معرض بيروت للكتاب: تبدّل طقوس القراءة وعلاقتنا بالأشياء
في الزيارة التي قمت بهما إلى المعرض، شعرتُ بتبدّل الأشياء أو بتبدل علاقتي بالأشياء والأمكنة والأشخاص والكتب. ثمّة انقلاب في المزاج. طفح ذكريات لأشخاص غادروا، وامتلاء من الكتب. لم تقلّ قراءاتي عموماً، لكن طقسها تبدل. لقد انتهى زمن البطء، والركون إلى شاشة اللابتوب هو الوجهة الجديدة. قراءة عشرات المواضيع، ومشاهدة مئات الأفلام القصيرة، أمور تساهم بقوة في تهميش دور الكتاب وشكله.
في زيارتي الأولى إلى المعرض، ركنتُ السيارة في مرآب قريب جداً من البحر، وتقصدت ركنها في هذا المكان لأرى الزرقة العميقة. مشهد فيه شيء من التصوف والانفراج والتأمل والسفر الروحي. مشهد يستدعي الجلوس واحتساء القهوة وحتى القراءة والنوم. أمشي نحو قاعة سي سايد. ورغم علاقتي التاريخية بالمعرض من أيام الصالة الزجاجية في الحمراء، ورغم زياراتي المتكرّرة له في كل موسم، أشعر في لحظة بالضياع والاغتراب، بضيق الخلق، ربما يرتبط الأمر بالزيارة الأولى. أشخاص ألتقيهم، ألقي عليهم السلام، وأشخاص أتجنبهم، أتفادى لقاءهم، وأشخاص أفتقدهم، جيل كامل أسس لثقافة بيروت أصبح شبه غائب.
أسمع من أحد العاملين عبارة أن المعرض أقيم في غير أوانه، إذ أتى بالتزامن مع الانتخابات البلدية والاختيارية. ثمة أيام خلت من الزائرين. أتجول قليلاً في الممرات، أحاول رصد الدور وغائية المعرض، بالطبع هناك الكثير من الدور العربية واللبنانية، وهناك دور جديدة. الغائبون لهم تفسيرهم، والحاضرون يبحثون عن أفقهم. ثمة كتب مصرية عن المطربين والمطربات، بحثت عنها لأغراض بحثية ولم أجدها. فشلتُ في إقناع نفسي بشراء الكتب الصادرة في بيروت، فكرتُ كثيراً أين سأضع الكتب الجديدة إذا ما حملتها. كل عنوان فكرت فيه، وضعت احتمال أن أجده في الانترنت. عدتُ خاوي الوفاض، ولاحظت أن أكثرية الكتب التي تباع تتربط بتوقيعات أو جائزة أو بهوية طائفية أو زعيم سياسي. "القراءات الديموقراطية"، إذ جاز التعبير، قليلة.
المعرض بحلّة جديدة وأنيقة، قاعات جيدة، بإسم إلياس خوري وأخرى بإسم توفيق الباشا، وملصقات قديمة على الجدران من جعبة عبودي أبو جودة ورسوم لفلسطين من تصميم كميل حوا، وصور من الذاكرة للنادي الثقافي العربي. لكن ثمة تبدّلاً في علاقة الزائر بالكتب. ثمة تبدل في أحوال الشراء، إذ لم يعُد الكثير من الكتب يباع من دون توقيع وحفلات من هنا وهناك، وهذا نمط من المجاملات الاجتماعية والأعراس.
ثمة وجوه ما زالت تعيش في عالم الكتاب. في التجول، يمكن لقاء المفكر علي حرب، والشاعر شوقي بزيع، والشاعر طارق نصرالدين، والمصور صالح الرفاعي، والباحث صقر أبو فخر، والفنان أسامة بعلبكي..الخ. ثمة أشخاص لديهم شغف الكتب القديمة، تاريخ طباعة الكتاب يجعله مقصد بعض القراء النخبويين. الكتاب هنا قيمته متحفية أكثر منها معرفية، إنه الامتياز والتمايز أن يضع المرء كتاب أكله السوس من القرن الثامن عشر في مكتبته.
