
رحلة اختيار بابا الفاتيكان.. تساؤلات وطقوس من الجنازة إلى الكونكلاف
بوفاة البابا فرنسيس (فرانشيسكو، أو خورخي ماريو بيرجوليو) في 21 أبريل 2025 عن عمر ناهز 88 عاماً، تكون الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قد دخلت مرحلة جديدة من تاريخها، وفيما تقررت جنازته السبت 26 أبريل، يُتوقّع أن يكون الحدث تاريخياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ليس فقط من الناحية الرمزية، بل أيضاً من حيث التداعيات السياسية والكَنسية التي ستترتب على انتخاب خليفته.
وقد بدأت التساؤلات طرح نفسها بشأن بابا الفاتيكان الجديد، هل سيتم انتخاب شخصية تقدمية تواصل النهج المنفتح الذي اعتمده البابا فرنسيس؟ أم يُصار إلى اختيار شخصية محافظة، تتبنى الشعارات التقليدية التي تُركز على العقيدة والانضباط الديني بمركزية القرار الكاثوليكي لدى الفاتيكان؟ وهل سيتم اختيار مُرشح آخر من الجنوب؟ أم تتم العودة إلى النهج التقليدي باختيار مؤهل من القارة العجوز أوروبا؟.
جنازة بابا الفقراء
كان البابا فرنسيس الأول الذي يأتي من الرهبنة اليسوعية وأول بابا من أميركا الجنوبية في تاريخ الكنيسة، وبالتحديد من الأرجنتين. وقد كرّس نفسه كنموذج للتواضع، حتى في وداعه الأخير وفي موته.
وأوصى بجعل جثمانه في متناول المؤمنين داخل كاتدرائية القديس بطرس منذ 23 أبريل، لا ليُدفن فيها بجوار البابوات الآخرين، بل أن ينقل جثمانه إلى بازيليك سانتا ماريّا ماجّوري، في العاصمة الإيطالية روما، ليدفن هناك، حسب وصيته. فهو، في الواقع، أسقف روما، وسيُدفن بجوار أيقونة "خلاص شعب روما" – Salus Populi Romani للسيّدة مريَم العذراء التي أحبَّها، والتي كان يعود إليها قبل وبعد كل زيارة من زياراته.
ومن المتوقع أن يتوافد الآلاف من مختلف أنحاء العالم لوداعه، على أن يترأس الكاردينال جوفان باتّيستا رِيْ، عميد مجمع الكرادلة، القداس الجنائزي في الساعة العاشرة من صباح السبت (بتوقيت روما) في ساحة القديس بطرس، بحضور أكثر من 200 ألف شخص، وعدد كبير من رؤساء وحُكام العالم، من بينهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والفرنسي إيمانويل ماكرون، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والبرازيلي لولا دا سيلفا والأسرة الملكية الإسبانية.
المجمع المغلق.. المواعيد والطقوس
تنص قوانين الفاتيكان الكنسية على أن يبدأ الكونكلاف (المجمع المغلق وهو الطريقة الرسمية والمعتمدة منذ القرن الـ12 لانتخاب بابا الكنيسة الكاثوليكية) ما بين اليوم الـ15 والـ20 بعد وفاة البابا. وبناءً عليه، سيُعقد المجمع لانتخاب البابا الجديد ما بين يومي 5 و10 مايو. وستسبقه جلسات تُعرف بـ"الاجتماعات العامة"، يشارك فيها جميع الكرادلة، بغض النظر عما إذا كان يحق لهم التصويت لانتخاب البابا الجديد أم لا، وذلك لمناقشة احتياجات الكنيسة، وصفات الحبر الأعظم المقبل.
وتُشكّل هذه الاجتماعات فضاءً للتأمل الروحي، لكن أيضاً تُعد مساحة للمداولات غير الرسمية والتحالفات، وتبادل التقديرات بين الكرادلة، قبل أن تُغلق أبواب كنيسة السيستينا، ويبدأ التصويت السري.
من ينتخب؟.. تركيبة مجمع الكرادلة
يتكوّن مجمع الكرادلة اليوم من 135 كاردينالاً يحق لهم الانتخاب، أي من تقل أعمارهم عن 80 عاماً، وينتمون إلى 71 بلداً. ومن اللافت أن 108 منهم قد تم تعيينهم من قبل البابا فرنسيس نفسه، مما قد يؤثر على مسار التصويت ويمنح استمرارية لنهجه.
