
في الجزائر.. قنافذ بحر تجسد معاناة عمرها 100 مليون سنة
العثور على حفريات لقنافذ البحر لا يعد إنجازا بحد ذاته، فهي من الكائنات التي يعتاد اكتشافها في أعمال التنقيب، لكن ما يميز الاكتشاف الجزائري، الذي نُشر مؤخرا في دورية"جورنال أوف أفريكان إيرث ساينس"، هو العثور على حفريات تحمل ملامح غير معتادة، تشير إلى تعرضها لتشوهات نادرة ترصد لأول مرة، وكأن الأقدار أرادت أن تكشف بعد مرور أكثر من 100 مليون عام، عما مرت به هذه الكائنات من معاناة تسببت في اضطراب نموها الطبيعي.
وصف الباحثون نوعية التشوهات التي وجدت في اثنين من قنافذ البحر التي تنتمي إلى زمن الديناصورات، ليكشفوا عن تفاصيل مذهلة حول نموها، وأسباب تلك التغيرات الغريبة التي طالت أجسامها، وهو ما يسهم ليس فقط في فهم تاريخ الكائنات البحرية القديمة، بل يسلط الضوء على تأثير العوامل البيئية في تشكيل الحياة منذ ملايين السنين، كما يقول خبير متخصص في هذا النوع من الحفريات للجزيرة نت.
البداية من جبال بلزمة
تعود تفاصيل الاكتشاف إلى جبال بلزمة شمال شرق الجزائر، حيث قام فريق بحثي جزائري تقوده الباحثة سناء بن منصور من قسم الجيولوجيا بجامعة باتنة، بجمع أكثر من 400 عينة من حفريات قنافذ بحر تعود للعصر الطباشيري الأعلى، وتحديدا إلى الزمن السينوماني (نحو 100 مليون سنة مضت)، وتم جمع هذه العينات من موقع "ثنية المنشار" جنوب شرق ولاية باتنة، حيث كانت هذه المنطقة جزءا من بحر دافئ قديم تغمره المياه الاستوائية.
وخضعت العينات لفحص مجهري دقيق باستخدام المجهر الثنائي العدسة، وهناك، وسط هذا الكم من الحفريات، برزت عينات غريبة في تكوينها، وهي قنافذ بحر لا تشبه مثيلاتها، حيث كانت ملامحها مختلة، سواء بوجود أجزاء من أجسامها زائدة أو ناقصة، وبعضها يحمل آثار انكماش أو اعوجاج غريب في بنيتها الخارجية.
وهي كائنات صغيرة مستديرة الشكل، مغطاة بأشواك صلبة تحميها من المفترسات، وتشبه شكل الكرة الصغيرة، وتتحرك ببطء على الصخور أو الرمال باستخدام أقدام أنبوبية دقيقة.
ورغم مظهرها البسيط، فإن لها نظاما عصبيا فريدا، وتلعب دورا بيئيا مهما في توازن الحياة البحرية، خاصة في التحكم بنمو الطحالب والشعاب المرجانية.
وتعيش هذه الحيوانات إلى الآن، والحفريات منها شائعة نسبيا، لأن هياكلها الصلبة، خاصة الجزء المعروف بـ"الصدفة" أو "الدرع"، تقاوم التحلل وتحفظ جيدا في الصخور الرسوبية.
تشوهات نادرة في التماثل الخماسي
وأحد أهم السمات التشريحية لقنافذ البحر وعدد من شوكيات الجلد الأخرى، هو ما يُعرف بـ"التماثل الخماسي"، وهذا يعني أن جسم الكائن مقسم إلى 5 مناطق أو أجزاء متماثلة حول مركز الجسم، وليس إلى الجانبين كما هو الحال في البشر (التماثل الثنائي).
ويظهر هذا النمط من التماثل بقنفذ البحر في وجود "5 صفوف من الأقدام الأنبوبية التي تساعد في الحركة والتغذية" و "5 مناطق تُعرف بالأمبولاكرا، وهي جزء من القشرة الصلبة تُوزع فيها الأقدام "، و"5 صفوف من الأشواك المرتبة بشكل متماثل".