المعرض في ألوانه وأطيافه وروافده يشبه بيروت، أو يشبه لبنان في تقلباته وإيديولوجياته، تنوع وتعدّد، عراقة وعمادة لكن بلا دور. لم يعد "واحة الحرية"، لم يعد مقصداً للكتاب الممنوع في زمن الانترنت والفايسبوك، صار "عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ". لم يعد مقصداً للقارئ العربي، باعتبار أن كل البلدان أصبحت تنافس وتقيم معارضها المدعومة والواسعة... لم يعد هناك الكتاب الأكثر مبيعاً، ولا جيش الشباب الجامعي الذي يشارك في التنظيم. ليست المشكلة تنظيمية أو إدراية، وليست القضية مكابرة، إنها التحولات الثقافية التي بدلت علاقتنا بالأشياء، إنها شاشة اللابتوب أو الهاتف الجوال التي تحمل آلاف الكتب في ذاكرة صغيرة، بينما الكثير من الدور آتٍ من إيديولوجيات قديمة مختلفة. مات قارئ العروبيات، وتقلّص قارئ اليساريات، وذهب القارئ الديني إلى "غوغل"، وبرزت أحزاب بلا توجه ثقافي.
في معرض بيروت، بقايا مزيج من تيارات فكرية، وزعماتية أو مؤسساتية أو جامعية. دور كثيرة، قومية سورية أو على هامش القومية، تقدّس أنطون سعادة وطريقه. دور كثيرة إيرانية الهوى. دور تحتفي بالرموز الشيعية، فضل الله، موسى الصدر، حسن نصرالله أو تدور في فلك حزب الله. دور كثيرة فقدت دورها وعلاقتها بالقارئ وتضع اللوم على المعرض. دور تعتمد الاستسهال في إصدار الكتب من دون حسيب أو رقيب. دور تحافظ على عراقتها. شخصيات سياسية كثيرة لها تياراتها وكتبها.
في المعرض في صورة لحسن نصرالله مع عبارة مقاومة بالفارسية. ومع أن هَول ما حصل ويحصل في المنطقة لم يتجلَّ بعد في كتب فكرية، لكن ثمة بوادر خجولة تنحو في هذا الاتجاه. سؤال "الأممية الشيعية إلى أين؟" بات حاضراً، وهو عنوان كتاب لعلي حرب، وثمة عنوان آخر يقارب القضية من باب "أنا شيعي عربي"، ولم يعد غريباً وجود عناوين مثل "سقوط حزب الله" بعد زمن من عناوين "جمهورية حزب الله". يقرأ الزائر هذه العناوين ويعرف أن جزءاً كبيراً من جمهور المعرض، من بيئة حزب الله، والذي ربما يكون من أكثر التنظيمات اللبنانية المنجذبة إلى مطبوعات تخصها، في مقابل تراجع الأيديولوجيات الأخرى، بل تلاشيها.
جولة أولى في المعرض، ومن دون إطراء: برنامج ثقافي دسم ومتنوع، يغطي مساحة واسعة من الأفكار والمواضيع والمناسبات، من أم كلثوم إلى توفيق الباشا، من فؤاد سليمان إلى الياس خوري، ومن أمين الريحاني إلى سليمان البستاني، ومن جورج قرم إلى يواكيم مبارك، ومن اللغة إلى الموسيقى، ومن الاقتصاد إلى الذكاء الاصطناعي.