ويتوزع الكرادلة وفق المناطق الجغرافية على النحو التالي: أوروبا: 59
الأميركيتان: 37 (منها 16 من أميركا الشمالية، 4 من أميركا الوسطى، و17 من أميريكا الجنوبية)
آسيا: 20
إفريقيا: 16
أوقيانوسيا: 3
ويعكس هذا التوزيع التحوّل نحو كنيسة عالمية التمثيل، غير متمركزة في الغرب كما كان الحال لقرون مضت.
أبرز المرشحين
رغم أن الكونكلاف يظل محاطاً بالسرية، إلا أن بعض الأسماء صارت تتردد، حتى قبل وفاة فرنسيس، فقد تداولت الأوساط الفاتيكانية ووسائل الإعلام خلال فترة رقاد البابا الراحل في المستشفى أسماءً مرشحة لحمل صولجان بطرس، ومن أبرز هذه الأسماء:
الكاردينال بييترو بارولين (إيطاليا): أمين سر دولة الفاتيكان، ورجل دبلوماسي بارع، يحظى باحترام واسع ويُمثل خطاً معتدلاً ومستقراً. عمره 70 عاماً.
الكاردينال لويس أنطونيو تاجلي (الفلبين): رئيس مجمع تبشير الشعوب، وكان سابقاً رئيس أساقفة مانيلا. يُعتبر واجهة الكنيسة الآسيوية وتلميذاً فكرياً وروحياً للبابا فرنسيس. عمره 67 عاماً.
الكاردينال ماتيو تسوبي (إيطاليا): رئيس أساقفة مدينة بولونيا الإيطالية، ورئيس مجلس الأساقفة الإيطالي، معروف بانفتاحه الاجتماعي ودعمه للسلام والشباب، وعمره 69 عاماً.
الكاردينال جان مارك أفيلين (فرنسا): رئيس أساقفة مرسيليا، صوت قوي في قضايا الهجرة والحوار بين الأديان. عمره 65 عاماً، وهو من مواليد الجزائر.
هل سيكون البابا من إفريقيا أو آسيا؟
ورغم صعوبة أو عدم احتمالية حدوث ذلك، فإن أسئلة حوله صارت تُطرح، بالذات بعد تكرار حالات انتخاب البابا من خارج دائرة التأثير الإيطالي، بالذات بعد صعود يوحنا بولس الثاني (البولندي كارول فويتيلا)، وبينيديكتس الـ16 (الألماني جوزيف راتزينغر)، وفرنسيس نفسه (الأرجنتيني خورخي ماريو بيرجوليو)، وبالتالي يُطرح سؤال جدّي: هل حان الوقت لانتخاب بابا إفريقي أو آسيوي؟
تُعد إفريقيا اليوم من أكثر القارات نمواً على المستوى الكنسي، وهي ممثلة في الكونكلاف بـ 16 كاردينالاً ناخباً. ومن أبرز المرشحين: فريدولين أمبونجو (الكونغو)، وبيتر توركسون (غانا). وسيكون انتخاب أحدهما بمثابة اختراق تاريخي.
أما في آسيا، يظل الكاردينال تاجلي أبرز الأسماء، حيث يتمتع بشعبية عالمية، ويجسد صورة كنيسة منفتحة على الثقافات غير الأوروبية.
ورُغم أن كل شيء ممكن الحدوث، إلا أن تحقق هذه الأماني يبدو، بعيد المنال، على الأقل الآن، فالمنصب كبير و"الكُرسي الرسولي" هامٌ للغاية على الصعيد الديني والجيوسياسي والاقتصادي كي يتخلّى الغرب عنه، بالذات في هذا المنعطف التاريخي الذي يمر به العالم، والذي أسماه فرنسيس بـ"الحرب العالمية الثالثة على أجزاء" منها.
وكما كان انتخاب كارول فويتيلا إيذاناً بانهيار جدار برلين، الذي قسّم أوربا بين غرب رأسمالي، وشرق شيوعي، ونهاية الاتحاد السوفياتي الذي كان يقود هذا الشطر، فإن وفاة البابا فرنسيس تأتي في وقت يتصاعد نفوذ اليمين المحافظ على الصعيد العالمي.
