logo
الشريان والتراث العمراني

الشريان والتراث العمراني

الرياضمنذ 7 ساعات

في منتصف الثمانينات تقريبًا ظهر صوت قوي ومؤثر ينادي بالمحافظة على التراث العمراني، وكان ذلك الصوت هو الأمير سلطان بن سلمان، فبعد عودته من رحلة الفضاء عام 1986، وربما قبل ذلك، تشكل لديه تصور مختلف نحو "المكان" بكل ما يعنيه من بشر وعمران وثقافة.. فما أسميه "ثقافة التراث" التي نعيشها حاليًا كان للأمير سلطان الدور الأبرز في خلقها..
كتب الإعلامي داود الشريان في تغريدة له قبل عدة أيام (18 من هذا الشهر) "باسم الحداثة المهندس السعودي يطمس ملامح القرى! في دول عربية كثيرة، وأخرى غربية كان المهندس حارسا للهوية المعمارية ومؤرخا للجمال المحلي، أما في السعودية، فقد أصبح كثير من المهندسين السعوديين مجرد مقاولي هدم، يباركون طمس الملامح، ويطاردون "الحداثة" بطريقة تثير الشفقة على ما آل إليه حالنا، ودورهم".. هذه التغريدة لقت رواجا بين المهتمين بالعمارة ووصلتني من أحدهم وكان ساخطا على رأي الشريان وقال "إنه ليس مطلعا على الموضوع وأدخل نفسه في موضوع شائك، حتى أنه لا يفرّق بين المهندس والمعماري، ولا يعرف التاريخ المهني الذي مر به المعماري والمهندس السعودي". قلت له إنها مجرد تغريدة ورأي حر من حق كل انسان أن يدلي بدلوه، والشريان أدلى بدلوه. قال: يفترض أنه إعلامي بارز وكثير من الناس يعتقدون أن ما قاله صحيح، والأمر غير ذلك. وأردف بقوله "الرأي مسؤولية وأمانة، وإذا كنت لا تعرف فخير لك الصمت".
يبدو لي أن الشريان لم يبذل الجهد الكافي، قبل كتابة تغريدته، التي يتهم فيها بشكل مباشر وصريح المهندس السعودي (ولعله يقصد المعماري الذي هو مسؤول عن قضية التراث العمراني وليس المهندس) ووصمه بأنه تخلى عن التراث وكان مجرد مقاول لهدم ذلك التراث وتدميره، سوف أتحدث عن تجربتي الشخصية التي تمتد إلى أكثر من 40 عاما وهي مقاربة لتجارب كثير من الزملاء في هذا المجال وسوف أعرج على جيل سبقنا وكان يواجه "المعاول" التي تحدث عنها الشريان لأنها لم تكن في يوم معاول حركها المعماري السعودي بل كان دائما في مواجهتها، لكنها ربما كانت أقوى منه لأنه كان في بداية تكوينه المهني. قبل ذلك يجب أن أشير إلى أن أول برنامج للعمارة كان في عام 1967م في جامعة الملك سعود وأول كلية عمارة كانت في جامعة الملك فيصل (الإمام عبدالرحمن بن فيصل حاليا) عام 1975م، أي بعد أن قامت كثير من الأمانات والبلديات بنزع ملكية وهدم العديد من أواسط المدن والقرى التراثية قبل أن يتكوّن أي جيل معماري مهني في المملكة، في تلك الفترة كان المجتمع السعودي، بما في ذلك المؤسسات الحكومية المسؤولة عن المدن، مرحب بالحداثة صاحبه نزوح كبير إلى الأحياء الجديدة وهجر مواقع التراث.
إذا لنقل إن الأساس الذي بنى الشريان تغريدته عليه لم يكن صحيحا، على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد بل إن ما قام به مجموعة من المعماريين السعوديين في نهاية السبعينات كان ملفتا فرغم أنه لم يتكون جيلا معماريا ناضجا، إلا أن الأوائل تنبهوا لهذا التدمير غير المبرر للتراث العمراني وحاولوا مواجهته ودراسة ما تبقى منه في تلك الفترة، من هؤلاء الدكتور صالح الهذلول الذي قدم أطروحته للدكتوارة عام 1980م وكانت حول المدينة العربية وتناولت مدينة الرياض والمدينة المنورة، وكذلك المعماري علي الشعيبي وغيرهم كثير الذين كانوا ينتمون إلى جيل السبعينات وتطور لديهم وعي عميق بأهمية التراث العمراني وضرورة المحافظة عليه وهم يرونه يدمّر أمام أعينهم. في تلك الفترة، أقصد مطلع الثمانينات، تطور جدل عميق بين المعماريين والأكاديميين السعوديين حول الهوية وعلاقتها بالتراث العمراني وسُطّرت العديد من الدراسات وأبحاث الدكتوراة والمقالات حول التراث العمراني. لكن يجب أن نفرّق بين ما يستطيع أن يصنعه المعماري والأكاديمي وبين القرارات التي تتخذها مؤسسات الدولة من خلال خططها التنموية التي كانت ترى أن إزالة التراث جزء من تلك الخطط. كانت هناك مقاومة وكان هناك تجارب ولم يكن المعماري السعودي راضيا عن تلك الإزالات أبدا.
في منتصف الثمانينات تقريبا ظهر صوت قوي ومؤثر ينادي بالمحافظة على التراث العمراني وكان ذلك الصوت هو الأمير سلطان بن سلمان، فبعد عودته من رحلة الفضاء عام 1986م، وربما قبل ذلك، تشكل لديه تصور مختلف نحو "المكان" بكل ما يعنيه من بشر وعمران وثقافة، أذكر أنه قال ذات مرة "عندما رأيت أراضي المملكة من الفضاء، تخيلت كيف أن آباءنا وأجدادنا عاشوا على هذه الأرض التي كانت تظهر أمامي كبقعة صغيرة". في نهاية الثمانينات اقتنى الأمير نخيل العذيبات في الدرعية ومنها تطورت أعظم تجربة محلية حية لمعايشة التراث العمراني والمحافظة عليه حتى اليوم، الأمير سلطان لم يكتفِ بخلق تجربة حية، بل شارك المهنيين والأكاديميين همومهم وأصبح رئيسا فخريا للجمعية السعودية لعلوم العمران في مطلع التسعينات من القرن الماضي ومن ذلك المنبر عمل على عدة مشاريع لإيقاف التخريب "البلدي" فتلك المؤسسات كانت تزدري التراث وكان يقول إنه "كنز" سوف يكتشفون قيمته في يوم ما. في تلك المرحلة نادي بدمج التراث العمراني في التعليم المعماري وعقد مع جمعية العمران عدة ورش لملتقيات شاركت فيها الجامعات. لا أستطيع أن أقول إن الوعي الإداري لدى الجامعات كان ناضجا تجاه التراث العمراني في ذلك الوقت لكن محاولات الأمير لم تتوقف حتى اليوم.
في عام 1996م أسس الأمير سلطان مؤسسة التراث، وهي لا تزال تعمل حتى اليوم وأسس معها جائزة الأمير سلطان للتراث العمراني، التي شرفت بأن أكون أحد أعضاء لجنتها العليا، وجميعها محاولات فردية لخلق وعي مجتمعي حول التراث، لكن النقلة الكبرى عندما أصبح الأمير أمينا عاما لهيئة السياحة عام 2001م ثم رئيسا لها بعد ذلك، فقد أسس برنامجا للمحافظة على القرى التراثية عام 2004م، قبل أن تنظم الآثار والتراث للهيئة عام 2008م، وأضيف برنامج آخر للمحافظة على أواسط المدن التاريخية ثم أُقرّ قانون الآثار والمتاحف والتراث العمراني عام 2015م، ولأول مرة على مستوى الدول العربية يطور قانون للتراث العمراني، ثم عمل على تطوير ميثاق التراث العمراني للدول العربية، وكنت ممثلا للهيئة في جامعة الدول العربية حتى أقر عام 2017م، على ما اظن، وتم تأسيس أول مرصد للتراث العمراني العربي في أول اجتماع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس. ولا يمكن أن أنسى رحلات الاستطلاع التي نظمتها هيئة السياحة والتراث لمواقع التراث الحية في العالم وكان الفريق يتكون من أمنا مناطق ورؤساء بلديات ومحافظين ومهنيين، فالأمير لم ينسَ معاول الهدم للتراث وأراد أن يغير تلك الثقافة من الداخل، من قلب المؤسسات التي أمرت بإزالته. هذا فيض من غيض ولا يتسع المقال للدخول في تفاصيل كثيرة ومهمة أسهمت دون شك في خلق ما أسميه "ثقافة التراث" التي نعيشها حاليا وكان للأمير سلطان الدور الأبرز في خلقها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

