
تحدّى المؤسسة الدينيّة وانتقد "خروج الثورة من المساجد"، ماذا نعرف عن الشاعر السوري أدونيس؟
قليلون هم المثقفون العرب الأحياء القادرون على إثارة الجدل الحادّ في كل مرّة يُذكر فيها اسمهم. أدونيس هو قطعاً من هذه القلّة، إن لم يكن أكثرهم إثارةً للجدل على الإطلاق.
إلى جانب اعتباره من قبل كثيرين أحد أهمّ الشعراء العرب الحاليين، فقد ظلّ منذ ستينيات القرن الماضي شخصية محورية في الفكر العربي المعاصر، قادرة دوماً على إثارة الإعجاب الشديد والنقد القاسي، في آنٍ واحد.
وقد ارتبط اسم أدونيس على المستوى الشعبي خلال العقد الماضي بجائزة نوبل التي يتم ترشيحه إليها بانتظام منذ عام 1988، من دون أن يفوز بها. وبعد فوزه بجائزة "غوته" الألمانية عام 2011 كأول أديب عربي، بات اسمه مطروحاً بشكل أكبر للحصول على نوبل، حتى أصبح الأمر أشبه بـ"ميم" يتناقلها الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي كل عام في موعد إعلان الفائزين بالجائزة العالمية.
وفي السنوات الأربع عشرة الماضية، ازدادت حدّة الاستقطاب حول الموقف من أدونيس على خلفية تعليقاته على الثورة السورية منذ بداياتها، لا سيما بعد مخاطبته بشار الأسد في يونيو/ حزيران 2011 في رسالةٍ مفتوحة نشرها في جريدة السفير اللبنانية، اعتبره فيها رئيسا منتخبا ذا شرعيّة.
قبل أن يتبع ذلك تصريحاته الشهيرة حول أن الثورة "لا يمكنها أن تخرج من المسجد".
وفي الآونة الأخيرة، عاد أدونيس إلى واجهة السجال مجدداً، بعد مشاركته في تظاهرة في باريس تندد بمجازر الساحل السوري - علما أن أدونيس هو ابن الساحل وينتمي إلى الطائفة العلويّة.
كذلك، كان قد صرّح، في أعقاب سقوط النظام السوري في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بـ"ضرورة تغيير المجتمع وليس النظام فقط".
هذه المواقف وغيرها مثّلت استفزازاً لكثيرين من الذين لم يتمكنوا من التصالح مع الشاعر، متهمين إياه تارةً بالإسلاموفوبيا وتارةً بالطائفية.
إلا أنّ موقع أدونيس في قلب السجالات في العالم العربي ليس جديداً، بل عمره من عمر مسيرته الفكرية المُطارَدة منذ البداية بفكرة الحداثة وبتحدّي الموروثات، حتى أصبح بالنسبة للبعض "هادماً للمقدسات" يستحق التحيّة على شجاعته في نقد الثقافة الإسلامية خصوصاً، وفي نظر البعض الآخر متبنياً لنظرة اختزالية إلى الشرق والإسلام.
هاجس "الحداثة"
وُلد علي أحمد سعيد إسبر في قرية قصابين في ريف اللاذقية عام 1930، وأعاد اختراع نفسه مبكراً (عام 1947) باعتماد اسم أدونيس الذي يرمز إلى التجديد والبعث الأسطوري. وسيظلّ وفياً لمعنى الاسم الذي استعاره من إله الخصب والموت والبعث في الميثولوجيا المشرقية ما قبل الإسلام.
بعد تجربة قصيرة له في السجن في سوريا، بسبب عضويته في الحزب السوري القومي الاجتماعي، غادر أدونيس عام 1956 إلى العاصمة اللبنانية بيروت حيث شهد "ولادته الثقافية" كما يقول.
أما "الولادة الكونية"، فكانت في باريس التي وصل إليها عام 1960، قبل أن ينشر بعدها بعامٍ واحد كتاب "أغاني مهيار الدمشقي" الذي مثّل محطة مفصلية في تطوّر القصيدة العربية الحديثة. كما يُعدّ عملاً تأسيسياً لما يُعرف اليوم بـ"القصيدة الحديثة" في الشعر العربي.
تزوج أدونيس من خالدة سعيد، وهي ناقدة أدبية سوريّة مشهورة.
كما أن أشهر أعماله الأدبية التي تلت كانت "الكتاب" الذي صدر في ثلاث أجزاء بين عامي 1995 و2002، و"هذا هو اسمي" (1971).
جاءت مسيرة أدونيس الفكرية مدفوعةً بمهمة واضحة: تشكيل حداثة عربية تتحرر من قيود التقليد الثابت. ومن خلال شعره الرائد ومؤلفاته، كان أدونيس دائماً يؤكد أن ركود العالم العربي يعود إلى تراثه الفكري والديني الذي يراه "مقاوماً بطبيعته للتغيير".
وفي أعماله المهمة مثل "مقدمة للشعر العربي" و"الثابت والمتحول" (1974)، قدم أدونيس أطروحته التي تمحورت حول "ضرورة القطيعة المعرفية مع الماضي من أجل تحديثٍ حقيقي".
وعلى العكس من مفكرين آخرين سعوا إلى الإصلاح من داخل الإسلام، جادل أدونيس بأن بنية الحضارة الإسلامية — إبستمولوجيتها (نظامها المعرفي) ولاهوتها السياسي— كانت "غير متوافقة مع الحداثة".
وظلّ أدونيس منذ ستينيات القرن الماضي، على الرغم من بعض التغيرات في آرائه تبعاً للأحداث السياسية المحيطة به، ملتزماً بنقد المؤسسة الدينية في العالم العربي.
"تسييس الدين هو نوع من تحويل الشمس إلى فرن"
والجدير بالذكر أن أدونيس يحرص دائماً على التفريق بين أمرين: الإسلام كعقيدة (أي الإسلام كدين في جوهره الروحي والنصّي)، وبين اللاهوت البشري الإسلامي (أي كل ما أُنتِج لاحقاً من تفسيرات وتأويلات وفِقه وكلام وفلسفة من قِبل البشر، أي العلماء والفقهاء والمفسرين على مرّ التاريخ).
ويركّز نقده على الثاني.
