
هل تصمَم المنتجات كي لا تدوم طويلاً؟
كنت في زيارة إلى والدتي مؤخراً، ولفت انتباهي ماكينة الخياطة التي اشترتها قبل أكثر من أربعة عقود، والتي لا تزال تعمل على أكمل وجه – ويحتاج حملها إلى قوة بدنية لا بأس بها. وها هي المروحة صفراء اللون لا تزال تلطف أجواء الصيف الحارة رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على اقتنائها. الثلاجة، وموقد الغاز وغيرهما، كلها لا تزال بحالة جيدة رغم قدم طُرُزها – بينما بلوغ أي من الأجهزة في منزلي عامه العاشر بات هو الاستثناء.
فما الذي حدث؟ هل يعمد المصنعون إلى تصميم منتجات بحيث يكون عمرها قصيراً؟ ولماذا أصبح من الصعب إصلاح بعض الأجهزة؟ هل يمكن تفسير ذلك بالممارسة التي تعرف بـ 'التقادم المخطط له' (planned obsolescence)؟ وهل صرنا نسارع إلى تغيير ما نمتلكه من مقتنيات حتى وإن لم يكن بها عيب؟ وما تأثير ذلك على البيئة؟
مشكلة مصابيح الكهرباء
في بداية القرن العشرين، واجه أعضاء اتحاد مصنّعي المصابيح الكهربائية الذي كان يعرف باسم 'اتحاد فيباس' Phoebus cartel مشكلة تتمثل في أن تلك المصابيح تدوم لفترات طويلة، فقرروا تقصير العمر الافتراضي لتلك المصابيح إلى متوسط 1000 ساعة من أجل زيادة المبيعات. الشركات التي كانت تخالف تلك 'المعايير' كان يتم تغريمها.
ورغم أن بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 أذنت بنهاية ذلك الاتحاد لأنها جعلت من المستحيل على أعضائه مواصلة التنسيق فيما بينهم، فإن ذلك لم يؤد إلى تغيير الطريقة التي باتت تصنع بها المصابيح التقليدية.
يعتبر هذا مثالاً على تصميم منتجات قصيرة العمر عمداً، وهو ما يشير إليه مصطلح 'التقادم المخطط له' الذي تتحدث مصادر عديدة عن أن أول من استخدمه كان سمسار العقارات الأمريكي، برنارد لندن، ضمن ورقة بحثية عام 1932 بعنوان 'إنهاء الكساد من خلال التقادم المخطط له'.
اقتراح لندن كان يهدف بالأساس إلى تحفيز الاقتصاد والقضاء على الكساد وخلق وظائف جديدة من خلال تشجيع الناس على شراء سلع ومنتجات جديدة تحل محل منتجاتهم القديمة، حيث كان يأسف لضعف الإقبال على السلع الجديدة 'لأن الناس يتمسكون بأشيائهم القديمة البالية ويحتفظون بها لفترة أطول مما ينبغي'. لكن الفكرة تطورت وأصبحت ممارسة يعمد إليها المصنعون لزيادة أرباحهم.
ربما يبدو استبدال السلع والمنتجات طوال الوقت، وشراء أشياء غير ضرورية شيئاً عادياً في العصر الحالي، لكن الأمر لم يكن كذلك في الماضي. فقد كانت الخامات أعلى تكلفة، ويتطلب إنتاجها الكثير من الوقت والجهد، وكان يُعد التوفير وتجنب الهدر من الفضائل.
انتشرت النزعة الاستهلاكية (consumerism) ومفهوم الاستهلاك على نطاق واسع (mass consumption) في الولايات المتحدة خلال عشرينيات القرن الماضي، وتعمقت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فالمنتجات التي كانت في السابق متاحة لعدد محدود من الأشخاص نظراً لارتفاع أسعارها وندرتها باتت في متناول الطبقة المتوسطة.
وشهد الاقتصاد الأمريكي نمواً بمعدل أسرع من معدل الزيادة السكانية، وأصبح المعروض من السلع أكثر من احتياجات السكان. ووجدت القيادات الاقتصادية أنفسها أمام خيارين: إما تخفيض الإنتاج أو زيادة الاستهلاك لتحفيز النمو الاقتصادي، فلجأت إلى الخيار الثاني.