ما نقوله مجرد انطباع شخصي عن معرض عريق، بات في حاجة فعلية إلى جانب من دعم الدولة اللبنانية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

المدن
٢٣-٠٦-٢٠٢٥
- المدن
دردشة مع عضو "نوبل" الموعود
بينما تلاحقنا شجارات الوسط الثقافيّ العربيّ- التي صارت تقليداً- حول فوز الكتّاب العرب بجائزة أدبيّة (تفوق قيمتها الخمسة آلاف دولار)، يكاد يفوتنا خبر الثورة المقبلة في تحكيم الجوائز الأدبيّة الدوليّة. فقبل أسابيع، أعلنت شركة السوفتوير الألمانيّة "MyPoolitzer" بالتعاون مع إحدى دور النشر الكنديّة خلال معرض فرانكفورت للكتاب عن جائزة أدبيّة يتولّى الذكاء الاصطناعيّ تحكيمها! تطبيق "آيريس" هو لجنة التحكيم التي ستشغلنا في المستقبل القريب. الأدب الذي ننتظر منه أن يقوم بالثورات أو يحرّض عليها أو يلهمها، ينتظر شهوراً مفصليّة قبل أن يبدأ عصره الجديد، عصر التحكيم المدعوم بالذكاء الاصطناعيّ. وصرّح القائمون على الجائزة أنّ تدخلاً بشرياً سيحدث في عمليّة التحكيم، لكن فقط في مراحلها النهائيّة، وأنّه "سيتمّ تقييم المشاركات بناءً على إمكانات المبيعات، وملاءمتها للنوع الأدبيّ، والعناصر الأسلوبيّة عبر أكثر من 30 معياراً، بما في ذلك صعوبة القراءة، ووتيرة السرد، والتأثير العاطفيّ". أمور كثيرة غامضة، وعلينا انتظار هذا الحدث وفهم آليّة التحكيم الكمبيوتريّة الآليّة بمعاونة بشريّة محدودة. الأمر، بطريقة ما، مغامرة تخوضها "ماي بوليتزر" ولا تعرف إلى أين ستأخذها وتأخذ الأدب معها. الأدب الذي لطالما حضّ على المغامرة والتجريب وخوض المجهول، يفعل هذا اليوم وأكثر، يخوض المخاطر التي تهدّد كنهه. هذا الفعل الإنسانيّ يستسلم للآلة ويترك التكنولوجيا تتحكّم فيه وتقيّمه. وبما أنّ الآلة لن تستطيع تقييم المشاعر والانفعالات، تتزايد المخاوف من أن يُدفع الأدب إلى التخلّي عنها تدريجيّاً، تحديداً الإنتاج الأدبيّ في بلادنا المصابة بسعار كلّ ما هو "دوليّ" أو "عالميّ" و"ترجمات أجنبيّة"، والمهووس بكلّ ما يدفعه نحو الساحة الأدبيّة والثقافيّة الدوليّة والغربيّة تحديداً. وبما أنّه يتمّ تدريب التطبيقات الذكيّة كلّ يوم وساعة، على تحسين أدائها ودقّة إجاباتها، بما في ذلك تقييمها وتحليلها للأعمال الأدبيّة، فقد خطر لي أن أجرّب أداءها بنفسي في أثناء انتظار ظهور نتائج أوّل مسابقة أدبيّة يحكّمها الذكاء الاصطناعيّ. لذا طلبتُ بالانجليزية من تطبيقَي "تشات جي.بي.تي" و"غروك" ترشيح أدباء عرب لنيل نوبل للآداب، فكانت إجابة الأوّل الأسماء التالية: أدونيس – نوال السعداوي – إبراهيم الكوني - إلياس خوري. وفي لائحة أقل شيوعاً- كما سمّاها- ومن دون أن أطلبها منه، أضاف الأسماء التالية: هدى بركات – محمد خير – زكريا تامر – أحمد سعداوي. بعد أيّام، عدت وطرحتُ على التطبيق، لكن بالعربيّة هذه المرّة، السؤال نفسه، فأتت الأسماء التي رشّحها بالترتيب التالي: أدونيس – إلياس خوري – الطاهر بن جلّون – جمال الغيطاني – سحر خليفة – هدى بركات – علاء الديب – إبراهيم الكوني. واللافت في لائحتَي "تشات جي بي تي"، أنهما تضمّنتا كتّاباً راحلين (إلياس خوري ونوال السعداوي وجمال الغيطاني وعلاء الديب)، وكاتباً لا يكتب بالعربيّة (بن جلّون). أمّا تطبيق "غروك" فقد أعطاني الأسماء التالية لنيل نوبل للآداب: نجيب محفوظ - أدونيس – الطيب صالح – محمود درويش. ورشّح أسماء "معاصرة" كما وصفها: إبراهيم الكوني – إلياس خوري - هدى بركات. تكرّرت هنا أسماء كتاب متوفّين، أوّلهم محفوظ الذي نال نوبل بالفعل. وقدّم التطبيقان شروحاً مختصرة لحيثيّات ترشيحاتهما هذه، ومميزات إنتاج كلّ كاتب اقترحاه، كما أوضحا أنّ ترشيح كاتب لنوبل يخضع لمعايير الجائزة ولوائح نظامها الداخلي. سؤال آخر طرحتُه على "تشات جي.بي.تي": "لو كنتَ عضواً في جائزة نوبل للآداب فأيّ كاتب عربيّ سترشّح للجائزة؟"، فأتى جوابه مفاجئاً: "محمد سمير ندا"، وهو صاحب الرواية التي صدرت قبل أقلّ من عام ونالت "الجائزة العالمية للرواية العربيّة" في أبوظبي مؤخّراً. وعن أسباب اختيار ندا، قال التطبيق: "بسبب رؤية الكاتب الإنسانيّة العميقة، تأثيره الأدبيّ الواسع، وملامسة قضايا عالميّة، وإسهامه في الأدب العربيّ المعاصر". وهي عبارات عموميّة وفضفاضة تنطبق على الكثير من الكتّاب العرب، لكنّ اختيار ندا "يبرز أهمّية دعم الأصوات الجديدة التي تقدّم رؤى مبتكرة في الأدب العربيّ"، كما أوضح لي التطبيق. تابعتُ النقاش معه وأخبرته أنّه من غير الشائع أن تُمنح نوبل لصاحب روايتين فقط، وأنّ ثمّة أسماء عربيّة أخرى لديها مشاريع روائيّة راسخة ومترجمة لعدد من اللغات الأجنبيّة، وأعطيته أوّل اسم خطر لي بينها، وهو حنان الشيخ. وافقني على أفكاري هذه وأشاد بحنان الشيخ، معدّداً مزاياها وأسباب استحقاقها للتقدير العالميّ، بل كاد أن يعتذر، فاقترح أن نكتب لجائزة نوبل كتاباً بذلك! ولأنّي أعرف زُهد حنان الشيخ بالجوائز، أخبرته أن نوفّر تلك الرسالة لكتّاب آخرين. تأخذ التطبيقات الذكيّة معلوماتها من الانترنت، من المقالات والمحاضر والتقارير المتوافرة في الشبكة العنكبوتية، وتتلقّى تدريبات من قِبل بشر لتقوم بالتحليل الأدبيّ والنقد وكتابة المراجعات والتعليقات وفق مدارس أدبيّة مختلفة. لكن ما يُنتظر أن يقوم به "أيريس" هو قراءة الروايات المرشّحة لـ"ماي بوليتزر" وتقييمها، وليس الاعتماد على القراءات المتوافرة على الانترنت فقط، إذ يتمّ تعليمه أساليب التحليل وطرق النقد ومدارسه المختلفة. ومرّة جديدة، دفعني الفضول لأعرف كيف تقوم تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ بتحليل نصّ أدبيّ ونقده، فأعطيتها نصّ قصّة قصيرة، وأتت النتيجة غير متوقّعة. بين كلّ ما قدّمه الذكاء الاصطناعيّ من إنجازات مبهرة، وجدتُ تحليل تلك القصّة الأكثر إبهاراً، لقد أعطاني تحليلاً نقديّاً ملمّاً وعميقاً لم أتوقّعه. سيرفض كتّاب