في مقابلة حديثة معه نُشرت في فبراير/ شباط 2025، يقول أدونيس: "ليس للإسلام العربي على الأقل، مستقبل، على مستوى الحضارة والإبداع الحضاري، لكنه سيظل قائماً في أنظمة متعفنة وفي مؤسسات أكثر تعفناً وفي ممارسات مهينة للإنسان عقلاً وفكراً وحياة. هكذا سيظل قائماً أمثولة وأضحوكة في الآن ذاته للعالم كله. وهو ما يريده الحلف الأمريكي – الأوروبي. أن يظل المسلمون العرب غارقين في همومهم المنعزلة كلياً عن الإنسان وعن الحاضر البشري الخلاق. أن يظلوا غارقين في وقاحة الاستهلاك وفي نزاعاتهم المذهبية – القبلية".
قبل هذه التصريحات بحوالي 50 عاماً، تحديداً عام 1973 تاريخ صدور كتابه الأشهر "الثابت والمتحوّل"، عمل أدونيس على تطوير رؤية نقدية للثقافة العربية، مستنداً إلى مفهوم الصراع بين قوتين رئيسيتين:
"الثابت" ويمثل كل ما هو جامد وتقليدي ومرتبط برؤية مغلقة للعالم، بما في ذلك التفسيرات الدينية المتشددة والأطر الفكرية الراسخة التي تعيق أي تحوّل. و"المتحوّل" وهو ما يجسّد الديناميكية والإبداع والانفتاح على الحداثة، بخاصة في مجالات الفكر والأدب والفن.
يرى أدونيس أن سيطرة "الثابت" على حساب "المتحوّل" شكلت عائقاً أمام التطور الفكري والإبداعي في الثقافة العربية، مما أدى إلى انغلاقها أمام الحداثة.
قوبل هذا الكتاب الذي صدر في أربعة أجزاء، بإشادة من جهة بسبب جرأته، لكنه واجه أيضاً انتقادات متعددة، بخاصة من قبل المفكرين المحافظين.
في المقابلة الحديثة مع مجلة "البعد الخامس" اللبنانية الثقافية، يكرر أدونيس نقده للإسلام السياسي قائلاً: إن "تسييس الدين هو نوع من تحويل الشمس إلى فرن، هو تشويه لا للدين وحده، وإنما للإنسان ذاته، وللألوهة ذاتها".
ويرى أن "الثورة الإسلامية حتى اليوم تتمثل في الخروج كلياً من عالم الفقه. الفقه حوّل الدين إلى أمر ونهي، ومحا فضاءاته الروحية الخلّاقة العالية التي حاول المتصوفون أن يؤسسوا لها".
وكرر المطالبة بـ"سلطة إسلامية حرة لا تستمد حريتها من الفقه وإنما تستمدها من الوحي ذاته: من الكتاب الإلهي".
"بيان 5 حزيران"
لطالما رأى نقاد أن نقد أدونيس للواقع العربي والإسلامي يتسم بـ"الثقافوية" لأنه يركز بشكل أساسي على العوامل الثقافية والتراثية كأسباب رئيسية للتخلف والانحطاط، متجاهلاً إلى حد كبير العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تلعب دوراً محورياً في تشكيل هذا الواقع.
فهو مثلا يقول: "يعيش الإسلام، بوصفه ديناً وثقافة معاً، مأزقاً تاريخياً لم يعرف حتى في ظلمات الخلافة العثمانية. لا خروج من هذا المأزق الذي يفرغ من كل بعد روحي أو فكري خلّاق، إلا بقراءة جديدة، غير فقهية، ترقى في عمقها وآفاقها في ضوء التجربة التاريخية، وعلى الأخص في ضوء مفهوم الناسخ والمنسوخ الذي وضعه الوحي نفسه في تجاوز كامل للكتب الفقهية والتي أصبحت جزءاً من الماضي، تخطّتها التجربة التاريخية الحيّة".
ويضيف أنه "دون ذلك، سيبقى المسلمون مجرد أداة، مجرد سلطة، مجرد كم بشري يعيش على هامش الإبداعات الكونية".
رؤيته هذه تحيل إلى مواقف قديمة لديه تتخذ منحاً شبيهاً.
ففي أعقاب هزيمة الجيوش العربية في حرب الـ 1967 العربية –الإسرائيلية، نشر أدونيس "بيان 5 حزيران" الذي أكد فيه أن "العدو الذي هزمنا ليس عدو الخارج، بل هو عدو الداخل"، داعياً إلى "مواجهة الهزيمة بواسطة ثورة فكرية وثقافية شاملة تعيد النظر بالإنسان العربي ذاته".
ويرى المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "زمن اليسار الجديد" (2023)، أن أدونيس "سيظلّ يغزل على هذا المنوال (النقد الثقافوي) بمنوعات شتى، ومعظمها في عداء للحركات الشعبية، بحجة أن الثورة لا يجوز أن تقتصر على السياسية، وعليها أن تكون ثورة ثقافية".
"لقد استفاقت شيعية أدونيس"
ولعلّ من أشهر السجالات التي طبعت تاريخ الفكر العربي، كان سجال المفكر السوري الماركسي الراحل صادق جلال العظم مع أدونيس في ثمانينات القرن الماضي، على خلفية حدثين أحدهما سياسي - وهو إطاحة الثورة الإيرانية بحكم الشاه في عام 1979 - أما الثاني فكان ثقافيا تمثل في صدور كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد الذي وجه فيه نقداً للصورة النمطية الثابتة للشرق والإسلام التي رسخها مفكرون غربيون تاريخياً.
وأبدى أدونيس إعجابه بالثورة الإسلامية في إيران، وكتب قصائد مديح لها.
وفي كتابه "ذهنية التحريم" (1992)، رأى العظم أن أدونيس، وتحت تأثير إعجابه بتلك الثورة، مثّل نموذجاً لـ"الاستشراق المعكوس".
وكان العظم يعتقد أن المفكر الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد وقع في كتابه الشهير "الاستشراق" (1978) في الخطأ ذاته الذي ينتقده في نظرية الاستشراق، حيث "تبنى رؤية المستشرقين ذاتها ولكن بصورة معكوسة".
فكما أن "الاستشراق الأكاديمي الغربي يقوم على ميتافيزيقيا الفوارق الجوهرية والثابتة بين الشرق والغرب، يعيد بعض المفكرين العرب إنتاج هذه الميتافيزيقيا في صورة مقلوبة، حيث يصبح الإسلام هو المحرك الأساسي للتاريخ العربي، متجاهلين العوامل الاقتصادية والاجتماعية"، بحسب العظم.
وبنظر العظم، انتقل أدونيس من الدعوة إلى القطيعة التامة مع الموروث الديني في الستينيات إلى الدفاع عن الأيديولوجيا الإسلامية كمحرك للتاريخ.