ابتكر خبير الإعلانات الشهير إرنست إلمو كالكينز مصطلح 'هندسة المستهلك' الذي يشير إلى وسائل التأثير على سلوك المستهلكين لخلق الطلب على السلع والبضائع وزيادة الاستهلاك، بما في ذلك ما وصفه بـ'التقادم المصطنع'. وها نحن نتعرض منذ عقود لوابل تلو الآخر من الإعلانات التي تشجعنا على اقتناء أحدث الطرز وآخر الصيحات، وتحاول إقناعنا بأن النسخة الجديدة من المنتج أفضل من النسخة السابقة، وهو ما يطبّع ثقافة الهدر والتخلص من الأشياء.
زيادة المبيعات ومن ثم الأرباح ليست السبب الوحيد. أحياناً يكون السبب هو الرغبة في إنتاج بضائع خفيفة الوزن أو صغيرة الحجم على سبيل المثال، وهو ما قد يعني اختيار خامات تؤدي إلى متانة أقل وعمر أقصر.
تقليل النفقات من خلال استخدام مكونات أقل جودة، أو التعهيد الخارجي (outsourcing)، قد يكون له دور كذلك.
لكن هل تصمم الشركات المصنعة منتجاتها بطريقة تجعل أعمارها الافتراضية قصيرة؟
يقول البروفيسور جوش لِباوسكي أستاذ الجغرافيا بجامعة ميموريال أوف نيوفاوندلاند بكندا، الذي له عدة مؤلفات تتناول التجارة العالمية في النفايات الإلكترونية، وتأثير تلك النفايات على البيئة والصحة، إن 'من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ إنه من الناحية القانونية، يجب إثبات أن الشركة المتهمة بالتقادم المخطط له فعلت ذلك عن عمد، وهذا شيء ليس بالسهل'.
يضيف لِباوسكي:'ما من شك في أن نماذج أعمال العديد من العلامات التجارية قائمة على شراء الأفراد للإصدارات الجديدة للأجهزة، حتى ولو كانت أجهزتهم الحالية تعمل جيداً من الناحية التقنية. من منظور بيئي، أكثر جهاز 'مستدام' هو الجهاز الذي تمتلكه بالفعل.
وكلما طالت مدة استخدامك له، كلما أسهمت في الحفاظ على الطاقة والمواد التي استخدمت في صنعه. عندما يكون نموذج عمل الشركة قائماً على النمو، يكون هناك حافز لتقصير عمر استخدام الجهاز، وهو ما يؤدي إلى زيادة الطلب على الطاقة، والخامات اللازمة لتصنيع نماذج جديدة'.
كثيرا ما يضطر المستهلكون، ولا سيما في البلدان الغنية، إلى شراء منتج جديد بدلاً من إصلاح منتجهم القديم لارتفاع سعر تكلفة الإصلاح أو استحالته، أو لعدم سهولة الحصول على قطع الغيار أو الأدوات اللازمة، ولا سيما في حالة الأجهزة الإلكترونية. يؤدي ذلك إلى أن يصبح من الأرخص أو الأسهل شراء منتج جديد، وهو ما يؤدي بدوره إلى استهلاك مفرط للمصادر وزيادة النفايات الإلكترونية.
كان ذلك هو السبب الرئيسي وراء ظهور حركة 'الحق في الإصلاح' (Right to Repair) في الولايات المتحدة، التي تدعو إلى أن يكون للمستهلكين الحق في إصلاح منتجاتهم بأنفسهم، أو اللجوء إلى فنيين مستقلين، بهدف تعزيز الاستدامة ومواجهة ثقافة التقادم المخطط له.
اكتسبت هذه الحملة زخماً في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، وانتشرت في مختلف أنحاء العالم، لا سيما مع التعقيدات المتزايدة لتصميمات الأجهزة الإلكترونية التي باتت تحتوي على مكونات ملكيتها حكر على الشركة المصنعة، أو تحتوي على أقفال برمجية وغيرها من القيود الرقمية التي تمنع إصلاحها من قبل أطراف خارجية.
تقول البروفيسورة أليكس سيمز، أستاذة القانون التجاري بجامعة أوكلاند بنيوزيلاندا، لبي بي سي عربي إن ' الحق في الإصلاح لا يقتصر على المنتجات التالفة، بل يشمل أيضاً القدرة على استعمال المنتجات. حالياً، يتزايد إدماج البرمجيات في الكثير من المنتجات، التي من الممكن أن تُستغل في منع الناس من استخدامها بشكل كامل أو جزئي – على سبيل المثال، الطابعات التي تتوقف عن العمل إذا لم تدفع الاشتراك. أو سيارات تسلا التي لا تجر عربة مقطورة إذا لم يُستخدم قضيب قطر مصرّح به'.
