حتى إزاء ما يجري في غير السودان، حتى إزاء ما يجري في غزة، أو ربما في المناطق الأقرب للغرب مثل أوكرانيا، فإنك لن تجده. فالأمر لم يعد أبدا كما كان عليه في الماضي القريب.
وما يحدث حاليا بين الهند وباكستان ربما لو حدث قبل 10 سنوات لكنت وجدت ردود فعل مختلفة عما يجري اليوم. وكنت سترى الغرب موحدا ولكان الآن قد انعقد مجلس الأمن على نحو طارئ ولاتخذ قرارات بهذا الشأن. وهاتان قوتان نوويتان تتواجهان مواجهة مسلحة.. فأين رد فعل العالم؟
لذا لا ينبغي أن نتوقع نحن في السودان أي ردود فعل عالمية إزاء تدخل دولة معينة في شأننا. ولا ينبغي أن نعوّل على أي شيء من هذا.
والآن العالم يتخلّق من جديد، وما يحدث الآن في العالم من تغير هو بالدرجة الأولى يؤكد غياب المرجعية المركزية، ويؤكد أن الظروف الحالية هي ذاتها التي أنشئت فيها الأمم المتحدة عام 1945 بعد انهيار عصبة الأمم.
و الأمم المتحدة نفسها تواجه، اليوم، تحديا وجوديا كبيرا، وربما لم تعد قادرة على ممارسة أي دور لها، بسبب ما نشهده من خلافات بين القوى الكبرى، وما نشهده أيضا من تباعد في المسافات بينها وبين الكتل الإقليمية المختلفة.
إعلان
هل يمكن القول إن العالم وصل مرحلة الصدام، أم هي مرحلة إعادة تشكيل التحالفات؟
أنا أتصور أنها مرحلة إعادة تشكل جديدة. لكن لا يُستبعد أيضا أن تحدث فيها صدامات كبرى. هذا ليس ببعيد. الكثيرون الآن يتوقعون أن ينشب صدام قريب ما بين الصين والولايات المتحدة.
وأيضا هناك صدامات أقل درجة وأقل حدة ربما تنشب. ما يحدث الآن بين باكستان والهند ما كان له أن يحدث أبدا في ظل النظام العالمي القديم.
يمكن أن تحدث صدامات كثيرة جديدة من هذا النوع، ويمكن أن تعيد هذه الصدامات الجديدة تشكيل الخارطة الدولية وينتج عنها نظام عالمي جديد.
هل السبب في الاضطراب العالمي الحالي هو غياب العقلانية في النظام الدولي أم العجز؟
السبب هو غياب التوازن. في الماضي كان هناك نظام قطبية كانت تمثله الولايات المتحدة من ناحية والاتحاد السوفيتي من ناحية أخرى. وهذا النظام الجديد الذي ساد منذ انهيار جدار برلين، كان بالفعل نظاما قادرا على أن يفرض نفسه وشهدنا سطوة هذا النظام وجبروته خلال العقدين أو الثلاثة الماضية، الآن انتهى هذا النظام.
ترامب منذ أن جاء في 2016 أعلن أن أميركا لا شأن لها بما يجري في العالم وأن ما يهمه هو أميركا وأميركا أولا، ومن ثم سحب أميركا من حيث الوجود الاستراتيجي لها والجيوبوليتيكي من العالم كله، وركز على اهتماماته في الداخل.
عندما جاء بايدن عام 2020 لم يتمكن من أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه من قبل بسبب أن ما حدث أثناء إدارة ترامب الأولى أوجد مدا جديدا، ووجد قدرا كبيرا جدا من الاهتمام والتفاعل من مختلف الدوائر العالمية، وبسببه تغيرت سياسة العالم ونظامه كله.
الآن بمجيء ترامب للمرة الثانية تأكد تماما أن هذا الاتجاه في تصاعد وتنامٍ، ويكفي الآن ما نشهده من مواجهات بين الولايات المتحدة وحلفائها، أوروبا من ناحية وكندا من ناحية أخرى، وما إلى ذلك.
الكل يبحث عن نفسه وعن مصلحته، فلم يعد الغرب موحدا كما كان، ولم تعد هناك أي قطبية أحادية كما كان عليه الحال قبل أعوام قليلة.
والآن نشهد ميلاد قطبيات متعددة لم تتبلور بعد حتى اليوم. ومن ثم فنحن في حالة لا يوجد فيها توازن للقوى، سواء كانت القوى السياسية أو القوى العسكرية، وهي مرحلة خطرة جدا على الجميع.
نعود إلى الموضوع السوداني، هل يوجد للسودان حلفاء موثوقون يمكن الاعتماد عليهم ليساعدوه أم لا؟
يمكن أن يكون الحلفاء الموثوقون غير مباشرين أو غير ظاهرين، ليس بالضرورة أن يكون كل الحلفاء الموثوقين معروفين، والسودان أبدا لم تكن مشكلته في الفترة القليلة الماضية الافتقاد للحلفاء. وما حدث الآن من تقوية للجيش السوداني والتي شهدها العالم كله هو خير دليل.
وبعد أن كان الجيش هو الطرف الذي يتعرض للهجوم ويتعرض للانتكاسات، صار الآن هو الطرف المتقدم. ولم يكن ذلك ليحدث لولا المساعدة التي وجدها السودان من حلفائه، ولم يكونوا جميعا معلنين. وهذه المساعدة لا أتصور أنها سوف تتوقف.