مع ذلك، تُشير بعض التقديرات إلى توزع نسب نجاح المرشحين المتنافسين على هذا النحو:
لويس أنطونيو تاجلي (الفلبين): 30 – 35٪
بييترو بارولين (إيطاليا): 25 – 30٪
ماتيو تسوبي (إيطال): 15 – 20٪
جان-مارك أفيلين وآخرون: 10 – 15٪
وبما أن التصويت سري وتوافقي، فقد تظهر مفاجآت في منتصف الطريق.
العمر عامل حاسم
يُعير الكرادلة أهمية كبيرة لعمر البابا القادم، فبعد فرنسيس الذي انتُخب في الـ76 من عمره، هناك توجه نحو اختيار بابا أصغر سناً (بين 65 و70 عاماً) لضمان فترة قيادة طويلة ومستقرة.
ومع ذلك، هناك من يُفضل بابا أكبر سناً كـ"مرحلة انتقالية" تُهدئ التوترات دون فرض تحولات كبرى.
ورغم الطابع السري للمَجْمَع، لا يخلو الأمر من بعض التأثيرات، إذ تلعب الدوائر الفاتيكانية الداخلية (الكوريا الرومانية، وهي الجهاز التنفيذي والاستشاري المكلف بمساعدة البابا على القيام بمهامه) دوراً خفياً من خلال الاتصالات الشخصية والحوارات خلال الاجتماعات العامة. وقد يميل بعضهم نحو مرشح يُعيد المركزية إلى إدارة الكنيسة بعد نهج فرنسيس اللامركزي.
أما مجلس الأساقفة الأميركي، فيمثله 16 كاردينالاً ناخباً، يتميز العديد منهم بنزعة محافظة، وقد يدعمون مرشحاً أكثر صرامة في المسائل الأخلاقية مثل الإجهاض، والمثلية، والانضباط الكنسي.
أي كنيسة بعد فرنسيس؟
تبدو الكنيسة الكاثوليكية اليوم عند مفترق طرق، فإما أن يتم انتخاب بابا يواصل نهج فرنسيس، أي ما يعني الاستمرار في مسيرة الانفتاح، والرحمة، والاهتمام بالمهمشين، وهو ما سينعكس في دعم كنائس الجنوب العالمي، وتوسيع دور المرأة، وتفعيل المجالس المحلية.
وإما أن يجلس على العرش بابا محافظ، وحينذاك سيعني العودة إلى المركزية، وتركيزاً أكبر على العقيدة والانضباط، ما قد يُرضي بعض الدوائر التقليدية، لكنه قد يُثير خيبة أمل واسعة في أوساط الشباب والتقدميين.
لحظة حاسمة
ما سيشهده كونكلاف 2025 يكون من أكثر الأحداث حساسية في تاريخ الكنيسة الحديث، لأن ما سيتمخّض عنه لن يكون مجرد انتخابٍ لخليفة القديس بطرس، بل تحديدُ ملامح الكنيسة لسنوات أو ربما لعقود قادمة.
كنيسة الرحمة أم كنيسة العقيدة؟ كنيسة الجنوب أم كنيسة المركز؟ كنيسة العالم أم كنيسة الغرب؟
وفي صمت كنيسة سيستينا، وتحت قبّتها الشهيرة التي رسمها مايكل أنجلو بوناروتي، سيُصوّت الكرادلة لاختيار من يحمل مفاتيح الكنيسة، ومعه آمال الملايين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الإمارات اليوم
منذ 25 دقائق
- الإمارات اليوم
بني ياس وكلباء يكتفيان بنقطة في ختام حصاد الدوري
اكتفى فريقا بني ياس وكلباء بنقطة التعادل الإيجابي 2-2، اليوم، على استاد الشامخة، ضمن الجولة الختامية لدوري أدنوك للمحترفين لكرة القدم، في مواجهة حملت طابع التوازن والرغبة في إنهاء الموسم بصورة إيجابية، لينهي بذلك «السماوي» الموسم في المركز الـ12 برصيد 27 نقطة، بينما حافظ كلباء على المركز التاسع برصيد 32 نقطة. ورغم أن المواجهة لم تكن مؤثرة على موقع الفريقين في جدول الترتيب بعد ضمان البقاء رسمياً، فإنها شهدت ندية وأهدافاً جميلة أسعدت الجماهير، في ظل تألق نجوم الفريقين لخوض اللقاء بدون أي ضغوط. وافتتح اتحاد كلباء التسجيل مبكراً في الدقيقة 25 عبر هدافه الإيراني المتألق مهدي قائدي من ركلة جزاء، مؤكداً من جديد تأثيره الكبير في صفوف «النمور» بعد موسم استثنائي سجل فيه 16 هدفاً وسبع تمريرات حاسمة. ومع بداية الشوط الثاني، عاد أصحاب الأرض إلى أجواء اللقاء، حين أدرك القائد فواز عوانه التعادل في الدقيقة 55 بضربة رأس متقنة استغل فيها عرضية زميله أندريه بوركا. وواصل بني ياس ضغطه الهجومي، لينجح بيرنارد فاي في تسجيل الهدف الثاني في الدقيقة 68 بعد هجمة منظمة أنهاها بتسديدة مباشرة داخل الشباك. وفي الوقت الذي فرض فيه بني ياس سيطرته على مجريات اللقاء بصورة أكبر استطاع كلباء أن يخطف هدف التعادل بواسطة شهريار موغانلو الذي أعاد المباراة إلى نقطة التعادل في الدقيقة 75، مستغلاً كرة مرتدة من الحارس فهد الظنحاني تابعها بتسديدة ناجحة إلى المرمى.