تضم الحركة حالياً عشرات المنظمات غير الحكومية والجماعات التي تطالب بسن تشريعات تعزز الحق في الإصلاح – وقد نجحت بالفعل في إقناع المشرعين في عدد من الولايات الأمريكية والاتحاد الأوروبي بإصدار قوانين وقواعد في هذا الشأن، أو تنشر كتيبات إصلاح إلكترونية مجانية لعدد كبير من المنتجات، من الملابس إلى الأجهزة الإلكترونية والسيارات والمعدات الطبية وغيرها. من بين المواقع التي تقدم هذه الخدمات IFixit وThe Restart Project.
وقد قوبلت الحركة بمقاومة من الشركات المصنعة، وبعض جماعات حماية المستهلك تركزت حول مخاوف تتعلق بالأساس بالسلامة والأمن وحقوق الملكية الفكرية.
تقول سيمز إن ' الاعتراض الرئيسي هو مدى سلامة عملية الإصلاح إذا نفذها أشخاص غير معتمدين. لكن هيئة الإنتاجية الأسترالية على سبيل المثال بحثت في هذا الموضوع وتوصلت إلى أنه ليست هناك خطورة متزايدة، بل إن عدم السماح لأشخاص غير معتمدين من الممكن أن يكون أكثر خطورة في بعض الحالات لأن ذلك يدفع الناس إلى محاولة إصلاح الأجهزة بأنفسهم من دون أن يكون لديهم المعرفة أو التدريب اللازمان. ينبغي التنبيه هنا إلى أن بعض المنتجات تحتاج إلى أشخاص محترفين لإجراء عملية الإصلاح، لكن الكثير منها لا يحتاج إلى ذلك'.
تكلفة بيئية باهظة
تشكل النفايات الإلكترونية مشكلة كبيرة نظراً لما تحتوي عليه من مواد ضارة بالبيئة وبصحة البشر إذا لم يتم التخلص منها بالشكل الصحيح. ولا شك أن قصر العمر الافتراضي للمنتجات، والرغبة في امتلاك طرز أحدث أو أكثر أناقة طوال الوقت تؤدي إلى تزايد تلك النفايات. بل إن بعض شركات التجزئة، ولا سيما تلك المتخصصة في مجالات كالأجهزة الإلكترونية والأزياء، تتخلص من منتجات بها عيوب بسيطة بدلاً من بيعها بأسعار أرخص، أو المنتجات التي لم تتمكن من بيعها للحفاظ على قيمتها وتفردها، أو لأن ذلك هو الخيار الأرخص.
يقول البروفيسور لِباوسكي: 'في الوقت الحالي، يتم إنتاج عدد من الأجهزة يفوق ما يمكن بيعه'، وإن تقديرات الاتحاد الأوروبي تشير إلى أن شركات التجزئة تدمر سنويات أجهزة إلكترونية جديدة تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
ويضيف أنه من بين الحلول الممكنة 'إلزام الشركات بتوزيع الأجهزة الفائضة على المؤسسات العامة مثل المكتبات'.
وقد بدأت بعض العلامات التجارية في مجال الأزياء بيع منتجاتها الفائضة لمتاجر التخفيضات، أو التبرع بها للمنظمات الخيرية أو إعادة تدويرها.
وتلفت البروفيسورة سيمز إلى أنه 'مقارنة بإعادة التدوير، فإن إصلاح المنتجات أفضل بكثير من حيث استهلاك الموارد، وأفضل للكوكب ولصحة الناس التي تعمل في مراكز إعادة التدوير. للأسف هناك أشخاص يفرطون في الاستهلاك ويشترون أجهزة جديدة رغم أن أجهزتهم لا تزال تعمل بشكل جيد. إذا ما تبرعوا بمنتجاتهم القديمة أو باعوها بأسعار رخيصة، وكان بالإمكان إصلاحها بتكلفة زهيدة، سوف يعني ذلك شراء عدد أقل من البضائع بشكل عام'.