وبتصاعد المواجهة الآن على النحو الذي أشرت إليه، سوف تتقوى هذه العلاقات بين السودان وحلفائه. وأتصور أن هذا ما يمكن أن يدفع بالنزاع السوداني للتحول من نزاع داخلي إلى نزاع إقليمي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
استنكار الجنرال غولان لقتل أطفال غزة يوحّد ساسة إسرائيل
ما إن قال رئيس حزب الديمقراطيين في إسرائيل يائير غولان في مقابلة إذاعية صباح الثلاثاء إن "الدولة العاقلة لا تشن حربًا على المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تضع لنفسها هدف طرد السكان"، حتى فتحت عليه بوابات الجحيم من أفواه قادة كل الأحزاب الصهيونية والدينية الذين رأوا فيه هادما للهيكل وذابحا للبقرة المقدسة وداعما لأعداء إسرائيل. ورغم تاريخه العسكري كجنرال ونائب لرئيس الأركان، فإن الحملة عليه صوّرته كأنه يتهم الجيش وليس المؤسسة السياسية التي تقود الجيش وتوجهه. كذلك فإن المعارضين لنتنياهو من بين قادة الأحزاب رأوا في كلامه فرصة لتجييش الشارع ضده وضد حزبه في إطار انتهازية سياسية مكشوفة. وتقريبا لم يجد بين كل هؤلاء من يدافع عنه أو يرى في كلامه زلة لسان أو مبالغة في التوصيف، بل إن غولان حمل على منتقديه وقال إن هذه الحرب تجسيد لأوهام بن غفير وسموتريتش. ماذا قال غولان وفي أي سياق؟ ففي مقابلة إذاعية قال غولان "للأسف، تستمر الحرب إلى الأبد بالنسبة للحكومة الإسرائيلية. وهذا أمر مؤسف بطبيعة الحال وله تكاليف باهظة". وتساءل عما إذا كانت عملية "عربات جدعون" الحالية ضرورية، وأجاب "لقد أكملنا العملية العسكرية لكسر قوة حماس العسكرية في مايو/أيار ويونيو/حزيران من العام الماضي. ومنذ ذلك الحين، دخلت الحرب مرحلة أصبحت فيها أهدافها العسكرية أقل إستراتيجية، وأهدافها السياسية أكثر فأكثر، أي بقاء هذه الحكومة". وأشار إلى أن أهداف الحرب لم تتحقق، وأن إسرائيل لم تقض على حماس، ولم تهزمها عسكريا وسلطويا، ولم تستعد الرهائن. وقال إن من الواضح أن الحرب منذ بدايتها لديها تناقض في أهدافها، و"يجب تحديد الأولويات. أولوياتي واضحة تمامًا، ويبدو لي أن أكثر من 70% من المواطنين الإسرائيليين لديهم أولويات واضحة أيضًا. أولًا، يجب إعادة جميع المختطفين إلى ديارهم. هذه مسألة تضامن إسرائيلي، وروح إسرائيل، وجوهرنا كشعب. أما بالنسبة لحماس، فلا يزال بإمكاننا تصفية الحساب معها بعد عامين، وثلاثة، وخمسة، وعشرة أعوام". وعن البيان المشترك الصادر عن بريطانيا وفرنسا وكندا والتهديد بتخلي أميركا عن إسرائيل قال إن "إسرائيل في طريقها لأن تصبح دولةً مجذومة بين الأمم، كجنوب أفريقيا في الماضي. هذا إن لم تعد إلى سلوكها كدولة عاقلة. الدولة العاقلة لا تشن حربًا على المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تضع لنفسها هدفًا لتهجير السكان. هذه الأمور صادمةٌ حقا، ولا يُعقل أن نكون نحن، أبناء الشعب اليهودي، الذين تعرضنا للاضطهاد والمذابح وأعمال الإبادة على مر تاريخنا، والذين مثّلنا عبر التاريخ رمزًا يمينيا للأخلاق الإنسانية واليهودية من يتخذ خطوات مرفوضة تمامًا". وكما سلف، أثارت كلمات غولان دويا هائلا في الحلبة السياسية، حيث تفاعل معها العديد من الوزراء وأعضاء الكنيست بغضب ودهشة. رد نتنياهو وطبعا كان في طليعة المهاجمين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي وصف تصريحات غولان بأنها "افتراءات دموية معادية للسامية". وقال إن "غولان، الذي يشجع على التحدي، والذي سبق أن قارن إسرائيل بالنازيين وهو يرتدي الزي العسكري، وصل الآن إلى مستوى جديد من الانحدار بزعمه أن إسرائيل تقتل الأطفال كهواية". وأضاف "بينما نخوض حربًا على جبهات متعددة ونقود جهودًا دبلوماسية معقدة لتحرير رهائننا وهزيمة حماس، يردد غولان وأصدقاؤه من اليسار المتطرف أبشع الافتراءات الدموية المعادية للسامية ضد جنود الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل". ولحقه على الفور الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ قائلا إن "الافتراء الخطير والكاذب على جنود الجيش الإسرائيلي هو خط أحمر"، كما هاجم وزير الخارجية جدعون ساعر غولان بقوله