المشهد العربي
منذ 25 دقائق
- المشهد العربي
لجنة الاتصالات الفيدرالية تقبل استحواذ فيريزون على فرونتير
وافقت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية على صفقة بقيمة 20 مليار دولار تقضي باستحواذ شركة فيريزون كوميونيكيشنز على مزودي خدمات الإنترنت بالألياف الضوئية، فرونتير كوميونيكيشنز. وكانت فيريزون قد اتفقت على شراء فرونتير في سبتمبر الماضي مقابل حوالي 9.6 مليار دولار، بالإضافة إلى تحمل 10 مليارات دولار من ديون فرونتير. وأوضح بريندان كار، رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية، أن الموافقة على هذه الصفقة ستضمن استفادة الأمريكيين من سلسلة من المزايا، وستطلق مليارات الدولارات في مشروعات بناء بنى تحتية جديدة في مختلف أنحاء البلاد. وكان كار قد أعلن في فبراير الماضي عن فتح تحقيق مع فيريزون بشأن ترويجها لبرامج التنوع والمساواة والشمول، مشيرًا إلى أنها قد تكون عاملاً في صفقة فرونتير. وفي رسالة إلى كار اطلعت عليها رويترز، أكدت فيريزون أنها ستزيل موقعها الإلكتروني المخصص لـ "التنوع والشمول"، وستحذف الإشارات إليه من تدريب الموظفين، وستجري تغييرات أخرى على ممارسات التوظيف والتطوير المهني وتنوع الموردين والرعاية المؤسسية، كما أكدت أن جميع هذه الأحكام ستُطبق أيضًا على فرونتير.


جريدة الرؤية
منذ 25 دقائق
- جريدة الرؤية
اقتصادنا.. تحديات وآمال
حاتم الطائي ◄ انعكاسات الزخم الاقتصادي ما تزال غير ملموسة بالدرجة الكافية على المواطن ◄ مشروعات التطوير العقاري والسياحي تفتح الباب أمام مزيد من الاستثمارات النوعية ◄ لا بُد من التخلي عن ثقافة العمل الريعي والاتكالية وتمجيد السلبية والتوجه نحو الإنتاجية والإنجاز لا أحد يُنكر الزخم الذي يكتسبه اقتصادنا الوطني عامًا وراء عام، وما نُحققه من مُنجزات على صعيد الاقتصاد الكُلي من نمو في الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي واستقرار معدلات التضخم، وغيرها من المؤشرات، علاوة على التحسُّن الواضح في المالية العامة مع نجاح خطة التوازن المالي في ضبط الإنفاق العام وزيادة الإيرادات وخفض العجز المالي، والذي تحوَّل إلى فائض مالي خلال السنتين الماليتين الأخيرتين، مع تقديرات بمواصلة تحقيق هذا الفائض المالي في الموازنة العامة للدولة للعام الجاري 2025. لكن في المُقابل، فإنَّ انعكاسات هذا الزخم الاقتصادي على معيشة المواطن ما تزال غير ملموسة بالدرجة الكافية، ما يؤكد أنَّ ثمّة خللٍ يواجه النموذج الاقتصادي والتنموي الذي نسير عليه، ليس فقط من حيث تأثيراته على الحياة اليومية للمواطن، ولكن أيضًا فيما يتعلق بمعدلات نمو بعض المؤشرات، وفي مُقدمتها مؤشر الباحثين عن عمل الذي ما يزال يُراوح مكانه، فأعداد الباحثين عن عمل ما تزال مُرتفعة، وما يتم توفيره من وظائف كل عام لا يتماشى أبدًا مع العدد المُتزايد من الخريجين، أضف إلى ذلك أعداد المُسرَّحين من أعمالهم، وإن كانوا لا يمثلون عددًا كبيرًا، لكنهم يضيفون إلى العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل، وهو المسمى الذي يجب أن نستخدمه بكل واقعية. نقول ذلك، وقد شهدنا خلال الأسبوع الماضي إطلاق