قصر أعمار المنتجات مقارنة بالماضي ليس مجرد سوء حظ، بل نتيجة لنظام استهلاكي قائم على التبديل السريع والتحديث المستمر. وتحقيق مستقبل أكثر استدامة يتطلب أن يصمم المصنعون منتجات قابلة للإصلاح وتدوم لفترات أطول، وأن يعيد المستهلكون التفكير فيما يشترونه وما إذا كان بالفعل ضرورياً، وفي أثر ذلك على البيئة والصحة العامة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


نافذة على العالم
٣٠-٠٧-٢٠٢٥
- نافذة على العالم
نافذة بعد موجة تسونامي.. فيديو يرصد بلدة روسية تغمرها المياه
الأربعاء 30 يوليو 2025 05:20 مساءً نافذة على العالم - نشرت وسائل إعلام روسية، الأربعاء، لقطات لموجة تسونامي تضرب بلدة ساحلية في أقصى شرق روسيا، جارفة مبان وركاما في البحر. وضرب زلزال بقوة 8,8 درجات قبالة ساحل شبه جزيرة كامتشاتكا في أقصى الشرق الروسي في وقت سابق، ما أدى إلى عمليات إجلاء وصدور تحذيرات تسونامي في أجزاء من سواحل المحيط الهادئ، لكن السلطات في شبه الجزيرة أعلنت لاحقا رفع التحذير من تسونامي. وفي بلدة سيفيرو-كوريلسك الروسية التي تضم حوالى ألفي نسمة وتقع على بعد نحو 350 كيلومترا جنوب غرب مركز الزلزال، ضربت أمواج تسونامي منطقة الميناء وأغرقت معملا محليا للأسماك، بحسب السلطات. تقع البلدة في باراموشير، إحدى جزر الكوريل الواقعة جنوب شبه جزيرة كامتشاتكا. وأظهر مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي الروسية مبان مغمورة بمياه البحر في البلدة. وقالت السلطات إنه تم إجلاء سكان البلدة البالغ عددهم حوالي 2000 شخص. وبحسب رئيس البلدية ألكسندر أوفسيانيكوف، فقد وصلت الأمواج التي بلغ ارتفاع بعضها أربعة أمتار إلى نصب الحرب العالمية الثانية التذكاري في البلدة والذي يبعد نحو 400 متر من الساحل. وأوضح أن معظم أجزاء البلدة تقع على مرتفعات بمأمن من الفيضانات. وقال في اجتماع أزمة مع مسؤولين في وقت سابق: "تم إجلاء الجميع. كان هناك ما يكفي من الوقت، ساعة كاملة. تم إجلاء الجميع. جميع الناس في منطقة آمنة من تسونامي". وذكر الكرملين أن "جميع أنظمة التحذير" عملت بشكل جيد. وقال الناطق باسمه دميتري بيسكوف للصحفيين: "نحمد الله على عدم سقوط ضحايا". وكانت بعثة استكشافية من "الجمعية الروسية الجغرافية" في جزيرة شومشو المجاورة عندما جرف تسونامي مخيمها. وقالت فيرا كوستامو التي كانت ضمن البعثة لصحيفة "كومسومولسكايا برافدا" "عندما ضربت الموجة، كل ما كان بإمكاننا القيام به هو الهرب باتّجاه منطقة أكثر ارتفاعا. يصعب القيام بذلك بينما تنتعل حذاء ثقيلا على العشب الزلق وفي الضباب". وأضافت أن "الموجة جرفت جميع الخيام والأبنية وتناثرت متعلقاتنا على الشاطئ على مئات الأمتار". وتابعت: "لا ضحايا في صفوفنا، تحرّك الجميع بشكل سريع، لكننا خسرنا جميع متعلّقاتنا". وأعلنت السلطات في منطقة سخالين التي تشمل جزر كوريل الشمالية حال الطوارئ. وأفادت خدمة مراقبة الزلازل الإقليمية بأن الزلزال كان الأقوى في المنطقة منذ العام 1952، متوقعة "هزّات ارتدادية تصل قوتها إلى 7,5 درجات".