وقد لاحظ العلماء أن هذا النظام الهندسي الدقيق، الذي طالما استرعى انتباه علماء الأحياء القديمة، كان مضطربا في حالتين من القنافذ الأحفورية التي تمت دراستها، ففي إحدى العينات، ظهر التماثل غير مكتمل، وكأن أحد الأجزاء الخمسة لم يتشكل كما ينبغي، مما أدى إلى عدم توازن في توزيع أجزاء الجسم، وبدا أن أحد الأجزاء في عينة أخرى نما بشكل زائد أو غير متماثل.
وكانت التشوهات متمركزة في ما يُعرف بـ"المنطقة الأمبولاكرية"، وهي أحد المكونات الأساسية المرتبطة بالأقدام الأنبوبية والوظائف الحركية للكائن.
ولم تكن هذه التشوهات نتيجة تآكل أو تلف لاحق للحفرية، بل نتجت عن خلل حدث أثناء حياة الكائن نفسه، وهذه الملاحظات لم تُسجل من قبل في سجل حفريات الجزائر أو شمال أفريقيا.
ويرجح الباحثون أن تكون أسباب هذه التشوهات إما داخلية (مثل طفرات جينية نادرة)، أو خارجية (مثل تقلبات بيئية حادة أو اضطرابات في قاع البحر)، وربما تداخلت العوامل معا أثناء مراحل مبكرة من التطور الجنيني لقنافذ البحر، خاصة خلال الانتقال من طور اليرقة إلى الكائن البالغ.
ويوضح الباحثون في دراستهم أن "هذه التشوهات تظهر كيف يمكن لأي اختلال طفيف في البيئة أو الشفرة الجينية أن يحدث تغيرات جذرية في البنية النهائية للكائن".
وتُعد هذه أول دراسة توثق تشوهات في حفريات قنافذ بحر بالجزائر، مما يمنحها قيمة علمية خاصة على مستوى شمال أفريقيا، فهي لا تفتح فقط بابا جديدا لدراسة العوامل التي تؤثر على تطور الكائنات البحرية القديمة، بل تسهم أيضا في مقارنة سجل الحفريات بالملاحظات البيولوجية في الكائنات المعاصرة.
كما يؤكد الباحثون أن مثل هذه التشوهات تسجل حاليا في قنافذ بحر حديثة تعيش في بيئات ملوثة أو مضطربة، مما يعني أن تحليل هذه الظواهر بالماضي قد يساعد في فهم تأثير التغيرات المناخية والبيئية على الكائنات الحديثة أيضا.
وسبق لفرق بحثية أخرى حول العالم تسجيل تشوهات في قنافذ البحر، ولكن بأشكال أخرى، ولأسباب مختلفة غير تلك التي رصدتها الدراسة الجزائرية.
وقبل نحو عام، وصف الدكتور معروف عبد الحميد، أستاذ الحفريات بجامعة عين شمس المصرية، تشوهات أثناء دراسته 40 عينة من قنافذ البحر الأحفورية، التي تعود إلى العصر الطباشيري، والتي عُثر عليها في مصر.
وكانت أبرز النتائج التي توصل لها الباحث وجود تشوهات في هيكل بعض القنافذ، حيث ظهرت ثقوب غير عادية على قشرتها الصلبة، وانتفاخات في الأجسام، وتجويفات عميقة في أماكن مختلفة، بالإضافة إلى ثقوب غير طبيعية في الأجزاء المسؤولة عن التنفس، وتشير هذه الأعراض إلى أن هذه الكائنات كانت مستهدفة من طفيليات أثناء حياتها، مما تسبب في تدهور نموها الطبيعي.
كما حدد الباحث 9 أنواع من التشوهات الناتجة عن نمو غير طبيعي، مع تقديم فرضيات محتملة حول العوامل البيئية والوراثية المسؤولة عنها.