إن "الافتراء الدموي الذي ارتكبه غولان ضد دولة إسرائيل وجيشها لن تسامحه". وأضاف "إن ما قاله غولان من شأنه بالتأكيد أن يؤجج نار معاداة السامية في العالم، هذا في الوقت الذي تقاتل فيه إسرائيل من أجل حياتها ضد تحالف يعمل على تدميرها". أما وزير الحرب إسرائيل يسرائيل كاتس فلم تتأخر إدانته إذ صرح قائلا إن "أي شخص قارن المجتمع الإسرائيلي في الماضي بالنظام النازي ويقوم الآن بتشويه سمعة دولة إسرائيل والجيش الإسرائيلي في وقت الحرب يجب نبذه من الحياة العامة". وقالت وزيرة الهجرة والاستيعاب أوفير سوفر إن "الادعاء بأن دولة إسرائيل "تقتل الأطفال كهواية" كذبة شنيعة وإهانة بالغة لأخلاقيات الجيش الإسرائيلي القتالية، وسمعته كدولة إسرائيل. دولة إسرائيل، من خلال مقاتلي الجيش الإسرائيلي، تقاتل عدوًّا وحشيًّا أحرق كبار السن والنساء والأطفال والرضع وذبحهم واغتصبهم". ولم يقبل وزير الإعلام شلومو كرعي بأقل من القول إن "يائير غولان إرهابي. إرهابي يسعى إلى تحقيق أهداف الحرب. إرهابي يستهدف أمن مقاتلي الجيش الإسرائيلي". وهاجم وزير التعليم يوآف كيش غولان بقوله "عار عليك يا يائير غولان، مثل هذه الافتراءات على دولة إسرائيل لا تُسمع إلا من أفواه ألدّ أعدائنا. إن اتهام مقاتلينا الأبطال الذين يُخاطرون بحياتهم من أجل الدولة بقتل الأطفال ليس سوى افتراء دموي وتحريض خطير. غولان ليس عضوًا في الكنيست ولا يتمتع بالحصانة. أتوقع من المستشار القانوني للحكومة أن يفتح تحقيقًا فوريًّا ضده بتهمة التحريض". كما دعا عضو الكنيست كرويزر إلى محاكمة يائير غولان بتهمة التحريض على الفتنة في أعقاب تصريحاته ضد جنود الجيش الإسرائيلي. أما وزير المالية بتسلئيل سموتريتش فاستذكر ماضي غولان وقال "لقد دعمت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل طوال سنوات. يائير غولان يكذب عن علم، ويشوّه سمعة إسرائيل وقوات الدفاع الإسرائيلية في العالم، ويشارك في المؤامرات الدموية لأعدائنا الأكبر لوضع السيف في أيديهم لقتلنا. يجب على كل صهيوني شريف وأخلاقي أن يتبرأ من غولان وأفعاله وأن يوضح أن هناك خطوطًا حمرًا لا يجوز تجاوزها". كما أن بن غفير قال "يبدو أن غولان أخذ كتيب رسائل المتحدث باسم حماس وتبناها، وقد كانت هواية غولان الوحيدة دائمًا نشر الافتراءات الدموية المعادية للسامية ضد دولة إسرائيل. يائير، اخجل من نفسك". ردود بينيت ولبيد وفي الجهة المقابلة، أدان رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت تصريحات غولان مشددا على أن من يقتل الأطفال "هي حماس، وحماس وحدها. فإسرائيل تخوض حربًا دفاعية صعبة ضد عدو يستخدم شعبه دروعًا بشرية. هدف حماس هو قتل مواطنيها. مقاتلونا يتصرفون، وسيواصلون، بشجاعة وأخلاق حقيقية وعزيمة لحمايتنا". وهاجم زعيم المعارضة يائير لبيد غولان فأوضح "مقاتلونا أبطال ويحمون أرواحنا. إن القول إنهم يقتلون الأطفال كهواية هو قول مغلوط، وهو هدية لأعدائنا. أنا أدعم الجيش الإسرائيلي ومقاتليه وأدين هذا القول". وكذلك فعل رئيس حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، فقال إن "الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، وأي تصريح كاذب ضده يضرّ بجنودنا وأمن الدولة". ولم يتخلّف عن ركب المهاجمين رئيس المعسكر الرسمي بيني غانتس الذي طالب غولان بالتراجع عن تصريحاته. وأضاف أن "جنود الجيش الإسرائيلي لا يمارسون هواية قتل الأطفال. هذه الأمور ليست فاضحة وكاذبة ومتطرفة فحسب، بل تُعرّض حرية مقاتلينا الأبطال للخطر أمام القانون الدولي. تخوض دولة إسرائيل حربًا عادلة منذ تأسيسها، وتفعل ذلك وفقًا للقواعد الدولية وأسمى القيم الأخلاقية. شخص مثل غولان، الذي كان نائبًا لرئيس الأركان، يدرك ذلك". رئيس حزب شاس، عضو الكنيست الحاخام أرييه درعي، قال "لا يجوز لنا أن نبقى صامتين إزاء التشهير الدموي الرهيب ضد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، الذين يذلون أنفسهم في مواجهة عدو قاسٍ. أدعو زعماء المعارضة، أفيغدور ليبرمان وبيني غانتس، إلى التبرؤ بشكل لا لبس فيه من يائير غولان والتوضيح للجمهور أنهم لن يشكلوا حكومة