بوابة الأهرام
٢٤-٠٧-٢٠٢٥
- بوابة الأهرام
يا أهلا بالصيف والمصايف.. شباب آسيا وإفريقيا يمهدون طرق «بلطيم» سنة 1960.. و«جمصة» بـ « جنيهين » فى السبعينيات
بدأ الصيف وبدأت نهارات عطلته ولياليها. عفوا.. مفهوم طبعا أن فصل الصيف بدأ فلكيا فى 21 يونيو. وبدأ بالنسبة للبعض قبل هذا التاريخ أو بعده، وفقا لاشتداد موجات الحر المتتالية. أما الأكثرية، فاعتبروا أن لا صيف حل ولا عطلات مسموح بها، إلا عقب انتهاء آخر أيام اختبارات «الثانوية العامة» وإعلان نتائجها. وبما أن كل هذه الاعتبارات قد تمت مراعاتها، وكل الاشتراطات قد تم الوفاء بها، ورغم حديث مراحل التنسيق وملء استمارات الرغبات، فإن الصيف يحسم أمره بعدم الانتظار أكثر من ذلك.. فأهلا بالمصايف. فى مقدمة القائمة، ستكون هذه المصايف المصرية العريقة، التى قد يأتى الزمان بغيرها، لكن الجديد منها لا يزاحم مكانتها أبدا فى ذاكرة المصريين وقلوبهم. فى عدد 28 يونيو من العام الماضي، أفردت «وفقا للأهرام» لجوانب من تاريخ «رأس البر» ومراحل تطويرها، وهى واحد من هذه المصايف العزيزة على النفس والذاكرة. واليوم نفرد لاثنين من «مصايف العائلات» كما يطلق عليهما، وهما «بلطيم» و«جمصة»، وكيف كانت بعض فصول تطويرهما وما يعكسه تاريخهما من مراحل فى تاريخ البلاد وأهلها.. وذلك وفقا لما ورد فى «الأهرام». الحمار كان وسيلة انتقال رئيسية داخل «بلطيم» قبل وصول «الطفطف» فى الستينيات يظن البعض أن «بلطيم»، ربيبة «كفر الشيخ»، مصيف حديث نسبيا. ولكن ذلك ليس دقيقًا، فهناك ذكر لـ «بلطيم» على صفحات «الأهرام» منذ الأربعينيات. فقد كانت وقائع الحرب العالمية الثانية ( 1939- 1945) سببا فى التفات الكثيرين داخل مصر، وتحديدا من أبناء الطبقتين المخملية والوسطى، إلى جماليات المصايف المحلية، مثل «الإسكندرية»، و «رأس البر»، وغيرهما. وحفزت ظروف الحرب فى أوروبا كثيرًا من الأقلام على تشجيع أن تكون العودة إلى مصايف مصر، ليست بديلًا طارئا، بل خيارًا قائما ودائمًا. وأخذت فى تعديد أسباب تفرد هذه المصايف من جمال المنظر، وتنوع أسباب الترفيه، والعمل المستمر من أجل تطوير مقوماتها وبنيتها التحتية. والبائعات فى أثناء مرورهن على عشش «بلطيم» 120 «عشة» فقط وتمر الحرب، وتحجز «بلطيم» بشواطئها على ساحل «البحر الأبيض المتوسط» لنفسها مكانة واضحة مركز جديد للاصطياف، لكنه واعد. ففى مطلع الخمسينيات، وتحديدا فى عدد «الأهرام» المؤرخ بالعاشر من أغسطس 1951، ترد الأخبار حول تخصيص مبلغ ثلاثة آلاف جنيه من جانب «وزارة الاقتصاد» لتحسين مصيف «بلطيم». وفى صيف 1953، ومع بداية عهد سياسى واجتماعى جديد فى مصر إثر قيام ثورة 23 يوليو 1952، يتضح من خبر افتتاح الموسم الصيفى فى «بلطيم» أنه كان يضم وقتها 120 «عشة» فقط لاستضافة المصطافين، وإن أكدت التغطية «الأهرامية على توفر «وسائل الإضاءة والنظافة ومواد التموين». ولكن ذلك لا يكفي، فتوثق «الأهرام» فى 19 مارس 1959، القرار بتأليف « مجلس بلدي» فى بلطيم لتولى مهام النهوض بها ووضع التخطيط العمرانى الجديد لها. وأبرز هذه الخطوات المزمعة كان تخطيط المزيد من العشش والكبائن، ووضع تعريفة للمياه والكهرباء وتحديد إيجار المحال والمنشآت. والأجمل من هذه النهضة متعددة المعالم، هى الأخبار التى يأتى بها عام 1960 عن مشروع ضخم لإنشاء كورنيش «بلطيم» وشق طريق جديد