
من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شمال أفريقيا؟
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، الذي حلل صعود لويس بونابرت إلى الحكم في فرنسا وفصل علاقة الفرد بالتاريخ وتضمن إحدى أشهر مقولاته وهي أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى في شكل مأساة والثانية في شكل مهزلة.
ويمكن اقتباس ما قاله ماركس بتعديل جذري وهو أن التاريخ يعيد نفسه مرات كثيرة وفي شكل مآسٍ متعددة، والإشكال هنا هو أن التاريخ نفسه لا يُدون بعض هذه المآسي، بل ينساها أو يتناساها. اليوم نعود إلى إحداها وهي التي كان ضحاياها مسلمي إسبانيا أو مَن يعرفون بالموريسكيين.
يقول الباحث روجر بواز في دراسة بعنوان "طرد الموريسكيين وشتاتهم: مثال على التعصب" إن "طرد آخر المسلمين من إسبانيا في بداية القرن السابع عشر كان حدثا رئيسيا ليس فقط في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، بل أيضا في تاريخ معاداة السامية. لقد كُتب الكثير عن طرد اليهود من إسبانيا في العام 1492 وعن معاناتهم على أيدي محاكم التفتيش، ولكن العرب الإسبان أو الموريسكيين لم يحظوا بعد بالاهتمام الذي يستحقونه".
الملوك الإسبان والتبشير بالسيف
في العقد الأول من القرن السابع عشر، حملت السفن المسلمين الإسبان في أكبر عمليات التهجير التي شهدها ذلك القرن، بعدما وُضعوا أمام خيارين، التنصير أو التهجير. ترك عشرات الآلاف وطنهم هربا من بطش الملوك الإسبان والكنيسة الكاثوليكية، فكانت دول المغرب الإسلامي ملاذهم الأخير.
تعود جذور هذه التغريبة التي غيرت الديمغرافيا السكانية والعقائدية لإسبانيا ودول المغرب الإسلامي، إلى عام 1492 حين وضع الملك فرناندو والملكة إيزابيلا معاهدة بعد سقوط غرناطة، آخر معاقل حكم المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، تضمنت السماح للمسلمين في إسبانيا بالاحتفاظ بمساجدهم ولغتهم وعاداتهم، لكن لم تدم تلك الوعود سوى بضع سنوات، حيث انقلب الأمر بعد استبدال رئيس الأساقفة "هيماندو دي تالافيرا" المعروف باعتداله، بالكاردينال المتعصب "فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس".
يذكر الباحث روجر بواز أن دي ثيسنيروس، وهو مستشار مقرب من الملكة إيزابيلا، قد قام "بحرق النصوص الدينية العربية، وأدت هذه الأحداث بشكل طبيعي إلى ثورة البُشارات الأولى (نسبة إلى منطقة البُشارات Alpujarra الإسبانية) بين عامي 1499 و1500، واغتيال أحد مساعدي دي ثيسنيروس، فكان ذلك ذريعة جيدة للملوك الكاثوليك لإلغاء وعودهم".
على مدى عقدين من الزمن بعد اغتيال مساعد دي ثيسنيروس، كان على المسلمين في إسبانيا الاختيار بين التنصير أو النفي، وبدأت حملات ملاحقتهم في الأندلس، تلتها حملات استهدفت مسلمي فالنسيا، وكاتالونيا، وأراغون.
كان اعتناق المسيحية الخيار الأسهل والأكثر منطقية بالنسبة لكثير من المسلمين، وهو ما جعلهم خاضعين لمحاكم التفتيش التي تأسست عام 1478، وكان هدفها الرئيس الحفاظ على العقيدة الكاثوليكية ومحاربة كل أشكال الهرطقة. ويذكر بواز أن أغلب من اعتنقوا المسيحية تخلوا عن دينهم في العلن، لكنهم واصلوا ممارسة عقيدتهم الإسلامية سرا.
لم تكن المحاولات المتكررة لإقامة دول مذهبية كاثوليكية أمرا غريبا على أوروبا، فقد انتهج هذا السبيل ملوك إيطاليا وفرنسا وألمانيا، بإيعاز من رأس الكنيسة الكاثوليكية في روما.
وقد لحقت إسبانيا بركب جيرانها، فأقرت الملكة إيزابيلا العقيدة الكاثوليكية دينا رسميا للدولة، واللغة القشتالية لغة رسمية لإسبانيا.
ومجاراة لقرارات الملكة إيزابيلا، أصدر الملك الإسباني شارل الخامس عام 1526 عدة قوانين ضد مسلمي إسبانيا، من بينها حظر استخدام اللغة العربية ، وإجبارهم على تعلم اللغة الإسبانية، ومنعهم من ارتداء ملابس تختلف عما يرتديه الكاثوليك، بل ومنع الخياطين وأصحاب محلات المجوهرات من بيع أو صناعة أي منتوج مخالف للنمط الإسباني المسيحي.
يقول الباحث الشافعي درويش في دراسة بعنوان الجالية الأندلسية في تونس ودورها الحضاري "بسبب محاكم التفتيش أضحى الموريسكيون عبيدا بدون سيادة، وبدأت عمليات الاستلاب الثقافي والتغريب بعد مصادرة أملاكهم، فقد كانت عمليات التفتيش تقضي باسترداد روحي وحضاري لكافة سكان الأندلس. لقد أقرت محاكم التفتيش قطع الموريسكيين عن جذورهم وهويتهم الثقافية بالقضاء على نظامهم الاجتماعي انطلاقا من قمة الهرم أي سحق الزعماء والمتضلعين في شؤون الإسلام ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم وإجبارهم على مصاهرة المسيحيين من أجل دمجهم بالقوة في المجتمع الإسباني وإرغامهم على الزواج وفق العادات المسيحية ومنعهم من بيع ممتلكاتهم".
كان من الطبيعي أن تقود تلك الحملات التي استهدفت مسلمي إسبانيا إلى ثورة ثانية بين عامي 1568 و1571، عُرفت باسم ثورة البُشارات الثانية، التي أُخمدت بعد مقتل قائدها مولاي محمد بن عبو. خلال قمع ثورة البشارات الثانية، دُمرت قرية غاليرا بالكامل ورُشت بالملح، وقُتل جميع سكانها البالغ عددهم ألفين وخمسمئة نسمة، بما في ذلك النساء والأطفال. ولضمان عدم مقاومتهم، تم تشتيت عشرات الآلاف من الموريسكيين من منطقة غرناطة إلى أجزاء أخرى من إسبانيا، واستوطن المسيحيون في أراضيهم.
يقول الباحث روجر بواز "كان الصراع بين المجتمعين المسيحي والمسلم قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وفي وقت مبكر من العام 1582 اقترح مجلس الدولة في عهد فيليب الثاني الطرد باعتباره الحل الوحيد، على الرغم من بعض المخاوف بشأن التبعات الاقتصادية التي قد تترتب على هذا الإجراء بسبب تراجع المهن الخاصة بالموريسكيين وانخفاض القوى العاملة والمهارات الزراعية التي يتمتع بها الموريسكيون". بعد صعود فيليب الثالث على العرش الإسباني بين عامي 1598 و1621، حسم قرار طرد المسلمين من البلاد وذلك بضغط من رجال الكنيسة وبعد التشاور مع جمعية الأساقفة الإسبان، وقد أمضى على المرسوم الأول بهذا المعنى في أبريل/نيسان سنة 1609 لتبدأ رحلة الشتات لقرابة مليون مسلم إسباني.