معه تحت أي ظرف من الظروف". شجاعة أدبية لكن كل هذه الحملة ضد غولان المعروف بشجاعته الأدبية لم تردعه أو تجبره على إبداء الاعتذار بل إنه أعاد تأكيد موقفه وحمل على منتقديه؛ إذ رد على العاصفة التي أعقبت تصريحه، قائلا "لقد جربنا بالفعل طريقة غانتس في الإطراء على نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، لكنها فشلت". وأوضح معنى كلامه فقال إن "قصدي من كلامي واضح: هذه الحرب هي تجسيد لأوهام بن غفير وسموتريتش. وإذا سمحنا لهما بتحقيقها، فسنصبح دولةً مشرذمة". وأضاف غولان "لقد حان الوقت لأن يكون لدينا عمود فقري من الفولاذ المطاوع، يتعين علينا أن ندافع عن قيمنا كدولة صهيونية ويهودية وديمقراطية. مقاتلو الجيش الإسرائيلي أبطال، ووزراء الحكومة فاسدون. الجيش الإسرائيلي أخلاقي، والشعب مستقيم، والحكومة فاسدة. يجب أن تنتهي الحرب، ويعود المختطفون، وتعود إسرائيل إلى مكانها". وهذه ليست المرة الأولى التي يطلق فيها غولان تصريحات تثير الغضب وتولد انتقادات وإدانات شديدة ضده؛ فتصريحه الأكثر شهرة كان وهو لا يزال نائبًا لرئيس الأركان في عام 2016، في خطاب ألقاه في حفل يوم ذكرى الهولوكوست. في ذلك الوقت وعلى خلفية قتل الجندي إيلور عزاريا فلسطينيا بعد القبض عليه قال "إذا كان هناك شيء يخيفني في ذكرى الهولوكوست فهو العمليات المروعة التي وقعت في أوروبا بشكل عام وفي ألمانيا بشكل خاص، قبل 70 و80 و90 عامًا، وإيجاد أدلة عليها في أوساطنا اليوم". حينئذ ورغم أن غولان أوضح لاحقا أنه لم يكن يقصد مقارنة الهولوكوست بواقع عصره، فإن العاصفة لم تهدأ. ففي يناير/كانون الثاني 2022، شغل غولان منصب نائب وزير الاقتصاد عن حزب ميرتس في حكومة التغيير، وتطرق إلى قضية البؤرة الاستيطانية غير القانونية في حومش في مقابلة مع قناة الكنيست، فوصف المستوطنين الذين هاجموا سكان قرية برقة المجاورة بـأنهم "دون البشر". وأضاف "عندما كنت قائدا على الضفة الغربية، لم أسمح لأحد أن يستوطن هناك. لماذا لا يذكرون حقيقة أن هؤلاء الأشخاص الذين يأتون للاستقرار هناك يقومون بأعمال شغب في قرية برقة، ويدمرون شواهد القبور، ويرتكبون مذبحة. هل نحن، أبناء الشعب اليهودي الذين عانوا من المذابح عبر التاريخ، نرتكب المذابح ضد الآخرين؟ هؤلاء ليسوا بشرًا، إنهم دون البشر. إنهم أناس حقيرون، وهم فساد الشعب اليهودي. يجب عدم تقديم أي دعم لهم، يجب إبعادهم من هذا المكان بالقوة، ويجب إعادة القانون والنظام إلى المنطقة. هذا الهيجان القومي المتطرف سيجرّ علينا كارثة. هؤلاء أناس يريدون ضم ملايين الفلسطينيين إلى دولتنا". وبعد انتخابه زعيمًا لحزب العمل، أثار بالفعل ضجة بعد نشر تسجيل صوتي دعا فيه إلى العصيان المدني وأعرب عن دعمه لعدم الانضمام إلى قوات الاحتياط كجزء من النضال من أجل الإطاحة بالحكومة.


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
4 تحديات حاسمة تواجه رئيس وزراء السودان الجديد
تحديات جمّة تواجه رئيس الوزراء الجديد في السودان الدكتور كامل الطيب إدريس، الذي جرى تعيينه يوم الاثنين. وقد جاء اختياره بعد مخاض طويل بدأ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وكانت الأنظار كلها تتجه يمنةً ويَسْرة بحثًا عن شخص مناسب وَفقًا لاشتراطات الواقع ومعايير مجلس السيادة، بأن يكون رئيس الوزراء من الشخصيات المستقلة وأقرب إلى التكنوقراطيين الفنيين. وما كان الدكتور إدريس ليتبوأ موقعه في ظل ظروف وأوضاع سودانية معقّدة وبيئة إقليمية ودولية، لولا اعتبارات سياسية ضاغطة، وحسابات داخلية شديدة الحساسية، هي التي رجّحت كفته على سواه من المرشحين الآخرين ودفعت به نحو الكرسي الساخن في السودان. مع خلفيته القانونية وتجربته الدبلوماسية، وعمله لدورتين متتاليتين مديرًا عامًا للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) التابعة للأمم المتحدة، فإن الدكتور كامل إدريس عُرف في الأوساط السياسية السودانية طوال ما يقارب العقدين من الزمن، بأنه المرشح الأكثر حضورًا في قوائم الترشيح لهذا المنصب أو لمنصب وزير الخارجية، وذلك منذ بزوغ نجمه السياسي في عهد الرئيس عمر البشير. ولم