يربطها بـ «المحلة»، فضلا عن رصف طرق هذا «المصيف» الهادئ. فتذكر «الأهرام» بتاريخ 24 مايو 1960 خبرا تحت عنوان « معسكر العمل ببلطيم يبدأ يوم 15 يونيو». ويتضح أن هذا المعسكر سوف يضم 1500 شاب مصرى يتطوعون على ثلاث دفعات للعمل فى جهود رصف طرق بلطيم وشق طريق جديد يربطها بـ «المحلة». ولاحقا، انضم للمتطوعين المصريين، عدد من الطلبة اليابانيين الذين كانوا فى زيارة مصر، فشمل جدولهم العمل ضمن معسكر «بلطيم» لمدة 24 ساعة وقضاء ليلتهم هناك باقتسام الخيام مع طلبة «الجمهورية العربية المتحدة». ولم يكن اليابانيون وحدهم، فقد شهد مشروع 1960 تطوع الفتيات والسيدات من مصيفات «بلطيم»، اللاتى تولين مسئولية «إعداد الطعام للمشتركين فى المعسكر والإشراف على أعمال التمريض». وعن أفواج التطوع هذه، يكتب الصحفى الأهرامى الكبير إحسان بكر تحت عنوان «آسيا وإفريقيا تلتقيان فى بلطيم»، ويوضح بتاريخ 22 سبتمبر 1960 أن شبابًا من 14 دولة يجسدون مبدأ التضامن الإفريقى الآسيوى فى «بلطيم». وأن المتطوعين شكلوا نسبة 70% مقارنة بالعمال المحترفين فى العمل بمشروعات الرصف وشق الطرق، وأنهم نجحوا فى رفع «عشرة آلاف متر مكعب من التراب». فالستينيات كانت أيضا موعد وصول «الطفطف» إلى «بلطيم»، وذلك استلهاما لتجربته الناجحة فى «رأس البر». وتوثق التغطية الإخبارية، إلى بـ «الطفطف» ليكون بدلا عن «الحمير» و«الخيول» والتى كانت الوسيلة الأساسية لنقل الأفراد والمواد حينها. وإن كانت الستينيات شهدت دخول «الطفطف»، فإن السبعينيات، وتحديدا عام 1971، شهدت تطور وسائل النقل بالمصيف، فتصبح حصيلتها، وهى التى تقدر مساحتها بحوالى 36 كيلو مترا مربعا، من سيارات الأوتوبيس 12، وتمتد ستة خطوط تليفون لتصلها بالقاهرة وعواصم المحافظات. منقذو شاطئ «جمصة» استعداد دائم من أجل صيف آمن - تصوير ـــ إميل كرم شركة عامة للإدارة: أما «جمصة» ، التابعة لمحافظة «الدقهلية» والتى تصل مساحتها إلى 23 كيلو مترا مربعا، فكانت بدايتها فى الستينيات، وبدايتها كانت قوية منظمة. فقد وثقت «الأهرام» فى العدد المؤرخ بـ 24 يونيو 1964 أنباء إنشاء شركة عامة لإدارة مصيف «جمصة» وذلك نقلا لذات التجربة القائمة فى «مدينة المعمورة». ويتضح بالمتابعة أن الشركة ستعمل على تطوير وإدارة «جمصة» لجعلها وجهة صيفية مثلى للمصريين. ومن أجل هذا التطوير، يبرز أيضا دور معسكرات الشباب التى يتصدى أفرادها فى عام 1964 لتنفيذ مهام متنوعة، من بينها تمهيد الطرق بالطبع، وكذلك المساهمة فى إنشاء المرافق والفنادق وتشجير المصيف. لكن هذه الجهود التى يفترض أنها رفعت من مستوى «جمصة» وفرص جذبها للمصيفين اجتمعت مع متغير حرب السنوات الست اعتبارا من «نكسة» 1967 وحتى حرب النصر والتحرير فى أكتوبر 1973. فقد شهدت خريطة السياحة الداخلية، تحولا منطقيا مع إغلاق «رأس البر» و«بورسعيد» أبوابهما. فكانت «جمصة» الخيار الأول لمصيفى المدينتين. لكن بمجرد عودتهما لفتح أبوابهما، كان الانصراف الكبير عن « جمصة» وذلك وفقا لما ذكره «الأهرام» بتاريخ 22 أغسطس 1974. فتحت عنوان «البلاجات فى أول صيف بعد الحرب: جمصة ضيعت مستقبلها»، ورد أن «جمصة» نالت من منح الطبيعة ودعم الدولة ما يزيد ويكفي. فقد اقترضت فى بدايتها مطلع الستينيات من «هيئة قناة السويس» مبلغ نصف مليون جنيه لتشييد 40 « فيلا» على الشاطئ. و«خزانة» الدولة