وفي كتاباته في تلك المرحلة، كان أدونيس يرفض مفاهيم القومية والعلمانية والاشتراكية باعتبارها غريبة على "الكلّ الإسلامي"، فيما يؤكد "تفوّق الشرق بروحانيته على الغرب المادي".
كما تبنى أدونيس في ذلك الوقت، بحسب قول العظم، رؤية للحداثة ترتكز على الإبداع بوصفه جوهراً ميتافيزيقياً خارج عن التاريخ والصيرورة. وفي رؤيته للإبداع، يضفي أدونيس عليه "صفات تكاد تجعله مفهوماً إلهياً، حيث يتماهى مع تجربة صوفية شرقية تتجاوز حدود التقنية والعقلانية الغربية"، كما يرد في كتاب "ذهنية التحريم".
وهكذا بالنسبة للعظم، يعيد أدونيس إنتاج الاستشراق الغربي ولكن من منظور شرقي معكوس، يرسّخ ثنائية الشرق والغرب بدلاً من تفكيكها.
وفي مقابلة مع العظم عام 2013، كرّر العظم العبارة التي قالها في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية: "لقد استفاقت شيعية أدونيس"، مبرراً قوله بأن أدونيس نظم قصيدة مدح بالمرشد الأعلى السابق للجمهورية الإسلامية روح الله الخميني.
ويضيف أن أدونيس "دافع عن ولاية الفقيه وليس عن الثورة. هو نظّر بلغة النبوّة والإمامة والفقه الشيعي. كما كتب أن الإمامة هي استمرار لوحي النبوة".
الموقف من الثورة السورية
إذا كان موقف أدونيس من الإسلام والثقافة العربية قد أثار الجدل لفترة طويلة، فإن موقفه من الثورة السورية كان الأكثر إشكاليةً على المستوى الشعبي.
عندما اجتاحت الاحتجاجات العالم العربي في 2011، رفض أدونيس تأييد الثورة السورية بشكل كامل، مؤكداً من جديد على ضرورة العلمانية ومحذراً من الثورات التي تقودها القوى الإسلامية.
ويقول صادق جلال العظم عام 2013 تعليقاً على مقولة أدونيس الشهيرة إن "الثورة لا تخرج من المساجد": "ولكن من بنى مساجد أكثر من أي عهد في سوريا؟ عهد البعث. أدونيس يريدهم أن يخرجوا من السينمات والمسارح. ولكن من أقفل دور السينما في دمشق؟ عهد البعث. إذا كان يريدهم أن يخرجوا من المرافق الثقافية المتقدمة، واضح أنه لم يبق شيء إلا الجوامع ليتجمع فيها الناس".
وفي مقابلة عام 2019، أعتبر أدونيس الربيع العربي "قد فشل" بعدما كان متفائلاً به في البداية.
كما جادل أدونيس أيضاً بأنه "لكي تكون الثورة حقيقية، يجب أن تقترح رؤية تغييرية تؤدي إلى مجتمع أفضل".
بدلاً من ذلك، هو يرى أن الانتفاضات أدت إلى "نتائج أسوأ من الأنظمة التي سعت إلى استبدالها".
وانتقد حركات المعارضة لكونها "تعكس" الاستبداد الذي سعت إلى الإطاحة به، وأعرب عن أسفه لعدم وجود تحول ثقافي وأيديولوجي أوسع يصاحب التغييرات السياسية.
كما انتقد عجز حركات المعارضة العربية عن تحدي العقيدة الدينية، ولا سيما "فشلها في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وتحرير المرأة من القيود الدينية".
في المقابلة الحديثة معه المذكورة سابقاً، قال أدونيس إن "تغيير السلطة وحدها أو النظام السياسي لا معنى له إلا إذا اقترن بمشروع لتغيير المجتمع نحو الأفضل – في مزيد من الحرية ومن تعميق البناء الاجتماعي على القيم المدنية الإنسانية المشتركة، في معزل كامل عن الدين".
وأضاف لقد "تعبت سورية من كونها ظلاً في صحراء الأسد وآله، والآن ظلاً في صحراء الخلافة العثمانية بعباءتها الأردوغانية".
وبعد ظهوره أخيراً في تظاهرة في باريس للتنديد بالمجازر التي شهدها الساحل السوري، عادت إلى الواجهة اتهامات قديمة لأدونيس بالطائفية.
في مقابلة تلفزيونية معه عام 2019 يقول أدونيس، إن صورة العلويين "مشوّهة وهي صورة سياسية مفروضة عليهم فرضاً. فهم كفئة أو كجماعة إسلامية، يجب ألا ننظر إليهم عبر هذه الصورة السائدة".
"ثم العلويون كغيرهم من الأفراد، فيهم السيئ وفيهم الصالح. إنما ما كان يهمني هو العمق الفكري الذي قاموا عليه. والعمق الفكري المرتبط بالعمق الروحي هو نظرتهم إلى الوجود. ونظرتهم إلى الوجود قامت على مفهوم مستقى من الفلسفة اليونانية، ثم أعطوها بعداً إسلامياً: إنها العلاقة بين المعنى والصورة. هذا الوجود له معنى، لكن هذا المعنى يتجلى في صور متنوعة".
كما أكد في المقابلة نفسها أن "الديمقراطية لا تعني مجرد التصويت أو الانتخاب بحرية، إنها تعني أولا الاعتراف بالآخر المختلف، بحقوقه الكاملة في جميع الميادين وعلى مختلف الصعد. إنها في ما وراء مفهومات الأقلية والأكثرية. فهذه مفهومات لا تنظر إلى الإنسان المواطن من زاوية الانتماء إلى مجتمع واحد، بل من زاوية الانتماء إلى إثنية أو مذهب أو طائفة أو قبيلة".