يكن معروفًا لدى كثير من روّاد النادي السياسي السوداني إلا بعد ترتيبه لقاءً نادرًا بين الدكتور حسن الترابي والسيد الصادق المهدي رحمهما الله، في العام 1999، وهو أول لقاء بين الترابي رئيس البرلمان آنذاك وعرّاب النظام الحاكم حينها، والصادق المهدي الذي يُعد أبرز قيادات المعارضة السودانية في ذلك الوقت. دلف دكتور كامل إدريس إلى عالم السياسة بشكل بارز باستضافته وترتيبه لذلك اللقاء في منزله بجنيف، واعتبر نفسه يومئذ مساهمًا في تقريب اللحمة السودانية وساعيًا للمصالحة الوطنية بين مختلف الأطراف السياسية، ونال بطاقة الدخول إلى المضمار السياسي، وصار من فرسان الرهان، كلما لاحت فرصة للتعيين في موقع متقدم وبارز، ولم تخطئه الأعين. منذ دخوله حلبة السياسة، لم يغب الدكتور كامل عن المشهد السوداني، وحُفظت له أدوار في عهد البشير عقب انفجار التمرّد في دارفور عام 2003، وصدور قرارات من المحكمة الجنائية الدولية (الادعاء العام) في 2007 ضد عدد من كبار المسؤولين السودانيين، ثم ضد الرئيس نفسه، عندما التقط اللحظة المناسبة، وقام بترتيب لقاءات سرية في جنيف بين وزير الدولة للعدل السوداني آنذاك (ثم وزير الدولة ووزير الخارجية لاحقًا)، مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. يحتفظ إدريس بعلاقة متميزة مع لويس مورينو أوكامبو مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، فهما زميلان في إحدى الجامعات الأميركية، أحدهما مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، والثاني مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية (ICC). وقد بلغت تلك الاجتماعات بين أوكامبو والمسؤول السوداني بضعة وثلاثين اجتماعًا مشتركًا بين الجانبين، حكومة السودان والمحكمة، لكنها لم تفلح في تسوية القضية السودانية. ولعب الرجل في تلك الفترة أدوارًا أخرى، إلى نهاية دورته الثانية في المنظمة، ليتفرغ للنشاط السياسي. وتم طرح اسمه أكثر من مرة عندما عمد الرئيس البشير عقب مؤتمر الحوار الوطني إلى اعتماد توصية المؤتمر بتخصيص منصب رئيس وزراء وفصل الجهاز التنفيذي عن السلطة السيادية، وكان ترشيحه يصطدم دائمًا بعقبات حالت دون تعيينه في الموقع الذي استعد له آنذاك وتهيّأ. وتم ترشيحه أيضًا وزيرًا للخارجية، لكنه لم يُوفّق. عندما اندلعت التظاهرات في ديسمبر/ كانون الأول 2018 ضد الرئيس البشير وحكومته، خرج دكتور كامل بموقف معادٍ للرئيس البشير وسلطته، وقف مؤيدًا للتظاهرات وتحركاتها، وكانت لديه تصريحات وتسجيلات مرئية تساند المتظاهرين. وعقب سقوط نظام الإنقاذ، راج ترشيح كامل إدريس مرة أخرى لرئاسة الوزراء، لكن فصائل اليسار وجماعات أخرى في قوى الحرية والتغيير وجهات خارجية عارضت ترشيحه، مفضّلة الدكتور عبدالله حمدوك القادم من منصب نائب رئيس اللجنة الاقتصادية الأفريقية التابعة للأمم المتحدة (UNECA). وغاب الدكتور كامل بعد ترشيح حمدوك، وسط غبار وزحام تلك الفترة، لكنه حافظ على حضور خفيض الجناح في أجواء الفترة الانتقالية وضجيجها. عاد ترشيحه مرة أخرى عقب الإجراءات التي أطاحت قوى الحرية والتغيير عن السلطة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومغادرة عبدالله حمدوك دهليز السلطة، لكن هذا الترشيح تجمّد في مكانه قرابة أربع سنوات. عندما اندلعت الحرب أو قبلها بقليل، ظل الدكتور كامل إدريس يتجوّل في الممشى السياسي بشكل متكرر، ملوّحًا عبر مبادرات وطنية لجمع الصف الوطني والحوار بين الأطراف المختلفة، لكنه لم يحظَ باللحظة الحاسمة، فهو لا يمثل تيارًا سياسيًا ولا حزبًا، ولكنه رسم صورته على أنه شخصية سودانية نخبوية عملت في الوظائف الدولية، وله علاقات في منظمات الأمم المتحدة ودوائر غربية. ولم تتجاوز المبادرات التي قدّمها أو شارك فيها التمنيات الطيبة والمساعي الحميدة والرغبة في تجاوز نقاط الخلاف الحادة بين الفرقاء السودانيين، وقدم مساهمات مكتوبة تحمل تصوراته في كتاب منشور له قبل أعوام عن سودان المستقبل. عقب الحرب وتعقّد الوضع في السودان، وتعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي وتوقف التعاون من جانب الاتحاد