
الوطن بالتقسيط: جيل عم يشتري لبنان بالمتر... ويخسره بالهوية
بين المتر والذاكرة: ثمن الانتماء المفقود
لم نعد نحلم بوطن.
صار حلمنا مترًا واحدًا نلوذ به من التشرد، من التنكيل، من هويات لا تشبهنا.
متر على الخريطة، نعلّق عليه أمننا، صورنا، حنيننا، وجواز سفر لا يحملنا.
نشتري الشقة كأننا نشتري خلاصًا،
لكننا نكتشف، متأخرين، أن الشقة لا تمنحك جنسية، ولا تحفظ وجعك.
الملكية لا تعني انتماء، والدفاتر العقارية لا تعني وطنًا.
نقسط الوطن.
ندفع شهريًا ثمن الحنين،
ونقابل الإيصالات بألم لا يُقسط.
نكتب العنوان كاملاً،
لكننا نسقط كلمة "وطن".
الشقق التي لا تسكنها الأقدام
لبنان، البلد الذي غادره أكثر من نصف شعبه، يحتفظ بعقاراتهم كأرشيف للأحلام المعلقة.
وفق تقرير صادر عن وزارة الخارجية اللبنانية (2024)، يمتلك اللبنانيون في الخارج أكثر من 60% من الشقق السكنية في بيروت والمناطق الكبرى، لكن نسبة قليلة جدًا منهم تعود للسكن فيها.
تقول ريم، شابة لبنانية مغتربة في باريس:
"شقتنا في بيروت موجودة على الورق فقط. لم أزرها منذ سنوات، ولا أدري إن كنت سأعود يومًا".
الشقة لم تعد منزلًا، بل وثيقة إثبات انتماء.
كثيرون يملكون العنوان، لكن لا يملكون الذكريات.
يبحثون في الإسمنت عن الجذور، وفي المفاتيح عن شعور الانتماء... فلا يجدونه.
الهوية التي تتلاشى بين الشتات والذاكرة
فقدان الهوية يزداد عمقًا مع كل جيل يُبعد نفسه عن الجذور.
اللغة التي تربينا عليها تذوب بين لهجات الشتات، والأسماء التي حفظناها تصبح كلمات في دفاتر قديمة.
يؤكد الدكتور وليد قيس، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية:
"انفصال الشباب عن أرضهم وأهلهم يولّد أزمة وجودية تمحو الحلم وتشوه الهوية، ما يهدد مستقبل لبنان كدولة ومجتمع".
وفي دراسة نُشرت عام 2025 بالتعاون بين الجامعة اللبنانية ومنظمة "لبنان في الشتات"، عبّر 72% من الشباب المغترب عن شعورهم بالانفصال عن وطنهم، وقال 60% منهم إن جواز السفر لا يُمثّل هويتهم.
شهادات الغربة: حكايات بلا وطن
من كندا إلى أستراليا، تتكرر القصص ذاتها عن وطن يُشترى بالمتر لكنه يذوب مع الوقت.
يقول إلياس، مغترب في سيدني:
"أملك شقة في لبنان، لكن لا أشعر أنني أنتمي. الجواز صورة فقط، أما الواقع مختلف".
وتضيف سارة، مقيمة في نيويورك:
"أتحدث إلى أولادي عن لبنان، فيسألونني: أين هو؟ هل الوطن مجرد خريطة؟"
أما لينا، المقيمة في ميونخ، فتقول:
"أحاول تعليم أولادي العربية، لكنهم لا يحبونها... يقولون لي: لا أحد يتحدث بها في مدرستنا".
الشتات لا يعوض الروح.
ولا ورقة رسمية تستطيع أن تصنع انتماءً.
الهوية ليست حبرًا، بل إحساسٌ حيّ، يتآكل حين يُترك وحيدًا.
بين الهجرة والاغتراب: الأسباب السياسية والاجتماعية
الأزمة الاقتصادية، الانهيار السياسي، وغياب أي أفق للعدالة والفرص، كانت الدوافع المباشرة لهجرة الأجيال الجديدة.
تقول الأستاذة ندى خوري، خبيرة في شؤون الهجرة:
"غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي يدفع الشباب للبحث عن حياة كريمة في الخارج، ما يضع لبنان أمام تحدٍ كبير للحفاظ على هويته المجتمعية".
يُقدّر الأمن العام اللبناني أن أكثر من 200,000 شاب وشابة غادروا البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية، معظمهم من أصحاب الكفاءات، تاركين خلفهم فراغًا إنسانيًا وثقافيًا يصعب ترميمه.