وأضاف أن "الإنسان بإنسانيته لا بإثنيته أو مذهبه أو كونه من الأقلية أو من الأكثرية ووفقاً لهذه المبادئ لا يمكن (..) المسلمون أن يكونوا ديمقراطيين. إنهم اثنان: متبوع أو تابع في كل شيء".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 4 أيام
- العربي الجديد
الجوائز العربية وتنميط الأدب: كيف أكتب رواية تحصل على جائزة؟
كتبَ روائيٌّ معروف، قبل فترة، منشوراً يعلن فيه اعتزاله الكتابة لأسباب منها عدم حصوله على أية جائزة، وكم هو في حاجة إليها، لأنه يرغب في أن يبرّر أمام عائلته غيابه في غرفة مكتبه ساعات طويلة ومنذ سنوات، متحلّلاً من كثير من التزاماته كرب أسرة ومسؤولياته الاجتماعية. كانت الجائزة بالنسبة له بمثابة الاعتراف بوجوده كاملاً، وإشارة إلى الجميع بأنه حقيقي، وليس متوهماً أو زائفاً. لم تعد الجوائز الأدبية مبلغاً ماليّاً كبيراً في حساب الفائز فحسب، بل صارت تكريساً لحضوره ومشاركته، من استكتاب في الصحف والمجلات، وصولاً إلى دعوته لمعارض الكتب، والندوات والمؤتمرات والمهرجانات، وما بينهما من حضور إعلامي. إنها إحدى بوابات السفر والشهرة، بل تجاوز الأمر إلى تكليف أصحاب الجوائز بتقديم دوراتٍ تعليميةٍ في الكتابة الإبداعية. اليوم، يرى كثيرون من الكتّاب والمبدعين أن الجوائز حدث فارق في تاريخ الكاتب ، فهي الشرفة التي يطل من خلالها على جمهور واسع يقرأ النص الأدبي "بضمان الجائزة". إنها العتبة التي يعبر من خلالها إلى محطة جديدة في مشواره، وهي وثبة مادية وأدبية تكرّس وجوده وتشجّعه على المواصلة. فكما يقول ماريو بارغاس يوسا، تمنح الجائزة الكاتب فرصته للوصول إلى جمهور واسع، وتسلط الضوء على الأدب الجاد. وكذلك رأى نجيب محفوظ، الذي كان ممتنّاً لجائزة نوبل التي حصل عليها عام 1988 لأنها ساعدت في نشر الأدب العربي عالمياً. كذلك يحكي كثيرون كيف مثلت الجائزة بالنسبة لهم "الوثبة" الكبيرة مادّياً وأدبياً. المتتبع لحفلات تسليم الجوائز وكلمات الفائزين ذات المشاعر الفيّاضة يكتشف بسهولة أثر هذا الحدث. يقول أحدهم إنه سيشتري أخيراً هواتف لأبنائه، وآخر يعلن أنها المرّة الأولى التي يركب فيها طائرة، وثالث يشعر الآن بأنه "حقيقي"، ورابع يرى أن الوقت قد حان للردّ على المشكّكين في مشروعه. قد يكون هذا المنحى مفهوماً، بل ويمكن قبوله في إطاره؛ أي أن يسعى كاتب للحصول على اعتراف. وليس ثمّة أبلغ من الجائزة اعترافاً مصحوباً بمكافأة مجزية، فليس صحيحاً أن الكاتب يكتب لنفسه كما يروج البعض، إنه يكتب ليُقرأ، ومن ثم فهو ينتظر استحسان الآخرين مهما بلغت خبرته أو قيمته. الخطر الحقيقي في الأمر يكمن في أن تتحول الجائزة الأدبية إلى هاجس أو وسواس قهري لا يغادر ذهن الكاتب قبل الكتابة وفي أثنائها وبعدها. إنه الجانب المظلم من الجائزة، التي تتحول حينئذ من أداة تحفيز وإجادة إلى رقابة ذاتية صارمة، تدفع الكاتب للنظر إلى الخارج أكثر مما ينظر إلى داخله. زخم مفقود بنظرة إحصائية سريعة لواقع الجوائز العربية، نرى أن الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية)، تمثيلاً لا حصراً، أنتجت لنا منذ انطلاقها نحو 288 رواية في القوائم الطويلة، خلال 18 دورة، وجائزة كتارا أنتجت 109 روايات فائزة في كافة فروعها خلال عشر دورات، بخلاف 192 رواية وصلت إلى القوائم الطويلة في الدورتين الأخيرتين فقط. بالإضافة إلى 81 رواية في "جائزة الشارقة" خلال 27 دورة، و30 رواية فازت بجائزة دبي الثقافية قبل توقفها. العدد نفسه تقريباً، أي 30 رواية في الدورة الأولى لجائزة القلم الذهبي، ونحو 28 رواية بجائزة الطيب صالح، و27 في جائزة نجيب محفوظ (الجامعة الأميركية في القاهرة)، و60 رواية على الأقل فازت بجائزة ساويرس الثقافية بين شباب وكبار الأدباء، بخلاف عدد لا بأس به من العناوين التي وصلت إلى القوائم القصيرة، و15 رواية بجائزة حمد بن راشد في دورتين بخلاف القوائم. و113 فائزاً بـ"جائزة الشيخ زايد للكتاب" في فروعها التسعة، بخلاف عدد آخر من الجوائز الهامة مثل جائزة معهد العالم العربي في باريس وجائزة الفكر العربي وغيرهما. تشير هذه الأرقام التقريبية إلى وجود أكثر من ألف نص أدبي تم تتويجه بالفوز أو بالوصول إلى القائمة خلال السنوات الماضية، مع وجود هامش من أسماء الكتّاب المتكررة. فكم اسماً من بين هؤلاء ما زال عالقاً بالذاكرة؟ وكم نصّاً تمت ترجمته وحقق نجاحاً في نسخه المترجمة؟ وكم نصّاً حظي بالاهتمام النقدي الجاد، وليس "ريفيوهات" النقد الانطباعي على مواقع التواصل؟ أقل من عقدين ما زلنا في بداية الظاهرة مع ألف عنوانٍ متوّجٍ خلال أقل من عقدين. وقد كان الغرب قد سبقنا إلى هذه الظاهرة منذ أكثر من مائة عام. فـ"جائزة غونكور" الفرنسية مثلاً أطلقت عام 1903، وفاز بها من العرب الطاهر بن جلون وأمين معلوف، و"جائزة بوليتزر" تأسست في 1918، و"جائزة أنسفيلد وولف" في 1935، و"جائزة الكتاب الوطني" في 1950، و"المان بوكر" تأسست في 1968، و"جائزة وليم فوكنر" أطلقت عام 1980، و"جائزة باجوتا" في إيطاليا كانت في 1927. ألف عنوانٍ متوّجٍ بجوائز أدبية عربية خلال أقل من عقدين ربما تكون حداثة فكرة الجائزة في الثقافة العربية الحديثة واحدة من أسباب الظواهر السلبية المصاحبة لها. فكثيرون من الكتاب العرب لم يتمرّسوا بعد على هذا الوضع، فتحولت الجائزة، كما تقول الإماراتية ريم الكمالي في منشور لها، إلى "فيروس" يُفسد التكوين الأخلاقي للمجال الأدبي دون قصد. لقد بات بعض الكتّاب شبه متوقفين عن الكتابة بعد نيل جائزة، وبعضهم فقد الشغف أو صار أقل إبداعاً وجودة مقارنة بأعماله السابقة. فقط قلّة من المبدعين اجتازوا هذه المحنة وواصلوا إبداعهم بدأب وشغف. بينما كرّس البعض الآخر جل اهتمامهم للوصول إلى الجائزة. حالات فريدة؟ في إحدى النقاشات بين كاتب لسنا في صدد ذكر اسمه، ودار نشر أرادت أن تنشر روايته، طُلب من الروائي تعديل جزئية لها علاقة بإقحام صراع عسكري دائر خلفيةً للأحداث. كانت الفكرة دخيلة ليس لها سند منطقي أو ضرورة درامية، وطلب منه تعديلها، فكان تبرير الكاتب أنه يرغب في الترشح لجائزة بعينها تركّز على موضوعات الصراعات العسكرية والسياسية والهوية والصراع الثقافي وقضايا المرأة! هذه ليست حالة فردية على الإطلاق، فلا تكاد تخلو ورشة كتابة في أي بلد عربي من السؤال المعتاد: كيف أكتب رواية تحصل على جائزة؟ أو ما هي الموضوعات الطازجة التي تفضّلها الجوائز؟ وكأن هناك وصفة معروفة لرواية الجائزة، وأفكاراً جاهزة للتعليب. مع ذلك كله، لا يمكن إغفال أهمية الجوائز الأدبية، كما لا يمكن إغفال دورها في ترويج الكاتب وإبداعه. فأبرز الأرفف التي يتوجه إليها القرّاء في معارض الكتب والمكتبات هي أرفف الجوائز. ولكن أن تصبح الجائزة أداة تدجين وقولبة، أو محلاً للتنافس والصراع، فهذا ما يجب أن ينأى عنه الكتّاب. وإذا كانت لدينا أكثر من ألف جائزة، بقوائمها، مرشّحة للتضاعف خلال سنوات قليلة، فالمسألة إذن هي مسألة وقت حتى يحين دورك، وقريباً سيكون الكاتب الذي لم يحصل على جائزة هو استثناء يثبت القاعدة. * كاتب وصحافي من مصر آداب التحديثات الحية سلطة المحرّر الأدبي و"تحريره" عربياً


BBC عربية
١٢-٠٤-٢٠٢٥
- BBC عربية
تحدّى المؤسسة الدينيّة وانتقد "خروج الثورة من المساجد"، ماذا نعرف عن الشاعر السوري أدونيس؟
قليلون هم المثقفون العرب الأحياء القادرون على إثارة الجدل الحادّ في كل مرّة يُذكر فيها اسمهم. أدونيس هو قطعاً من هذه القلّة، إن لم يكن أكثرهم إثارةً للجدل على الإطلاق. إلى جانب اعتباره من قبل كثيرين أحد أهمّ الشعراء العرب الحاليين، فقد ظلّ منذ ستينيات القرن الماضي شخصية محورية في الفكر العربي المعاصر، قادرة دوماً على إثارة الإعجاب الشديد والنقد القاسي، في آنٍ واحد. وقد ارتبط اسم أدونيس على المستوى الشعبي خلال العقد الماضي بجائزة نوبل التي يتم ترشيحه إليها بانتظام منذ عام 1988، من دون أن يفوز بها. وبعد فوزه بجائزة "غوته" الألمانية عام 2011 كأول أديب عربي، بات اسمه مطروحاً بشكل أكبر للحصول على نوبل، حتى أصبح الأمر أشبه بـ"ميم" يتناقلها الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي كل عام في موعد إعلان الفائزين بالجائزة العالمية. وفي السنوات الأربع عشرة الماضية، ازدادت حدّة الاستقطاب حول الموقف من أدونيس على خلفية تعليقاته على الثورة السورية منذ بداياتها، لا سيما بعد مخاطبته بشار الأسد في يونيو/ حزيران 2011 في رسالةٍ مفتوحة نشرها في جريدة السفير اللبنانية، اعتبره فيها رئيسا منتخبا ذا شرعيّة. قبل أن يتبع ذلك تصريحاته الشهيرة حول أن الثورة "لا يمكنها أن تخرج من المسجد". وفي الآونة الأخيرة، عاد أدونيس إلى واجهة السجال مجدداً، بعد مشاركته في تظاهرة في باريس تندد بمجازر الساحل السوري - علما أن أدونيس هو ابن الساحل وينتمي إلى الطائفة العلويّة. كذلك، كان قد صرّح، في أعقاب سقوط النظام السوري في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بـ"ضرورة تغيير المجتمع وليس النظام فقط". هذه المواقف وغيرها مثّلت استفزازاً لكثيرين من الذين لم يتمكنوا من التصالح مع الشاعر، متهمين إياه تارةً بالإسلاموفوبيا وتارةً بالطائفية. إلا أنّ موقع أدونيس في قلب السجالات في العالم العربي ليس جديداً، بل عمره من عمر مسيرته الفكرية المُطارَدة منذ البداية بفكرة الحداثة وبتحدّي الموروثات، حتى أصبح بالنسبة للبعض "هادماً للمقدسات" يستحق التحيّة على شجاعته في نقد الثقافة الإسلامية خصوصاً، وفي نظر البعض الآخر متبنياً لنظرة اختزالية إلى الشرق والإسلام. هاجس "الحداثة" وُلد علي أحمد سعيد إسبر في قرية قصابين في ريف اللاذقية عام 1930، وأعاد اختراع نفسه مبكراً (عام 1947) باعتماد اسم أدونيس الذي يرمز إلى التجديد والبعث الأسطوري. وسيظلّ وفياً لمعنى الاسم الذي استعاره من إله الخصب والموت والبعث في الميثولوجيا المشرقية ما قبل الإسلام. بعد تجربة قصيرة له في السجن في سوريا، بسبب عضويته في الحزب السوري القومي الاجتماعي، غادر أدونيس عام 1956 إلى العاصمة اللبنانية بيروت حيث شهد "ولادته