logo
الاستهلاك بين القيم الإسلامية والنظام الاقتصادي المعاصر ـ الميزان ـ

الاستهلاك بين القيم الإسلامية والنظام الاقتصادي المعاصر ـ الميزان ـ

الميزان٠٧-٠٧-٢٠٢٥
في عصر تتسارع فيه عجلة الإنتاج وتزدهر فيه ثقافة السوق المفتوحة، أضحى الاستهلاك أحد أبرز ملامح الحياة اليومية. ومع تطور النظم الاقتصادية الحديثة، لا سيما الرأسمالية التي تقوم على مبدأ العرض والطلب، ارتبط الاستهلاك ارتباطًا وثيقًا بالربح والترويج والمنافسة. لكن، هل يتوافق هذا النمط الاستهلاكي الجارف مع القيم الإسلامية؟ وهل ما نراه اليوم من سلوك استهلاكي مفرط يعكس فقه الإسلام في الإنفاق والتدبير؟
الاستهلاك في الرؤية الإسلامية
تقوم القيم الإسلامية على التوازن والاعتدال في جميع مناحي الحياة، ومنها الاستهلاك. فالإسلام لا يحرم الاستمتاع بخيرات الدنيا، بل يشجع على الأخذ منها دون إسراف أو تبذير. يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
'وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ' (الأعراف: 31). كما يحث الإسلام على القناعة، ويربّي أتباعه على الزهد دون حرمان، والتدبير دون شح، فيجمع بين الأخلاق والسلوك المالي المسؤول. ويعدّ الإنفاق في سبيل الله، والصدقات، والإنفاق على الأهل من أعظم أبواب البرّ، ولكن في إطار 'فنّ التوازن'.
النظام الاقتصادي الحديث: السوق يحكم
في المقابل، يروّج النظام الاقتصادي الرأسمالي لفكرة 'الاستهلاك المحفّز' أو 'الطلب المصنّع'، حيث تدفع الحملات الإعلانية الممنهجة الناس لشراء ما قد لا يحتاجونه فعليًا، بدافع الرغبة أو الموضة أو التفاخر. والنتيجة: تضخّم في الإنفاق، وزيادة في الديون، وتراجع في الوعي الاستهلاكي، وتهديد للاستقرار الأسري والاجتماعي.
وقد أفرز هذا النمط استهلاكًا مظهريًا يستند إلى صورة الفرد في المجتمع، لا إلى حاجاته الحقيقية. وبهذا المعنى، تتحوّل الحاجة إلى رغبة، وتُنتزع القناعة لتحل محلها المقارنة واللهاث.
تحليل فريدمان وسلوك المستهلك
من أبرز المفكرين الاقتصاديين الذين تناولوا الاستهلاك من زاوية تحليلية هو الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وقد قدم فريدمان 'نظرية الدخل الدائم' (Permanent Income Hypothesis) التي تفسر سلوك الأفراد في الاستهلاك على أساس توقعاتهم لمستوى دخلهم المستقبلي، لا فقط دخلهم الحالي.
وفقًا لفريدمان، فإن الأفراد لا ينفقون بناءً على ما يكسبونه في الوقت الراهن فقط، بل يخططون لإنفاقهم تبعًا لما يتوقعونه من دخل مستقر ودائم على المدى الطويل. وبالتالي، فإن التغيرات المؤقتة في الدخل لا تؤثر كثيرًا في نمط الاستهلاك، في حين أن التغيرات الدائمة تفعل ذلك.
هذا الطرح، وإن كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاد الليبرالي، يحمل في طياته ما يشبه الدعوة إلى التوازن والتخطيط، وهي مفاهيم تتقاطع مع القيم الإسلامية في الاقتصاد، خاصة في الدعوة إلى التدبير وعدم التهور في الإنفاق، واستشراف المستقبل برؤية عقلانية.
التصادم أو التكامل؟
بينما تسير الرأسمالية الحديثة نحو تعظيم الأرباح، تسعى القيم الإسلامية إلى تهذيب النفس وتنظيم الرغبات. إلا أن هذا لا يعني بالضرورة وجود تصادم مطلق بين النظامين، بل يمكن تحقيق تكامل إذا ما أُخضع الاقتصاد لقيم إنسانية، تجعل من المال وسيلة لا غاية، ومن الاستهلاك ممارسة مسؤولة لا طقوسًا استعراضية.
لقد بات من الضروري، في عالم يواجه أزمات مالية وبيئية وأخلاقية، أن نستحضر القيم الإسلامية كمنظومة أخلاقية تساهم في تصحيح الانحرافات الاستهلاكية، من خلال:
– ترسيخ مفهوم الاستهلاك الواعي.
– تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار لا التبذير.
– دعم الإنتاج المحلي والمستدام.
– تربية الأجيال على مبدأ 'الكفاية' لا 'المباهاة'.
فى الختام يبنبغى التأكيد على أن فن الاستهلاك مسؤولية فردية وجماعية، حيث أن ضبط سلوك الاستهلاك ليس مهمة دينية فحسب، بل ضرورة حضارية واقتصادية. وإذا كانت القيم الإسلامية تزرع في النفس الرقابة الذاتية، فإن المجتمع الحديث بحاجة ماسة إلى نشر هذه القيم داخل أروقة الاقتصاد والتعليم والإعلام. إننا بحاجة إلى إعادة تعريف معنى 'الرفاهية'، لنراها في الكفاف والطمأنينة، لا في الإسراف والقلق. وبذلك نرسم ملامح فنّ الاستهلاك الذي يوازن بين متطلبات الحياة ومبادئ الإيمان.
الكاتب د. أحمد حسن عبد الهادي
د. أحمد حسن عبد الهادي ـ دكتور المالية العامة والتشريعات الإقتصادية والضريبية - زميل الجمعية العلمية للتشريع الضريبي
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ممثل أمريكا لدى الناتو: ترامب يرى فرصة اقتصادية في تصنيع أسلحة لكييف بتمويل أوروبي
ممثل أمريكا لدى الناتو: ترامب يرى فرصة اقتصادية في تصنيع أسلحة لكييف بتمويل أوروبي