انطلاق النسخة الثامنة من برنامج "جسور" لتأهيل المبتعثين في مجالات التواصل الحضاري
انطلاق النسخة الثامنة من برنامج "جسور" لتأهيل المبتعثين في مجالات التواصل الحضاري

صحيفة سبق

timeمنذ ساعة واحدة

  • صحيفة سبق

انطلاق النسخة الثامنة من برنامج "جسور" لتأهيل المبتعثين في مجالات التواصل الحضاري

انطلقت مساء الجمعة الماضي، النسخة الثامنة من برنامج "جسور" الذي يهدف إلى تأهيل الطلبة السعوديين المبتعثين في مجالات التواصل الحضاري، وتعزيز الصورة الذهنية عن الثقافة السعودية، وذلك بالشراكة بين الملحقية الثقافية السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ومشروع "سلام" للتواصل الحضاري. شهد حفل الافتتاح بهذه المناسبة، حضور سفيرة خادم الحرمين الشريفين لدى كندا آمال المعلمي، والملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة وكندا الدكتورة تهاني البيز، إلى جانب عددٍ من المسؤولين والمختصّين في الشأنَيْن الثقافي والدبلوماسي. يستهدف البرنامج -الذي يستمر لمدة ثلاثة أيام- 144 مبتعثاً ومبتعثة من مختلف الولايات، إذ يقدّم نخبة من الخبراء والمتخصّصين في مجالات الاتصال والتفاعل الثقافي، سلسلةً من الجلسات التفاعلية وورش العمل التدريبية التي تعزّز مهارات الطلبة في الحوار الفعّال، وفهم الآخر، وتمثيل المملكة بصورة تليق بمكانتها الحضارية والإنسانية. وأكّدت الملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة وكندا الدكتورة تهاني البيز، في تصريحٍ لوكالة الأنباء السعودية بهذه المناسبة، أن برنامج "جسور" يُعد إحدى المبادرات النوعية التي تنسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030، من خلال الاستثمار في الكفاءات الوطنية، وتزويدهم بالأدوات المعرفية والتواصلية التي تعزّز حضورهم في البيئات الدولية. يُذكر أن برنامج "جسور" يُعد إحدى المبادرات الإستراتيجية التي أطلقها مشروع "سلام" للتواصل الحضاري، ويُنفذ بالتعاون مع الملحقيات الثقافية؛ ويهدف إلى تمكين المبتعثين من أداء دورهم كسفراء ثقافيين لبلادهم، وتعزيز إسهاماتهم في تصحيح المفاهيم عن المملكة في المجتمعات التي يعيشون فيها.

الأزمة تتصاعد.. أسرة محمود عبدالعزيز تطالب بوسي شلبي بتعويض 10 ملايين
الأزمة تتصاعد.. أسرة محمود عبدالعزيز تطالب بوسي شلبي بتعويض 10 ملايين