وإلى جانب التطفل والعوامل البيئية، كشف الباحث عن أدلة على هجمات مفترسات، حيث تم العثور على ثقوب في الهياكل الصلبة لبعض الأنواع، مما يشير إلى أن قنافذ البحر كانت عرضة للهجوم أثناء وجودها في جحورها، وهذه الهجمات كانت تترك أضرارا جزئية على الهياكل، مما يساهم في فهم سلوك المفترسات بتلك الحقبة.
ويقول الدكتور عبد الحميد للجزيرة نت إن التشوهات التي نجح في رصدها، وتلك التي رصدها بعده الفريق الجزائري، توضح أن الحفريات يمكن أن تكشف الكثير عن التفاعلات البيئية القديمة قبل ملايين السنين، ويمكن أن تعطينا دروسا مفيدة لحاضرنا.
ويضيف: "إذا نجحنا مثلا في إثبات أن أحد التشوهات كان لأسباب بيئية فقط، فهذا يعني أننا لو عثرنا على قنفذ بحر حديث، ووجدنا به بعض التشوهات، فقد يكون ذلك علامة لوجود مشكلة بيئية، وهو ما أثبته بالفعل باحث إسرائيلي مهتم بقنافذ البحر الحديثة ".
ورصد يعقوب دافني، الباحث من جامعة القدس العبرية، نوعا غير معتاد من التشوهات في قنافذ البحر قرب محطة توليد كهرباء وتحلية مياه في خليج العقبة (إيلات) على البحر الأحمر، حيث تعاني المنطقة المحيطة بالمحطة من تلوث شديد نتيجة تصريف المياه الساخنة (الحرارية والمالحة) بالإضافة إلى معادن ثقيلة.
وأظهرت الدراسة ، المنشورة قبل نحو 45 عاما، أن أكثر من 60% من القنافذ في هذه المنطقة كانت مصابة بتشوهات ملحوظة، أبرزها انتفاخ غير منتظم في الجزء العلوي من القوقعة، وكان من اللافت أن نسبة ارتفاع القنفذ إلى قطره، وصلت إلى 1.4 في بعض الحالات، مقارنة بنسبة طبيعية تبلغ حوالي 0.53 في المناطق غير الملوثة.
كما أظهرت القنافذ المشوهة اتساعا في الفتحة الفموية وزيادة في حجم "فانوس أرسطو"، وهو الهيكل الفكي الداخلي المستخدم للطحن، إلى جانب نقص في عدد الصفائح بين الأذرع مقارنة بنظيراتها السليمة.
ويقول الدكتور عبد الحميد: "تبرز هذه الدراسات المتعددة، سواء على القنافذ الأحفورية أو المعاصرة، أهمية هذا الكائن كمؤشر بيئي حساس للتغيرات في النظم البحرية، فمن خلال دراسة تشوهاته، يمكن للعلماء تتبع أثر العوامل البيئية والبيولوجية على الكائنات البحرية، مما يتيح لنا فهما أعمق للتفاعلات بين الكائنات وبيئاتها، وتحذيرا مبكرا من المشكلات البيئية".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
الذكاء الاصطناعي يكشف مستقبلا مناخيا أكثر قسوة في الشرق الأوسط