الأوروبي، كانت الضرورة تتطلب تعيين حكومة مدنية يشكلها رئيس وزراء مدني، ليفتح الباب من جديد للسودان لاستعادة عضويته ونشاطه الكامل في الاتحاد الأفريقي، وتعاملاته مع الاتحاد الأوروبي والأطراف الغربية التي كانت تشترط ذلك. ومن بين عديد المرشحين، كان الدكتور كامل على رأس القائمة دائمًا، وكثيرًا ما تجد في وسائل الإعلام السوداني وشبكات التواصل الاجتماعي الدعوات المؤيدة لتوليه رئاسة الوزراء، وتجد المناهضين له. وهو حالة أشبه بشعر نزار قباني: إما أن تحبه حد الثمالة، أو تبغضه وتكرهه كراهية التحريم. يبدو أن حظوظ الدكتور كامل إدريس توافقت مع مطالع نجمه السياسي. تم الآن تعيينه في الموقع الذي طالما تراءى له قريبًا ونائيًا، لكنه الآن بين يديه دفة الجهاز التنفيذي بصلاحيات واسعة، فما هي التحديات التي تواجهه؟ وكيف سيتعامل معها؟ وهل بمقدوره اجتياز الاختبار الأصعب بقيادة الحكومة والسودان إلى بر الأمان؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ضرورية للغاية، وتكمن في الآتي: أولًا: تحدي الحرب القائمة هو التحدي الأكبر أمام رئيس الوزراء الجديد، ولا بدّ له أن يكون متوافقًا مع موقف مجلس السيادة وقيادة الجيش. عليه أن يكون مشاركًا في عملية إنهاء التمرد ودحره، وأن يقود العملية السياسية الداخلية، ويتحرّك خارجيًا، ويبدأ نشاطًا حكوميًا ناجزًا وناجعًا لدرء المخاطر المحيطة بالبلاد جراء التآمر الخارجي من دول في الإقليم، وإعادة السودان إلى موقعه الطبيعي بالحضور القاري الفاعل، واستعادة المبادرة أفريقيًا لمحاصرة التمرد والدول الداعمة له، والتعامل الحازم مع الجوار السوداني ودول المنطقة المتورطة في الحرب الضروس. ثانيًا: يواجه تحدي إعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيلها، وإعادة الإعمار. وهذه من أعقد التحديات الداخلية، ولا يمكن أن يتقدم رئيس الوزراء الجديد خطوة واحدة للأمام من دون تشكيل حكومة ذات كفاءة عالية غير حزبية، لديها برنامج واقعي وخطط عملية لاستعادة الثقة في أدوات الدولة ومؤسساتها، وتهيئتها للمرحلة المقبلة، وقيادة المجتمع ليتكامل مع الدولة في عملية إعادة الإعمار، وحفظ الأمن والاستقرار، وتوفير الخدمات وعودة النازحين واللاجئين، وإعادة ترميم ما تصدّع في بنية البلاد الاجتماعية، والتئام المجتمع وتعافيه من النعرات المناطقية والجهوية والقبلية، وخطاب الكراهية والعنف. ثالثًا: يتأمل السودانيون في رئيس الوزراء الجديد، أن تكون لديه رؤية متكاملة للنهضة ومعالجة الاختلال والتدهور الاقتصادي، وتقديم تصوّرات شاملة للاستفادة من موارد البلاد، ومن العلاقات مع المجتمع الدولي؛ لاستقطاب المساعدات والقروض والاستثمارات، وبث روح جديدة في أوصال الاقتصاد الوطني بطرح برامج وشعارات تدفع بالإنتاج في كل القطاعات، ليستعيد الاقتصاد السوداني دورته الطبيعية وعافيته من جديد. رابعًا: من التحديات المقترنة بما سبق، فإن أكبر ما يواجه رئيس الوزراء الجديد، أنه جاء من خارج السياق الداخلي الملامس لمشكلات البلاد البنيوية والسياسية والخدمية والتنموية. فالرجل في كل حياته المهنية لم يمكث إلا فترات محدودة جدًا في وزارة الخارجية، ثم هاجر في رحلته الطويلة، وظل بعيدًا عن تفاعلات الداخل وهمومه. ولا يمكن الادعاء بأنه قريب من مواطن الخلل في الدولة والمجتمع، ولم يكتسب خبرة عملية داخلية في مؤسسات الدولة: كيف تعمل، كيف تنطلق، وكيف تُدار؟ ولا صلة له بتعقيدات المجتمع وأمراضه المستعصية التي يتجسّد أبرزها في الولاءات الدنيا: (القبلية – الجهوية – الخطاب العنصري – العصبية العرقية)، وكلها أدواء تتطلب خبرة وحنكة وتجربة وعقلًا مفتوحًا قريبًا من موطن الألم ومكمن السُقام. إذا كانت تحديات المرحلة الراهنة الداخلية والخارجية تقف عقبات كأداء أمام السيد رئيس الوزراء الجديد، فإن أكبر تحدٍ له هو كيفية التعامل مع تقاطعات الواقع الداخلي، ومعالجة حالة الاستقطاب الخارجي، وتفعيل جهاز الدولة، وحسن اختيار الوزراء والمعاونين، وإجراء إصلاح شامل للجهاز التنفيذي، وكبح ومحاربة الفساد، وبعث الأمل في نفوس السودانيين من جديد. وتلك، لعمري، مهمة شاقة دونها خرط القتاد.