كثيرون أن تقيّم الآلة إبداعهم، وسيعتبر آخرون، التجربة، مغامرة تستحق أن تُخاض. سيكون هناك فضول برونق جديد بعدما دخلت الجوائز العربيّة في الرتابة وفقر الخيال، هي التي كان من أبرز أهدافها، كما أعلنت، أن تثري الخيال وتوسّع آفاق المعرفة وتذوّق الفنّ والأدب. لكنّها لم تنجح في شيء أكثر من نجاحها في إثارة النعرات بين أوساط الكتّاب والناشرين والمؤسّسات المموّلة، وتراشق الاتّهامات والانشغال في إثبات عدم أحقّية كلّ رواية فائزة وافتقارها للجودة، واتهامات الانتحال والسرقة الأدبيّة والرشوة والمحاصصات... وللمفارقة الساخرة تعرّض محمد مير ندا، "مرشّح تشات جي.بي.تي لنوبل"، للكثير من سهام الافتراءات والاتّهامات الكفيلة بالتشويش على قيمة روايته، وإن لفترة وجيزة. اضطررت إلى إنهاء الحوار حين نعست وتعبت، بينما محدّثي لم يفعل. الحوار بين محدّث مُتعب وآخر نشيط، ليس عادلاً. فهل سيكون عادلاً أن تُقيّم أداءنا وإنتاجنا جهةٌ لا تتعب ولا تقدّر الخذلان والخوف والقلق وكلّ ما يتنازع الكتّابَ وهم يكتبون، أقصد يكتبون لأجل الكتابة فقط وروعتها الخالصة التي لا تُقدّر بشهرة أو مال؟


النهار
١٥-٠٦-٢٠٢٥
- النهار
الروائي إبراهيم عبد المجيد لـ"النهار": حزين على الإسكندرية، وانقلاب 1952 أوقف صعود مصر
مع بلوغه عامه الثمانين، يتذكر الكاتب والروائي إبراهيم عبد المجيد الكثير والكثير عن موطن ميلاده، وسحر الإسكندرية، مدينة "الكوزموبوليتان" التي كانت، وولى جمالها وفتنتها، على رغم حضورها التاريخي والمكاني، عاصمة أولى لمصر في العصر البطلمي. عبد المجيد الذي نال الكثير من الجوائز والتكريمات، آخرها جائزة النيل، وتحوّل الكثير من أعماله إلى دراما سينمائية وتلفزيونية، يتذكر هذه الأيام بداياته مع الكتابة منذ أكثر من ستة عقود، كان فيها مثالاً للجسارة والتفرّد في بناء عالمه، السردي/ الكتابي/ الجمالي، ما بين الإسكندرية والقاهرة والكثير من الرحلات إلى الغرب. كتب عبد المجيد أكثر من واحد وخمسين عملاً إبداعياً، ما بين القصة والرواية والمقال، والرؤى التفكيكية لنصوص شتى بالمئات. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، منها: الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والروسية والصينية والكردية. "النهار" حاورت صاحب "ثلاثية الإسكندرية"، و"العابرة"، و"بيت الياسمين" و"الصياد واليمام" و"المسافات" و"الصيف السابع والستين" وغيرها الكثير... * بعد اللقاء الكبير في مكتبة الإسكندرية عن الإسكندرية بين الأمس واليوم، كيف ترى هذا اللقاء وأنت على أعتاب عامك الثمانين؟ - أنا لا أفكّر في العمر، ولا أتذكّره حتى عند المرض. أنا أتركه للّه دائماً. أدهشني حضور جميع المشاركين وهم من جامعات مصرية وعربية وأجنبية، من أميركا إلى أوروبا إلى الصين وغيرها، فضلاً عن كثافة الحاضرين من القراء. أدركت ما تنسيني أحياناً الأيام، وهو أن ما كتبته عن المدينة لا يضيع. كانت سعادتي عظيمة بالحضور والنقاش الذي امتدّ معي بعد الندوة في اليومين التاليين في الفندق أو أثناء العشاء في المطعم، الذي يحمل اسم "جنب البحر" أو " سي سايد" المجاور لمطعم النادي اليوناني، الذي يطلّ على الميناء الشرقي، وهو ما بقي مفتوحاً للبشر لتطلّ منه على البحر الذي أخفته الكباري والمطاعم والأسوار على طول الشاطئ. تأكّد لي في اللقاء أن الحنين إلى المدينة يظلّ أملاً ولا يضيع، وبه تعيش الأرواح الحزينة على المدينة الضائعة. * وكيف ترى صدى الرحلة والمشوار، بعد احترافك الكتابة على مدار ستة عقود؟ - هذا ليس من عملي. أنا متعتي كانت وما زالت في الكتابة وبها أعيش. الأمر متروك للنقاد والقراء. أرى كثيراً من الكتب عن أعمالي آخرها الكتاب الرائع "سرديات ما وراء الكتابة" للدكتور أيمن تعيلب، وهو قراءة لكتابي "ما وراء الكتابة تجربتي في الإبداع" الذي أصدره في سلسلة الدراسات النقدية في دائرة الشارقة الثقافية. ومعه في معرض كتاب القاهرة في كانون الثاني/يناير الماضي صدر أيضاً كتاب للدكتور محمد ماهر بسيوني "المكان في الرواية العربية"، عن دار الحكمة في القاهرة، وأيضاً عن أعمالي كتب كثيرة ورسائل دكتوراه. أحب أن أضع أي كتاب جديد منها في جواري على السرير عند النوم لأيام استمدّ منه الأمل وأكتفي بذلك. أنا أعرف أن الزمن لن يتوقف عند أحد، وأن الكتّاب ملء السمع والبصر؛ لذلك تبقى متعة الكتابة هي الرافد الجميل للحياة، وبها تأتي الكتابة الجميلة التي تجذب القراء والنقاد لتؤكد ذلك. ينهكني المرض وهو يرهق جسدي لأنه يؤخر جلستي للكتابة. * ما بين الإسكندرية والقاهرة، كيف ومتى وأين تسكن حواس الكاتب إبراهيم عبد المجيد؟ - حواسي تسكن في فضاء الوطن. كتبت وما زلت عن القاهرة بعد أن صارت سراباً كما الإسكندرية. صارت حلماً ضائعاً. ما رأيته فيها منذ استقراري فيها في منتصف السبعينيات ضاع أو تغير. حواسي مع الأحلام الضائعة التي جعلتني أعيش الحياة الضائعة كحقيقة ومن هنا يأتي الفن. فالخيال مهما استمدّ مفرداته من الواقع إذا نظرت بدقة ترى أن الواقع فيه خيال مضى في أفق الفضاء. * وماذا يتبقّى من إسكندريتك، في العيش وذكريات الطفولة والصبا؟ هل بالفعل أنت في حالة خصام وحزن مع ما آلت إليه الأحوال في مدينة المولد؟ - طبعا أنا في حالة حزن. مدينة كنت تمشي على أرضها فتشعر أن تحت قدميك تاريخاً للعالم، لا تستطيع أن تمشي بينها الآن وسط الزحام الذي يجعلك لا تشعر بما حولك، ولا بما تحت قدميك من تاريخ، فضلاً عن تغير العادات بعد الهجمة المتشددة التي جاءت منذ حكم السادات فضاعت سينما المدينة ومسارحها وملاهيها وغير ذلك، فضلاً عن الفساد الذي شوه شمالها وجنوبها وشرقها وغربها وجعلها عشوائيات في البناء. لكن أجمل هدية من الله هي الكتابة التي تجعلك تقيم المدينة من جديد وتعيش بينها. * تتحدث كثيراً عن علاقتك بالزعيم جمال عبد الناصر، واستحضرت سيرته كثيراً في أغلب أعمالك، فكيف ترى الباقي من سيرة ناصر، بخاصة ونحن نحيا في هذا الواقع المؤلم الذي نسفت فيه معاني الاستقلال والعدل والمساواة؟ - لم يعد باقياً من عبد الناصر للأسف إلا فكرة الزعيم الأوحد، فلا بقاء لأفكار معارضة أو مخالفة للحكم والحكام. الفكرة التي جعلته يعتقل المئات من المفكرين والفنانين. وعندما فتح السادات باب الديموقراطية سرعان ما عاد إلى إغلاقه، وقال "الديموقراطية لها أنياب" وفتح سجونه أيضاً. هو الذي أطلق على نفسه تسمية الرئيس المؤمن فاختصر السلطة فيه بطريقة أخرى، وفتح الباب لبيع كل إنجازات عبد الناصر في التعليم والصحة والصناعة والزراعة وكل شيء . فكرة الزعيم الأوحد هي آفة أمتنا، بل آفة كل النظم الجمهورية التي جاءت بانقلابات على النظم الملكية منذ انقلاب حسني الزعيم فى سوريا عام 1949. غلاف رواية 'العابرة'. * كيف ترى مستقبل الفكر والآداب والفنون في عصر الحروب بالإنابة وعبر الهوية والمعتقد والجغرافيا؟ - مهما حدث في العالم فستظل الفنون والآداب هي حارسته ولن تنتهي أبداً. هذه غريزة أودعها الله في البشر منذ بنوا المعابد ورسموا الآلهة القديمة وكتبوا القصص عن العدل والحب وغير ذلك. الفنون والآداب عابرة للحدود دائماً وهي وطن من ضاع وطنه. * هل تفسر لنا، ماهية الخلود ومعناه، وتحديداً في ما يخص فعاليات وجدوى الكتابة والفنون؟ - كما قلت لك الخلود يحدده الزمن والقراء أو المشاهدون. لا يُعنى به عقلياً الكاتب أو الفنان، لكنه روحياً موصول به، فهو يشعر أنه يتجاوز بما يفعله ما استقرّت عليه الأشكال الأدبية والفنية، وأنه موصول بالإلهام، ويترك على ذلك لمسته ونبض روحه. * عن ماهية الخلاص ومعناه ، هل ينتهى حلم الكاتب/ المفكر/ الفنان بالخلاص، مع الانتهاء من كتابة نصه أم أن هناك معنى آخر للخلاص يخص رؤيتك للعالم ودور الفنون في هذا الإطار؟ - الخلاص معنى لا ينتهي. ووفق ما قال غابرييل غارسيا ماركيز يوماً إن هناك عشرات الروايات يتمنى أن يكتبها لكن العمر لا يسمح. المهم أن يؤمن الكاتب بأنه ليس وحده في هذا العالم، وبأن الأجيال تتابع، فلا يدخل في معارك تافهة؛ فالخلاص الوحيد هو الجنة أو المدينة الفاضلة وهذه من صنع الله سبحانه وتعالى. أما الفنون فمثال واحد مثل المسلات المصرية التي ترتفع محدبة إلى السماء تشير إلى رحلة الصعود إلى يوم الحساب، ومثلها الأهرام تظل مثالاً عابراً للزمان. * بعدما اختار أحد الكتاب روايتك "بيت الياسمين" لتقديمها سينمائياً، ماذا يمثل لك هذا الخبر؟ وهل ما زلت تتذكر وقائع الإقدام على كتابة هذه الرواية؟ - الكاتب هو السيناريست عماد يوسف النشار الذي يعيش في الجنوب بعيداً عن القاهرة. أسعدني جداً اختياره ومتابعته لأعمالي وأعمال غيري، ونشرت الخبر راجياً أن يهتم به من احتكروا صناعة الأفلام والمسلسلات. أتمنى أن يحدث ذلك، ولا يستمر الأمر مع هذه الرواية العجيبة كما هو. هي رواية عن شخص أسميته شجرة محمد علي، أُوكِلت إليه قيادة العمال في شركة في الإسكندرية للقاء الرئيس السادات في الشارع. عشت ذلك ورأيته. في الطريق قال لهم "هل لو لم نذهب سيعرفون والأوامر صادرة لكل الشركات؟ خذوا نصف المبلع المقرر لكل منكم واذهبوا حيث تريدون". وجد معه مبلغاً كبيراً وقتها مما اقتطعه منهم. أمضى يوماً جميلاً في المطاعم، وفكّر هل يمكن أن يفعل ذلك دائماً. صار لعشر سنوات هي أيام حكم السادات يفعل ذلك، وترتفع مكافأة العمال فيرتفع ما اقتطعه منها حتى اشترى شقة في منطقة الدخيلة، التي يعيش فيها وتزوج. للأسف، يحدث معي ما فعله شجرة. بعتها للسينما ثلاث مرات منذ صدورها عام 1986، وحصلت على مكافأتي عن التنازل عنها من ثلاث شركات ولم يتم إنتاجها. أتذكّر ذلك دائماً وأضحك، وإن كنت أتمنى أن ينجح السيناريست الموهوب عماد يوسف النشار في بيعها، بخاصة أنه غيّر تاريخها ومكانها وجعلها قبل تموز/يوليو 1952 لتمرّ. وبالمناسبة، هو وغيره قاموا بمعالجات فنية لأكثر من رواية لي لكن للأسف الاحتكار في الإنتاج له رأي آخر. * عن علاقتك بالمشهد السياسي/ المعيشي وتناوله في أغلب مقالاتك المنشورة في مصر وعربياً، كيف ترى مستقبل العيش/ والحريات؟ وهل هناك ثمة روشتة للعلاج والخروج من هذه الأزمة؟ - الحرية والعدل والمساواة أمل البشرية منذ بداية التاريخ وتكوّن المجتمعات. الروشتة أو العلاج الوحيد هو حياة ديموقراطية، مع العلم بأن الديموقراطيه هي درجات في سلم طويل. المهم هو أن نعود إلى صعود السلم الذي بدأت مصر صعوده بعد ثورة 1919، وأوقفه انقلاب تموز 1952. كنا نمشي في طريق الليبرالية رغم أي ظواهر غير مُرضية. هل تعرف مثلاً أن الملك فاروق كان تقربياً قد فقد كل مميزات الملك قبل 1952. كانت الأحزاب وعلى رأسها حزب "الوفد" هي التي تقود البلاد. توقفت طريق الليبرالية فصرنا إلى ما نحن فيه. أكتب المقالات نهاراً لأرتاح وأجعل الليل للرواية، فالفن بالنسبة إليّ روح أكثر منه عقلاً. هكذا أعيش.

القناة الثالثة والعشرون
٠١-٠٦-٢٠٢٥
- القناة الثالثة والعشرون
"بيان الحلم"... تحيّة لسمير قصير بالصوت والكلمة ورمزية المكان
تُقدِّم مؤسسة سمير قصير، في الذكرى العشرين لاغتيال الصحافي والمؤرّخ سمير قصير، تحيّة خاصة ومؤثّرة ضمن الدورة السابعة عشرة من "مهرجان ربيع بيروت"، من خلال التجهيز الفنّي في الهواء الطلق، بعنوان "بيان الحلم" للفنّان روي ديب، من 1 إلى 8 حزيران 2025، في ساحة سمير قصير. واشارت المؤسسة الى أن "هذه الدورة تحمل طابعاً وجدانياً خاصاً، لا سيّما وأنها تُكرّم أيضاً شخصيتَين مؤثّرتَين في عالم الثقافة والإعلام، لم يُطفئ رحيلهما وهج حضورهما الأبدي: الروائي الكبير إلياس خوري والإعلامية الرائدة جيزيل خوري". العمل الفنّي "بيان الحلم" مُتاح للجميع من 1 إلى 8 حزيران، 2025، في ساحة سمير قصير، وسط بيروت، من العاشرة صباحا" وحتى الثامنة مساء". انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News