هل الوطن حاضر في عيون شبابنا؟
بحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "صدى الشباب" عام 2025، قال أكثر من 70% من الشباب اللبناني في الخارج إنهم لا يشعرون بالانتماء الكامل لوطنهم.
وفي الداخل، عبّر معظم الشباب عن فقدان الثقة بالدولة وبالمستقبل، ما ولّد اغترابًا نفسيًا عميقًا، حتى وهم على أرض الوطن.
اليوم، الوطن بالنسبة للكثيرين ليس مكانًا يُعاش، بل وثيقة تُرفق في ملف، أو عنوان يُكتب في طلب تأشيرة.
كيف نعيد الوطن إلى القلب؟
استعادة الوطن لا تبدأ بامتلاك عقار أو بحيازة جواز سفر.
إنها تبدأ من اللغة، من الذاكرة، من إعادة الاعتبار للمكان الذي ولدنا فيه.
يجب أن تتحوّل البرامج الثقافية والتعليمية إلى جسر إنقاذ... قبل أن يصبح الشتات هو الوطن.
ينبغي على الدولة، والمؤسسات التربوية، ووسائل الإعلام، أن تطلق مبادرات تربط الشباب بجذورهم، تقرّبهم من تاريخهم، وتمنحهم فرصة للمشاركة في صياغة مستقبل بلدهم.
دعوة إلى العمل: استعادة الحلم اللبناني
على الدولة اللبنانية أن تضع استراتيجية وطنية حقيقية تعيد الشباب إلى وطنهم، ليس فقط على الورق، بل في الحياة اليومية.
عبر توفير فرص عمل، تعزيز جودة التعليم، وحماية الهوية الثقافية، نستطيع أن نزرع شعور الانتماء من جديد.
المجتمع المدني بدوره، مطالب بإطلاق حملات تستعيد اللغة، الذاكرة، والكرامة.
أما الإعلام، فعليه أن يكون صدى لهذا الجرح العميق... وأن يرافق الحلم لا الغربة.
خاتمة: الوطن ليس شقة... بل إحساس
الوطن ليس مجرد شقة تُشترى أو تُؤجّر،
ولا جواز سفر يُجدّد عند اللزوم.
الوطن هو ذاكرة تُروى، وهوية تُصان، وحنين لا يُقسط.
لن نعيد الوطن إلا عندما نعيد أنفسنا إليه.
حين نعلّم أبناءنا اسمه،
نغرس فيهم لغته،
ونعطي للانتماء معنى يتجاوز حدود الورق.
لأن الوطن لا يُشترى... لكنّه قد يُنسى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
منذ 3 دقائق
- الديار
قبلان: جلسة الحكومة اليوم إما تضع البلد في قلب الاستقرار أو تشعل النار في قلب شعبه
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب أصدر المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، البيان الآتي: "جلسة الحكومة اليوم ،إما تضع البلد في قلب الاستقرار والمصالح الوطنية أو تشعل النار في قلب شعبه ومصالحه الوطنية السيادية، ولا عذر لأحد، والسكوت جريمة عظمى، والكل معني وطنيا بحماية المصالح السياسية والسيادية العليا للبلد، ولا حياد في هذه القضية المصيرية، وأي انقلاب دستوري أو مقامرة وطنية ستضع البلد في صميم مخاض قد يكون الأسوأ على المصالح الوطنية السيادية".


الديار
منذ 3 دقائق
- الديار
بري يستقبل المدير الإقليمي للبنك الدولي ويتابع المستجدات مع العريضي
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب استقبل رئيس مجلس النواب نبيه بري في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة المدير الإقليمي للبنك الدولي لإدارة الشرق الأوسط جان كريستوف كاريه بحضور الممثل الجديد لمجموعة البنك الدولي في لبنان إنريكي بلانكو أرماس في زيارة تعارفية بمناسبة توليه مهامه الجديدة ، اللقاء كان مناسبة جرى خلالها عرض لبرامج البنك الدولي في لبنان.


الديار
منذ 29 دقائق
- الديار
رئيس الجمهورية جوزاف عون وعد نقابة النقل السريع الجوي بمتابعة مطالبها: يُعمل على مكننة الإدارات العامة بأسلوب متطور وسليم، بهدف الحدّ من الفساد ومعالجة الأوضاع الشاذة التي يواجهها المواطن في تفاعله مع الإدارات والمؤسسات الرسمية
Aa اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب اشترك بنشرة الديار لتصلك الأخبار يوميا عبر بريدك الإلكتروني إشترك عاجل 24/7