فصل الشتات المكتوب على مسلمي إسبانيا
أصبح مخطط التهجير جاهزا للتنفيذ بعد أن أجمع البلاط والكنيسة على الأمر. أعدت إسبانيا أسطول سفنها سرا وعززته بسفن تجارية أجنبية لتشارك في عملية التهجير، وكان أغلبها من إنجلترا.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 1609، أعلنت السلطات البلدية في مملكة فالنسيا أمر الطرد، لتعقب ذلك الإعلان أول رحلة للمطرودين في شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، وكانت مدينة دانية هي التي أطلقت أول دفعة من الموريسكيين المهجرين نحو سواحل الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وخرجت تلك الرحلة تحت جنح الظلام.
في عام 1610، تتالت أوامر طرد الموريسكيين من مدن أخرى، في أراغون وقشتالة والأندلس وإكستريمادورا، وحُملوا على ظهور السفن متوجهين إلى وهران وتونس وتلمسان وتطوان والرباط وسلا، وقد استقبلت تونس أكثر الموريسكيين المطرودين من إسبانيا.
يصف بيدرو أثنار كاردونا، وهو أحد الشهود على عمليات الترحيل ، في كتابه "الطرد المبرر للموريسكيين الإسبان" أحد مشاهد تهجير الموريسكيين قائلا "في موكب غير منظم، يختلط فيه المشاة والفرسان، يسيرون الواحد تلو الآخر، ينفجرون بالألم والدموع، محملين بأبنائهم وزوجاتهم ومرضاهم وكبار السن، مغطين بالغبار، يلهثون ويتصببون عرقا". المشهد مألوف جدا، أليس كذلك؟
إعلان
تتضارب الأرقام بشأن الموريسكيين الذين لقوا حتفهم خلال رحلات تهجيرهم، لكن يذكر بيدرو أثنار كاردونا في كتابه أن أكثر من خمسين ألف موريسكي ماتوا بين أكتوبر/تشرين الأول 1609 ويوليو/تموز 1611، وذلك أثناء محاولتهم مقاومة عمليات الطرد، في حين مات أكثر من 60 ألفًا أثناء رحلاتهم برا أو بحرا.
ولم تكتف إسبانيا بتهجير الموريسكيين بل أجبرت بعضهم على ترك أطفالهم، حيث أصدر مجلس المملكة في سبتمبر/أيلول من عام 1609 قرارا بأن يُبقَى جميع الأطفال الذين تبلغ أعمارهم عشر سنوات أو أقل في إسبانيا وذلك لتلقي تعليمهم هناك على يد رجال الدين أو أشخاص من الثقات.
ويقوم هؤلاء الأطفال بخدمة من يرعونهم حتى يبلغوا سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين مقابل الطعام واللباس، أما الموريسكيون الرضع فتقوم النساء المسيحيات بتربيتهم حتى يشتد عودهم، وتذكر المراجع التاريخية أنه تم الإبقاء على ما يقارب عشرة آلاف طفل موريسكي في إسبانيا ضمن سياسة انتزاع الأطفال المسلمين من أهلهم.
الوطن الجديد، الظاهر ترحيب والباطن سياسية
يُقدر عدد الوافدين الموريسكيين إلى تونس بحوالي 80 ألفا، وكان معظمهم في ذلك الوقت من أراغون أو من شمال قشتالة وفيهم مجموعات من فالنسيا. يقول الباحثان نزار السياري وهشام رجب في دراسة "أصل المشهد الأندلسي في شمال غرب تونس: تستور وتراثها الموريسكي": "وصل الموريسكيون إلى تونس في فترة من عدم الاستقرار السياسي الشديد، والذي تفاقم بسبب ثورات القبائل العربية في الداخل، والحروب مع إيالة الجزائر في عام 1613 و1628، والاشتباكات مع المسيحيين على الساحل المتمثلة في حرق الأسطول التونسي قبالة حلق الوادي في العام 1609، والأوبئة الكبرى طيلة سنوات بين العامين 1604-1605، و1620و1621، والعامين 1642 و1644. وتزامن وصولهم في السنوات الأخيرة من حكم عثمان داي واستمر في السنوات الأولى من حكم يوسف داي".
حين حل الموريسكيون بأرض تونس، وجدوا الترحيب من عثمان داي الذي كان في أواخر سنوات حكمه، وشجع على توطينهم في تونس وذلك بإلغاء الضريبة التي كانت تدفعها كل سفينة ترسو في الموانئ التابعة لدائرة سلطته، كما أعفى داي تونس الموريسكيين من الضرائب ومكنهم من الأسلحة والأراضي ليعمروا قرى بأكملها وعين شيخا منهم يقوم على شؤونهم ولم يُخضعهم لسلطة "القُيّاد" أي الولاة.
كان الحظ حليف الموريسكيين في تونس رغم أن نزولهم بها كان في فترة اضطرابات في الداخل والخارج، لكن عدة عوامل متشابكة جعلت كل الأزمات الداخلية تصبّ في مصلحتهم، وهي عوامل سياسية بالأساس، حيث فكر عثمان داي ومن بعده يوسف داي في الاستفادة من وجودهم لتركيز السلطة على القبائل داخل البلاد.
ويقول الباحثان نزار السياري وهشام رجب "إن الترحيب الذي أبداه دايات تونس تجاه الموريسكيين كان راجعا إلى المأساة التي عاشوها، ولكن أيضا إلى متطلب سياسي ذي وزن كبير. في الواقع، رأى حكام تونس في الموريسكيين حليفا ذا أهمية قصوى لبسط سيطرتهم على الأراضي في الداخل التي ظلت تحت نفوذ القبائل المتمردة، ليس ذلك فحسب، بل ولكن من خلال استقبالهم للموريسكيين، ضمنوا أيضا دعم الأتراك، الذين أظهروا تضامنا خاصا جدا مع قضية الموريسكيين، وبالتالي عززوا سلطتهم، وخاصة ضد دايات الجزائر".
في الواقع، لم يكن اللاجئون الجدد ورقة سياسية استفاد منها ملوك تونس في بسط نفوذهم ودعم سلطتهم فحسب، بل كانوا قوة اقتصادية كبيرة استفادوا منها أيضا، فقد جاءت الغالبية الكبرى من الموريسكيين بثروة مهمة جدا هي الحنكة والدراية في مجالات الزراعة والعمارة والحرف إضافة إلى المعرفة بالتقنيات العسكرية وأمور الإدارة المالية والسياسية.
ويذكر الباحث ميكيل دي أبالزا أن الموريسكيين أدّوا دورا كبيرا في استقرار السلطة السياسية والعسكرية في تونس وذلك بوجود مسؤولين وتجار أندلسيين في حاشية الدايات والبايات.
يقول دي أبالزا: "إن الباي حسين بن علي التركي ذا التكوين العسكري، قد وصل إلى السلطة بقوة السلاح، مثل جميع الملوك التونسيين تقريبا منذ أن استعاد الأتراك البلاد من الإسبان عام 1574. وفي بداية القرن السابع عشر، تلت التمردات المسلحة قوة سياسية مستقرة نسبيا مع عثمان داي ويوسف داي، وذلك بفضل تحالف بين هؤلاء القادة العسكريين الأقوياء وبين برجوازية تونس التي لعب فيها الموريسكيون أو الأندلسيون دورا مهما للغاية. وقد حظي هؤلاء الوافدون الجدد من إسبانيا باستقبال طيب للغاية من قبل السلطات، وساهم وجودهم بعد مرور قرن من الزمان، في تقوية الأسرة الحاكمة الجديدة".
