
الإِمَامُ الحَسَنُ المُجتَبَى (عَ) مَوَاقِفٌ وَطَرَائِف
التاريخ يشهد فلم أجد أفخر من كلمات وخطب الإمام الحسن المجتبى (ع) حقاً – أنه لم يكن لأحد من العرب، ولا من غيرهم ما كان للإمام الحسن المجتبى من فضائل، ومفاخر ولا يشاطره أو يشاركه فيها أحد من العالمين إلا صنوه الإمام الحسين (ع) وله السَّبق بالعمر...
شهادة الإمام الحسن (ع) في 7 صفر الأحزان 50 ه في المدينة ودفن في البقيع
ورد في الحيث الشريف ينقله الخليفة الثاني يقَولَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَقُولُ: كُلُّ حَسَبٍ وَنَسَبٍ فَمُنْقَطِعٌ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَا خَلاَ حَسَبِي وَنَسَبِي، وَكُلُّ بَنِي أُنْثَى عَصَبُهُمْ لِأَبِيهِمْ مَا خَلاَ بَنِي فَاطِمَةَ فَإِنِّي أَنَا أَبُوهُمْ وَأَنَا عَصَبَتُهُمْ).
والإمام الحسن المجتبى (ع) هو السبط الأكبر للرسول الأكرم (ص)، وهو ولده من بضعته فاطمة الزهراء (ع) بهذا النَّص النبوي الواضح الذي يرويه الخليفة شخصياً، ولكن هذه الأمة الظالمة لنفسها ولأئمتها الكرام (ع)، لا سيما رجال السلطة القرشية من أبناء الشجرة الزقومية الملعونة في القرآن، الذين تطاولوا على سادتهم، من أهل البيت الأطهار (ع) لا سيما الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي ضرب خراطيمهم، وطهَّر الأرض من رجس الكثيرين من طغاتهم في يوم بدر، وأحد، والأحزاب، وغيرها من المشاهد التي خلَّدها التاريخ.
ولكن هذه الأمة تركت أمر ربها، وأهل بيت رسول الله فيها ورجعت إلى أعدائها ورمت بنفسها في أحضانهم، وراحت تنفِّذ كل ما يطلبه منها طغاتها من حكام وسلاطين بني أمية رغم وجود مثل الإمام الحسن (ع) الذي كان كنجم القطب فيها، ولكن العجب كل العجب من وقاحة الأمويين، وصلافة القرشيين، حيث يتمادون في غيِّهم وجهلهم وضلالتهم، ويتسافهون بحضور الإمام الحسن (ع) وكأنهم لا يعرفون أنفسهم، وأصلهم الدَّخيل، ونسبهم الضَّئيل في العرب عامة وقريش خاصة لأنهم من عبيد الروم الآبقين فلصقهم عبد شمس بغفلة من الزمن بالعرب وبقريش فصاروا لعنة عليها وعليهم إلى قيام يوم الدِّين.
مواقف وطرائف حسنية
والتاريخ يشهد – وأنا شخصياً أقرأ منذ عقود من الزمن فلم أجد أفخر من كلمات وخطب الإمام الحسن المجتبى (ع) حقاً – أنه لم يكن لأحد من العرب، ولا من غيرهم ما كان للإمام الحسن المجتبى من فضائل، ومفاخر ولا يشاطره أو يشاركه فيها أحد من العالمين إلا صنوه الإمام الحسين (ع) وله السَّبق بالعمر كما لا يخفى، فكان صبيان النار الأموية والأوزاغ المروانية يتطاولون عليه في مجالسهم العامرة بالمعصية والخالية من الفضيلة، وللإمام الحسن (ع) أكثر من خمسين موقفاً واحتجاجاً عليهم بحيث كان لا يتركهم إلا ويلقم كل واحد منه بحجر فيدعه حائراً في نفسه لا يدري ما يقول.
وسأكتفي بنقل بعض المواقف المشهورة والمشهودة للإمام الحسن المجتبى (ع) مما رواه سماحة الإمام الراحل (قدس سره) في كتابه من حياة الإمام الحسن (ع) مع ما فيها من حقائق حسنية وطرائف أموية، لتكون شاهدة على عظمة هذا الإمام ومفاخره الفريدة وخصاله الحميدة، لا سيما حلمه الذي كان يزن الجبال كما يقول مروان الوزغ شخصياً حيث رَوَى اَلْمَدَائِنِيُّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَخْرَجُوا جِنَازَتَهُ فَحَمَلَ مَرْوَانُ بْنُ اَلْحَكَمِ سَرِيرَهُ فَقَالَ لَهُ اَلْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تَحْمِلُ اَلْيَوْمَ جَنَازَتَهُ وَكُنْتَ بِالْأَمْسِ تُجَرِّعُهُ اَلْغَيْظَ؟) قَالَ مَرْوَانُ: نَعَمْ كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُوَازِنُ حِلْمُهُ اَلْجِبَالَ). (بحار الأنوار: ج44 ص145)
فهم يعرفون الإمام الحسن (ع) جيداً فهو حفيد النبي الأعظم، وبضعة الولي الأكرم، فلا أحد في الخلق مثله في السَّبب والنَّسب والشَّرف والفخر، وهنا ينقل السيد الراحل يقول: تفاخرت قريش والحسن بن علي (ع) حاضر لا ينطق، فقال معاوية: يا أبا محمد ما لك لا تنطق؟ فوالله ما أنت بمشوب الحسب، ولا بكليل اللسان؟
فقال الحسن (ع) :(مَا ذَكَرُوا فَضِيلَةً إِلاّ وَلِي مَحضُهَا وَلُبَابُهَا). (من حياة الإمام الحسن (ع): ص124)
وهذا اعتراف معاوية شخصياً بأن الإمام الحسن (ع) ليس (بمشوب الحسب، ولا بكليل اللسان)، ولكن هل يعرف معاوية مَنْ كان أبوه، وهو الذي ينتسب إلى أربعة فألحقته هند أمه لألأمهم أبو سفيان، قال الزمخشري في كتاب "ربيع الأبرار": كان معاوية يُعزى (يُنسب) إلى أربعة: إلى مسافر بن أبي عمرو، وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة، وإلى العباس بن عبد المطلب، وإلى الصباح، مغن كان لعمارة بن الوليد، قال: وقد كان أبو سفيان دميماً قصيراً، وكان الصباح عسيفاً (أجيراً) لأبي سفيان، شاباً وسيماً، فدعته هند إلى نفسها فغشيها). (ربيع الأبرار؛ الزمخشري: ج4 ص275)
ورغم ذلك تراه يتفاخر على الإمام الحسن (ع) في نسبه الشريف، فيُرى أَنَّ مُعَاوِيَةَ فَخَرَ يَوْماً فَقَالَ: (أَنَا اِبْنُ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، أَنَا اِبْنُ أَعْزَزِهَا جُوداً، وَأَكْرَمِهَا جُدُوداً، أَنَا اِبْنُ مَنْ سَادَ قُرَيْشاً فَضْلاً نَاشِياً وَكَهْلاً)، تصوَّر على هذا المدَّعي ما ليس له وحتى أبو سفيان لم تكن فيه هذه الصفات بل هي مسروقة من بني هاشم الأكارم، ولكن أراد أن يتطاول فجاءه الرد الحاسم، والجواب القاطع لما يدَّعيه.
فَقَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: (أَ عَلَيَّ تَفْخَرُ يَا مُعَاوِيَةُ؟! أَنَا اِبْنُ عُرُوقِ اَلثَّرَى، أَنَا اِبْنُ مَأْوًى اِلْتَقَى، أَنَا اِبْنُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى، أَنَا اِبْنُ مَنْ سَادَ أَهْلَ اَلدُّنْيَا بِالْفَضْلِ اَلسَّابِقِ وَاَلْحَسَبِ اَلْفَائِقِ، أَنَا اِبْنُ مَنْ طَاعَتُهُ طَاعَةُ اَللَّهِ وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَةُ اَللَّهِ، فَهَلْ لَكَ أَبٌ كَأَبِي تُبَاهِينِي بِهِ، وَقَدِيمٌ كَقَدِيمِي تُسَامِينِي بِهِ؟ تَقُولُ: نَعَمْ أَوْ لاَ؛ قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلْ أَقُولُ لاَ وَهِيَ لَكَ تَصْدِيقٌ.. فَقَالَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):
اَلْحَقُّ أَبْلَجُ مَا يُحِيلُ سَبِيلَهُ *** وَاَلْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُوا اَلْأَلْبَابِ
وأهل الشام ومَنْ على رأيهم الفاسد وشاكلتهم في معاوية يبحثون لهذا الشخص المتعوس والكيان المركوس عن فضيلة، فقد روى الذهبي، وابن خلكان، والمقريزي وغيرهم، وقالوا: إن النسائي خرج من مصر إلى دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنَّف كتاب الخصائص (في فضائل الإمام علي (ع)، رجاء أن يهديهم الله عز وجل، فسُئل عن فضائل معاوية، فقال: أي شيء أخرّج؟! ما أعرف له من فضيلة إلاّ حديث: (الَّلهُمَّ لَا تُشبِع بَطنَهُ)! فضربوه في الجامع على خصيتيه وداسوه حتى أُخرج من الجامع، ثمّ حمل إلى الرملة فمات.
ففي مجلس أراد الله أن يكبته ويفضحه على رؤوس الأشهاد فقال مُعَاوِيَةُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَا أَخْيَرُ مِنْكَ يَا حَسَنُ! قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا اِبْنَ هِنْدٍ؟! قَالَ: لِأَنَّ اَلنَّاسَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَيَّ وَلَمْ يَجْمَعُوا عَلَيْكَ، قَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِشَرٍّ مَا عَلَوْتَ يَا اِبْنَ آكِلَةِ اَلْأَكْبَادِ اَلْمُجْتَمِعُونَ عَلَيْكَ رَجُلاَنِ بَيْنَ مُطِيعٍ وَمُكْرَهٍ؛ فَالطَّائِعُ لَكَ عَاصٍ لِلَّهِ، وَاَلْمُكْرَهُ مَعْذُورٌ بِكِتَابِ اَللَّهِ، وَحَاشَى لِلَّهِ أَنْ أَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْكَ فَلاَ خَيْرَ فِيكَ، وَلَكِنَّ اَللَّهَ بَرَّأَنِي مِنَ اَلرَّذَائِلِ كَمَا بَرَّأَكَ مِنَ اَلْفَضَائِلِ).
معاوية طاغية باغية
رُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بِالْكُوفَةِ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (ع) مُرْتَفِعٌ فِي أَنْفُسِ اَلنَّاسِ فَلَوْ أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُومَ دُونَ مَقَامِكَ عَلَى اَلْمِنْبَرِ فَتُدْرِكَهُ اَلْحَدَاثَةُ وَاَلْعِيُّ فَيَسْقُطَ مِنْ أَنْفُسِ اَلنَّاسِ وَأَعْيُنِهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُ، فَقَامَ دُونَ مَقَامِهِ فِي اَلْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا اَلنَّاسُ فَإِنَّكُمْ لَوْ طَلَبْتُمْ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا لِتَجِدُوا رَجُلاً جَدُّهُ نَبِيٌّ لَمْ تَجِدُوا غَيْرِي وَغَيْرَ أَخِي وَإِنَّا أَعْطَيْنَا صَفْقَتَنَا هَذِهِ اَلطَّاغِيَةَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَعْلَى اَلْمِنْبَرِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَهُوَ فِي مَقَامِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنَ اَلْمِنْبَرِ وَرَأَيْنَا حَقْنَ دِمَاءِ اَلْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ إِهْرَاقِهَا (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ) وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ هَذَا؟ فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ إِلاَّ مَا أَرَادَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ خُطْبَةً عَيِيَّةً فَاحِشَةً فَسَبَّ فِيهَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَقَامَ إِلَيْهِ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَقَالَ لَهُ وَهُوَ عَلَى اَلْمِنْبَرِ: وَيْلَكَ يَا اِبْنَ آكِلَةِ اَلْأَكْبَادِ أَ وَ أَنْتَ تَسُبُّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مَنْ سَبَّ عَلِيّاً فَقَدْ سَبَّنِي وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اَللَّهَ وَمَنْ سَبَّ اَللَّهَ أَدْخَلَهُ اَللَّهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا مُخَلَّداً وَلَهُ عَذَابٌ مُقِيمٌ، ثُمَّ اِنْحَدَرَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَنِ اَلْمِنْبَرِ وَدَخَلَ دَارَهُ وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَداً).