في عالم يزداد احترارا، تبدو منطقة الشرق الأوسط أكثر عرضة من غيرها لتداعيات المناخ. من الجفاف الطويل إلى الفيضانات المفاجئة، ومن التصحر الزاحف إلى تقلبات درجات الحرارة، تمثل التغيرات المناخية تحديا معقدا يهدد الموارد والاقتصادات وحتى الاستقرار السياسي. وسط هذا المشهد، يبرز نموذج جديد للتنبؤ المناخي، يعتمد على الذكاء الاصطناعي، كأداة واعدة لإعادة فهم المستقبل المناخي في الإقليم. في دراسة نشرت يوم 8 مايو/أيار في مجلة "إن بي جاي كلايمت آند أتموسفيريك ساينس"، طور فريق بحثي نموذجا يعرف باسم "ستاكينج إي إم إل"، يمزج بين تقنيات تعلم آلي متعددة ويظهر قدرة غير مسبوقة على التنبؤ بدقة بدرجات الحرارة وهطول الأمطار في الشرق الأوسط، حتى نهاية القرن الحالي. ما الجديد في هذا النموذج؟ يوضح المؤلف الرئيسي للدراسة "يونس خسروي"، الباحث في علم المعلومات الجغرافية في المعهد الوطني للبحث في كيبك، كندا، إن النموذج المقترح يعتمد على دمج 5 خوارزميات تعلم آلي مع 3 "نماذج ميتا" تقوم بتحليل مخرجات الخوارزميات وتجميعها للحصول على التنبؤ النهائي. ويضيف في تصريحات لـ"الجزيرة نت": "هذه التقنية المعروفة باسم التعلم الجماعي تتيح تقليص نسبة الخطأ وزيادة الدقة". ويضيف "خسروي" أن الفريق صمم هذا النموذج كي يتعامل مع بيئة مناخية معقدة كبيئة الشرق الأوسط، حيث تمتزج التلال والسهول والصحارى والبحار، مما يصعّب دقة التنبؤ باستخدام نماذج تقليدية، لافتا إلى أنه باستخدام تقنيات التعلم الآلي، أصبحنا قادرين على رؤية أنماط مناخية لا تلتقطها النماذج الكلاسيكية. إعلان تعتمد النماذج المناخية التقليدية، مثل نماذج الغلاف الجوي العام، على معادلات فيزيائية تحاكي تفاعلات معقدة بين المحيط والغلاف الجوي، لكنها غالبا ما تعاني من ضعف الدقة في التنبؤ على المستوى المحلي، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى شبكات مراقبة مناخية كثيفة. وعلى النقيض من ذلك، يستند نموذج "ستاكينج إي إم إل" إلى تحليل البيانات المتاحة واستنباط الأنماط منها، دون الحاجة إلى معرفة مسبقة بقوانين الفيزياء، ويتميز بقدرته على التكيف مع البيانات غير المكتملة أو المناطق التي يصعب رصدها ميدانيًا، مثل المناطق الصحراوية أو الجبلية. "لا نقلل من أهمية النماذج الفيزيائية، لكننا نكملها بأسلوب جديد يجعل التوقعات أكثر واقعية على أرض الواقع"، يشرح المؤلف الرئيسي للدراسة، ويضيف: "باختصار: الذكاء الاصطناعي لا يستبدل العلماء، بل يمنحهم رؤية أعمق". نتائج دقيقة وتحذيرات ساخنة عند تطبيق النموذج الجديد على بيانات "سي إم آي بي 6″، وهي قاعدة بيانات عالمية شاملة للتنبؤ المناخي، حقق دقة تنبؤية غير مسبوقة في توقع درجات الحرارة القصوى وفي توقع هطول الأمطار، وفقا للمؤلفين. وتحت سيناريو الانبعاثات المرتفعة، كشف النموذج عن صورة مثيرة للقلق، فموجات الحر تتجاوز 45 درجة مئوية في جنوب الجزيرة العربية وجنوب إيران، كما كانت هناك زيادة غير متوقعة في كميات الأمطار شمالا، مما