تسدد عنها هذا المبلغ بواقع 70 جنيها سنويا. ثم إنها تتمتع بشاطئ عريض طوله 26كيلو مترا، و خليج بلا أمواج أو صخور، علاوة على كونها من أقرب الشواطئ إلى مصر(القاهرة) وأقل شواطئ «البحر الأبيض المتوسط» من حيث معدل الرطوبة. وتكاليف المعيشة فيها منخفضة، حتى إن الإقامة فى فنادقها تتكلف ما بين 25 قرشا وجنيهين ونصف الجنيه فى الليلة، وذلك كله وفقا لما ورد فى التحقيق الأهرامي. هذه الأسباب مجتمعة جعلت من صيف 1972 ما وصفته «الأهرام» بـ «الصيف الذهبي» فى تاريخ «جمصة» من حيث إقبال المصطافين المصريين ولإقامة مهرجان للسينما بحضور العديد من النجوم. كل ذلك كان وراء إيرادات خيالية تخطت الـ 80 ألف جنيه لهذا الصيف. ولكن العجز الذى يتجاوز 40 ألفًا بين الإيرادات والمصروفات، مع عدم توافر مسببات منطقية لهذا العجز، علاوة على عدم تنظيم عمليات التخطيط وحيازة الأراضي، كلها أسباب جعلت «جمصة» تواجه عودة التنافس مع «بورسعيد» و«رأس البر» فى منتصف السبعينيات بقلق بالغ. هكذا كان رأى «الأهرام» قبل أكثر من خمسة عقود. جلسة على شاطئ «جمصة» ويظهر فى الخلفية جانب من الكبائن الحديثة


خبر صح
٢٣-٠٧-٢٠٢٥
- خبر صح
رأس الحكمة.. تحول استراحة ملكية منسية إلى أكبر صفقة استثمارية في تاريخ مصر
من قرية ساحلية هادئة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، إلى استراحة ملكية ورئاسية غامضة، ثم إلى أكبر صفقة استثمارية في تاريخ مصر، تُعيد 'رأس الحكمة' كتابة تاريخها بشكل مثير، فخلف رمالها الذهبية، يختبئ تاريخ يمتد لآلاف السنين، مليء بالأطلال الأثرية ومحطات بارزة في الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى كونها وجهة سياحية واستثمارية واعدة. رأس الحكمة.. تحول استراحة ملكية منسية إلى أكبر صفقة استثمارية في تاريخ مصر من نفس التصنيف: القومي لعلوم البحار يؤكد عدم رصد أي ظواهر غريبة في البحر المتوسط 'ليومي أكتي': جذور رومانية عريقة ظهرت 'رأس الحكمة' كمدينة ساحلية مرفئية رومانية قديمة تُعرف باسم 'ليومي أكتي'، ومعناها 'القمة البيضاء'، ويُعتبر المؤرخ والجغرافي والفيلسوف اليوناني إسترابون (63 ق.م – 24 م) هو أول من حدد الموقع الجغرافي للمدينة في موسوعته الجغرافية الشهيرة 'الجغرافيا في سبعة عشر كتابًا'، حيث أشار إلى أن المنطقة كانت ميناءً لتصدير الغلال والحبوب في زمن الإمبراطورية الرومانية، وخاصة القمح، بالإضافة إلى الزيتون والنبيذ، حيث كانت المعاصر تنتشر بشكل كثيف هناك. يُشير إسترابون إلى أن المنطقة الممتدة إلى الشرق من 'ليومي أكتي' لم تكن تنتج نبيذًا جيدًا، حيث كانت جرار النبيذ تحتوي على مياه بحر أكثر من النبيذ، وكان يُطلق على نبيذها اسم 'النبيذ الليبي'، الذي كان أقرب إلى الجعة، وكان يُستهلك بكثرة من قبل سكان الإسكندرية في العصر الروماني، بينما كانت نبيذ منطقة 'انتيفيرا' (مارينا العلمين حاليًا) هو الأسوأ. مع انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية خلال عهد قسطنطين الأول، أُقيمت الكنائس في جميع أنحاء الإمبراطورية، وخاصة في مصر التي احتضنت العائلة المقدسة، وشهدت 'ليومي أكتي – رأس الحكمة' بناء العديد من الكنائس، واكتسب هذا الرأس البحري اسمه من تلك الكنائس، فعُرف بعد الفتح الإسلامي باسم 'رأس الكنائس' أو 'رأس كناليس'. مقال له علاقة: قفزة تاريخية لجامعة