الموريسكيون من الشتات إلى البلاط
حين وصل الموريسكيون إلى تونس، استقروا في البداية في الحاضرة والمناطق القريبة منها، لكن صنعتهم المتمثلة أساسا في الزراعة قادتهم إلى التوسع على ضفاف وادي مجردة غرب العاصمة، وهناك أسسوا قرى على أنقاض قرى قديمة مثل تستور والسلوقية وطبربة المشابهة في مناخها وتربتها لبعض المناطق الإسبانية التي عاش فيها الموريسكيون، قبل أن يتوسعوا إلى بنزرت وزغوان وسليمان، ولذلك لم يجدوا صعوبة في تعمير تلك المدن والقرى وفي تركيز حياتهم الجديدة، فاكتسبوا نفوذا اقتصاديا وسياسيا ودخلوا في نسيج السكان الأصليين وتغلغلوا في بلاط الحكم.
يلخص جان أندريه بيسونيل في كتابه، الذي هو في شكل رسائل، ويحمل عنوان "رحلات في مناطق من تونس والجزائر" -وهي رحلات أجريت بأمر من الملك في سنتي 1724 و1725- مكانة الموريسكيين في تونس بالقول: "الأندلسيون، الذين طُردوا من إسبانيا، هم الأوفر حظا في هذا البلد. لقد حافظوا على مهاراتهم في الزراعة والصناعة والتجارة، كما أن بعضهم متعلمون ويتحدثون عدة لغات، وهم يتميزون بالذكاء والنشاط، كما يتبوؤون مناصب إدارية في المدينة".
ويمثل كتاب بيسونيل، إلى جانب كتاب الأب فرانسيسكو خيمينيث، وثيقة مهمة في تصوير حياة الموريسكيين في تونس ومكانتهم الاقتصادية والسياسية في تلك الفترة، ويذكر بيسونيل أن "المدن والقرى كانت نادرة جدا في هذه المملكة قبل مجيء الأندلسيين. فمعظم المدن التي نجدها اليوم تدين بتأسيسها، أو على الأقل بإعادة إعمارها لهم، لأن السكان الأصليين أو البدو كانوا يفضلون العيش في الخيام في الريف على العيش في المدن، كما لا يزال يفعل معظمهم حتى اليوم. وقد فاقوا العرب في زراعة الأشجار، كما يتضح بسهولة في الأماكن التي يسكنونها. فتكاد ضواحي مدنهم كلها تكون مليئة بالحدائق المليئة بأشجار الفاكهة والأعشاب المزروعة، والتي تتم العناية بها جيدًا وتُحسن زراعتها".
ويضيف بيسونيل أنه بعد أن مكنهم عثمان داي من حق الاستقرار في تونس، أسسوا قرى ومدنًا لا يمكن لعربي تولي منصب فيها وأداروا حكمها من خلال مجلس العدالة الذي يقوده حاكم يُطلق عليه اسم "الشيخ"، وهو الشخص الأكثر مكانة، إضافة إلى ثلاثة محلفين وثلاثة مسؤولين آخرين، ويتم تعيين الشيخ مدى الحياة عبر التصويت من قبل جميع الموريسكيين، ثم يصادق الباي على هذا التعيين. وتتمثل مهمة الشيخ في إصدار الأوامر وإقامة العدل في القضايا المدنية والجنائية لكنه لا يستطيع الحكم بالإعدام إلا بأمر صريح من الباي، ويستفتي الشيخ مستشاريه الثلاثة أما بقية أعضاء مجلس العدالة فهم بمثابة الحراس الذين يتولون تنفيذ أوامر المجلس.
لا يتوقف نفوذ الموريسكيين على إدارة شؤونهم في شكل حكم ذاتي فحسب، بل كانت لهم مناصب داخل قصر الباي نفسه وهو ما يذكره خيمينيث حين وصف منصب الخزندار الذي تقلده موريسكي يدعى محمود خزندار، حيث يقول "هناك خزندار سياسي ورجل دولة عظيم، يحكم حسين بن علي رعيته وفقا لنصائحه، ولا يفعل شيئًا دون موافقته. إنه ثري للغاية. بنى مدرسة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، مُخصصا جزءا من دخله لهذا العمل. كان للخزندار نفوذ كبير لدى الباي".
كما كانت هناك شخصية موريسكية أخرى لا تقل عن محمود خزندار، وهو الشريف قسطلي، الذي عيّنه الباي في إدارة مستشفى المارستان لمنافسة المستشفى الإسباني المسيحي، وقام الشريف قسطلي بهدم المستشفى وإعادة بنائه بأفضل صورة. كان هذا الموريسكي رجلا ثريا ويعتبر ثاني أكبر مالك للعبيد بعد البايات حسب خيمينيث، ولم يقتصر دوره على التجارة بل كان وسيطا في حل الأزمات السياسية، حيث تدخل في المفاوضات مع الفرنسيين الذين أرسلوا أسطولا بحريا إلى سواحل تونس، وكان وسيطا أيضا بين الباي وقادة متمردين داخل البلاد.
وحسب الباحث ميكيل إيبالزا، فإن الشريف قسطلي قد يكون له دور عسكري في المملكة التونسية، حيث كان مقربا من عديد من القيادات وحظي بحماية الباي الذي آواه في مكان آمن في قصر باردو خلال فترة الاضطرابات عام 1729.
ويضيف إيبالزا في حديثه عن محمود خزندار والشريف قسطلي "هاتان الشخصيتان الأندلسيتان العظيمتان لهما أهمية كبيرة. يمارسان عدة وظائف في الدولة وهي وظائف ذات طبيعة إدارية ومالية. ومن ناحية أخرى، نرى أن هذه المكانة لا تعتمد على المنصب الذي يشغلانه، بل على المكانة الاجتماعية التي ينتميان إليها، فقد كانا من التجار البرجوازيين الأندلسيين".
المعمرون الجدد.. فقهاء الزراعة وأرباب الصناعة
حين قدم الموريسكيون إلى تونس، لم يحملوا معهم دفاتر شتاتهم وذكريات ما تركوا وراءهم فحسب، بل بدؤوا في تعمير مستقرهم الجديد حتى لا يستوحشوا الغربة، وسكبوا كل معارفهم في الزراعة في أراضي الشمال حتى أصبحت بمثابة الجنان.
ويقول ابن أبي دينار في كتاب "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس": "فعمرت بهم البلاد واستوطنوا في عدة أماكن، ومن بلدانهم المشهورة سليمان وبلي ونيانو وقرمبالية وتركي والجدّيدة وزغوان وطبرية وقريش الواد ومجاز الباب والسلوقية وتستور وهي من أعظم بلدانهم وأحضرِها، والعالية والقلعة وغار الملح وغيرها. بحيث تكون عدتها أزيد من عشرين بلدا، فصار لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين ومهدوا الطرق بالكراريط للمسافرين وصاروا يعدون من أهل البلاد".
كان للموريسكيين دور كبير في إعمار مناطق كثيرة في تونس وإحيائها، فقد أدخلوا عليها غراسات جديدة مثل الرمان وتوسعوا في غرس الزياتين وجعلوا من أراضي ضفاف وادي مجردة مناطق سقوية بفضل مهاراتهم في تقنيات الري.