قد يؤدي إلى فيضانات. "لم نعد نتحدث عن تحذيرات عامة، بل عن خرائط دقيقة توضح أي المناطق ستعاني أكثر، ومتى"، كما أوضح "خسروي". ويقول "محمد توفيق"، أستاذ المناخ التطبيقي بجامعة سوهاج (لم يشارك في الدراسة) "هذه الدراسة تمثل خطوة متقدمة في ربط الذكاء الاصطناعي بمشكلات واقعية في أكثر مناطق العالم هشاشة مناخيا. النموذج المقترح لا يكتفي بتحسين الدقة التنبؤية، بل يفتح الباب أمام استخدامات عملية مباشرة، مثل إدارة المياه وتخطيط المدن". ويضيف "توفيق" في تصريحات لـ"الجزيرة نت" أن ما يثير الاهتمام حقا هو أن النموذج يعمل بكفاءة حتى في المناطق التي تعاني من نقص البيانات، وهذه ميزة إستراتيجية لدول مثل اليمن أو السودان. لكن يبقى التحدي في مدى استعداد صناع القرار للاستفادة الفعلية من هذه الأداة، وتحويل التنبؤات إلى سياسات قابلة للتنفيذ. التغير المناخي ليس مجرد طقس تنبؤات المناخ ليست فقط مسألة علمية، بل لها تبعات مباشرة على الاقتصاد، حسب أستاذ المناخ التطبيقي الذي يلفت إلى أن الزراعة، التي تمثل شريان الحياة في بلدان مثل العراق وسوريا والسودان، مضيفا أن "تغير توقيت الأمطار يعني اضطراب مواسم الزراعة، والجفاف المتكرر يهدد الأمن الغذائي". ويوضح توفيق "في الخليج، ترتفع كلفة التبريد والطاقة نتيجة درجات الحرارة القياسية، مما يزيد الضغوط على الميزانيات العامة. كما تؤثر الفيضانات المرتبطة بالأمطار غير المنتظمة على البنية التحتية الهشة في بلدان مثل اليمن ولبنان". من جانبه، يحذر "خسروي" من أنه في بعض الحالات، ستكون التغيرات المناخية مكلفة أكثر من أي أزمة اقتصادية تقليدية، ولهذا السبب يشدد على الحاجة إلى إدماج النماذج المناخية في كل خطة اقتصادية أو إستراتيجية تنموية. ما الذي يجب فعله الآن؟ يوصي الباحثون بالاعتماد على النموذج الجديد كأداة إستراتيجية لدعم اتخاذ القرار في مجالات متعددة، أبرزها تخطيط استخدام الأراضي وتوزيع الزراعات الموسمية وفقا لتوقعات المناخ، وتحسين إدارة الموارد المائية بين القطاعات الزراعية والصناعية والحضرية، إضافة إلى تصميم شبكات الكهرباء والطاقة المتجددة بما يتناسب مع الارتفاع المتوقع في درجات الحرارة. كما يؤكدون على أهمية ربط النموذج بأنظمة الإنذار المبكر لمواجهة مخاطر الفيضانات أو موجات الجفاف قبل وقوعها. ويشدد الفريق البحثي على ضرورة إتاحة النموذج كمورد مفتوح المصدر، قابل للتكييف والتدريب محليًا بما يتوافق مع ظروف واحتياجات كل دولة أو منطقة. ويوضح خسروي "نريد لهذا النموذج أن يخرج من المختبرات إلى الوزارات والمزارع والمجالس البلدية" ويضيف: "كلما كان القرار مبنيًا على العلم، كانت المجتمعات أكثر قدرة على الصمود".