السويس في تصنيف U.S. News العالمي لعام 2025 الملك فاروق يغير الاسم ويشيد استراحة ملكية مع مرور الزمن، تحولت المدينة إلى ربوة مرتفعة تُشرف على الشواطئ الزرقاء الصافية للبحر المتوسط، وأصبحت الكنائس مجرد أطلال تعكس طابعها الديني، ولكن زيارة ملكية قام بها الملك فاروق الأول (1936-1952م) غيّرت واقع المدينة للأبد. يروي كريم ثابت، المستشار الصحفي للملك فاروق، تفاصيل المشهد في مذكراته 'فاروق كما عرفته'، حيث نشر فاروق أمامه خريطة كبيرة للصحراء الغربية، وأشار إلى ربوة تشرف على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مرسى مطروح، قائلاً: 'هذه ربوة لاحظت جمال موقعها الطبيعي وأنا أحلق بالطائرة فوق الصحراء الغربية، وقد قررت أن أبني عليها استراحة صغيرة لأستجم فيها من وقت لآخر'، وأضاف: 'إن اسم ذلك المكان كان رأس الكنائس فغيّرته إلى رأس الحكمة'، ويستطرد ثابت في مذكراته أن المكان كان رائعاً ولكنه كان منعزلاً عن العمران. 'رأس الحكمة': من الملكية إلى الرئاسة لنجيب على تساؤل متى قام فاروق ببناء هذه الاستراحة الملكية، ومتى غيّر اسم المدينة، نجد أن القاموس الجغرافي للبلاد المصرية من عهد قدماء المصريين إلى سنة 1945م لمحمد بك رمزي يشير إلى أن 'الكنائس' هي نجع واقع بشاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأقرب محطة له هي محطة أبي حجاج الواقعة على السكة الحديدية الموصلة من الإسكندرية إلى مرسى مطروح، وتقع هذه المحطة على بعد 238 كيلومتراً من مدينة الإسكندرية، وبين محطة أبي حجاج ورأس الكنائس يوجد طريق غير ممهد طوله 1 كيلومتر، وفي سنة 1941 صدر قرار بتسميتها رأس الحكمة. بنى الملك فاروق استراحته الملكية بعد عام 1941م، عقب قراره بتغيير اسم المدينة من 'رأس الكنائس' إلى 'رأس الحكمة'، وأمام الاستراحة خصص شاطئًا محاطًا بالصخور على شكل جزيرة ليكون مصيفًا للعائلة الملكية، وأطلق عليه أهالي المنطقة اسم 'حمام الأميرات'؛ لأن أميرات الأسرة المالكة كن يقمن بالاستحمام فيه. ظلت هذه الاستراحة الملكية بعيدة عن الأعين حتى 23 يوليو 1952م، التي أزاحت الستار عنها، وخصصت مجلة المصور تقريرًا عن رأس الحكمة نُشر في سبتمبر عام 1952م، حيث أشارت المجلة إلى أنها عبارة عن فيلا أنيقة أقامها فاروق في 'رأس الحكمة' على الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وأحاطها بـ'جنة' من أشجار الفستق والبندق واللوز والجوز، تمتد عبر مئات الأفدنة. وحول الفيلا، كان هناك مبنى آخر خُصص لرجال الحاشية، وجراجات للسيارات الملكية التي كان يستقلها الملك وضيوفه، وقد وُجدت سيارتان كبيرتان، إحداهما تسير على الماء كما تسير على اليابسة، بينما كانت الأخرى صالحة لتسلق المرتفعات، وذكرت 'المصور' في تقريرها أن الاستراحة كانت مزودة بمولد كهرباء وخزان مياه وبرج للحمام، وفيها غرفة خاصة للزهور. تحولت استراحة رأس الحكمة إلى استراحة رئاسية يرتادها الرؤساء، وتم فيها استقبال الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، والزعيم الليبي معمر القذافي، وغيرهما من الضيوف، كما كانت من وجهات الرئيسين السادات ومبارك خلال فترة حكميهما. بهذه الطريقة، يروي ماضي 'رأس الحكمة' منذ أن كانت مدينة رومانية قديمة تضم عشرات الكنائس، بينما يرسم حجم الاستثمار الحالي شكل تلك المدينة الذكية في المستقبل.