وتصف دراسة "نظام الري الموريسكي القديم في تستور: خبرة الأجداد" لنزار السياري ومحمد موسى وهشام رجب، تقنيات الري في مدينة تستور أكبر المدن الموريسكية في تونس، التي لا تزال آثارها موجودة إلى الآن، وتقول الدراسة: "تكمن أصالة نظام الري بالآبار السطحية في أن أغلبها آبار قديمة كانت مجهزة بنواعير، مع بعض الاستثناءات، حيث كان نظام الضخ القديم هو الدلو. إن المواد وتقنيات بناء أروقة الآبار المسدودة هي نفسها تقريبًا تلك التي نجدها في العمارة المغربية للمدينة والتي يمكن اعتبارها دليلًا على أن بناء هذه الآبار، على الأقل الأقدم منها، يعود تاريخه إلى وقت بناء المدينة. يتم ضخ الماء عن طريق قناة التدفق أو أنبوب التوصيل، حيث تدور المياه التي يتم تصريفها في حوض صغير عبر قناة صغيرة لتصل إلى حوض التجميع الكبير. يتم ضمان توزيع المياه إلى مختلف الساحات المزروعة من خلال قناة محفورة على طول قطعة الأرض".
أوجد الموريسكيون مشهدا طبيعيا جديدا وثوريا، وذلك من خلال تنظيم العمل الجماعي وتسوية التربة وتخطيط قطع الأراضي داخل البساتين واستعمال تقنيات جديدة في ري الأرض، كما استجلبوا أنواعا جديدة من النباتات، وتمثل مدينة تستور شاهدا صادقا على أسلوب الحياة الريفية التي جلبها الموريسكيون حين استوطنوا تلك الأرض، حتى أصبحت شبيهة بالحياة الريفية في القرى الإسبانية.
كما حفر الموريسكيون في تونس ذاكرتهم في تصاميم مدنهم وجوامعهم وبيوتهم، حتى أصبحت أشبه بعمارة إسبانيا، ويضرب الباحثان نزار السياري وهشام رجب في دراسة "أصل المشهد الأندلسي في شمال غرب تونس: تستور وتراثها الموريسكي" مثلا بمدينة تستور التي تبعد قرابة ثمانين كيلومترا عن العاصمة، والتي صممت على الطراز الإسباني ويقولان: "إن المشهد الحضري، المصمم والمعيش من خلال الممارسات، يشهد على التعلق والحنين للمجتمع الموريسكي بأصوله الإيبيرية ورغبته في الحفاظ على نفسه كمجتمع موحد ومتضامن".
وأكثر ما يلفت الاهتمام في الطابع المعماري الموريسكي هو تصميم مآذن المساجد، حيث يتم تزيينها بزخارف من الفن الإسباني كما في أراغون وقشتالة، مما يذكّر بالكنائس والكاتدرائيات المسيحية، وهو "يشكل ظاهرة فريدة من نوعها، تشهد على رغبة البناة في تقليد الزخارف المعمارية والزخرفية الإسبانية".
لم تقتصر حياة الموريسكيين في تونس على الزراعة والعمارة فقط، بل مارسوا التجارة وكانت مبادلاتهم التجارية مع اليهود والإيطاليين والأتراك، واقتنوا القوارب من القراصنة وامتلكوها، كما امتهنوا تجارة الجلود والمنسوجات واستوردوا الحرير والخزف، وركزوا دكاكين صناعة الطربوش المعروف بالشاشية في الحاضرة والمدن التي تجاورها، وأصبحوا من أهل البلد قلبا وقالبا، حتى إن أحلامهم بالعودة تلاشت، وبقيت ذكرياتهم تمر على ما بقي من جدران عمارتهم، تستذكر ما جاد به لسان الدين بن الخطيب:
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
السلطان والسفاح.. كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا الحقيقي؟
في ربيع عام 1459، وبعد ست سنوات من فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح ، وعلى بُعد 800 كيلومتر أو أقل، كانت أوروبا تشهد واحدة من أبشع المذابح في تاريخها. حينها كان حاكم بلاد الأفلاق (رومانيا الحالية) فلاد الثالث وقواته يحاصرون أسوار بلدة براشوف التي ساعد التجار الساكسونيون فيها أعداءه وعصوا أوامره. تحكي الروايات التاريخية كيف أن قوات فلاد هدمت البلدة وأحرقتها، وأسرت سكانها. لكن ما تلا ذلك كان كفيلًا بأن يضع فلاد الثالث في قائمة الأكثر وحشية في تاريخ البشر. فقد أمر فلاد بجمع الأسرى، أطفالًا ورجالًا ونساء، على تلة تطل على كنيسة القديس يعقوب، قبل أن يأمر بطعنهم جميعًا بالرماح الطويلة من أسفلهم إلى أعلاهم. وبعد ذلك أمر بتثبيت الرماح وعليها الضحايا المخوزَقين على طول المنحدرات، قبل أن ينصب خيمته وطاولة عشائه تحت أجساد القتلى، ويغمس خبزه من دمائهم. في وقت لاحق من العام نفسه ارتكب فلاد جريمة أخرى بعد أن دعا عددًا كبيرًا من "النبلاء" مع أطفالهم ونسائهم إلى عشاء عيد الفصح. وما إن حانت ساعة الطعام حتى اقتحم رجاله المكان ليطعنوا النساء والشيوخ أمام البقية، وأن يُعلَّقوا أمام الرجال النبلاء، والذين أمر فلاد بهم فاستُعبدوا حيث قضوا في ميتات بشعة وبطيئة. ربما لا تعلم الكثير عن فلاد الثالث، لكنك على الأرجح تعرف أسطورة مصاص الدماء دراكولا، والتي استوحاها الكاتب البريطاني برام ستوكر في الرواية التي صدرت عام 1897 من تاريخ فلاد. لقد نال دراكولا، الذي لُقب بـ"المخوزِق" بسبب اعتماده الوحشي على أسلوب الخازوق كوسيلة للتعذيب والإعدام؛ شهرة واسعة في عصره والعصور التي لحقته، وهو الأسلوب الذي مارسه على خصومه السياسيين وأسرى الحروب بل ونفذه على النساء والأطفال، مانحًا إياه سمعة مرعبة تجاوزت حدود إمارة ولاشيا موطنه الأصلي، لتصل إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الغرب، ودوقية موسكو في الشرق، وسرعان ما عمّ صيته القارة الأوروبية، حيث أضحت ممارساته موضوعا شائعا في المدونات والسجلات التاريخية، وتشير التقديرات إلى أن عدد ضحاياه بلغ عشرات الآلاف، ما جعل اسمه مرادفًا للرعب الممنهج والتنكيل السياسي. فمن هو دراكولا؟ وكيف كانت علاقته مع الدولة العثمانية ممثلة في السلطان محمد الفاتح؟ وكيف ارتكب أعظم الجرائم المروعة في ذلك العصر؟ وكيف كانت نهايته على يد العثمانيين؟ دراكولا.. من الرعاية العثمانية إلى العداء و لد فلاد الثالث عام 1431 في إقليم ترانسيلفانيا الذي كان آنذاك جزءا من مملكة المجر، والتي أصبحت لاحقا ضمن حدود رومانيا الحالية، كان والده فلاد الثاني المعروف بلقب "دراكول"، أحد أبرز أمراء الأفلاق، حيث تلقّى فلاد تعليمه على أيدي معلمين بيزنطيين ورومانيين وفق توجيهات من القسطنطينية التي لم تكن قد سقطت بعد في يد العثمانيين، ودرس طيفًا واسعًا من المعارف، وقد ورث فلاد الثالث عن والده لقب دراكولا الذي كان يعني "ابن التنين"، ثم تحول معناه فيما بعد إلى "ابن الشيطان"، والذي انتمى سنة 1431م إلى تنظيم فرسان يدعى "تنظيم التنين"، وهو تنظيم أسسه الإمبراطور الروماني في بداية القرن 15 الميلادي. وفي عام 1436 تولّى فلاد الثاني الشهير بدراكولا حكم إمارة الأفلاق، لكن فترة حكمه لم تدم طويلا، إذ أُطيح به عام 1442 نتيجة مؤامرات حيكت بين خصومه المحليين وملك المجر فلاديسلاف الثالث. غير أن فلاد تمكن من استعادة العرش بعد عام، بمساعدة السلطان العثماني مراد الثاني، إثر اتفاق قضى بدفعه الجزية للباب العالي. ولتعزيز هذا التحالف أرسل فلاد ابنيه، فلاد الثالث ورادو، إلى البلاط العثماني في أدرنة كرهائن لضمان ولائه، وبحسب إرهان آقهان في كتابه "السلطان ودراكولا" فإن فلاد الثالث قضى سنواته تلك في كنف الدولة العثمانية، حيث تلقى تعليمًا في المنطق والأدب والقرآن، وتعلّم اللغة التركية العثمانية حتى أتقنها، كما تلقى تدريبا عسكريا صارمًا في الفروسية وفنون القتال، بل تعرف على ولي العهد الأمير محمد الفاتح. وبعد وفاة والده، عاد فلاد الثالث إلى الأفلاق ليطالب بالعرش، بينما بقي شقيقه رادو في البلاط العثماني. وكما نرى في "تاريخ رومانيا" لإيوان بولوفان وآخرين، فإنه مع تصاعد النزاع بين الأمير فلاد الثاني ونبلاء ترانسيلفانيا "البويار"، اتجه هؤلاء إلى التآمر عليه بالتنسيق مع يوحنا هونياد، وصي العرش المجري آنذاك، ما أسفر عن اغتياله في ديسمبر/كانون الأول 1447. ولم ينجُ ابنه ووريثه ميرتشا من المصير نفسه، إذ تعرّض للتعذيب والقتل بطريقة مروّعة بدفنه حيًا بعدما أُصيب بالعمى، في مشهد يعكس قسوة الصراع على السلطة. وكما يذكر محمد فريد في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، فإنه مع مخاوف الدولة العثمانية من تغلغل النفوذ المجري في الأفلاق (رومانيا)، سارعت إلى التدخل العسكري، فنصّبت فلاد الثالث الموالي لها حاكما على البلاد، إلا أن ولايته الأولى لم تستمر طويلا؛ إذ أعاد هونياد ملك المجر غزو الإمارة وأعاد فلاديسلاف الثاني إلى الحكم. وعقب خلعه، فضّل فلاد الثالث عدم اللجوء إلى العثمانيين مجددا بسبب العداء الشخصي الذي نشأ لاحقا بينه وبين السلطان محمد الثاني الفاتح، فلجأ إلى مولدوفا لفترة قصيرة، ثم إلى المجر عقب مقتل حليفه بوغدان الثاني، حيث حظي باهتمام يوحنا هونياد الذي قدّر معرفته بالشؤون العثمانية وعداءه الشديد للسلطنة، فعينه مستشارًا عسكريًا وسعى إلى ترميم علاقته مع خصمه فلاديسلاف. أقام فلاد الثالث في المجر فترة امتدت إلى ما بعد سقوط القسطنطينية في 29 مايو/أيار 1453 على يد السلطان محمد الثاني الفاتح، وهو الحدث الذي مثّل نقطة تحوّل استراتيجية في ميزان القوى بالمنطقة، فقد تزايد التمدد العثماني في أعقاب هذا النصر، مما شكّل تهديدًا مباشرًا للبوابة الشرقية لأوروبا الوسطى، وبحلول عام 1481 كانت الدولة العثمانية قد أحكمت سيطرتها على كامل شبه جزيرة البلقان، منهية بذلك وجود سلالة فلاد الثالث في الحكم بعد عقود من الصراع المتواصل. وفي عام 1456 وفي سياق الحملة العثمانية لمحاصرة بلغراد عاصمة الصرب بهدف إضعاف المملكة المجرية، قاد يوحنا هونياد هجومًا مضادا في صربيا أدى إلى فك الحصار، واستغل فلاد الثالث حالة الانشغال العسكري والسياسي ليعود إلى إمارة الأفلاق، حيث نجح في استعادة الحكم في أغسطس/آب 1456 للمرة الثانية. دراكولا في موقع القيادة وعقب عودته إلى عرش الأفلاق واجه فلاد الثالث واقعًا مأزوما تمثل في حالة من الانهيار الداخلي والفوضى الشاملة، فكما يذكر كل من فلوريسكو، رادو آر ورايموند تي. ماكنالي في كتابهما "دراكولا.. أمير الوجوه المتعددة؛ حياته وعصره"، كانت البلاد قد خرجت لتوها من صراعات دامية أضعفت بنيتها الاقتصادية، وانتشرت فيها الجريمة، وتراجعت الزراعة والتجارة إلى حد كبير، في ظل تهديدات متزايدة من الداخل والخارج؛ فوضع فلاد لنفسه مشروعًا ثلاثي الأبعاد: إعادة بناء الاقتصاد، وتعزيز الدفاعات العسكرية وتحصين البلاد، وترسيخ سلطته السياسية. وبحسب الكاتبين، اتجه فلاد الثالث على الصعيد السياسي والاجتماعي، نحو إعادة هيكلة هرم السلطة بشكل جذري، مدفوعًا برغبته في الانتقام من البويار الذين اعتبرهم المسؤول الأول عن مقتل والده وتردي الأوضاع في البلاد. فأقدم على تصفية عدد كبير منهم، مستبدلًا إياهم بأشخاص من خارج النخبة الأرستقراطية يثق بولائهم، ومن بينهم بعض الأجانب والفلاحين الأحرار. كما تبنّى سياسات أمنية متطرفة تمثلت في فرض عقوبات صارمة كالقتل الفوري لكل من يرتكب جرمًا، دون استثناء أو تفريق بين الطبقات. وكذلك أعاد تنظيم الجيش من خلال تشكيل مليشيات قروية تُستخدم عند الحاجة، مع الاحتفاظ بحرس خاص من المرتزقة منحهم امتيازات سخية. أما في علاقاته الإقليمية، فقد وجّه ضربات قاسية لنبلاء سكسون ترانسيلفانيا، حيث اتهمهم بالتواطؤ مع البويار ضد حكمه، فقام بالمجزرة التي ذكرناها في براشوف عام 1459 أعدم خلالها الآلاف، وأتبعها بحملة مشابهة في سيبيو سنة 1460، ما عزز صورته كحاكم دموي لا يتهاون مع أي تهديد لسلطته. وفي عام 1459 وبعد سقوط القسطنطينية والتمدد العثماني في البلقان، أطلق البابا بيوس الثاني دعوة إلى حملة صليبية جديدة ضد الدولة العثمانية، وقد أُسندت قيادة هذه الحملة إلى الملك ماتياس كورفينوس