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
4 تحديات مصيرية تواجه رئيس وزراء السودان الجديد
تحديات جمّة تواجه رئيس الوزراء الجديد في السودان الدكتور كامل الطيب إدريس، الذي جرى تعيينه يوم الاثنين. وقد جاء اختياره بعد مخاض طويل بدأ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وكانت الأنظار كلها تتجه يمنةً ويَسْرة بحثًا عن شخص مناسب وَفقًا لاشتراطات الواقع ومعايير مجلس السيادة، بأن يكون رئيس الوزراء من الشخصيات المستقلة وأقرب إلى التكنوقراطيين الفنيين. وما كان الدكتور إدريس ليتبوأ موقعه في ظل ظروف وأوضاع سودانية معقّدة وبيئة إقليمية ودولية، لولا اعتبارات سياسية ضاغطة، وحسابات داخلية شديدة الحساسية، هي التي رجّحت كفته على سواه من المرشحين الآخرين ودفعت به نحو الكرسي الساخن في السودان. مع خلفيته القانونية وتجربته الدبلوماسية، وعمله لدورتين متتاليتين مديرًا عامًا للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) التابعة للأمم المتحدة، فإن الدكتور كامل إدريس عُرف في الأوساط السياسية السودانية طوال ما يقارب العقدين من الزمن، بأنه المرشح الأكثر حضورًا في قوائم الترشيح لهذا المنصب أو لمنصب وزير الخارجية، وذلك منذ بزوغ نجمه السياسي في عهد الرئيس عمر البشير. ولم يكن معروفًا لدى كثير من روّاد النادي السياسي السوداني إلا بعد ترتيبه لقاءً نادرًا بين الدكتور حسن الترابي والسيد الصادق المهدي رحمهما الله، في العام 1999، وهو أول لقاء بين الترابي رئيس البرلمان آنذاك وعرّاب النظام الحاكم حينها، والصادق المهدي الذي يُعد أبرز قيادات المعارضة السودانية في ذلك الوقت. دلف دكتور كامل إدريس إلى عالم السياسة بشكل بارز باستضافته وترتيبه لذلك اللقاء في منزله بجنيف، واعتبر نفسه يومئذ مساهمًا في تقريب اللحمة السودانية وساعيًا للمصالحة الوطنية بين مختلف الأطراف السياسية، ونال بطاقة الدخول إلى المضمار السياسي، وصار من فرسان الرهان، كلما لاحت فرصة للتعيين في موقع متقدم وبارز، ولم تخطئه الأعين. منذ دخوله حلبة السياسة، لم يغب الدكتور كامل عن المشهد السوداني، وحُفظت له أدوار في عهد البشير عقب انفجار التمرّد في دارفور عام 2003، وصدور قرارات من المحكمة الجنائية الدولية (الادعاء العام) في 2007 ضد عدد من كبار المسؤولين السودانيين، ثم ضد الرئيس نفسه، عندما التقط اللحظة المناسبة، وقام بترتيب لقاءات سرية في جنيف بين وزير الدولة للعدل السوداني آنذاك (ثم وزير الدولة ووزير الخارجية لاحقًا)، مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. يحتفظ إدريس بعلاقة متميزة مع لويس مورينو أوكامبو مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، فهما زميلان في إحدى الجامعات الأميركية، أحدهما مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، والثاني مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية (ICC). وقد بلغت تلك الاجتماعات بين أوكامبو والمسؤول السوداني بضعة وثلاثين اجتماعًا مشتركًا بين الجانبين، حكومة السودان والمحكمة، لكنها لم تفلح في تسوية القضية السودانية. ولعب الرجل في تلك الفترة أدوارًا أخرى، إلى نهاية دورته الثانية في المنظمة، ليتفرغ للنشاط السياسي. وتم طرح اسمه أكثر من مرة عندما عمد الرئيس البشير عقب مؤتمر الحوار الوطني إلى اعتماد توصية المؤتمر بتخصيص منصب رئيس وزراء وفصل الجهاز التنفيذي عن السلطة السيادية، وكان ترشيحه يصطدم دائمًا بعقبات حالت دون تعيينه في الموقع الذي استعد له آنذاك وتهيّأ. وتم ترشيحه أيضًا وزيرًا للخارجية، لكنه لم يُوفّق. إعلان عندما اندلعت التظاهرات في ديسمبر/ كانون الأول 2018 ضد الرئيس البشير وحكومته، خرج دكتور كامل بموقف معادٍ للرئيس البشير وسلطته، وقف مؤيدًا للتظاهرات وتحركاتها، وكانت لديه تصريحات وتسجيلات مرئية تساند المتظاهرين. وعقب سقوط نظام الإنقاذ، راج ترشيح كامل إدريس مرة أخرى لرئاسة الوزراء، لكن فصائل اليسار وجماعات أخرى في قوى الحرية والتغيير وجهات خارجية عارضت ترشيحه، مفضّلة الدكتور عبدالله حمدوك القادم من منصب نائب رئيس اللجنة الاقتصادية الأفريقية التابعة للأمم المتحدة (UNECA). وغاب الدكتور كامل بعد ترشيح حمدوك، وسط غبار وزحام تلك الفترة، لكنه حافظ على حضور خفيض الجناح في أجواء الفترة الانتقالية وضجيجها. عاد ترشيحه مرة أخرى عقب الإجراءات التي أطاحت قوى الحرية والتغيير عن السلطة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومغادرة عبدالله حمدوك دهليز السلطة، لكن هذا الترشيح تجمّد في مكانه قرابة أربع سنوات. عندما اندلعت الحرب أو قبلها بقليل، ظل الدكتور كامل إدريس يتجوّل في الممشى السياسي بشكل متكرر، ملوّحًا عبر مبادرات وطنية لجمع الصف الوطني والحوار بين الأطراف