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
بحجم إصبع وبثلاث عيون.. اكتشاف مفترس عاش قبل 500 مليون سنة
قد تخبّئ الكائنات الصغيرة قصصا عظيمة، وهذا ما ينطبق تماما على اكتشاف نادر وفريد لمفترس صغير الحجم لكنه مهيب بخصائصه، عاش قبل أكثر من نصف مليار عام. وعثر الباحثون من متحف مانيتوبا ومتحف أونتاريو الملكي بكندا على هذا المفترس، الذي لا يتجاوز طوله حجم إصبع السبابة، في صخور بورغيس شيل، وهي منطقة شهيرة في كندا بحفرياتها العائدة إلى العصر الكمبري. وكانت المفاجأة أنهم وجدوا أنفسهم أمام نوع غير معروف من قبل من المفترسات البحرية، يتميز بتركيبة فريدة، إذ كان يمتلك ثلاث عيون حادة ومخالب مسننة وفما دائريا محاطا بأسنان، إضافة إلى زعانف جانبية تساعده على السباحة بمرونة وسرعة. تفاصيل فريدة ووثّق الباحثون لهذا الاكتشاف في دورية"رويال سوسايتي أوبن ساينس"، ومنحوا الكائن المكتشف الذي عاش قبل 506 ملايين سنة اسم "موسورا فينتوني"، وقالوا إنه ينتمي لمجموعة من الكائنات المنقرضة تُسمى "الراديوكونتس". وهي المجموعة نفسها التي ينتمي إليها المفترس الشهير "أنومالوكاريس الكندية"، لكن ما يميز "موسورا" عن باقي أفراد هذه المجموعة هو وجود منطقة في الجزء الخلفي من جسمه مكونة من عدة فقرات متراصة، تشبه إلى حد ما البطن لدى بعض الحيوانات الحديثة مثل العقارب البحرية والصراصير. واهتم الباحثون بهذه الميزة الجديدة، واكتشفوا أن الفقرات الأخيرة تحتوي على خياشيم تساعد في التنفس، مما يشير إلى تكيف فريد ربما مرتبط ببيئة أو سلوكيات معينة تتطلب تنفسا أكثر كفاءة. بالإضافة إلى ذلك، سمح حفظ الحفريات بشكل استثنائي بدراسة التفاصيل الداخلية لجسم "موسورا"، مثل الجهاز العصبي والدوراني والهضمي، حيث رأى الباحثون أدلة على وجود أعصاب متجمعة في العيون تشبه في عملها أعصاب الحيوانات المفصلية الحديثة، كما وجدوا أن "موسورا" يمتلك جهازا دورانيا مفتوحا، حيث يضخ القلب الدم إلى تجاويف داخلية كبيرة بدلا من الأوعية الدموية المغلقة، كما هو الحال في الإنسان. تأكيد عمر الدورة الدموية "المفتوحة" يقول جو مويسيوك، الأمين العام للحفريات والجيولوجيا في متحف مانيتوبا والباحث الرئيسي للدراسة، في بيان نشره الموقع الإلكتروني للمتحف إن "هذا الكائن يمثل مثالا رائعا للتقارب التطوري مع الحيوانات الحديثة، حيث يمتلك 16 قطعة متقاربة ومبطنة بالخياشيم في الجزء الخلفي من الجسم، تجعله قريبا من السلطعونات الحصانية وقمل الخشب والحشرات التي تمتلك أيضا قطعا تحمل أعضاء تنفسية في الطرف الخلفي". ويشير مويسيوك إلى أن الحفريات المحفوظة جيدا لهذا الكائن أظهرت تجاويف واضحة في جسده، وهي فراغات داخلية كانت تمتلئ بالدم في الكائنات التي تملك جهازا دوريا مفتوحا، كما في بعض المفصليات اليوم. ويضيف "هذه الهياكل شوهدت من قبل في حفريات أخرى، لكنها لم تكن واضحة، وقد دار جدل طويل حول ما إذا كانت جزءا من الجهاز الدوري أم مجرد أثر طبيعي، لكنّ التفاصيل التي كشفتها حفريات موسورا ساعدت العلماء على تأكيد أن هذه الهياكل تنتمي حقا للجهاز الدوري، مما يثبت أن هذا النوع من الدورة الدموية "المفتوحة" تطور منذ أكثر من 500 مليون سنة، أي أن أصولها قديمة جدا".