حاكم المجر وكرواتيا، ونجل القائد الراحل يوحنا هونياد، على أن تستمر ثلاث سنوات بدعم مالي من البابوية بلغ 40 ألف قطعة ذهبية، خُصصت لتجنيد جيش قوامه 12 ألف جندي وشراء 10 سفن حربية، إلا أن هذه المبادرة البابوية لم تلقَ الدعم المرجو من ملوك أوروبا، واقتصر التأييد الفعلي على فلاد الثالث أمير الأفلاق، الذي أعرب عن استعداده للانضمام إلى الحملة دعمًا لاستقلال إمارته، ما عزز مكانته لدى البابا وأظهره كحليف موثوق في مواجهة التوسع العثماني. وفي المقابل، شهد العام 1460 تطورات درامية تمثلت في أسر وقتل العثمانيين لميخائيل زيلاغي، وصي عرش المجر وأقرب حلفاء فلاد الثالث وأخطر أعداء العثمانيين أثناء مروره بالأراضي البلغارية، وفي نهاية العام نفسه أرسل السلطان محمد الفاتح وفدا إلى فلاد الثالث يطالبه بدفع الجزية المتأخرة التي تعود إلى عام 1459 والمقدّرة بمبلغ 10 آلاف دوقات ذهبية، إلى جانب تقديم 500 من الشبان الأفلاقيين للخدمة ضمن فرق الانكشارية. رفض فلاد هذه المطالب رفضًا قاطعًا، معتبرًا الإذعان لها قبولا ضمنيًا بالوصاية العثمانية على الأفلاق، الأمر الذي يتعارض مع سعيه الحثيث نحو ترسيخ استقلال الإمارة، وتصاعد التوتر بين الجانبين حين أمر فلاد بتسمير عمائم الرسل العثمانيين على رؤوسهم بعد رفضهم خلعها أمامه، في مشهد أثار قطيعة نهائية مع الدولة العثمانية. كما بعث برسالة إلى سكسون ترانسيلفانيا في سبتمبر/أيلول 1460 محذرًا من غزو عثماني وشيك، داعيًا إلى الدعم العسكري، وهو الأمر الذي كان صحيحا فقد أصر السلطان الفاتح على تأديب فلاد الثالث، ولمّا بدأت القوات العثمانية بعبور نهر الدانوب وفرض التجنيد القسري، ردّ فلاد بهجوم عنيف أوقع فيه العديد من الأسرى وأعدمهم بأسلوبه الشهير بالخازوق، ما مهّد لمواجهة مفتوحة استمرت حتى عام 1461، عندما وجّه السلطان محمد الفاتح دعوة مباشرة لفلاد الثالث بالحضور إلى القسطنطينية للتفاوض. ومع أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1461، بعث فلاد الثالث برسالة إلى السلطان العثماني يعلن فيها عجزه عن الاستمرار في دفع الجزية، مبرّرا ذلك باستنزاف موارد الأفلاق نتيجة الحرب الضارية مع سكسون ترانسيلفانيا، وأشار في خطابه إلى تعذر مغادرته البلاد خشية استغلال ملك المجر لغيابه والانقضاض على الحكم، موضحا استعداده لإرسال الذهب إلى الباب العالي متى توفرت الموارد، كما اقترح أن يوفد السلطان واحدا من رجالاته ليحكم باسمه في الأفلاق. نقطة التحول غير أن السلطان محمد الفاتح وبعد اطلاعه على تقارير استخباراتية تؤكد تحالف فلاد الثالث مع ملك المجر وتكذّب ادعاءاته، قرر إرسال حمزة باشا، على رأس قوة من 1000 فارس لعقد لقاء ظاهري مع فلاد بينما كانت المهمة الحقيقية تكمن في القبض عليه واقتياده أسيرًا إلى القسطنطينية، غير أن خطط العثمانيين لم تَخفَ عن فلاد الثالث، الذي تمكّن من الحصول على معلومات مُسبَقة عن نواياهم، فبادر إلى حشد قواته وكمَن لهم عند الممرات الجبلية شمال منطقة جورجيو في بلغاريا، حيث شنّ هجوما مباغتا استخدم فيه تكتيكات نارية متقدمة، كالمَدافع اليدوية والبارود، وتمكّن من تطويق القوة العثمانية والقضاء على معظم عناصرها، بينما أسر الباقين وعلى رأسهم القائد حمزة باشا. وكما يرصد كتاب "فلاد المخوزِق.. حياة من البداية إلى النهاية"، وبأسلوبه الدموي المعتاد، أمر فلاد بإعدام الأسرى جميعًا على خوازيق، مخصصا أطولها لحمزة باشا، تعبيرًا عن مكانته العسكرية، وإهانة للدولة العثمانية، وعقب هذا الانتصار تابع تقدمه نحو حصن جورجيو، حيث خدع الحامية العثمانية باستخدامه للغة التركية وتنكره في هيئة أحد الفرسان العثمانيين "السباهية"، ما مكّنه من دخول الحصن وتدميره وقتل من فيه. وفي سلسلة من عمليات الانتقام ضد المتعاونين مع العثمانيين، توغل جنوبًا حتى بلغ بلغاريا، وشن حملة قاسية امتدت لمسافة 800 كلم خلال أسبوعين، أسفرت عن مقتل نحو 25 ألف مسلم تركي وبلغاري، وقد وثّق فلاد هذه الإنجازات العسكرية برسالة ثانية أرسلها إلى ماتياس الأول ملك المجر بتاريخ 11 فبراير/شباط 1462، يشرح فيها تفاصيل انتصاراته المتتالية. وجاء في الرسالة: "قتلتُ الفلاحين في أوبلوكيتزا ونوڤوسيلو؛ رجالا وإناثًا، شيوخا وأطفالًا، كذلك المتواجدون عند مصب الدانوب وحتى راهوڤا، على مقربة من كيليا، ومن الدانوب السفلي حتى ساموڤيت وغيغن، قتلنا 23,884 من الأتراك، دون إحصاء هؤلاء الذين أحرقناهم داخل منازلهم أو قام جنودنا بقطع رقابهم، وعليه جلالتك، لك أن تعلم أنني نقضتُ سلامي معه (أي السلطان محمد الفاتح)". وخلال حملته العسكرية ضد العثمانيين، أظهر فلاد الثالث سياسة انتقائية تجاه السكان، حيث أطلق سراح المسيحيين البلغاريين، ما شجّع على هجرتهم إلى الأفلاق، في حين خلفت حملته آلاف القتلى في عدة مدن بلغارية. وردًا على ذلك، أرسل السلطان العثماني محمد الفاتح الذي كان منشغلا وقتها بحصار كورينث اليونانية، قوة قوامها 18 ألف جندي بقيادة الصدر الأعظم محمود باشا لتدمير مدينة برايلا، غير أن فلاد نجح في التصدي للهجوم، وقد أثارت هذه الانتصارات صدى واسعًا في أوساط العالم المسيحي، وعمّت الاحتفالات العديد من المدن الأوروبية، وأسهمت في فك الحصار عن كورينث. نهاية السفاح وأمام هذه التطورات، قرر السلطان شنّ حملة كبرى لاسترداد الأفلاق، وحدد لانطلاقها أحد يومي 26 أبريل/نيسان أو 17 مايو/أيار 1462، واختلفت تقديرات المؤرخين بشأن قوام الجيش العثماني، إذ تراوحت بين 60 و400 ألف مقاتل، في حين قدّر تقرير المبعوث البندقي توماسي المعاصر لتلك الأحداث عدد الجنود النظاميين وغير النظاميين بحوالي 90 ألفا، وقرر