المختلفة، لكنه لم يحظَ باللحظة الحاسمة، فهو لا يمثل تيارًا سياسيًا ولا حزبًا، ولكنه رسم صورته على أنه شخصية سودانية نخبوية عملت في الوظائف الدولية، وله علاقات في منظمات الأمم المتحدة ودوائر غربية. ولم تتجاوز المبادرات التي قدّمها أو شارك فيها التمنيات الطيبة والمساعي الحميدة والرغبة في تجاوز نقاط الخلاف الحادة بين الفرقاء السودانيين، وقدم مساهمات مكتوبة تحمل تصوراته في كتاب منشور له قبل أعوام عن سودان المستقبل. عقب الحرب وتعقّد الوضع في السودان، وتعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي وتوقف التعاون من جانب الاتحاد الأوروبي، كانت الضرورة تتطلب تعيين حكومة مدنية يشكلها رئيس وزراء مدني، ليفتح الباب من جديد للسودان لاستعادة عضويته ونشاطه الكامل في الاتحاد الأفريقي، وتعاملاته مع الاتحاد الأوروبي والأطراف الغربية التي كانت تشترط ذلك. ومن بين عديد المرشحين، كان الدكتور كامل على رأس القائمة دائمًا، وكثيرًا ما تجد في وسائل الإعلام السوداني وشبكات التواصل الاجتماعي الدعوات المؤيدة لتوليه رئاسة الوزراء، وتجد المناهضين له. وهو حالة أشبه بشعر نزار قباني: إما أن تحبه حد الثمالة، أو تبغضه وتكرهه كراهية التحريم. يبدو أن حظوظ الدكتور كامل إدريس توافقت مع مطالع نجمه السياسي. تم الآن تعيينه في الموقع الذي طالما تراءى له قريبًا ونائيًا، لكنه الآن بين يديه دفة الجهاز التنفيذي بصلاحيات واسعة، فما هي التحديات التي تواجهه؟ وكيف سيتعامل معها؟ وهل بمقدوره اجتياز الاختبار الأصعب بقيادة الحكومة والسودان إلى بر الأمان؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ضرورية للغاية، وتكمن في الآتي: أولًا: تحدي الحرب القائمة هو التحدي الأكبر أمام رئيس الوزراء الجديد، ولا بدّ له أن يكون متوافقًا مع موقف مجلس السيادة وقيادة الجيش. عليه أن يكون مشاركًا في عملية إنهاء التمرد ودحره، وأن يقود العملية السياسية الداخلية، ويتحرّك خارجيًا، ويبدأ نشاطًا حكوميًا ناجزًا وناجعًا لدرء المخاطر المحيطة بالبلاد جراء التآمر الخارجي من دول في الإقليم، وإعادة السودان إلى موقعه الطبيعي بالحضور القاري الفاعل، واستعادة المبادرة أفريقيًا لمحاصرة التمرد والدول الداعمة له، والتعامل الحازم مع الجوار السوداني ودول المنطقة المتورطة في الحرب الضروس. ثانيًا: يواجه تحدي إعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيلها، وإعادة الإعمار. وهذه من أعقد التحديات الداخلية، ولا يمكن أن يتقدم رئيس الوزراء الجديد خطوة واحدة للأمام من دون تشكيل حكومة ذات كفاءة عالية غير حزبية، لديها برنامج واقعي وخطط عملية لاستعادة الثقة في أدوات الدولة ومؤسساتها، وتهيئتها للمرحلة المقبلة، وقيادة المجتمع ليتكامل مع الدولة في عملية إعادة الإعمار، وحفظ الأمن والاستقرار، وتوفير الخدمات وعودة النازحين واللاجئين، وإعادة ترميم ما تصدّع في بنية البلاد الاجتماعية، والتئام المجتمع وتعافيه من النعرات المناطقية والجهوية والقبلية، وخطاب الكراهية والعنف. ثالثًا: يتأمل السودانيون في رئيس الوزراء الجديد، أن تكون لديه رؤية متكاملة للنهضة ومعالجة الاختلال والتدهور الاقتصادي، وتقديم تصوّرات شاملة للاستفادة من موارد البلاد، ومن العلاقات مع المجتمع الدولي؛ لاستقطاب المساعدات والقروض والاستثمارات، وبث روح جديدة في أوصال الاقتصاد الوطني بطرح برامج وشعارات تدفع بالإنتاج في كل القطاعات، ليستعيد الاقتصاد السوداني دورته الطبيعية وعافيته من جديد. رابعًا: من التحديات المقترنة بما سبق، فإن أكبر ما يواجه رئيس الوزراء الجديد، أنه جاء من خارج السياق الداخلي الملامس لمشكلات البلاد البنيوية والسياسية والخدمية والتنموية. فالرجل في كل حياته المهنية لم يمكث إلا فترات محدودة جدًا في وزارة الخارجية، ثم هاجر في رحلته الطويلة، وظل بعيدًا عن تفاعلات الداخل وهمومه. ولا يمكن الادعاء بأنه قريب من مواطن الخلل في الدولة والمجتمع، ولم يكتسب خبرة عملية داخلية في مؤسسات الدولة: كيف تعمل، كيف تنطلق، وكيف تُدار؟ ولا صلة له بتعقيدات المجتمع وأمراضه المستعصية التي يتجسّد أبرزها في الولاءات الدنيا: (القبلية – الجهوية – الخطاب العنصري – العصبية العرقية)، وكلها أدواء تتطلب خبرة وحنكة وتجربة وعقلًا مفتوحًا قريبًا من موطن الألم ومكمن السُقام. إذا كانت تحديات المرحلة الراهنة الداخلية والخارجية تقف عقبات كأداء أمام السيد رئيس الوزراء الجديد، فإن أكبر تحدٍ له هو كيفية التعامل مع تقاطعات الواقع الداخلي، ومعالجة حالة الاستقطاب الخارجي، وتفعيل جهاز الدولة، وحسن اختيار الوزراء والمعاونين، وإجراء إصلاح شامل للجهاز التنفيذي، وكبح ومحاربة الفساد، وبعث الأمل في نفوس السودانيين من جديد. وتلك، لعمري، مهمة شاقة دونها خرط القتاد.