واللطيف بكل خطابات الإمام الحسن (ع) لمعاوية لا ينسبه إلا لأمه هند الهنود آكلة الكبود ولا ينسبه لأبيه لأنه مجهول النسب، ولذا تراه بهذه الوقاحة، فقَيلَ: لَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ اَلْكُوفَةَ خَطَبَ وَذَكَرَ عَلِيّاً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَنَالَ مِنْهُ وَمِنَ اَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ، فَقَالَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أَيُّهَا اَلذَّاكِرُ عَلِيّاً أَنَا اَلْحَسَنُ وَأَبِي عَلِيٌّ وَأَنْتَ مُعَاوِيَةُ وَأَبُوكَ صَخْرٌ وَأُمِّي فَاطِمَةُ وَأُمُّكَ هِنْدٌ وَجَدِّي رَسُولُ اَللَّهِ وَجَدُّكَ حَرْبٌ وَجَدَّتِي خَدِيجَةُ وَجَدَّتُكَ قُبَيْلَةُ (أو قَتِيلَة)، فَلَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى أَخْمَلِنَا ذِكْراً وَأَلْأَمِنَا حَسَباً وَشَرِّنَا قَوْماً وَأَقْدَمِنَا كُفْراً وَنِفَاقاً)، فقال كل مَنْ في المسجد ونحن نقول معهم أيضاً: آمين يا رب العالمين.
مع يزيد الفاجر
وليس معاوية يحمل هذه النفسية الساقطة بل كل بني أمية كانوا على نفس الشاكلة وبنفس النفس الخبيث في بغضهم ونصبهم لأهل البيت الأطهار (ع) وخاصة للإمام الحسن المجتبى (ع) فعن ابن عباس: أنه جلس الحسن بن علي (ع) ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان يأكلان الرطب فقال يزيد: يا حسن إني منذ كنت أبغضك، قال الحسن (ع): (يا يزيد اعلم أن إبليس شارك أباك في جِماعه فاختلط الماءان فأورثك ذلك عداوتي لأن الله تعالى يقول: (وشارِكْهُمْ فِي الأمْوالِ والأوْلادِ)،(الإسراء: 64)، وشارك الشيطان حرباً عند جماعه فولد له صخر فلذلك كان يبغض جدي رسول الله).
مع الوليد الفاسق
والعجيب أن مثل الوليد بن عقبة الذي سمَّاه الله تعالى في كتابه فاسقاً، يتطاول ويسبُّ الإمام علياً (ع)، فقال له الحسن (ع): (لا ألومك أن تسب علياً، وقد جلدك في الخمر (بقصة مشهورة في التاريخ) ثمانين سوطاً (الحد الشرعي لشارب الخمر)، وقتل أباك صبراً بأمر رسول الله (ص) في يوم بدر (عقبة بن أبي معيط)، وقد سمّاه الله عزّ وجل في غير آية مؤمناً، وسمّاك فاسقاً).
مع عمرو بن العاص
وصدق المثل القائل: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وكم ينطبق هذا المثل على هذا الطاغية الذي كان يفتخر بتهييج الناس على عثمان، فقال له عثمان: وأنت أيضاً يا بن النويبغة تؤلِّب عليَّ لأن عزلتك عن مصر، لا ترى لي طاعتك؟ فخرج إلى فلسطين فنزل ضيعة له بها يقال لها: عجلان، فكان يحرِّض الناس على عثمان حتى الرُّعاة، ولما بلغه قتله قال: أنا أبو عبد الله، إني إذا حككت قرحة أدميتها"، ويتَّهم الإمام الحسن (ع).
رَوَى اَلْمَدَائِنِيُّ قَالَ: لَقِيَ عَمْرُو بْنُ اَلْعَاصِ اَلْحَسَنَ فِي اَلطَّوَافِ فَقَالَ لَهُ: يَا حَسَنُ زَعَمْتَ أَنَّ اَلدِّينَ لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِكَ وَبِأَبِيكَ فَقَدْ رَأَيْتَ اَللَّهَ أَقَامَ مُعَاوِيَةَ فَجَعَلَهُ رَاسِياً بَعْدَ مَيْلِهِ وَبَيِّناً بَعْدَ خَفَائِهِ أَ فَيَرْضَى اَللَّهُ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، أَوْ مِنَ اَلْحَقِّ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ كَمَا يَدُورُ اَلْجَمَلُ بِالطَّحِينِ عَلَيْكَ ثِيَابٌ كَغِرْقِئِ اَلْبَيْضِ (زلال البيض) وَأَنْتَ قَاتِلُ عُثْمَانَ وَاَللَّهِ إِنَّهُ لَأَلَمُّ لِلشَّعَثِ وَأَسْهَلُ لِلْوَعْثِ أَنْ يُورِدَكَ مُعَاوِيَةُ حِيَاضَ أَبِيكَ.
فَقَالَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إِنَّ لِأَهْلِ اَلنَّارِ عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا إِلْحَادٌ لِأَوْلِيَاءِ اَللَّهِ وَمُوَالاَةٌ لِأَعْدَاءِ اَللَّهِ وَاَللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ عَلِيّاً لَمْ يَرْتَبْ فِي اَلدِّينِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي اَللَّهِ سَاعَةً وَلاَ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَوَاَللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ يَا اِبْنَ أُمِّ عَمْرٍو أَوْ لَأُنْفِذَنَّ حِضْنَيْكَ بِنَوَافِذَ أَشَدَّ مِنَ اَلْأَقْضِبَةِ فَإِيَّاكَ وَاَلْهَجْمَ عَلَيَّ فَإِنِّي مَنْ قَدْ عَرَفْتَ لَيْسَ بِضَعِيفِ اَلْغَمْزَةِ وَلاَ هَشِّ اَلْمُشَاشَةِ وَلاَ مَرِيءِ اَلْمَأْكَلَةِ وَإِنِّي مِنْ قُرَيْشٍ كَوَاسِطَةِ اَلْقِلاَدَةِ يُعْرَفُ حَسَبِي وَلاَ أُدْعَى لِغَيْرِ أَبِي وَأَنْتَ مَنْ تَعْلَمُ وَيَعْلَمُ اَلنَّاسُ تَحَاكَمَتْ فِيكَ رِجَالُ قُرَيْشٍ فَغَلَبَ عَلَيْكَ جَزَّارُهَا أَلْأَمُهُمْ حَسَباً وَأَعْظَمُهُمْ لُؤْماً فَإِيَّاكَ عَنِّي فَإِنَّكَ رِجْسٌ وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ اَلطَّهَارَةِ (أَذْهَبَ اَللَّهُ عَنَّا اَلرِّجْسَ وَطَهَّرَنَا تَطْهِيراً)، فَأُفْحِمَ عَمْرٌو وَاِنْصَرَفَ كَئِيباً).
هكذا كان الإمام الحسن المجتبى (ع) يُلقمهم أحجارهم جميعاً ويُصغِّر شأنهم ويضعهم في مواضعهم، وأماكنهم من حيث الخساسة والدناءة، ولكن العجب العجاب من هذه الأمة التي استبدلت القوادم بالخوافي، والرأس بالذنابي، والولي التقي بالفاسق الشقي، وأهل البيت الأطهار (ع) ببني أمية الأشرار فأعادوها جاهلية كما أراد أبو سفيان وأمر، وأدخلوها في متاهة مظلمة لم تخرج منها إلى يوم الناس هذا للأسف الشديد.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النشرة
منذ 14 ساعات
- النشرة
لبنان اللاوُنَينُ
حَقيقَتُهُ مُعطاةٌ مِنَ الكَشفِ الى الوجودِ. مِنَ الفِعلِ الطَلِقِ الى المُجاهَدَةِ. مِنَ الحَدِّ الى تَجاوزِ الحَدِّ. مِنَ الجَوهَرِ الى الحُضورِ. أمِنَ العَقلِ الى ما يُمليهِ التَعَقُّلُ؟ بَل مِنَ الضابِطِ الكُلِّ وَهو اللهُ الى الخُلوصِ بِهِ. هو إطلالَةُ الأرضِ على عَوالِمَ الأبَدِ. هو في الوجودِ وَيَحيا فيهِ... حينَ الآخَرونَ لا يَعيشونَهُ حَتَّى. هو الجَوهَرُ وَيَتَجَلَّى فيهِ... حينَ الآخَرونَ مُكوثُهُمُ في الأقنِعَةِ. هو الساجِدُ بِبَساطَةِ النورِ الآخِذِ صَوبَ المَغزى، الداعي الكُلَّ الى حُدوثِهِ. حينَ العالَمُ أطهارٌ وَفاسِقونَ. مَوتٌ... بَينَ ذُهولِ المَنابِعَ، وَتَفَجُّرِ الطُغيانِ. الصَميميَّةُ تِلكَ، رَفَعَها شِعراً جِبرائيلُ إبنُ القِلاعيِّ الِلحفِديُّ (1447-1516)، في بِدايَةِ تَفَتُّحِها، فَرَصَفَ ابناءَها شُهوداً-شُهَداءً بِزَجَلِيَّتِهِ "مَديحَةٌ على جَبَلِ لبنانَ": "كانْ ملوكْ مِنهُم وأبطالْ أحموا السَواحِلْ وِالأجبالْ وْذَكْروا عَنهُمْ الأجيالْ، وْقالوا في جَبَل الله سُكَّانْ. واللهْ كانْ مَعْهُمْ ساكِنْ، وِيحمي القَرايا وِالمْواطِنْ، وْيرفَعْ لِمن هو مِتكامِنْ وِيعطيهْ حُكْمْ عْلى الأعْوانْ..." لِأجلِهِ هَذا الُلبنانُ، لِأجلِ قُطُون اللهِ فيه وَإستِقرارِهِ في اللهِ، كانَت شَهادَةُ الحَبرِ الأعظَمِ لاوُنَ العاشِرِ (1513-1521)، فيهِ وَبأبنائِهِ، وَهو بَعدُ في مَطالِعَ تِكَيُّنِهِ، بِرِسالَةٍ الى البَطريَركِ المارونيِّ شَمعونَ الحَدَثيِّ: "نَشكُرُ العِنايَةَ الإلَهِيَّةَ إذ شاءَت، بِحُلمِها العَظيمِ، أن تُبقيَ عَبيدَها المؤمِنينَ، مِن بَينِ الكَنائِسَ الشَرقِيَّةِ، مُصانينَ وَسَطَ الكُفرِ والبِدَعِ كالوَردَةِ بَينَ الأشواكِ..." نَعيمُ النُزوعِ هَذا الُلبنانُ النَعيمُ في نُزوعِهِ مِنَ اللامُدرَكِ الى التَحَقُّقِ، أعلاهُ لاوُنُ البابا مؤَكِّداً لَيسَ فَقَط أنَّهُ يَتَخَطَّى الإدراكَ، وَفي ذاكَ تَحَدّيهِ الأفعَلَ، بَل هو الشَهادَةُ والشاهِدُ في الحَقِّ، والحَقُّ خَليقٌ بِهِ. بِذَلِكَ يَسمو بالتاريخَ-صُنعَتِهِ الى فَرَحِ الحَياةِ... والحَياةُ قانونُ إيمانٍ. وَمَن يُجافيهِ، يَلفُظُهُ التاريخُ كَما تَلفُظُ الأرضُ الأشواكَ، وَتَصُدُّ عَنهُ الأبَدَ. خَمسَةُ قُرونٍ وَنَيِّفٍ... إنقَضَت، وَتَكَيَّنَ لبنانُ. غَدا كِيانِيَّاً وجودِيَّاً لِجَوهَرٍ. وإرتَفَعَت "أشواكُ" العالَمِ مِن حَولِهِ... عالَمٌ مُتخَمٌ بِنَهَمِ القَضاءِ عَلَيهِ، لأنَّهُ كانَ وَسَيَبقى قَبلَ كَينونَةِ العالَمِ... وَبَعدَ أُفولِهِ في زَمَنِيَّاتِ تَمَرُّدِهِ على ذاتِهِ حَدَّ الإفناءِ أو الإنتِحارِ فالإندِثارِ. وَجاءَ لاوُنٌ، أبٌ أقدَسٌ آخَرٌ. لاوُنُ الرابِع عَشَر، الآتي مِن دَولَةِ القُوَّةِ الأعظَمَ في التاريخِ. وَفي قَلبِ الكَنيسَةِ الجامِعَةِ صَرَخَ: "أَنتَ المَسيحُ إبنُ اللهِ الحَيّ" (مَتّى 16/16). بِهَذِهِ الكَلِماتِ عَبَّرَ بُطرُسُ بإختِصارٍ، عِندَما سألَهُ المُعَلِّمُ والتّلاميذَ الآخَرينَ عَن إيمانِهِ بِهِ (...)