السلطان الفاتح تعيين الأمير رادو الوسيم أو الثالث شقيق فلاد، على رأس قوة مؤلفة من 4000 فارس. من جانبه حاول فلاد الثالث كسب دعم ملك المجر حينئذ كورفينوس، حتى إنه عرض عليه اعتناق الكاثوليكية، لكن محاولاته باءت بالفشل، فلجأ إلى إعلان التعبئة العامة؛ شاملة الرجال والنساء والأطفال والغجر، وقدّرت قواته بنحو 30 ألف مقاتل، كان معظمهم من الفلاحين والرعاة، مدعومين بمرتزقة وقوات من الحرس الشخصي، في استعداد لمواجهة المعركة الوشيكة. وكما يذكر الباحث إرهان أفيونجي في كتابه "محمد الفاتح.. سلطان العالم"، فمع تمكن القوات العثمانية في التقدم رغم العديد من العوائق، لجأ فلاد الثالث إلى تكتيكات الأرض المحروقة، فسمّم مصادر المياه، وحوّل مجاري الأنهار لصنع مستنقعات طبيعية تعيق الحركة، كما نصَب الفخاخ الأرضية وهجّر سكان القرى وحيواناتهم إلى الجبال، ما أدى إلى إنهاك الجيش العثماني خلال تقدمه لأيام دون طعام أو شراب. وإلى جانب ذلك استخدم فلاد حرب العصابات، بل وتعمّد نشر الأوبئة بين صفوف العثمانيين بإرسال مرضى بالطاعون والجذام والسل إلى معسكراتهم، ما تسبب بانتشار وبائي داخل الجيش. وكما يذكر المؤرخ محمد مقصود أوغلو في كتابه "التاريخ العثماني"، فقد بلغ التوتر ذروته في 17 يونيو/حزيران 1462 عندما شنّ فلاد الثالث هجوما ليليا جريئًا على معسكر العثمانيين جنوب العاصمة ترغوفيشت، حيث بدأ الهجوم عند الثالثة بعد حلول الظلام واستمر حتى فجر اليوم التالي، متسببًا في فوضى عارمة داخل المعسكر، ولكن فشل الهجوم في تحقيق هدفه الرئيسي باغتيال السلطان محمد الفاتح، إذ كانت الخيمة التي هوجمت تضم الصدرين الأعظمين محمود باشا وإسحق باشا بدلا من السلطان، في حين نُسب فشل جانب من الهجوم إلى تقاعس أحد قادة البويار الذي لم ينفذ الهجوم من الجهة المقابلة كما خُطط له. حينها أمر السلطان محمد الفاتح جيوشه باستكمال الزحف نحو عاصمة الأفلاق ترغوفيشت، ولكنه فوجئ عند وصوله بأنها خالية من السكان وأبوابها مفتوحة، ما أثار الريبة، وبصحبة جنوده دخل المدينة وسار في شوارعها لنحو نصف ساعة، تحف به مشاهد مرعبة لآلاف الجثث من الجنود العثمانيين ومسلمي البلغار مسمَّرين على خوازيق، في واحدة من أكثر صور الرعب وحشية في التاريخ، حيث تميّزت أطول الخوازيق بجثة حمزة باشا التي كانت قد تعفّنت. ورغم الاختلافات بين المصادر حول تفاصيل المشهد، سواء في موقع الجثث أو وجود حامية داخل العاصمة، فإن ما أجمع عليه المؤرخون هو صدمة السلطان الفاتح من هول المنظر، ما دفعه إلى اتخاذ تدابير احترازية؛ فأمر جنوده بالمبيت خارج المدينة وتحصين المعسكر بخندق واسع خشية هجوم مفاجئ، وأصر على القضاء على فلاد الثالث بكل وسيلة. ويذكر إرهان أفيونجي في كتابه السابق، أنه بعد أيام قليلة وبتشجيع من السلطان شخصيا، شنّ شتيفان الثالث أمير مولدوفا وابن عم فلاد الثالث هجومًا على مدينتي أكيرمان وكيليا لاستعادتهما من سيطرة فلاد، غير أن القوات الولاكية الموالية لفلاد أو دراكولا تمكنت من صد الهجوم. وفي المقابل أمدّ السلطان الفاتح شقيق فلاد الثالث، الأمير رادو الوسيم الموالي للعثمانيين والذي أعلن إسلامه؛ بقوات انكشارية وفرسان سپاهية، بهدف إنهاء مقاومة فلاد بشكل نهائي، وقد نال رادو دعمًا ماليا وعسكريا مستمرا من الباب العالي، ما مكنه من محاصرة فلاد في قلعة بويناري، حيث تمكن الأخير من الفرار بعدما انتحرت زوجته بإلقاء نفسها من أسوار القلعة، وبذلك نجح السلطان الفاتح من تنصيب رادو حاكمًا على الأفلاق، مستفيدا من تحالفه مع قبائل البويار الذين انقلبوا على فلاد بفعل سياساته القمعية السابقة ضدهم. ولما استتب الأمر ونجح الفاتح، استقل الأسطول العثماني عائدًا إلى أدرنة، التي بلغها في 11 يوليو/تموز، وفي اليوم التالي، أُقيمت احتفالات صاخبة في العاصمة ابتهاجًا بالنصر على دراكولا، والسيطرة على بلاده. ورغم تحقيق فلاد 3 انتصارات على قوات أخيه رادو بحلول شهر سبتمبر/أيلول، فإن إفلاسه وعجزه عن دفع أجور المرتزقة دفعه للجوء إلى ملك المجر كورفينوس طلبا للعون، لكن الأخير استغل الفرصة واعتقله بتهمة الخيانة بعد تلفيق خطاب للسلطان العثماني نُسب زيفًا لفلاد، ما أتاح له الاحتفاظ بالدعم البابوي دون خوض حرب. سُجن فلاد في عدة مواقع منها أوراتيا وفيشغراد وبودا، وتراوحت المدة بين أشهر معدودة وفق المراسلات البابوية، وبين 10 سنوات حسب روايات أخرى، بينما يُعتقد أن إطلاق سراحه وقع نتيجة وساطة قادها ابن عمه شتيفان سل مارى أمير مولدوفا، لمواجهة تزايد التهديد العثماني شمال الدانوب. وبعد وفاة رادو عام 1475 أعلن فلاد الثالث استعادة الحكم في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1476، بدعم مجري لكن حكمه الثالث لم يدم سوى أسابيع، حيث أصر السلطان الفاتح على القضاء عليه نهائيا هذه المرة، فأرسل إليه قوات عثمانية تمكنت من قتله وقطع رأسه في معركة قرب مستنقعات دير سناجوف في جنوب رومانيا، وأُرسلت رأسه إلى السلطان العثماني الذي عرضه على خازوق في أدرنة، بينما دُفن جسده في دير كومانا، الذي أسسه هو نفسه عام 1461. ونختم بوصف المؤرخ العثماني المعاصر لهذه الأحداث طورسون بك في كتابه "تاريخ أبو الفتح" عن فلاد الثالث أو دراكولا بقوله: "كان فلادُ كافرا سفاكا متعطشّا للدماء، كان هذا المأفون يدفع الجزية للسلطان سابقا، وكان يحظى بعطفه وعنايته، لكن تبين لاحقا أنه بمثابة حَجّاج الملاحدة، لقد كان ظلمُه وسوء إدارته لا يوصفان بشاعة، فعلى سبيل المثال إذا خانَ شخصٌ ما أو ارتكب جريرة، كان يأمر بالقبض على أمه وزوجته وأطفاله بل وحتى أقاربه ويأمر بهم فيُقتلون على الخوازيق"!