الجزيرة
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
علماء يابانيون يحولون أعضاء الجسد البشري إلى حاسوب
في وقت تزداد فيه سيطرة التكنولوجيا على كل جوانب حياتنا ووجود الأجهزة حولنا طوال الوقت، قد يبدو غريبا أن يتجه العلم لاستخدام الجسم البشري نفسه كأداة للحوسبة. لكن دراسة حديثة من جامعة أوساكا اليابانية منشورة في دورية "آي تريبل إي أكسيس" العلمية تقلب الموازين وتطرح السؤال الصعب، ماذا لو كانت العضلات قادرة على التفكير؟ وماذا لو استطعنا استخدام أجسامنا لأداء الحسابات؟ طرح يو كوباياشي، المؤلف الرئيسي والوحيد في الدراسة، فكرة ثورية ضمن ما يُعرف باسم "الحوسبة بخزانات الأنسجة البيولوجية". يستخدم في هذا النهج الأنسجة الرخوة داخل الجسم البشري، وبشكل خاص العضلات، كبيئة حيوية لمعالجة المعلومات، تشبه في عملها طريقة عمل نماذج تعلم الآلة المعروفة باسم الشبكات العصبية. وتقول مي مبروك، أستاذة المعلوماتية الحيوية الطبية بجامعة النيل الأهلية المصرية، وغير المشاركة في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "نحن لا نتحدث عن حاسوب داخل الجسم، بل عن جسم يتحول نفسه إلى حاسوب. فمن الممكن أن تتفوق الحوسبة عبر العضلات في بعض المجالات، خصوصا في الأمور التي تتعلق بالجسم البشري أو التي تحتاج إلى استجابة طبيعية وسريعة". عضلات تفكر الحوسبة بالخزّانات هي طريقة ذكية لمعالجة المعلومات، تقوم على مبدأ بسيط، بدلا من تصميم نظام يفهم البيانات خطوة بخطوة، نمرر البيانات من خلال "خزّان" مُعقد، مثل شبكة من العقد المتصلة عشوائيا. ويتفاعل هذا الخزان مع البيانات ويحفظ آثارا من الماضي، ثم يأتي دور طبقة بسيطة تُسمى "القراءة" لاستخراج النتيجة المطلوبة. وتشرح مبروك: "العضلة ليست مجرد لحم، إنها عقل صغير! ففي هذه الدراسة، استخدم الباحثون عضلات اليد كأنها عقل صغير يقوم بعمليات حسابية. فعندما يحرك الإنسان يده، تتحرك العضلات بطريقة معقدة، وتُضغَط وتتمدد" وتضيف "هذه الحركات الدقيقة تمثل 'لغة العضلة' التي تُستخدم لمعالجة معلومات، وكأن العضلة تُفكّر من خلال حركتها!". الحوسبة بالخزانات الفيزيائية تستخدم جسما فيزيائيا بدلا من شبكة إلكترونية، فيستقبل الجسم الإشارة ويتفاعل معها بطرق معقدة، مثل تفاعل سطح الماء بالتموجات عند رمي حجر فيه. هذه التفاعلات تعالج البيانات بطريقة طبيعية، ثم تُقرأ النتائج باستخدام أدوات بسيطة. والفرق أن الخزان هنا ليس جزءا من برنامج حاسوبي، بل مادة أو جسم يتحرك ويستجيب فيزيائيا. المعالج التقليدي أم العضلة؟ تستخدم أجهزة الحاسوب العادية أشياء مثل الأسلاك والرقائق لمعالجة المعلومات. ففي الدراسة، جرّب العلماء شيئا جديدا، حيث استخدموا أنسجة عضلية حقيقية (من خلايا حية) بدلا من الأسلاك والرقائق. لماذا؟ تتفاعل أنسجة العضلات بشكل طبيعي مع الإشارات (مثل النبضات الكهربائية أو المواد الكيميائية)، ويمكن استخدام هذه التفاعلات لإجراء "حسابات" بسيطة، تماما مثل جهاز حاسوب عادي. فمثلا يمكن أن يرسل العلماء إشارات كهربائية دقيقة إلى العضلة، ثم يقيسون رد فعل العضلة (كيف تنقبض أو تتغير)، ويمكن أن يمثل هذا التفاعل إجابات (مثل "نعم" أو "لا"، أو أرقاما). وفي التجارب الحقيقية التي قام بها كوباياشي كان الأمر أكثر تعقيدا، حيث طلب من المشاركين تحريك معصمهم بزوايا مختلفة (20°، 40°، 60°). أثناء ذلك، استخدم جهاز موجات فوق صوتية، مثل السونار المستخدم في الكشف عن الأجنة، لتصوير العضلات أثناء الحركة، ثم استخرج الباحث ألف نقطة حركة مميزة من الصور باستخدام تقنيات رؤية حاسوبية متطورة. وكل صورة عضلية أنتجت ما يُعرف باسم "مجال التشوه"، وهو الوضع المكاني للنقاط المميزة في لحظة معينة. هذا يشبه ما تفعله بعض الطبقات في الشبكات العصبية الحاسوبية ضمن نماذج تعلم الآلة، إذ تحول الإشارة إلى فضاء عالي الأبعاد. تخيل أنك ترمي كرة مطاطية في غرفة مليئة بالجدران المائلة والوسائد، سترتد الكرة كل مرة بطريقة مختلفة حسب قوة الرمية واتجاهها. هنا، لم تحسب الجدران أي شيء، لكنها حوّلت الإشارة بطريقة مفيدة، وهذا هو "الحساب غير المباشر" الذي اعتمدت عليه هذه الطريقة. وتوضح مبروك: "ربما تتفوق الحواسيب التقليدية في السرعة والدقة، لكنها لا تملك ما تملكه عضلاتنا من المرونة، والذاكرة القصيرة، والاستجابة الطبيعية للبيئة. الدراسة أثبتت أن العضلة يمكنها محاكاة نماذج رياضية معقدة وتقديم نتائج أدق من الطرق التقليدية في بعض الحالات". الإنسان الآلة واحدة من أهم نتائج الدراسة أن الأنسجة الرخوة موجودة في جميع أنحاء الجسم، وهذا يعني إمكانية بناء أنظمة حوسبة "موزعة" داخل الجسد. ويمكن لتلك الأجهزة أن تستفيد من الجسد نفسه كمورد حسابي، بدلا من تحميل الأجهزة الذكية بكميات ضخمة من الشرائح والمعالجات. لقد أصبح جسدك، دون أي جهاز إضافي، قادر على تحليل إشارات معقدة، ويتحكم في أجهزة طبية فقط من خلال حركته الطبيعية. يوضح كوباياشي في دراسته أن استخدام هذه الفكرة قد يحسّن من أداء الأجهزة القابلة للارتداء، مثل الساعات الذكية أو الأجهزة الطبية التي تراقب الحالات الصحية، دون الحاجة لمعالجات ضخمة. لكن العضلات ليست ثابتة، فهي تتحرك بحرية، تتمدد وتنقبض، وتتغير اتجاهاتها، مما يجعل تتبع النقطة نفسها بدقة عالية على مدى عدة ثوانٍ أمرا صعبا تقنيا، فأي انزياح بسيط أو ضياع لنقطة مميزة داخل العضلة قد يُفسد سلسلة البيانات المطلوبة للحوسبة. كذلك، تختلف عضلات كل إنسان عن الآخر، فسُمك العضلة، ودرجة الليونة أو الصلابة، وشكل الألياف العضلية واتجاهها، وكمية الدهون تحت الجلد، قد تختلف من شخص لآخر. وبالتالي، فإن الوصول إلى مرحلة دمج هذه التقنية في أجهزة قابلة للارتداء يتطلب حلولا هندسية دقيقة تحترم طبيعة الجسم البشري وتضمن سلامته، بحسب مبروك. وعند الوصول إلى هذا الحد من الدمج بين الجسم والتكنولوجيا، تقول مبروك: "من يملك البيانات التي تُولدها عضلاتنا؟ وهل يمكن التحكم في أجسامنا عن بُعد يومًا ما؟ مثل هذه الأسئلة الأخلاقية تزداد أهمية كلما اقتربنا من الدمج بين الإنسان والتكنولوجيا. عندما نبدأ باستخدام أجزاء من جسم الإنسان، مثل العضلات، للقيام بعمليات حسابية، قد يصبح من الصعب التفرقة بين ما هو بشري وما هو آلي". هذه المخاوف لم تعد مجرد افتراضات بعيدة ورفاهية فكرية، بل قد تصبح قضايا فعلية في المستقبل القريب، مع تطور الذكاء الهجين الذي يمزج بين الإنسان والآلة.