الثقافية" كما يقول. أما "الولادة الكونية"، فكانت في باريس التي وصل إليها عام 1960، قبل أن ينشر بعدها بعامٍ واحد كتاب "أغاني مهيار الدمشقي" الذي مثّل محطة مفصلية في تطوّر القصيدة العربية الحديثة. كما يُعدّ عملاً تأسيسياً لما يُعرف اليوم بـ"القصيدة الحديثة" في الشعر العربي. تزوج أدونيس من خالدة سعيد، وهي ناقدة أدبية سوريّة مشهورة. كما أن أشهر أعماله الأدبية التي تلت كانت "الكتاب" الذي صدر في ثلاث أجزاء بين عامي 1995 و2002، و"هذا هو اسمي" (1971). جاءت مسيرة أدونيس الفكرية مدفوعةً بمهمة واضحة: تشكيل حداثة عربية تتحرر من قيود التقليد الثابت. ومن خلال شعره الرائد ومؤلفاته، كان أدونيس دائماً يؤكد أن ركود العالم العربي يعود إلى تراثه الفكري والديني الذي يراه "مقاوماً بطبيعته للتغيير". وفي أعماله المهمة مثل "مقدمة للشعر العربي" و"الثابت والمتحول" (1974)، قدم أدونيس أطروحته التي تمحورت حول "ضرورة القطيعة المعرفية مع الماضي من أجل تحديثٍ حقيقي". وعلى العكس من مفكرين آخرين سعوا إلى الإصلاح من داخل الإسلام، جادل أدونيس بأن بنية الحضارة الإسلامية — إبستمولوجيتها (نظامها المعرفي) ولاهوتها السياسي— كانت "غير متوافقة مع الحداثة". وظلّ أدونيس منذ ستينيات القرن الماضي، على الرغم من بعض التغيرات في آرائه تبعاً للأحداث السياسية المحيطة به، ملتزماً بنقد المؤسسة الدينية في العالم العربي. "تسييس الدين هو نوع من تحويل الشمس إلى فرن" والجدير بالذكر أن أدونيس يحرص دائماً على التفريق بين أمرين: الإسلام كعقيدة (أي الإسلام كدين في جوهره الروحي والنصّي)، وبين اللاهوت البشري الإسلامي (أي كل ما أُنتِج لاحقاً من تفسيرات وتأويلات وفِقه وكلام وفلسفة من قِبل البشر، أي العلماء والفقهاء والمفسرين على مرّ التاريخ). ويركّز نقده على الثاني. في مقابلة حديثة معه نُشرت في فبراير/ شباط 2025، يقول أدونيس: "ليس للإسلام العربي على الأقل، مستقبل، على مستوى الحضارة والإبداع الحضاري، لكنه سيظل قائماً في أنظمة متعفنة وفي مؤسسات أكثر تعفناً وفي ممارسات مهينة للإنسان عقلاً وفكراً وحياة. هكذا سيظل قائماً أمثولة وأضحوكة في الآن ذاته للعالم كله. وهو ما يريده الحلف الأمريكي – الأوروبي. أن يظل المسلمون العرب غارقين في همومهم المنعزلة كلياً عن الإنسان وعن الحاضر البشري الخلاق. أن يظلوا غارقين في وقاحة الاستهلاك وفي نزاعاتهم المذهبية – القبلية". قبل هذه التصريحات بحوالي 50 عاماً، تحديداً عام 1973 تاريخ صدور كتابه الأشهر "الثابت والمتحوّل"، عمل أدونيس على تطوير رؤية نقدية للثقافة العربية، مستنداً إلى مفهوم الصراع بين قوتين رئيسيتين: "الثابت" ويمثل كل ما هو جامد وتقليدي ومرتبط برؤية مغلقة للعالم، بما في ذلك التفسيرات الدينية المتشددة والأطر الفكرية الراسخة التي تعيق أي تحوّل. و"المتحوّل" وهو ما يجسّد الديناميكية والإبداع والانفتاح على الحداثة، بخاصة في مجالات الفكر والأدب والفن. يرى أدونيس أن سيطرة "الثابت" على حساب "المتحوّل" شكلت عائقاً أمام التطور الفكري والإبداعي في الثقافة العربية، مما أدى إلى انغلاقها أمام الحداثة. قوبل هذا الكتاب الذي صدر في أربعة أجزاء، بإشادة من جهة بسبب جرأته، لكنه واجه أيضاً انتقادات متعددة، بخاصة من قبل المفكرين المحافظين. في المقابلة الحديثة مع مجلة "البعد الخامس" اللبنانية الثقافية، يكرر أدونيس نقده للإسلام السياسي قائلاً: إن "تسييس الدين هو نوع من تحويل الشمس إلى فرن، هو تشويه لا للدين وحده، وإنما للإنسان ذاته، وللألوهة ذاتها". ويرى أن "الثورة الإسلامية حتى اليوم تتمثل في الخروج كلياً من عالم الفقه. الفقه حوّل الدين إلى أمر ونهي، ومحا فضاءاته الروحية الخلّاقة العالية التي حاول المتصوفون أن يؤسسوا لها". وكرر المطالبة بـ"سلطة إسلامية حرة لا تستمد حريتها من الفقه وإنما تستمدها من الوحي ذاته: من الكتاب الإلهي". "بيان 5 حزيران" لطالما رأى نقاد أن نقد أدونيس للواقع العربي والإسلامي يتسم بـ"الثقافوية" لأنه يركز بشكل أساسي على العوامل الثقافية والتراثية كأسباب رئيسية للتخلف والانحطاط، متجاهلاً إلى حد كبير العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تلعب دوراً محورياً في تشكيل هذا الواقع. فهو مثلا يقول: "يعيش الإسلام، بوصفه ديناً وثقافة معاً، مأزقاً تاريخياً لم يعرف حتى في ظلمات الخلافة العثمانية. لا خروج من هذا المأزق الذي يفرغ من كل بعد روحي أو فكري خلّاق، إلا بقراءة جديدة، غير فقهية، ترقى في عمقها وآفاقها في ضوء التجربة التاريخية، وعلى الأخص في ضوء مفهوم الناسخ والمنسوخ الذي وضعه الوحي نفسه في تجاوز كامل للكتب الفقهية والتي أصبحت جزءاً من الماضي، تخطّتها التجربة التاريخية الحيّة". ويضيف أنه "دون ذلك، سيبقى المسلمون مجرد أداة، مجرد سلطة، مجرد كم بشري يعيش على هامش الإبداعات الكونية". رؤيته هذه تحيل إلى مواقف قديمة لديه تتخذ منحاً شبيهاً. ففي أعقاب هزيمة الجيوش العربية في حرب الـ 1967 العربية –الإسرائيلية، نشر أدونيس "بيان 5 حزيران" الذي أكد فيه أن "العدو الذي هزمنا ليس عدو الخارج، بل هو عدو الداخل"، داعياً إلى "مواجهة الهزيمة بواسطة ثورة فكرية وثقافية شاملة تعيد النظر بالإنسان العربي ذاته". ويرى المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "زمن اليسار الجديد" (2023)، أن أدونيس "سيظلّ يغزل على هذا المنوال (النقد الثقافوي) بمنوعات شتى، ومعظمها في عداء للحركات الشعبية، بحجة أن الثورة لا يجوز أن تقتصر على السياسية، وعليها أن تكون ثورة ثقافية". "لقد استفاقت شيعية أدونيس" ولعلّ من أشهر السجالات التي طبعت تاريخ الفكر العربي، كان سجال المفكر السوري الماركسي الراحل صادق جلال العظم مع أدونيس في ثمانينات القرن الماضي، على خلفية حدثين أحدهما سياسي - وهو إطاحة الثورة الإيرانية بحكم الشاه في عام 1979 - أما الثاني فكان ثقافيا تمثل في صدور كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد الذي وجه فيه نقداً للصورة النمطية الثابتة للشرق والإسلام التي رسخها مفكرون غربيون تاريخياً. وأبدى أدونيس إعجابه بالثورة الإسلامية في إيران، وكتب قصائد مديح لها. وفي كتابه "ذهنية التحريم" (1992)، رأى العظم أن أدونيس، وتحت تأثير إعجابه بتلك الثورة، مثّل نموذجاً لـ"الاستشراق المعكوس". وكان العظم يعتقد أن المفكر الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد وقع في كتابه الشهير "الاستشراق" (1978) في الخطأ ذاته الذي ينتقده في نظرية الاستشراق، حيث "تبنى رؤية المستشرقين ذاتها ولكن بصورة معكوسة". فكما أن "الاستشراق الأكاديمي الغربي يقوم على ميتافيزيقيا الفوارق الجوهرية والثابتة بين الشرق والغرب، يعيد بعض المفكرين العرب إنتاج هذه الميتافيزيقيا في صورة مقلوبة، حيث يصبح الإسلام هو المحرك الأساسي للتاريخ العربي، متجاهلين العوامل الاقتصادية والاجتماعية"، بحسب العظم. وبنظر العظم، انتقل أدونيس من الدعوة إلى القطيعة التامة مع الموروث الديني في الستينيات إلى الدفاع عن الأيديولوجيا الإسلامية كمحرك للتاريخ. وفي كتاباته في تلك المرحلة، كان أدونيس يرفض مفاهيم القومية والعلمانية والاشتراكية باعتبارها غريبة على "الكلّ الإسلامي"، فيما يؤكد "تفوّق الشرق بروحانيته على الغرب المادي". كما تبنى أدونيس في ذلك الوقت، بحسب قول العظم، رؤية للحداثة ترتكز على الإبداع بوصفه جوهراً ميتافيزيقياً خارج عن التاريخ والصيرورة. وفي رؤيته للإبداع، يضفي أدونيس عليه "صفات تكاد تجعله مفهوماً إلهياً، حيث يتماهى مع تجربة صوفية شرقية تتجاوز حدود التقنية والعقلانية الغربية"، كما يرد في كتاب "ذهنية التحريم". وهكذا بالنسبة للعظم، يعيد أدونيس إنتاج الاستشراق الغربي ولكن من منظور شرقي معكوس، يرسّخ ثنائية الشرق والغرب بدلاً من تفكيكها. وفي مقابلة مع العظم عام 2013، كرّر العظم العبارة التي قالها في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية: "لقد استفاقت شيعية أدونيس"، مبرراً قوله بأن أدونيس نظم قصيدة مدح بالمرشد الأعلى السابق للجمهورية الإسلامية روح الله الخميني. ويضيف أن أدونيس "دافع عن ولاية الفقيه وليس عن الثورة. هو نظّر بلغة النبوّة والإمامة والفقه الشيعي. كما كتب أن الإمامة هي استمرار لوحي النبوة". الموقف من الثورة السورية إذا كان موقف أدونيس من الإسلام والثقافة العربية قد أثار الجدل لفترة طويلة، فإن موقفه من الثورة السورية كان الأكثر إشكاليةً على المستوى الشعبي. عندما اجتاحت الاحتجاجات العالم العربي في 2011، رفض أدونيس تأييد الثورة السورية بشكل كامل، مؤكداً من جديد على ضرورة العلمانية ومحذراً من الثورات التي تقودها القوى الإسلامية. ويقول صادق جلال العظم عام 2013 تعليقاً على مقولة أدونيس الشهيرة إن "الثورة لا تخرج من المساجد": "ولكن من بنى مساجد أكثر من أي عهد في سوريا؟ عهد البعث. أدونيس يريدهم أن يخرجوا من السينمات والمسارح. ولكن من أقفل دور السينما في دمشق؟ عهد البعث. إذا كان يريدهم أن يخرجوا من المرافق الثقافية المتقدمة، واضح أنه لم يبق شيء إلا الجوامع ليتجمع فيها الناس". وفي مقابلة عام 2019، أعتبر أدونيس الربيع العربي "قد فشل" بعدما كان متفائلاً به في البداية. كما جادل أدونيس أيضاً بأنه "لكي تكون الثورة حقيقية، يجب أن تقترح رؤية تغييرية تؤدي إلى مجتمع أفضل". بدلاً من ذلك، هو يرى أن الانتفاضات أدت إلى "نتائج أسوأ من الأنظمة التي سعت إلى استبدالها". وانتقد حركات المعارضة لكونها "تعكس" الاستبداد الذي سعت إلى الإطاحة به، وأعرب عن أسفه لعدم وجود تحول ثقافي وأيديولوجي أوسع يصاحب التغييرات السياسية. كما انتقد عجز حركات المعارضة العربية عن تحدي العقيدة الدينية، ولا سيما "فشلها في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وتحرير المرأة من القيود الدينية". في المقابلة الحديثة معه المذكورة سابقاً، قال أدونيس إن "تغيير السلطة وحدها أو النظام السياسي لا معنى له إلا إذا اقترن بمشروع لتغيير المجتمع نحو الأفضل – في مزيد