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
ريال مدريد يتمسك بشرط وحيد لبقاء رودريغو في البرنابيو
منح ريال مدريد فرصة أخيرة لمهاجمه البرازيلي رودريغو غوس لمواصلة مشواره مع النادي الملكي الذي يستمر في استعداداته لكأس العالم للأندية المقررة هذا الصيف. كان رودريغو هذا الموسم مخيبا للآمال بلا شك، مما أثار العديد من الشائعات حول رحيله خلال فترة الانتقالات الصيفية 2025. وغاب أداء اللاعب رقم 11 عن تشكيلة ريال مدريد منذ نهائي كأس ملك إسبانيا في 26 أبريل/نيسان الماضي. وتحدثت تقارير عن نية المدرب تشابي ألونسو الاعتماد على الفرنسي كيليان مبابي والإنجليزي جود بيلينغهام والبرازيلي فينيسيوس جونيور وعدم وجود مكان لرودريغو. ولم يُصدر ريال مدريد أي تصريحات رسمية بشأن هذه التكهنات حتى الآن، لكن رسالة ألونسو واضحة للغاية: "علينا التحدث" حول مستقبل اللاعب. وبالإضافة إلى المحادثات بين رودريغو ومدرب النادي الملكي الجديد، حددت مكاتب "فالديبيباس" موعدا نهائيا لاستمرار رودريغو غوس مع الفريق. وتشير المعلومات التي نشرها خوسيه فيليكس دياز صحفي "ماركا" إلى أن قادة الميرينغي "يريدون رد فعل على أرض الملعب" من مهاجم البرازيلي في مونديال الأندية. وحسب ما ذكرت الصحيفة كان لهذا الرد الذي طالبت به القيادة المدريدية موعد محدد "يريدونه أن يُظهر ذلك في كأس العالم للأندية"، وبالتالي، تبدو البطولة، التي ستُقام في الولايات المتحدة ابتداءً من 18 يونيو/حزيران، لحظة حاسمة لاستمرار رودريغو في الفريق الأول. الوقت ينفد ويبدو أن كل شيء يشير إلى أن كأس العالم للأندية قد تكون البطولة التي تُحدد مستقبل رودريغو. وإذا تمكن من تحقيق أرقام جيدة تحت قيادة ألونسو التكتيكية، وخاصةً إذا أثرت بشكل مباشر على فرص الفريق التنافسية، فسيتم تأكيد بقائه مع الفريق. وفي حال حدوث العكس يعتقد الكثيرون أن ريال مدريد قد يُدرجه سرا في سوق الانتقالات. وبالنظر إلى الاهتمام الذي يحظى به رودريغو من طرف أندية النخبة الأوروبية مثل أرسنال وتشلسي. ويبدو الدوري الإنجليزي الممتاز الوجهة المثالية للدولي البرازيلي. الذي أبدى رغبته في البقاء في غرفة ملابس سانتياغو برنابيو والمشاركة في المشروع الرياضي الجديد للنادي الملكي، تحت قيادة تشابي ألونسو. لكن الأمر لن يكون سهلا كما كان في المرات السابقة، عندما كان التعبير عن هذه الرغبة كافيا للحفاظ على رودريغو. وسيتعين على المهاجم البرازيلي الآن أن يكسب مكانه، وكذلك ثقة مجلس الإدارة، في كأس العالم للأندية.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
محللان سياسيان: العرب يملكون أدوات الضغط وهم أولى من الأوروبيين بالدفاع عن غزة
بينما تتصاعد الانتقادات الأوروبية للاحتلال الإسرائيلي على خلفية جرائمه في قطاع غزة ، لا تزال الدول العربية تلتزم الصمت حيال ما يتعرض له الفلسطينيون من إبادة وتجويع، رغم أنها قادرة على أن تضغط بهذا الاتجاه، كما يؤكد محللان سياسيان تحدثا لبرنامج "ما وراء الخبر". وفي سياق المواقف الأوروبية، قال المستشار الألماني فريدريش ميرتس إن ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة لا يمكن تبريره، وذلك غداة تأكيد وزير خارجيته أن برلين غيرت خطابها تجاه إسرائيل وأنها قد تغيّر سياساتها نحوها الفترة المقبلة. وفي السياق ذاته، أكد دبلوماسيون أوروبيون تزايد مستوى السخط على إسرائيل في أوروبا، مع فقدان المسؤولين صبرهم على رئيس وزرائها بنيامين نتيناهو المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية. وتحدث الكاتب والباحث بالشؤون الدولية حسام شاكر عن نبرة أوروبية جديدة إزاء إسرائيل في آخر أسبوعين، في رسالة أساسية تقول إنه لا يوجد غطاء أوروبي لمزيد من الحرب في غزة، ولكن المواقف الأوروبية -يتابع شاكر- تتفاوت من دولة إلى أخرى، فألمانيا نبرتها منخفضة مقارنة بفرنسا، وهذه الأخيرة نبرتها منخفضة أيضا مقارنة بإسبانيا. ويعود التغير الحاصل في الموقف الأوروبي الرسمي -حسب شاكر- إلى كون الاحتلال الإسرائيلي تجاوز كل الحدود في حربه على قطاع غزة، وبات يحرج الحلفاء والأصدقاء، فضلا عن الخطط التي يطرحها والمرفوضة أوروبيا مثل التهجير والتطهير العرقي واستخدام سلاح التجويع ضد أهالي قطاع غزة. ويلفت نفس المتحدث إلى أن التحرك الأوروبي الرسمي لم يحدث إلاّ بعد مرور 11 أسبوعا على حرب التجويع الإسرائيلية. ومقارنة مع التحول الحاصل في الموقف الأوروبي، فإن الدول العربية -كما يقول شاكر- تفتقد إلى رؤية وإرادة في التعامل مع ما يجري في قطاع غزة من إبادة وتجويع، رغم أن هذه الدول وخاصة منها الوازنة بإمكانها أن تمارس الضغوط على الاحتلال الإسرائيلي وتحشد مواقف دول العالم ضد إسرائيل، وخاصة من أفريقيا وأميركا اللاتينية. الأولوية لوقف الإبادة ورأى الباحث في الشؤون الدولية أن الأولوية التي يجب أن يركز عليها العرب هي الضغط من أجل وقف حرب الإبادة والتجويع في قطاع غزة، وليس الذهاب إلى اجتماع في نيويورك لبحث موضوع حل الدولتين. وذهب الدكتور حسن خريشة نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني -في نفس الاتجاه- بقوله إن العرب بإمكانهم الاستناد للموقف الأوروبي والانتقال من حالة الصمت إلى ممارسة الضغوط على الاحتلال وعلى حلفائه، مشيرا إلى أن الدول العربية أولى من الأوربيين في الدفاع عن القضية الفلسطينية. وشدد على أن الأولوية هي وقف حرب الإبادة في غزة "أما موضوع حل الدولتين فهو شكل من أشكال استمرار عمليات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي". ومن المقرر أن يعقد في 18 يونيو/حزيران المؤتمر الدولي بشأن حل الدولتين بالأمم المتحدة في نيويورك، والذي تترأسه فرنسا والسعودية. وأضاف خريشة -في حديث لبرنامج "ما وراء الخبر"- أن المطلوب من العرب هو تنفيذ قرارات القمم العربية التي عقدت، وعدم الإصرار على المبادرة العربية لعام 2002 ورفضها الاحتلال الإسرائيلي، وتوحيد الخطاب وعدم تحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن ما يجري في غزة.