حُزم من المشاريع العقارية والسياحية العملاقة، والتي تستقطب استثمارات بأكثر من 2.3 مليار ريال، تتضمن إنشاء مُدن ذكية ومشروعات عقارية وسياحية، يُنفذها أكبر المطورين العقاريين على مستوى الشرق الأوسط، ومن المؤكد أنَّ هذه المشاريع ستضُخ دماءً جديدة في شرايين اقتصادنا الوطني، وستعمل على توفير المزيد من فرص العمل للشباب، وستُحدث انتعاشة مأمولة، خاصة وأن الاستثمار في القطاع العقاري يُعد الأكثر أمانًا، لما يُحقِّقه من قيمة مضافة؛ سواءً للمالك (المستثمر) أو المنظومة الاقتصادية ككُل، علاوة على أنَّ هذه المشاريع تُسهم في تطوير العديد من المناطق، وتُحقق الاستغلال الأمثل لما يملكه وطننا الحبيب من مقومات. ولا ريب أنَّ مشروع "الجبل العالي" في الجبل الأخضر وما يُتيحه من إمكانية التملك الحُر، سيلقى الكثير من النجاح؛ كون ولاية الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية، منطقة استثنائية على مستوى دول الخليج، من حيث اعتدال الطقس وما تنعم به من هدوء في أحضان الطبيعة الخلابة، وسيكون "الجبل العالي" أهم منتجع سياحي في دول الخليج قاطبةً، وسيُنافس كل المنتجعات السياحية، ليس مستوى دولنا فقط، ولكن على مستوى الشرق الأوسط وآسيا، خاصة في ظل المعايير العالمية التي سيتم تنفيذ المشروع وفقها، وما يتضمنه من منتجات تُلبي احتياجات الأفراد، سواء من الوحدات السكنية أو الترفيهية. لقد كتبنا كثيرًا عن ضرورة تحقيق التنمية السياحية في الجبل الأخضر، وأهمية تحويل هذه الجنَّة الخضراء إلى منتجعات سياحية ومجمعات سكنية مُتكاملة، لكي نُحقق التنمية المُستدامة والشاملة، ويستفيد أبناء الجبل الأخضر من هذه التنمية، في صورٍ عدة. ومثل هذه المشاريع لا تخدم جهود التنمية وحسب؛ بل إنها تفتح الباب أمام جذب المزيد من الاستثمارات، وتنويع المشاريع، والعمل على التوجه نحو نموذج أكثر تطورًا واستدامةً في التنمية السياحية والعقارية؛ الأمر الذي سيعود بالنفع على اقتصادنا الوطني، ويخلق المزيد من فرص العمل، ويضمن توسعة القاعدة الاقتصادية للقطاع الخاص. ونظرًا لأنَّ الاقتصاد يعمل وفق تأثير "الدوائر المترابطة" التي تتأثر ببعضها البعض، فمن الضروري العمل على مواجهة التحديات التي تواجه تمكين القطاع الخاص، مثل: تبسيط الإجراءات وإتاحة التمويل منخفض التكلفة عبر طرح حلول تمويلية بأسعار فائدة لا تتعدى 3%، حتى يتمكن هذا القطاع الحيوي من النهوض بمسؤولياته في بناء الوطن وخلق فرص العمل للشباب، وهي القضية الأكثر إلحاحًا؛ إذ إنه رغم ما أطلقه البنك المركزي العُماني، مشكورًا، من مبادرات طموحة، إلّا أنَّ القطاع الخاص يترقب المزيد من التفاصيل والآليات للاستفادة من هذه المبادرات الطموحة، والتي تعوِّل عليها الشركات كثيرًا من أجل تحقيق الانتعاشة المأمولة. ومن بين الحلول التي نأمل اتخاذها لإنعاش الاقتصاد، ضرورة مواصلة زيادة رأس مال بنك التنمية؛ حيث إن الزيادة التي شهدها خلال العام الماضي، يجب أن تتبعها زيادات تُسهم في تذليل عقبات التمويل وإتاحته أمام أكبر عدد ممكن من المستثمرين، وأداء دوره الوطني كمموِّل للمشاريع التنموية. كما يتعين العمل على تحديث التشريعات بصفة مستمرة، لضمان