، وَقَبلَ المُحادَثَةِ التي أعلَنَ فيها بُطرُسُ عَن إيمانِهِ، كانَ أيضاً سؤالٌ آخَرٌ: سألَ يَسوعُ: "مَن إبنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاسِ؟" (مَتّى 16/13). (...). يَقولُ الإنجيلِيُّ مَتّى إنَّ المُحادَثَةَ بَينَ يَسوعَ وَتَلاميذِهِ حَولَ هَوِيَّتِهِ جَرَت في مَدينَةِ قَيصَرِيَّةِ فيليبُّسَ الجَميلَةِ، المَليئَةِ بالقُصورِ الفَخمَةِ، والمُحاطَةِ بِمَناظِرَ طبيعِيَّةٍ ساحِرَةٍ، عِندَ أقدامِ جَبَلِ حَرَمونَ، وَهي أيضاً مَركَزٌ لِدَوائِرَ سُلطَةٍ قاسِيَةٍ وَمسرَحُ خياناتٍ وَعَدَمِ أمانَةٍ. هَذِهِ الصورَةُ تُعَبِّرُ عَن عالَمٍ يَعتَبِرُ يَسوعَ (...) إذا صارَ حُضورُهُ مُزعِجاً (...)، فَلَن يَتَرَدَّدَ هَذا 'العالَمُ' عَن رَفضِهِ وَتَصفِيَتِهِ". مِن ذاكَ اللاوُنَ ألكَرَّسَهُ الى هَذا اللاوُنَ ألثَبَّتَهُ، لبنانُ-الكَيانُ ‒مِن جَبَلِ لبنانَ الى حَرَمونَ-التَجَلِّيَ‒، نَعيمُ النُزوعِ في الأُلوهَةِ، وَمِنها، وَلَها: إنتِصارُ الحَقِّ-البُطولَةِ في أعلى مَرتَبِيَّةِ الوجودِ بِطَبيعَتَيهِ: الأُلوهَةُ في وَطَنٍ، وَوَطَنٌ في الأُلوهَةِ... والعالَمُ عِندَ "أقدامِهِ".


شبكة النبأ
منذ 2 أيام
- شبكة النبأ
نهجُ الإِمام علي (ع).. اقتداء وانتماء والتزام
لا أَحدَ يُجبِرُكَ على الإِلتزامِ بنهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الحُكمِ ولكن؛ عندما تدَّعي الإِنتماء فعليكَ بالإِلتزامِ، وهنا يأتي الإِكراهُ حتَّى تلتزِمَ أَو تدع!. لا يحِقُّ لكَ أَن تدَّعي التزامكَ بنهجهِ (ع) ثُمَّ تُخالفَهُ أَو تُناقِضهُ، فذلكَ هوَ النِّفاقُ والكذِبُ والغشُّ بعينهِ، فأَنت مُحاسَبٌ في الدُّنيا قبلَ الآخِرة... (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). إِنَّ نهجَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) حقائِقٌ ووقائِعٌ ونماذِجٌ وقُدوةٌ وأُسوةٌ، فهوَ ليسَ مِثاليٌّ خارج المألُوف أَبداً، كما أَنَّهُ ليسَ بمُعجزةٍ لا يُمكِنُ تصوُّرَ الإِهتداءَ بهِ، ولو أَردنا أَن نعتبِرهُ كذلكَ للتهرُّبِ من المسؤُوليَّةِ أَو لتبريرِ عدمِ التزامِنا بهِ والسَّيرِ على نهجهِ، فهذا يعني أَنَّنا ننظُرَ إِلى كُلِّ الرُّسُلِ والأَنبياءِ بمثلِ ذلكَ؛ مناهجٌ مثاليَّةٌ وسِيَرٌ خارِقةٌ للعادةِ! وهذا جهلٌ مُركَّبٌ أَو خرقٌ غَيرُ مُبرَّرٍ، وهو الذي يعتمِدهُ تُجَّار الدِّينِ والعقيدةِ!. حتَّى لُقمانَ (ع) يكُونُ حسبَ هذا الرَّأي منهجٌ مِثاليٌّ! فما فائِدةُ القُرآن الكريم وقصصهِ وأَمثالهِ إِذن؟!. ما الفرقُ بينَ نهجِ رسُولِ اللهِ (ص) ونهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) الذي يصفُ علاقتهُ بنفسهِ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وابنِ عمِّهِ بقَولهِ (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه (ص) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّه (ص) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه (ص) فَقُلْتُ؛ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ؟! فَقَالَ؛ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ). فإِذا اعتبرنا نهجُ عليٍّ (ع) مثاليٌّ وخارج المألُوف لا يُمكِنُ بل من المستحيلِ الإِلتزامَ بهِ، فكذلكَ سنقُولُ نفسَ الكلامِ عن نهجِ رسُولِ الله (ص) فأَينَ تذهبُونَ؟!. صحيحٌ لا أَحدَ يقدرُ على الإِلتزامِ بنهجِ الإِمامِ (ع) بحذافيرهِ إِلَّا أَنَّهُ (ع) رسمَ طريقاً ينتهي إِليهِ مَن يسعى لذلكَ قائلاً (أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ). حتَّى هذهِ الخِصال الأَربع لم نلمسَها أَو نراها فيمن يدَّعي التزامهُ بنهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الحكُمِ، بل لم نلمِسَ حتَّى خِصلةً واحدةً منها، فلم نرَ منهُم ورعاً في الإِدارةِ ولا اجتهاداً في الإِنجازِ الحقيقي الذي يخدِم عبادَ الله تعالى ولا عِفَّةً في التَّعامُلِ معَ بيتِ المالِ ولا سداداً في قَولٍ أَو فعلٍ، فيما يُفترضُ أَن يكُونوا ممَّن يجتهِدُ في أَن يقدِرَ على ذلكَ كما يقُولُ (ع) (فَوَاللَّه مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا وإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا). فإِذا كانُوا يتصوَّرُونَ أَنَّ نهجَ الإِمامِ (ع) مثاليٌّ فلماذا يدَّعُونَ الإِنتماءَ إِليهِ؟! لماذا، إِذن، يكذِبون؟!. السَّببُ واضحٌ فهُم يريدُونَ مصادرَة التَّاريخ لصالحِ أَجنداتهِم الخاصَّة، وبذلكَ يسعَونَ لتضليلِ السذَّجِ من النَّاسِ. إِنَّهُم يريدُونَ النَّهجَ شِعارٌ للتستُّرِ بهِ ويتجاهلُونهُ دِثاراً لأَنَّهُ يتضارب ومصالِحهُم الخاصَّة!. وهذهِ هي مُشكلةُ النَّاسِ عادةً فهُم يعرفُونَ الحقَّ بالرِّجالِ ولذلكَ يخطأُونَ المسيرَ ولا يصلُونَ إِلى نتيجةٍ معقُولةِ ومقبُولةٍ ولا يستقيمُونَ على الجَّادَّةِ ولا يتَّبِعُونَ الإِنسان الصَّح في الوقتِ الصَّح!. فقَد قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَى أَميرَ المُؤمنينَ (ع) فَقَالَ؛ أَتَرَانِي أَظُنُّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؟! فَقَالَ (ع)؛ يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ ولَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ، إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه ولَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه. فَقَالَ الْحَارِثُ فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ وعَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ (ع)؛ إِنَّ سَعِيداً وعَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ ولَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ). هذا هوَ نهجُ الإِمام (ع) لمَن أَرادَ أَن يسيرَ عليهِ من دونِ خداعٍ للذَّاتِ. أَمَّا الذينَ يحدِّثنا عنهُم القرآن الكريم بقولهِ (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). فهؤُلاء مهما حرَّفوا وغيَّروا وكتبُوا وضللَّوا وزوَّروا وغشُّوا فلن يكتبُوا لنا نهجاً علوَّياً [جديداً] حسبَ مزاجهِم، فالمنهجُ العلويٌّ واضِحٌ وضُوحَ الشَّمسِ في رابعةِ النَّهارِ لا يمكنُ لأَحدٍ أَن يغيِّرهُ ويبدِّلهُ فهوَ عصيٌّ على التَّزييفِ وأَنَّ من يفعَل ذلكَ أَو يُحاوِلُ لا يخدَع إِلَّا نفسهُ ولا يضحَك إِلَّا على ذقنهِ. إِنَّهم يعتاشُونَ على الكذبِ والتَّزويرِ والتَّدليسِ والدَّجلِ والتقمُّصِ غَير المحمُود، ولقد وصفَ القرآن الكريم حالهُم بقولهِ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). ومن مصاديقهِ سعيهُم للتَّرويجِ لتزويرهِم المفضُوحِ من خلالِ مُسلسلٍ تجاريٍّ لا يمتُّ لحقائقِ التَّاريخي بأَيِّ صلةٍ!. وبمثلِ هؤُلاء يصفُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) زماننا بقولهِ (والَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً ولَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وأَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ ولَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ولَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا، واللَّه مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ولَا كَذَبْتُ كِذْبَةً ولَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وهَذَا الْيَوْمِ). فهؤُلاء بلاءٌ علينا وفتنةٌ للأُمَّةِ لأَنَّهم مصداقَ قولِ الله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ). الانتماء يستدعي الالتزام (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ). لا أَحدَ يُجبِرُكَ على الإِلتزامِ بنهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الحُكمِ، ولا أَحدَ يغتصِبُ أَحداً لتنفيذِ مُفرداتِ سيرتهِ، ولكن؛ عندما تدَّعي الإِنتماء فعليكَ بالإِلتزامِ، وهنا يأتي الإِكراهُ حتَّى تلتزِمَ أَو تدع!. لا يحِقُّ لكَ أَن تدَّعي التزامكَ بنهجهِ (ع) ثُمَّ تُخالفَهُ أَو تُناقِضهُ، فذلكَ هوَ النِّفاقُ والكذِبُ والغشُّ بعينهِ، فأَنت مُحاسَبٌ في الدُّنيا قبلَ الآخِرة. يقُولُ تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). ما الفرقُ بينهُم وبينَ مَن يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقَولهِ (رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ ولَا يَتَحَرَّجُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّه (ص) مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّه مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْه ولَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ). فذاكَ مُتصنِّعُ الإِسلامِ وهذا مُتصنِّعُ النَّهجِ العلويِّ!. فإِلى الذين يدَّعُونَ أَنَّهُم على نهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في السُّلطةِ والحُكمِ، تعالُوا نتابع معكُم جردةَ الحِسابِ هذهِ لنرى أَينَ أَنتُم منها؟! وأَينَ تقِفونَ؟!. فمن ملامحِ نهجِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) ما يلي؛ - لم يتهالَك الإِمامُ على السُّلطةِ والخِلافةِ أَبداً لأَنَّ السُّلطةَ عندهُ وسيلةٌ وليست هدفاً، فإِذا ساعدَت في تحقيقِ رسالتهِ وإِنجازِ عهُودهِ ووعُودهِ ومكَّنتهُ من أَهدافهِ الرِّساليَّة فبِها وإِلَّا فلا حاجةَ لهُ بها. ولذلكَ عندما انثالَ عليهِ النَّاسُ يُبايعونهُ للخلافةِ خطبَ فيهِم قبلَ أَن يمُدَّ يدهُ لهُم قائلاً (دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَه وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!). يقُولُ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟! فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع) (واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا). فمَن مِن الذينَ يدَّعُون الإِنتماء إِلى نهجِ الإِمامِ (ع) في الحُكمِ التزمَ بهذا الثَّابت فلم يُغيِّر ويبدِّل فقط من أَجلِ أَن يصلَ إِلى السُّلطةِ وعندها [لكُلِّ حادثٍ حديثٍ] كما يقولُونَ؟!. مَن منكُم لَم تحوِّلهُ السُّلطةُ إِلى نعلٍ ينتعِلهُ الظُّلم والجَور؟!. - السُّلطةُ أَداةٌ لإِقامةِ الحقِّ والعدلِ، وهي وسيلةٌ لمُكافحةِ الفسادِ المالي والإِداري على حدٍّ سَواء، فما حاجةُ الإِمام (ع) للحُكمِ إِذا عجزَ عن تحقيقِ ذلكَ؟!. يقُولُ (ع) (أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!). وقد خطبَ (ع) في أَوَّلِ خلافتهِ مُهدِّداً ومُحذِّراً الذين ينتظرُونَ منهُ أَن يغُضَّ النَّظر عن فسادهِم ولصُوصيَّتهِم فيطوي صفحةَ الماضي الفاسِد والفاشِل ليبدأَ عهداً جديداً من النَّزاهةِ الماليَّةِ والإِداريَّة (واللَّه لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِه النِّسَاءُ ومُلِكَ بِه الإِمَاءُ لَرَدَدْتُه فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً ومَنْ ضَاقَ عَلَيْه الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْه أَضْيَقُ!). لقد خيَّبَ الإِمامُ آمالهُم بإِمكانيَّةِ التَّغاضي عن سرقاتهِم والتَّغافُلِ عن فسادهِم، ففي نهجِ (ع) لا يسقطُ الحقُّ المسرُوق بالتَّقادُمِ إِذ لا بُدَّ مِن إِعادةِ الحقُوقِ إِلى أَصحابِها مهما طالَ الزَّمن!. وعندما دعاهُ بعضُ الصَّحابة إِلى أَن يميِّزَ في العطاءِ بينَ أَهل السَّابِقة في الدِّين [جماعةُ الخِدمة الجِهاديَّة] وبينَ مَن يرَونهُ مُواطناً من الدَّرجةِ الثَّانيةِ إِعتبرَ ذلكَ ظُلمٌ وفسادٌ وتجاوزٌ على حقِّ الرَّعيَّةِ قائلاً (أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْه! واللَّه لَا أَطُورُ بِه مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّه! أَلَا وإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّه تَبْذِيرٌ وإِسْرَافٌ وهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا ويَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ ويُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ ويُهِينُهُ عِنْدَ اللَّه، ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ولَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّه شُكْرَهُمْ وكَانَ لِغَيْرِه وُدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِه النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وأَلأَمُ خَدِينٍ!). فكانَ اليأسُ يدبُّ في نفُوسِ هذهِ النَّماذجِ عندما كانُوا يسمعُونهُ (ع) يقُولُ (واللَّه لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّه فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا). وكتبَ لأَحدِ عُمَّالهِ الفاسدينَ مُحذِّراً (كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وطَعَاماً وأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وتَشْرَبُ حَرَاماً وتَبْتَاعُ الإِمَاءَ وتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِمْ هَذِه الأَمْوَالَ وأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِه الْبِلَادَ! فَاتَّقِ اللَّه وارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّه مِنْكَ لأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّه فِيكَ ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِه أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ!). وعندما طلبَ منهُ أَخوهُ عقيلٌ أَن يُزيدهُ من بيتِ المالِ [قرضاً] فوقَ حقِّهِ أَجابهُ في قصَّةٍ مشهورةٍ يروِيها الإِمامُ (ع) قائلاً (واللَّه لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً ورَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْه سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وأَتَّبِعُ قِيَادَه مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَه حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَه؛ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟!). فمَن مِن هؤُلاء المُدَّعين التزامهُم بنهجِ الإِمامِ أَحمى حديدةً لنفسهِ قبلَ غيرهِ ليُذكِّرَها بالمآلِ؟!. مَن مِنهُم تعاملَ بالعِفَّةٍ معَ المالِ العامِ المُؤتمَنُ عليهِ؟!. كفاكُم كذِباً وغُشّاً وتضليلاً وضِحكاً على ذقُونِ العوامِّ!.