من الحرية ومن تعميق البناء الاجتماعي على القيم المدنية الإنسانية المشتركة، في معزل كامل عن الدين". وأضاف لقد "تعبت سورية من كونها ظلاً في صحراء الأسد وآله، والآن ظلاً في صحراء الخلافة العثمانية بعباءتها الأردوغانية". وبعد ظهوره أخيراً في تظاهرة في باريس للتنديد بالمجازر التي شهدها الساحل السوري، عادت إلى الواجهة اتهامات قديمة لأدونيس بالطائفية. في مقابلة تلفزيونية معه عام 2019 يقول أدونيس، إن صورة العلويين "مشوّهة وهي صورة سياسية مفروضة عليهم فرضاً. فهم كفئة أو كجماعة إسلامية، يجب ألا ننظر إليهم عبر هذه الصورة السائدة". "ثم العلويون كغيرهم من الأفراد، فيهم السيئ وفيهم الصالح. إنما ما كان يهمني هو العمق الفكري الذي قاموا عليه. والعمق الفكري المرتبط بالعمق الروحي هو نظرتهم إلى الوجود. ونظرتهم إلى الوجود قامت على مفهوم مستقى من الفلسفة اليونانية، ثم أعطوها بعداً إسلامياً: إنها العلاقة بين المعنى والصورة. هذا الوجود له معنى، لكن هذا المعنى يتجلى في صور متنوعة". كما أكد في المقابلة نفسها أن "الديمقراطية لا تعني مجرد التصويت أو الانتخاب بحرية، إنها تعني أولا الاعتراف بالآخر المختلف، بحقوقه الكاملة في جميع الميادين وعلى مختلف الصعد. إنها في ما وراء مفهومات الأقلية والأكثرية. فهذه مفهومات لا تنظر إلى الإنسان المواطن من زاوية الانتماء إلى مجتمع واحد، بل من زاوية الانتماء إلى إثنية أو مذهب أو طائفة أو قبيلة". وأضاف أن "الإنسان بإنسانيته لا بإثنيته أو مذهبه أو كونه من الأقلية أو من الأكثرية ووفقاً لهذه المبادئ لا يمكن (..) المسلمون أن يكونوا ديمقراطيين. إنهم اثنان: متبوع أو تابع في كل شيء".


BBC عربية
١٨-٠٣-٢٠٢٥
- BBC عربية
مَن هو أبو إسحاق الحويني؟ وما هي رحلة تحوّله من دراسة اللغة الإسبانية إلى العلوم الشرعية
تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع خبر رحيل الداعية المصري حجازي محمد يوسف شريف الشهير بـ "أبو إسحاق الحويني". وتوفي الحويني في مستشفى بقطر، الاثنين، بعد معاناة مع المرض عن عمر ناهز 68 عاما. وتباينت ردود الفعل بين مدْح تاريخ الرجل والقدح في آرائه؛ فوصفه مؤيدون بـ "الفارس الذي ترجّل"، وبأنه "كان رجلاً إذا رأيته كأنما رأيت أناساً من القرون الأولى" بحسب أحد المنشورات على فيسبوك. فيما رأى آخرون أن الحويني "كان يعيش خارج العصر أو فيما يُسمى عصور الظلام ويجعل من الإسلام ديناً ضيقاً جداً والتحريم فيه يفوق الحلال بكثير"، على حدّ تعبيرهم. وقال أحد الناشطين على فيسبوك: "رأيت رجلا سقط من طبقة محدثي القرون الأولى ... كان الحويني أجلّ رجل في هذه الطبقة يتكلم عن سياسة العلم وحب العلم وحرمة العلم والعلماء". فيما رأى آخر أن حجازي محمد يوسف شريف "مات منذ زمن بعيد، وحلّت في روح الميت نفسٌ جديدة باسم تراثي يناسب التوجه، والمهمة للشخصية الجديدة "أبو إسحاق الحويني". ودعا البعض تلاميذ الحويني بـ "ألا يتذكروا فتاواه الغريبة ... وأن يتذكروا شجاعة الاعتذار عنده". وفي وسط هذه الآراء، شارك الكثيرون منشوراً يجمع بين رأيين متناقضين حد الشماتة: أحدهما، لابنة المفكر المصري الراحل سيد القمني ، والرأي الآخر يعود زمنه إلى ما قبل عامين، وهو لابن الداعية أبو إسحاق الحويني. ورأى ناشطون في هذا المنشور ما يعكس "انقساماً عميقاً في المجتمع المصري بين التيارات الفكرية المختلفة؛ حيث يمثل القمني التيار العلماني النقدي، بينما يمثل الحويني التيار السلفي المتشدد" على حدّ تعبيرهم. من هو أبو إسحاق الحويني؟ هو حجازي محمد يوسف شريف، من مواليد يونيو/حزيران 1956 بمحافظة كفر الشيخ شمالي مصر، في قرية "حوين" ونسبةً إليها لُقّب الداعية بالـ"حوينيّ". أما كُنيته "أبو إسحاق"، فتعود إلى أبي إسحاق الشاطبي، أحد أشهر العلماء الأندلسيين، والذي تعلّق حجازي بكتاباته. وقد تخصص أبو إسحاق الحويني في العلم الشرعي، وتحديدا علم الحديث، حيث تأثّر بكتابات الشيخ المعاصر محمد ناصر الدين الألباني، كما تتلمذ الحويني على يد عدد من المشايح في مصر، والأردن، والسعودية والسودان. ولكنْ قبل التوجّه إلى العلوم الشرعية، كان حجازي في إسبانيا يُكمل دراسته ما بعد الجامعية في اللغة الإسبانية، عبر منحة دراسية من جامعة عين شمس التي تخرّج فيها بتفوق. لكن حجازي لم يرغب في مواصلة دراسته في إسبانيا وعاد إلى مصر، وفي عزمه تغيير وجهته ولقبه، ليصبح فيما بعدُ أحد أبرز دعاة ما يُعرف بـ "السلفية العلمية" التي تركّز على تدريس ونشر علوم الحديث والتفسير والفقه، بعيداً عن السياسة و"السلفية السياسية" و"السلفية الجهادية". وكان للحويني اهتمام بتخريج الأحاديث وتحقيقها، وله مؤلفات عديدة، منها: النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة، وصحيح القصص النبوي، وكتاب الانشراح في آداب النكاح. وكان الحويني يقدّم العديد من البرامج التليفزيونية. ونعى الأزهر الشريف، عبر صفحته الرسمية، الحويني الذي "سخّر عمره وجهده لخدمة السنة النبوية وعلومها" بحسب ما ورد في النعي.