مصرس

timeمنذ ساعة واحدة

  • مصرس

ممثل أمريكا لدى الناتو: ترامب يرى فرصة اقتصادية في تصنيع أسلحة لكييف بتمويل أوروبي

أفاد الممثل الدائم للولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي ماثيو ويتيكر، يوم الاثنين، بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، "رأى فرصة" لمساعدة الاقتصاد الأمريكي من خلال إنتاج أسلحة إلى أوكرانيا باستخدام الأموال الأوروبية. وقال ويتيكر خلال مقابلة: "من الواضح أن الرئيس ترامب بارع في إبرام الصفقات، أعتقد أنه رأى فرصة هنا ليس فقط لخلق فرص عمل في قلب أمريكا من خلال تصنيع أنظمة الأسلحة، أعتقد أن هناك فرصة حقيقية هنا لدعم الاقتصاد الأمريكي".وأضاف ويتيكر أنه "نتيجة لذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تساعد أوكرانيا وأوروبا سوف تدفع الثمن".وفي وقت سابق من اليوم، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنه توصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن إمدادات الأسلحة إلى كييف، مشيرا إلى أن أوروبا ستتحمل جميع التكاليف.اقرأ أيضا | هل يفوز ترامب بجائزة نوبل للسلام؟.. الثعلب الأمريكي العجوز يقدم إجابة حاسمة

الكاتبة الصحفية شيرين عصام تحذر: عاقبة الإسراف الحسرة والندامة!!
الكاتبة الصحفية شيرين عصام تحذر: عاقبة الإسراف الحسرة والندامة!!

النهار نيوز

timeمنذ 2 ساعات

  • النهار نيوز

الكاتبة الصحفية شيرين عصام تحذر: عاقبة الإسراف الحسرة والندامة!!

قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} التبذير من العادات السيئة التي تُذهب النعمة وتوقع الإنسان في ضيق الحال وتحرمه بركة المال. وقد حذّرنا الإسلام منه، ووجّهنا إلى الاعتدال والتوسط في شؤون الحياة. التبذير لا يليق بالمسلم الذي يُقدّر النعمة ويشكرها. فالاقتصاد في النفقة والاعتدال في المعيشة بركة في الدنيا وثواب في الآخرة. فلنحرص جميعًا على التوسط في الإنفاق، والبعد عن الإسراف والتبذير، امتثالًا لأمر الله تعالى وسنة نبيه ﷺ. التبذير هو صرف المال أو الموارد فيما لا منفعة فيه، أو إهدار النعم بغير وجه حق. أضرار التبذير إضاعة المال والموارد. الحرمان من مساعدة الفقراء والمحتاجين. تعويد النفس على الإسراف وعدم تقدير النعمة. وقوع المشكلات المالية والديون. الإضرار بالبيئة بسبب الاستهلاك المفرط. كيفيّة الحد من التبذير للتقليل من التبذير في حياتنا، علينا اتباع عدة خطوات أهمها: التخطيط للإنفاق: إعداد ميزانية محددة ومعرفة الاحتياجات الأساسية قبل الشراء. الرضا والقناعة: تربية النفس على القناعة والرضا بما قسمه الله، وعدم التطلع لما في أيدي الآخرين. مراقبة استهلاك الموارد: ترشيد استهلاك الماء والكهرباء والطعام والملابس. الصدقة والإنفاق النافع: توجيه الفائض من المال والطعام إلى الفقراء والمحتاجين بدلاً من إهداره. التربية الحسنة للأبناء: تعليم الأبناء منذ الصغر قيمة النعمة وخطورة التبذير. اتباع القدوة الصالحة: اقتداء بسنة النبي ﷺ والصحابة في الاعتدال. وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من التبذير وكذلك نبيه الكريم عليه افضل الصلاه والسلام اولا آيات القرآن الكريم ✨ قال تعالى: > {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 27) وقال سبحانه: > {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء: 26) وقال تعالى: > {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) ثانيا: أحاديث نبوية شريفة ✨ عن النبي ﷺ أنه قال: > "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ" (رواه النسائي وابن ماجه) وقال ﷺ: > "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" (رواه البخاري ومسلم)

تصريح هام لناطق حكومة التغيير والبناء بشأن إصدار العملة الجديدة فئة 50 ريال
تصريح هام لناطق حكومة التغيير والبناء بشأن إصدار العملة الجديدة فئة 50 ريال

يمني برس

timeمنذ 8 ساعات

  • يمني برس

تصريح هام لناطق حكومة التغيير والبناء بشأن إصدار العملة الجديدة فئة 50 ريال

اعتبر ناطق حكومة التغيير والبناء هاشم شرف الدين، أن إصدار العملة المعدنية الجديدة فئة 50 ريالا يعد خطوة إضافية في بناء سيادة اليمن الاقتصادية، وورقة جديدة تضاف إلى سجل إنجازات البلاد في مسيرة الصمود والتغيير. وقال شرف الدين في تصريح صحفي إن هذه الخطوة تأتي تتويجا لجهود القيادة الثورية والسياسية، وكفاءة الجبهة الاقتصادية، مؤكداً أن هذا السجل سيواصل الإثراء بإنجازات متلاحقة. وأضاف كل عملة وطنية نافعة تطرح للشعب تمثل جسرا نحو استقلالية القرار، وكل نصر اقتصادي يتحقق هو حصن منيع في وجه التحديات، ونجاح مالي جديد يعد درعا واقيا وسيفا يقطع أوهام المتآمرين، بفضل الله ثم بإرادة رجال لا يعرفون المستحيل. وأكد شرف الدين أن الشعب اليمني سيواصل جني ثمار جهود البنك المركزي، مشيرا إلى أن انتصارات اليمنيين تصاغ أولا في مصانع الإرادة، قبل أن تسك في دور العملة، وأن مجد اليمن يكتب بإرادة شعب يخط تاريخه بالذهب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store