شبكة النبأ
منذ 2 أيام
- شبكة النبأ
أدب الخلاف مع الآخر عند أهل البيت (ع)
من يراجع سيرة أهل البيت مع مخالفيهم سواء في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك يتضح له بوضوح أنهم رغم قدرتهم على فرض آرائهم على غيرهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى ذلك بل آثروا التعامل معهم بالأدب والخُلق الرفيع ما دعا كثيراً من مخالفيهم إلى الرجوع عن آرائهم ومعتقداتهم... ليس من المتوقّع أن يتحد الناس على اختلاف مذاقاتهم ومشاربهم الفكرية والعقائدية ويصبحوا على نهج واحد، لأنهم من الأساس خلقوا مختلفين وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفين) (1)، إنما المتوقّع منهم أن لا يجور بعضهم على الآخر ويفرض على البقية رؤاه وعقائده أو حتى سننه وعاداته المختلفة. فمن الطبيعي أن يختلف الناس فيما بينهم ولكن ليس من المقبول بتاتاً أن يخرج الإنسان في تعاطيه وتعامله من الآخرين عن أدب الخلاف ويفرض عليهم معتقداته أو آرائه ورؤاه. وقد تميّز أهل البيت (عليهم السلام) في سلوكهم الرباني وأخلاقهم العظيمة في مراعات الأدب مع من يخالفهم في المعتقد أو الرأي وضربوا للتأريخ عبر العصور خير صور في هذا المجال. وقد يُقال: أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن لديهم القدرة في فرض معتقداتهم أو آرائهم على مخالفيهم. وفي جوابه يقال: إنّ من يراجع سيرة أهل البيت (عليهم السلام) مع مخالفيهم سواء في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك يتضح له بوضوح أنهم رغم قدرتهم على فرض آرائهم على غيرهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى ذلك بل آثروا التعامل معهم بالأدب والخُلق الرفيع ما دعا كثيراً من مخالفيهم إلى الرجوع عن آرائهم ومعتقداتهم واتباعهم في ذلك. الملفت للانتباه أنّ كثيرا من مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) يعتمدون لغة التجاسر والتهجّم عليهم من دون أن يلاقوا منهم أيّ تجاسر ولو بالمثل. وقبل أن نبيّن الشواهد على ذلك نذكر نموذجين لاعتراف بعض مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) بالتزامهم بأدب الخلاف معهم: النموذج الأول: روي عن أنس بن مالك، قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك، فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: المال مال الله وأنا عبده. ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟ قال: لا، قال: لم؟ قال: لأنك لا تكافىء بالسيئة الحسنة، فضحك النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر(2). النموذج الثاني: يقول المفضل بن عمر دار نقاش بيني وبين ابن العوجاء حول عظمة النبي (صلى الله عليه وآله)، فدعاني إلى الاعراض عن ذكر النبي ومناقشته حول خالق الكون. فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: يا عدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتم صورة ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت... فقال ابن العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ولا بمثل دليلك تجادل فينا. ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا، وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خُرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرّف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننّا أنا قطعناه دحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه(3). أمّا مصاديق التزام أهل البيت (عليهم السلام) بأدب الخلاف مع ألد مخالفيهم فالشواهد على ذلك كثيرة ومنها: السام عليكم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده، فقال: السام عليكم- أي الموت عليكم-، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم. ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه. ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ردّ على صاحبيه، فغضبت عائشة، فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إنّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إنّ الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه، ولم يرفع عنه قط إلا شانه. قالت: يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم: السام عليكم؟ فقال: بلى، أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت: عليكم، فإذا سلّم عليكم مسلم فقولوا: سلام عليكم، وإذا سلم عليكم كافر فقولوا عليك(4). لا أُكافيهم بمثل ما فعلوا لما ملك عسكر معاوية الماء وأحاطوا بشريعة الفرات ومنعوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) وجنده منها قالت رؤساء الشام له: اُقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا، فسألهم الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأً كما مات ابن عفان. فلما رأى (عليه السلام) أنه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤوس والأيدي وملكوا عليهم الماء وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب. فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك(5). أظنّك غريباً روي أنّ شامياً رأى الإمام الحسن (عليه السلام) راكباً فجعل يلعنه والإمام الحسن (عليه السلام) لا يرد، فلما فرغ أقبل الإمام الحسن عليه فسلّم عليه وضحك، وقال: أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك. فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعا رحباً وجاهاً عريضاً ومالا كبيراً، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته(6). أنت ابن الطباخة روي أنّ نصرانياً قال للإمام الباقر (عليه السلام): أنت بقر. فقال (عليه السلام): لا أنا باقر. قال: أنت ابن الطباخة. قال: ذاك حرفتها. قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية. قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فأسلم النصراني(7). دعوة الموالين للالتزام بآداب الخلاف مع الآخرين لم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) مع مخالفيهم على لغة الغض وعدم الردّ بالمثل، بل أمروا من حولهم من أتباعهم ومحبّيهم بالالتزام بنفس المنطق ما يدل على عظم خُلقهم وشدّة التزامهم بأدب الخلاف مع الآخرين. قاتله الله كافراً ما أفقهه روي أنه مرّت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ أبصار هذه الفحول طوامح وإنّ ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أهله فإنّما هي امرأة كامرأة. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه، فوثب القوم ليقتلوه، فقال علي (عليه السلام): رويدا إنّما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(8). مهلاً ياقنبر روي عن جابر قال: سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مهلاً يا قنبر دع شاتمك مُهاناً ترض الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه(9). اسمعوا ردّي عليه روي أنه وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل؟ وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه. قال: فقالوا له: نفعل ولقد كنّا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (وَالْكاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنين) (10)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً. قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثبا للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئا له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفا فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك. قال: فقبّل الرجل ما بين عينيه، وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به(11). أقول: ما أحوجنا اليوم مع تلاطم الفتن بنا وتظاهر الأمم علينا إلى هذا المنطق والأدب الرفيع الذي تعامل به أهل البيت (عليهم السلام) مع الآخرين لنكون كما أرادوا صلوات الله عليهم زيناً لا شيناً عليهم. ..................................... (1) سورة هود: 118. (2) سفينة البحار: 2/682. (3) توحيد المفضل: 42. (4) الكافي: 2/648. (5) بحار الأنوار: 41/146. (6) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 4/19. (7) بحار الأنوار: 46/289. (8) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 2/113. (9) أمالي الشيخ المفيد (رحمه الله): 118. (10) سورة آل عمران: 134. (11) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 2/146.