عكاظ

timeمنذ 4 ساعات

  • عكاظ

الأزمة تتصاعد.. أسرة محمود عبدالعزيز تطالب بوسي شلبي بتعويض 10 ملايين

تابعوا عكاظ على تصاعدت الأزمة بين أسرة النجم الراحل محمود عبدالعزيز والإعلامية بوسي شلبي من جديد، بعد أن تقدمت أسرة الراحل بدعوى قضائية تطالب فيها الإعلامية بدفع تعويض قدره 10 ملايين جنيه. وذكرت أسرة محمود عبدالعزيز في بيان رسمي أن بوسي شلبي شوّهت سمعة والدهم، من خلال الادعاء كذباً بأنها كانت زوجته، مستخدمة وثائق مزورة على حد وصفهم. واستمعت جهات التحقيق بمصر قبل عدة أيام لأقوال بوسي شلبي في واقعة اتهامها من أسرة الفنان الراحل بتزوير الهوية الشخصية، والقيد العائلي، وجواز السفر. ‏وبدأت الأزمة بين بوسي شلبي وورثة الفنان الراحل في فبراير الماضي، حينما نفت بوسي الأقاويل المتداولة التي تفيد بطلاقها من محمود عبدالعزيز في العام نفسه الذي شهد زواجهما قبل 27 عاماً. أخبار ذات صلة واكتشفت بوسي شلبي وثيقة طلاقها أثناء وجودها في إحدى المصالح الحكومية لتغيير بيانات هويتها الشخصية، لكن المسؤولين أخبروها أنها مطلّقة من الفنان الراحل قبل سنوات، الأمر الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي. ومن جانبها، أصدرت أسرة الفنان الراحل محمود عبدالعزيز بياناً رسمياً باسم الورثة تعلن من خلاله مقاضاة بوسي شلبي، بعدما ادعت الزواج منه حتى أيامه الأخيرة، الأمر الذي نفته أسرته ووصفته بـ«الأكاذيب والافتراءات» وأنه عارٍ تماماً من الصحة. ‏وشدّد البيان على احترام الأسرة الكامل للقانون، مشيراً إلى أن ما يُثار عبر بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل لا يمتّ للحقيقة بصلة، وأنهم لن يصمتوا مجدداً أمام محاولات الإساءة لاسم الفنان الكبير. /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;}

حسين عبدالمطلوب «أبو هلال».. نغمة الوفاء في وجدان الذاكرة الشعبية
حسين عبدالمطلوب «أبو هلال».. نغمة الوفاء في وجدان الذاكرة الشعبية

عكاظ

timeمنذ 6 ساعات

  • عكاظ

حسين عبدالمطلوب «أبو هلال».. نغمة الوفاء في وجدان الذاكرة الشعبية

تابعوا عكاظ على حين يُروى تاريخ الفنون الشعبية في المملكة، لا بد أن يمرّ من عند «أبو هلال» حسين عبدالمطلوب، الرجل الذي لم يكن مجرد فنان أو قائد فرقة، بل ذاكرة حية نابضة بالولاء للتراث وصدق الانتماء للناس. هو أحد أولئك الذين لم ينتظروا تكريماً، بل عاشوا ليخدموا التراث بروح المحب، ويمنحوه من حياته، حتى أصبح اسمه مرادفاً للأصالة. أسس فرقة «أبو هلال» للفنون الشعبية، كأول فرقة خاصة تنهض بحمل الإرث الشعبي، وتمثِّل المملكة في محافل ثقافية كبرى داخل وخارج الوطن. من الجنادرية إلى الأيام الثقافية، ومن معارض المملكة إلى حفلات الأعياد، كان أبو هلال سفيراً غير رسمي للفرح الشعبي، ينقله بأمانة وحب، مؤمناً بأن ما يغذّي الوجدان يجب أن يُصان ويُروى للجيل الجديد. في ملامحه البسيطة، وأسلوبه الدافئ، سكن قلوب الناس. وفي سعيه الدؤوب لصون التراث، غدا أحد أعمدته. ورغم وطأة المرض الذي أثقله في السنوات الأخيرة، ما زال حضوره المعنوي عالياً في كل من لمس أثره أو سمع بإبداعه. ولأن الذاكرة الشعبية لا تُفرّق بين من غنّى للحب أو للوطن أو لناديه، فقد وجد فيه محبو نادي الاتحاد أيضاً رمزاً للوفاء والانتماء. لكنه في جوهره، كان ملكاً للناس جميعاً، صديقاً للفرح الجماعي، وراوياً بلسان الطرب الحركي والوجد الغنائي لذاكرة السعوديين. اليوم، يقف الكثيرون بصمت أمام خبر معاناته، وقلوبهم تلهج بالدعاء له، كما لو أن نغمة من نغمات التراث الأصيل باتت حزينة. فالشفاء له، ليس شفاءً لشخص، بل لجزء من روحنا الجماعية، التي أحبّته دون أن تطلب شيئاً، فقط لأنه كان صادقاً.. محبوباً.. وبسيطاً كما ينبغي للرموز أن تكون. أخبار ذات صلة /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} حسين عبدالمطلوب

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store