مواكبتها للمتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية، والتي بدأت تؤثر على اقتصادنا، دون أن يكون لنا أي علاقة بها. ولا شك كذلك أن أي قرار اتُخذ خلال الفترة الأخيرة، لم يخدم الصالح العام ولا بيئة الاستثمار، يجب التراجع عنه فورًا، والبحث عن حلول بديلة، لا سيما القرارات الشعبوية التي لم تهدف إلّا إلى إلقاء مزيد من الأعباء على القطاع الخاص، ولا سيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي أُجزمُ أنها إذا ما كانت مُستعدة بالدرجة الكافية لتوظيف الباحثين لسارعت إلى ذلك دون تردد. وهُنا، أهمسُ في أذن الشباب وكذلك المسؤولين، بأهمية تغيير ثقافة العمل، من خلال تبنِّي مفهوم مُغاير للعمل، يقوم على تقديس قيمة العمل، وترسيخ المهنية والجودة في كل تفاصيل أعمالنا. كما أُسدي النصح إلى أصحاب الأعمال- وتحديدًا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة- بأن يبتعدوا عن ثقافة العمل الريعي الذي لا مجهود فيه، وأن يتجهوا إلى العمل القائم على العطاء اليومي والإنتاجية، وهذا يتطلب الكف عن تمجيد التفكير السلبي والاتكالية، كما يجب على أصحاب المشاريع أن يبتعدوا عن المظاهر والشكليات والزخرفة التي لا تُضيف لمعنى الحياة أي جديد. وفي هذا السياق، ومن موقعي في عالم الإعلام، أؤكد أنَّ لوسائل الإعلام دور فاعل للغاية في إبراز قصص النجاح التي تقوم على الجدية والمثابرة في العمل، ولنا مثال بتجربة شباب نزوى في تطوير "حارة العقر" وتحويلها من خرابات إلى نقاط جذب سياحي، وفرص عمل للشباب، ونأمل أن تكون نموذجًا يُحتذى به في تطوير المواقع التراثية والاستفادة منها في تحقيق عائد اقتصادي مُجدٍ في مختلف الولايات. وعندما نتحدث عن الولايات والمُحافظات، لا بُد من الإشارة إلى أدوار المُحافظين في إدارة الملف الاقتصادي وتطوير اقتصاد المحافظات بما يُلبي الطموحات؛ حيث إنَّ كل محافظة تتمتع بميزة تنافسية، ما يُسهم في خلق التكامل الاقتصادي بين المحافظات. وفي هذا الإطار، لا بُد من بذل كل الجهود من أجل التخلص من البيروقراطية، والتركيز على الإنجاز الحقيقي، وأن يخرج المسؤولون من مكاتبهم وينتقلون إلى أرض الواقع لمتابعة أنشطة مؤسساتهم التي يُديرونها، خاصةً وأنا نُعاني من تضخم الإجراءات الإدارية على حساب الإنجاز. وعلى صعيد التعاون الدولي، نؤكد مُجددًا أنَّ الدبلوماسية الاقتصادية التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- تُحقق نجاحات غير مسبوقة، لكن في الوقت نفسه على الوزارات المعنية الاستفادة من مذكرات التفاهم واتفاقيات التعاون التي نوقعها مع مختلف الدول، وكذلك الحال بالنسبة للتحالفات الاقتصادية الدولية، من خلال تعزيز التعاون مع عدد من المجموعات والتحالفات الدولية، مثل مجموعة آسيان، و"بريكس" وغيرها، لتعميق الأداء الاقتصادي. ويبقى القول.. إنَّ مواجهة التحديات ضرورة وطنية، تستلزم تكاتف الجهود والسعي الحثيث من أجل تنفيذ مُستهدفات رؤية "عُمان 2040"، وذلك يتطلب إرادة صلبة وجدية في العمل، من أجل بناء اقتصادنا، خاصة وأنَّه صغير نسبيًا، ما يعني وجود فرص هائلة من أجل التطوير والنهوض الحقيقي به، لضمان تنوُّعه واستدامته.